الصفحات

إمعان نظر(17).. "الرجوع إلى الربانيين" ...* بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني

⏪"الرجوع إلى الربانيين"

سبق أن ذكرنا أن مدد الله عام، لأهل السعادة على اختلاف درجاتهم؛ ولأهل الشقاء على تفاوت دركاتهم. وقد ذكر الله هذا، في قوله
سبحانه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. ولكن، لا بد أن نبيّن طريق الاستمداد لكل فريق؛ حتى نربط الأسباب بنتائجها. فالمدد العام الجمعي، لا يكون إلا للخليفة العام الدهري (الحقيقة المحمدية)، أو للخليفة في الزمان (القطب). وأما المدد الخاص، فإنه يكون للأشقياء من طريق إبليس وخلفائه؛ ويكون للسعداء من طريق الوجه النبوي، من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إما مباشرة، كما كانت الحال زمن النبوة؛ وإما بصفة غير مباشرة، عن طريق خلفاء النبوة من الربانيين. وأما الفقهاء، فهم خلفاء الرسالة، لذلك لا مدد لهم، بالمعنى الذي نذكره هنا. غير أن أئمة الفقه من المجتهدين، كالأئمة الأربعة، لا بد لهم من مدد علمي غيبي، من وراء حجاب، به يتوصلون إلى ما لم يكونوا يعلمون.

وإذا عرفنا أن المدد الشيطاني، مستمر في الأشقياء، من طريقهم؛ وبه يتقوّون على حزب الله، في كل زمان؛ فإن عوام المؤمنين، يبدو أنهم قد أهملوا مسألة الاستمداد، بوحي من شياطين الإنس والجن. كل هذا، حتى يبقوا من غير سلاح غيبي، يمنعهم من تسلط حزب الشيطان. ولقد وقع بعض المتفقهة تحت تحكم الوحي الشيطاني، عندما جعلوا طلب المدد الرباني من مظانه، قدحا في التوحيد؛ وعدّوا القائلين به من المشركين. وظنوا أن التلفيق الفكري، الذي يعتمدونه في التأصيل لمذهبهم، له اعتبار عند أولي العلم؛ ناسين أن التوحيد نفسه، يكون على قدر المرتبة الدينية التي يكون المرء منسوبا إليها. فتوحيد المسلم -من حيث السعة والعمق- ليس كتوحيد المؤمن، وليس كتوحيد المحسن. وتوحيد كل هؤلاء، ليس كتوحيد الربانيين، ذوي العلم اللدني. وبهذا الفعل من عوام الفقهاء، بقيت الأمة في معظمها، على الحد الأدنى من المدد العام، إن هي اجتنبت المخالفات والمعاصي الجالبة للظلمة. وهكذا، وصلنا إلى حال الوهن الذي فسره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحب الدنيا وكراهية الموت، في حديث: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».[1] فالوهن الذي هو شدة الضعف، لم يكن له من سبب، إلا الإعراض عن المدد الرباني النبوي، لدى الربانيين. ولم يكن لهذا الإعراض من سبب، إلا زعم الجاهلين أن الاستمداد هو من دلائل الشرك؛ وكأن التوحيد لا يتحقق إلا مع الوهن. وكل محاولة لهؤلاء الضالين، لتعويض قوة الإيمان التي هي منوطة بالمدد، بالقوة المادية المعلومة، أو بالقوة الفكرية، فهي غير مجدية؛ بل إن كل ذلك لن يزيد الأمة إلا ضعفا؛ سواء علموا هذا، أم لم يعلموه.

إن المدد يدخل ضمن فضل الله العام، الذي ليس له من سبب إلا التعرض. وقد ينال المرء من جهة المدد الوهبي، ما لا يناله بعمله واجتهاده، وإن كان له بدل العمر الواحد أعمار. وإنّ ربط النوال الإلهي بالعمل دائما، هو أيضا من جهل الفقهاء بحقيقة الدين، التي هي في أصلها من قبيل الفضل. والأمر -لو حققنا- هو في الحقيقة من الشرك الخفي الذي تنطوي عليه النفوس الأمارة بالسوء، من مرتبة الإسلام. وذلك لأن النفوس بربوبيتها الخفية، تأبى أن تأخذ من نوال الله، إلا ما يكون جزاء لأعمالها. وهذا أيضا سببه، أنها ترى أعمالها من خلقها، وإن نطق اللسان بخلاف ذلك. وأما النفوس المزكاة، التي تعلم أن أعمالها من خلق الله، وأن كل ما بها هو من فضل الله؛ فإنها تعود إلى أصل الفضل في النوال، وتطلبه بكل سبب، ظاهر وباطن. والعجب هنا، إنما هو ممن يعتمد طريق الشرك (الخفي)، ويراه توحيدا؛ وينصرف عن طريق التوحيد الحق، ويراه شركا. ولكن، لولا أن بعض المتفقهة قد نظّروا لهذا الضلال، ما كان لعموم الناس أن يقعوا فيه.

إن المدد الذي نتكلم عنه، منه العلمي الكشفي، ومنه الطبي، ومنه الوقائي، ومنه الإرهابي (بالمعنى اللغوي الأصلي، لا بالمعنى الاصطلاحي الحديث)، ومنه التوفيقي التسديدي، وغير ذلك مما لا يُحصيه إلا الله. وكل هذه الصنوف، تعود إلى أصول، هي المذكورة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. فمن أعرض عن الاستمداد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نوابه، فإنه يكون معرضا عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ ما دام ليس معاصرا له، كما كان الصحابة رضي الله عنهم معاصرين...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] . أخرجه أبو داود عن ثوبان، رضي الله عنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.