⏪⏬
بعض الروايات تقودنا لِحلم شــاعري جميل، وبعضها تجعلنا نغوص في أنفسـنا مُعجبين وكارهين وأخرى تُضيء لنا حِقبا من
الماضي المنسي ... ولكنّ الروائي عدنان فرزات يأخذنا في روايته (رأس الرجل الكبير) عبر صراع مرير مع الذات كي يفتح لنا في النّهاية المفتوحة باب الحرية الموعـود.
عـدنان فرزات يَبدو في روايته (رأس الرجل الكبير) كاتباً مَســكونا بالتاريخ وآثاره القديمة ... رغم أن هذه الرواية ليست رواية تاريخيّــة بل هي روايةُ الحاضر وأمل المستقبل القريب ... وفي ظلّ تراجع دور الرواية التاريخية الشـاملة وظهور الرواية الحديثة التي يغلب عليها صفة القصة الطويلة فإن السّياق الفنّي والموضوعي يُشير بأنّ هذه الرواية تمتاز بسلاسة السـرد وأناقته ، وشاعرية الكلمة وقوتها، ووضوح الفكرة وعمقها، وكل هذه الميّزات تأتي في خدمة الشخوص والفكرة الأساسية ، مما جعل من هذه الرواية رواية المعذبين والباحثين عن الكفاف ، رواية الحاضر والماضي والتاريخ ، رواية الغرفة المتداعية الصغيرة والقصر المليء بالمقتنيات والخدم ، رواية تحدي الفقر والانتصار عليه ومكابدة الم الضمير .. .. كل هذه المتناقضات والأضداد نلمسـها تتجاذب أمامنا في صـــراع نفسي وفكري وعاطفي محوره (رأس الرجل الكبير) رواية عدنان فرزات.
صهيب بطلُ الرواية، بائع التاريخ، عاشق الآثار، ثريّ اليوم فقير الأمس، الطالب المعدم صاحب القصر الكبير، من خلاله قدّم الروائي فرزات شخصية تتنفس هواء المدينة والقرية والشارع، وتعيش بين الناس ... وابتعد عن البطل الأسطورة القادر على صنع المعجزات ... وبصيغة الراوي العالم بكلّ الأمور المُدرك لكلّ تفاصيل الماضي اقتادنا معه كي نرى تلك الأيام التي صارع فيها صهيب الفقر وعانى فيها الحرمان، ولكنّ هذه الرحلة لا تتم عبر ممر الذكريات بل من خلال ما سمّاه (أسبوع الفقراء) حيث يمضي البطل الثري أسبوعا من كل عام في غرفته القديمة والتي سكنها قبل عشرين عاما ليعيش مُتقشّفا ينفقُ من أمواله على الفقراء والمحتاجين .... لقد رسم لنا الكاتب من خلال هذا الأسبوع كيف كانت حياة رجل الأعمال صهيب ... وهنا يبرز السؤال الأول هل سينال البطل تعاطفنا على هذه الأفعال الخيرة؟ ولأنّ الكاتب يُدرك أننا سنطرح هذا السـؤال ولأنّه مُتمكّنٌ من خيوط روايته فإنه لا يترك التفاصيل تفلتُ من بين يديه فيفاجئنا بأنّ كل هذه الأعمال الخيرية ما هي سوى تكفير عن جريمة كبرى ما تزال تؤرّق صهيب وتؤرق الراوي وسوف تؤرق القارئ أيضا: جريمة تزوير التاريخ ... هكذا أصبح الطالب المعدم الفقير ثريا مُستغلا موهبته الفنية في تقليد قطع الآثار والتماثيل الحجرية وبيعها ... ومن خلال هذا الصراع المتدفق عبر سطور الرواية يغدق علينا المؤلف بالمزيد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، والتي تتفاعل ضمن بوتقة الصراع والجدل .... كلّ هذه الخطوط والأسئلة تلتقي وتشير دون إجابة لكاتب يريد إثارة كثير من المياه الراكدة بواســطة هذه الرواية رواية الفكرة والرؤية والهدف رواية عدنان فرزات.
ضمن أسلوب روائي شاعري يحتفي بالمفردة ويوظّفها لخدمة الفكرة الرئيسة، يظهر تيار الصراع في قالب من المتضادات والتي تشتبك منتجة صراعا جديدا، حيث يتقابل الحاضر والماضي ...حاضر الثراء والقصور وماضي الفقر والعوز على المستوى الفردي يقابله التاريخ برمزيته وآثاره ولا بد أن اندفاع صهيب لتزوير الآثار لم يكن بقادر أن يلغي عشقه للتاريخ فهو يضنّ بأن يبيع رأس الرجل الكبير ( وهو تمثال أثري لأحد ملوك الأمورين ) للمهربين ، فيعمد لتزويره وبيعه محتفظا بالأصل برمزيتة التاريخيّة سالما في مكان آمن في قصره الواسع ... وضمن نفس السياق يبرز صراع الفاسـد والصالح وصراع الغني والفقير ويقودنا هذا الجدل نحو صورة كاريكاتورية جميلة من الصراع : صراع الطبال والمناضل .. شخصية الطبال (سمور) الذي يطبل وراء كل شعار سياسي والمناضل الحقيقي (أبو جمال) الذي يتمسك بمبادئه وقيمه .... صراع آخر يبرز بشكل فني ضمن سياق البحث عن الآثار، صراع بين مفهومين للآثار مفهوم المزور وبائع التاريخ صهيب ونظرته النفعية ومفهوم الفنان التشكيلي اسعد وموقفه الرومانسي الحالم ... أما صراع العواطف والأحاسيس فإن تلبد مشاعر صهيب وابتعاده عن الرومانسية وتعامله مع المرأة بشكل وظيفي قابله دقة مشاعر صديقه عادل بحيث تمسك بعشقه اللانهائي لرولا الفتاة المسيحية رغم قساوة الظروف والأحداث، وهنا لا بد للقارئ أن يتساءل ضمن هذا السياق المليء بالمتناقضات لمن تكون الغلبة ؟؟
يقول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا تقوم الرواية أولا على بعض الكلمات الأساسية ... كلمات كثيرة ومفردات تنطق بمبادئ وقيم مثلى وردت على لسان الأبطال والشخوص، والذين تحركوا ضمن سياق طبيعي بعيدا عن التصنّع والتكلّف، بل كانوا ضمن مسار الحياة بأفكارهم وعواطفهم ... ولمكان الرواية مدينة حلب مغزى ودلالة عميقة لدى الكاتب تظهر واضحة في سطور الإهداء، فهو بعد أن يصف حلب بقطرة ذاكرة قديمة يقول بأنها عقل تاجر داهية بقلب درويش ... في هذه الكلمات أعلن المؤلف انتمائه اللامحدود لهذه المدينة ... وعندما نبحث عن كلمات أخرى قامت عليها فكرة الرواية سنجد الكثير من المعاني السامية والتي وردت بعيدا عن المباشرة والتلقين ، ولا اعتقد أن ادعائنا بفهم غايات ومطامح الرموز الروائية الواردة بكاف أن نملك مطلق حقيقة ما أراد الكاتب .. وكما يبقي معنى القصيدة في قلب الشاعر سيبقى للمؤلف الروائي وحده حيازة مطلق أسرار الرموز والأفكار، وسيبقى له وحده مرجعها الأخير، لذلك سنقول قبل النهاية أن كثيرا من المعاني التي حاولنا استنطاقها من رواية (رأس الرجل الكبير) ســـتبقى ألوانها وأفكارها الحقيقة في قلب وفي عقل وفي وجدان المؤلف عـدنان فرزات
النهاية التي تبدو مفتوحة في ظاهرها، هي نهاية حتمية لدائرة التزوير واستعباد الشعوب والكذب والنفاق والفساد ، إن عدنان فرزات يُظهر عشقه لهذه النهاية ... إنها أثمن من التاريخ الذي يمكن يتحطم ويتشظّى كرأس الرجل الكبير (فجأة انفتح باب الغرفة بعد طرقات عاجلة ومرتبكة، فزع صهيب وشهق بهلع كمن ابتلع قطعة نقود، فارتجف جسده كله وسقط التمثال على أرضية المرمر الفاصلة بين السجاد والحائط وتناثرت هيبته. كان الخادم يقف عند الباب مذعورا: لقد وصلوا يا سيدي ص 159)
هي نهاية المطاف أم بداية ســقوط تزييف الوعي وجدران الوهم ؟؟ في هذه الخاتمة تنفتح الأبواب أمام القارئ وتبقى الأسئلة مشرعة، أسئلة القيم والوجود والتاريخ والحرية ... هكذا يريد عدنان فرزات أن تكون النهايـــــــة ... وهذه ليست كل الحـــكاية ... هذه هي فقط رواية (رأس الرجل الكـبير) رواية عدنان فرزات ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.