⏪⏬
حانَ موعدُ القطافِ، فالشّهرُ آبٌ، ضاحكٌ لهّابٌ بشمسه وبأثمارِه، وكلُّ مَن في القريةِ زائرٌ بستانَه أو كرمَه ليتفقدَ أو يجنيَ ؛ فالقرويُّ اعتادَ أن ينزعَ رزقَه من قلبِ الصَّخرِ، وبراثنِ القدَر، والبلدةُ غنيّةٌ بأراضيها وبزروعِها. وهي حركةٌ دائمةٌ ،وسلطانٌ كريمٌ ،ومعظمُ
أهلِها فلّاحونَ، وأقلُّهم مزارعونَ، غيرَ أنّ الجميعَ حينما يتأهبُ إلى العمل يجرُّ معَه دوابَّه ومواشيَه في زيارتِه لحقلِه ، إلا العمَّ ""أبو حسين" "جارَنا في البلدة . فقد حصلَ، وطلبَ منّي والدي، وكنتُ في الرابعةَ عشرةَ من عمري، أنْ أذهبَ إلى بيته، وأطلبَ منه أنْ يعيرَنا حمارَه لنذهبَ الى الكرم. وذهبتُ، وبعد أن حييّتُه، طلبتُ ما طلبَه قال: أهلًا وسهلًا، أنظرْ، إنه هناك في الإسطبلِ، أُدخلْ وأَخرجْه.
وماذا أقولُ؟ أشحاذٌ ويشترطُ؟ لم أتجرّأْ إلّا أن أدخلَ، وأجدَ الحمارَ مربوطًا إلى المعلفِ والمكانُ مظلمٌ، ومنه تفوحُ رائحةُ الزّبلِ والبعْرِ والتّبنِ، وقد فرغَ من كلِّ حيوانٍ إلّا من دابّتِه هذه، كان عليَّ أن أفكَّ رباطَه، وهو أمرٌ سهْلٌ، وأن أُخرجَه ، وهو أمرٌ أيضاً سهلٌ، ولكنْ كيفَ أضعُ له الرّسنَ، وأغطّيه بالبردَعة؟ كان أمراً جلَلًا بالنّسبةِ لي، فجُلتُ قليلًا في المكانِ، أفكرُ، وأشمُّ !! وعدْتُ إلى العمِّ "أبو حسين "وكانَ ما زال مقرفصًا في مكانِه، يرتدي ثيابَه القرويةَ: قمبازًا مفتوحًا لفّه العمُّ على عطفَيه، وتزنّرَ "بالكمَرِ العريضِ، يضعُ فيه القرويُّ ما يحتاجُ إليه من مالٍ، إذا وُجدَ، أو مفتاحًا، أو سكينًا، وقد يضع فيه بطاقةَ هويَّتِه إذا لزمَ. والعم "أبو حسين" يؤتي الخيرَ على قلّتِه، فهو طيّبٌ، عفويٌّ، وقرويٌّ محبٌّ، دافعُه إلى ذلك ،الإيمانُ الفطريُّ الذي أنعمَ اللهُ بهِ عليه.
قلتُ له على استحياءٍ: يا عمُّ كيف لي أنْ أضعَ كذا وكذا على الحمارِ وأسحبَه؟ فنظرَ اليَّ رحمَه اللهُ، بكلِّ هدوءٍ وقال: ألا تعرفُ ما يجبُ فعلُه؟ أمرٌ غريبٌ، ولكنْ ،ما الذي تتعلّمُه إذًا في المدرسة؟
ولم أدرِ آنذاك ، إذا كانت دعابةً ؟ أم أنّه قالَها عن فهمٍ واعتقادٍ؟ ما عرفتُه ، أنه قام بكلِّ لطفٍ، ونابَ عني في العملِ، ورحتُ بعدَها الى كرمِنا في "وادي الأرنب"، وعدتُ على ظهرِ حمارِ "العم أبو حسين" مع عناقيدَ من كرمِنا، أطيبُها ذلك الأحمرُ المدوّر الذي يدرُّ طعمًا طيّباً ، ومذاقاً لذيذاً.
سقاها الله أيامًا ،عشنا فيها في القريةِ بعلاقةٍ بريئةٍ لطيفةٍ ، ينفحُها الإيمانُ بحبِّ الجيرانِ، وصداقةِ الأصدقاءِ، وأنّ الضّنَّ ،بما يمكن البذلُ فيه ،عيبٌ، وتلك محبةٌ أو قلْ آدابٌ تعلّمَها أهلُنا، وكان علينا أن نتعلّمَها، ونعلّمَ بها أولادَنا حقيقةَ أنَّ الإيثارَ فضيلةٌ ورضوانٌ، والأثَرَةَ مَذَمّةٌ وخُسْرانٌ .
*عبد الله سكريّة
حانَ موعدُ القطافِ، فالشّهرُ آبٌ، ضاحكٌ لهّابٌ بشمسه وبأثمارِه، وكلُّ مَن في القريةِ زائرٌ بستانَه أو كرمَه ليتفقدَ أو يجنيَ ؛ فالقرويُّ اعتادَ أن ينزعَ رزقَه من قلبِ الصَّخرِ، وبراثنِ القدَر، والبلدةُ غنيّةٌ بأراضيها وبزروعِها. وهي حركةٌ دائمةٌ ،وسلطانٌ كريمٌ ،ومعظمُ
أهلِها فلّاحونَ، وأقلُّهم مزارعونَ، غيرَ أنّ الجميعَ حينما يتأهبُ إلى العمل يجرُّ معَه دوابَّه ومواشيَه في زيارتِه لحقلِه ، إلا العمَّ ""أبو حسين" "جارَنا في البلدة . فقد حصلَ، وطلبَ منّي والدي، وكنتُ في الرابعةَ عشرةَ من عمري، أنْ أذهبَ إلى بيته، وأطلبَ منه أنْ يعيرَنا حمارَه لنذهبَ الى الكرم. وذهبتُ، وبعد أن حييّتُه، طلبتُ ما طلبَه قال: أهلًا وسهلًا، أنظرْ، إنه هناك في الإسطبلِ، أُدخلْ وأَخرجْه.
وماذا أقولُ؟ أشحاذٌ ويشترطُ؟ لم أتجرّأْ إلّا أن أدخلَ، وأجدَ الحمارَ مربوطًا إلى المعلفِ والمكانُ مظلمٌ، ومنه تفوحُ رائحةُ الزّبلِ والبعْرِ والتّبنِ، وقد فرغَ من كلِّ حيوانٍ إلّا من دابّتِه هذه، كان عليَّ أن أفكَّ رباطَه، وهو أمرٌ سهْلٌ، وأن أُخرجَه ، وهو أمرٌ أيضاً سهلٌ، ولكنْ كيفَ أضعُ له الرّسنَ، وأغطّيه بالبردَعة؟ كان أمراً جلَلًا بالنّسبةِ لي، فجُلتُ قليلًا في المكانِ، أفكرُ، وأشمُّ !! وعدْتُ إلى العمِّ "أبو حسين "وكانَ ما زال مقرفصًا في مكانِه، يرتدي ثيابَه القرويةَ: قمبازًا مفتوحًا لفّه العمُّ على عطفَيه، وتزنّرَ "بالكمَرِ العريضِ، يضعُ فيه القرويُّ ما يحتاجُ إليه من مالٍ، إذا وُجدَ، أو مفتاحًا، أو سكينًا، وقد يضع فيه بطاقةَ هويَّتِه إذا لزمَ. والعم "أبو حسين" يؤتي الخيرَ على قلّتِه، فهو طيّبٌ، عفويٌّ، وقرويٌّ محبٌّ، دافعُه إلى ذلك ،الإيمانُ الفطريُّ الذي أنعمَ اللهُ بهِ عليه.
قلتُ له على استحياءٍ: يا عمُّ كيف لي أنْ أضعَ كذا وكذا على الحمارِ وأسحبَه؟ فنظرَ اليَّ رحمَه اللهُ، بكلِّ هدوءٍ وقال: ألا تعرفُ ما يجبُ فعلُه؟ أمرٌ غريبٌ، ولكنْ ،ما الذي تتعلّمُه إذًا في المدرسة؟
ولم أدرِ آنذاك ، إذا كانت دعابةً ؟ أم أنّه قالَها عن فهمٍ واعتقادٍ؟ ما عرفتُه ، أنه قام بكلِّ لطفٍ، ونابَ عني في العملِ، ورحتُ بعدَها الى كرمِنا في "وادي الأرنب"، وعدتُ على ظهرِ حمارِ "العم أبو حسين" مع عناقيدَ من كرمِنا، أطيبُها ذلك الأحمرُ المدوّر الذي يدرُّ طعمًا طيّباً ، ومذاقاً لذيذاً.
سقاها الله أيامًا ،عشنا فيها في القريةِ بعلاقةٍ بريئةٍ لطيفةٍ ، ينفحُها الإيمانُ بحبِّ الجيرانِ، وصداقةِ الأصدقاءِ، وأنّ الضّنَّ ،بما يمكن البذلُ فيه ،عيبٌ، وتلك محبةٌ أو قلْ آدابٌ تعلّمَها أهلُنا، وكان علينا أن نتعلّمَها، ونعلّمَ بها أولادَنا حقيقةَ أنَّ الإيثارَ فضيلةٌ ورضوانٌ، والأثَرَةَ مَذَمّةٌ وخُسْرانٌ .
*عبد الله سكريّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.