⏪ كتاب " الحوار الغائب "
16
الصبر صفة إلهية، ولا يكون إلا على المكاره. يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:
46]. وهذا يعني أن الله يكره أشياء، منها ما يخرج إلى الوجود، ومنها ما لا يخرج. وذلك لأن العلم لا يُحابي الأسماء التفصيلية، وهو يتعلّق بالمعلوم وإن كان مكروها لله، من أحد وجوهه. وما تعلّق به العلم، فقد تتعلّق به الإرادة، فيوجد، وقد لا تتعلق به. وهذا أمر آخر، غير الأول. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ، مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ!»[1]. وهذا يُثبت أن الله مع كرهه لأشياء، فإنه يحفظ مظاهرها ويُمدُّها بما تقوم به، إيفاء لها بحق وجودها. وهذا، هو الجود العام الذي فاض على جميع الموجودات.
وأما "أيوب" عليه السلام، فهو صورة "الله" في زمانه؛ وتخلّقه بخلُق الله، هو من باب التحقق بالحق، لا كما يعتقد العامة بحسب ما يُعطيهم إيمانهم. وإن من مراتب الحق، الأحدية؛ التي هي بالنظر إلى العبد مقام التجرُّد (المتصوفة يسمونه التجريد). والتجرد يعطي انفراد العبد الرباني بحقه، فلا يكون له من النِّسب إلا الضروري لامتياز نفسه. ومن هذا الباب، كان جل الأنبياء عليهم السلام لا يُعقِبون إلا البنات؛ وحتى من خلّف البنين، فإن ذلك يكون أحيانا منه، بعد مدة من العُقم. وهذا، لأن ظهور الحق بالصورة العدمية، كان زيادة في الحكم على الحق الأصلي. والغيرة الإلهية تأبى الشريك الذي هو الزائد، فتلاحقه بأنوار الأحدية لتُفنيه في أي مرتبة كان. ومن هذا الباب، كان العالم (الكون) ينعدم (وهو غير الفناء المعلوم) في كل زمن فرد، ويخلقه الله خلقا جديدا بعد انعدامه في كل مرة. يقول الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ومن هذه الحقيقة كان الله خلاّقا، ولم يكن خالقا فحسب؛ ومنها أيضا كان التردد الإلهي المذكور في الحديث القدسي: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ!»[2]. فهذه الشؤون كلها، مما يتعلق بعبد الله "أيوب" عليه السلام.
يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84]؛ فظهر أن أيوب وجه من الوجوه الإبراهيمية الجمعية؛ لذلك سيظهر بما لم يظهر به غيره، وهو الصبر. ونعني هنا الإمامة في الصبر، لا كل صبر.
يقول الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. و "إذْ" هنا، على المعنى الذي ذكرناه في فصل سابق، تفيد الخروج عن الزمان. وهذا لا يكون إلا إذا صار الأمر متعلقا بالحضرات الاسمية، في حضرة الاسم "الله" الأعظم. و"أيوب" من كونه متحققا بربه الذي هو "الله"، فإنه سيدعو حقيقته من باطنه، بسبب ما لحقه من ضر؛ من وجه الرحمة العامة التي وردت هنا بصيغة اسم التفضيل. وصفة الرحمة الشاملة الكبرى، لا تكون إلا لـ "الرحمن". ويقصد أيوب من هذا الدعاء رحمة الحق لنفسه، كما يرحم كل اسم نفسه. فكل اسم راحم لنفسه، والرحمن أرحم الراحمين. ومعنى الكلام هو: يا رب ارحم نفسك في مظهري، كما يرحم كل اسم نفسه في مظهره. ومن رحمة الرحمن ظهور التجلي الذي نشأ عنه الخلق بجميع مراتبهم، كما ظهر عن صورة "أيوب" صور زوجته وأولاده وماله؛ من كونها كلها منوطة به. ولما كان الحق يكره من جهة الأحدية أن يُنسب إليه شيء، فقد جرّد "أيوب" عن اللواحق، وحكم عليها بالإفناء الذي خرج من شدة التحقق إلى الحس. وهذا هو الذوق، لا غيره!... ونعني أن من يحصل له العلم بالشيء، ولا يتصف به في عالم الشهادة، فإنه لا يكون ذوقا بالمعنى الاصطلاحي؛ إلا إن كان مما لا ذوق له في الحس!... فذهب الأولاد والمال، الذين هم من مرتبة الأفعال، وبقيت الزوجة لأنها من مرتبة حقيقته المتجلية بصفاته (صورته). وهذه المرتبة محفوظة بحقيقتها لا بغيرها. وهو معنى قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]؛ وهو يعني أنها باقية لتذوقَه؛ لأنه ليس إلا حالا من أحوالها فحسب.
ويقول الله في موضع آخر: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]؛ ولقد نسب الله "أيوب" إلى حضرة الجمع التي تدل عليها "نا" من عبدنا؛ ليُعلمنا عن تحققه بتفاصيل الأسماء من حقيقة جمعيته. وأما نداؤه عليه السلام ربه الذي هو "الله" بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، فهو يعني الضرر الحسيّ المتسبب في العذاب النفسي؛ وأما قلبه عليه السلام، فلا سلطان لهذه الأحوال عليه لقداسته. ونعني من هذا أن قلب "أيوب" هو حضرة الله، وحضرة الله لا يدخل إليها الشيطان. فإذا شاء الله أن يخاطب الشيطان، فإنه يخاطبه من وجه "الرحمن"، الذي له به تعلق. ولو خاطبه من وجه غيره، لانمحق وعاد إلى العدم.
وقد نسب "أيوب" عليه السلام الضرر اللاحق به إلى الشيطان، لكونه غريبا عن حضرة الحق، التي هي منزهة عن لحوق الأذى بها؛ وليس الأذى هنا، إلا العدم. والشيطان، من جهة حقيقته نشأ عن ظهور العدم بنور الحق. فهو من ظاهر الصورة الإنسانية، ولذلك انحجب عن ربه. وحُكم ظلمته ونوره، بعكس حكم ظلمة ونور الأنبياء عليهم السلام؛ ونعني من هذا، أن الأنبياء هم نور ظهر في صور عدمية، وأن الشيطان عدم ظهر في صورة وجودية. لذلك كانت أحواله وأفعاله بعكسهم عليهم السلام. والشيطان هنا، معنى خاص بـ "أيوب"، وليس المعنى العام المعروف؛ وإن كان هو هو من جهة أخرى. وهذا كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ! قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ؛ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ؛ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.»[3]. ومعنى هذا، أن الشيطان بالنظر إلى مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يأمر إلا بخير؛ وإن كان ظاهر ما يأمر به عند نفسه شرا. وهذا يدل على أن الشيطان لا يعلم حقيقة الخير ولا حقيقة الشر، وإنما هو يظن ظنّا. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ»، معناه: إن اسمي الذي هو الله، لا يترك لاعتبار الشر الجزئي وجودا في جمعية الخير العليا. ولولا أن الشيطان محجوب عما نذكر، ولولا أنه لا نية له في الخير، لوجد في صحيفته من الخير ما لا يعلمه إلا الله. ويكفي من ذلك الخير ما ذكره الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ ولكن بما أنه لا نية له في الخير كما ذكرنا، فإنه يُحرمُه. ولو أن الناس عادوا إلى القرآن، لوجدوا من أعاجيب العلم، ما لا نهاية له!...
ثم يقول الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، فدلّه على سبب عودة النِّسب العدميّة إليه، والتي هي أصل امتداد ظله. ونعني من هذا، أن الوجود (العالم= الكون) في زمان "أيوب" كان يصدر عنه. وأنه في أثناء ابتلائه، كان مقطوعا عن شهوده بسبب غلبة الحق عليه. واستمرار صدور الوجود عن "أيوب" في حاله تلك، كان كحال العالم قبل خلقه، وإبّان كتْمه الذاتي؛ في حقه هو، لا مُطلقا. وهذا مما يدل على أن الحق لم يتغيّر عليه شيء سبحانه، بخلقه الخلق؛ وإنما الخلق هم الذين تغير عليهم الحال، عند خروجهم من العدم إلى الوجود. ولقد كان أبو يزيد عليه السلام، على مثل تلك الحال؛ فهو على الرغم من تحققه بالأحدية، إلا أنه كان قطب زمانه. وهذا يعني أن كل قطب له نصيب من هذا الحال، على تفاوت بين الأقطاب في ذلك -من غير شك- عليهم السلام أجمعين.
يقول الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]؛ أي فاستجبنا له من حقيقة الرحمن الباطنة فيه، فكشفنا ما به من ضر الانحباس الحقّي، إلى التجلّي الخلقي. فظهر على حسه إعادة حال تكثُّره، إلى أضعاف ما كان عليه من كثرة في المال والولد. وهذا يعني أن ظهور الخلق من كمال مراتب التجلي الحقي، لا من كمال الحق؛ سبحانه!...
ولقد جاء في التوراة:
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ. وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ."[4]. وهذا الحوار بين الرب والشيطان، كان من باطن "أيوب" نفسه، كما أوضحنا سابقا. وظهر الاعتراض الشيطاني في صورة من ينسب طاعة "أيوب" لربه إلى إنعامه سبحانه عليه؛ أي من باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]. فكان لا بد من الامتحان ذوقا، ليصح المقام. وهذا من ظاهر ما تكلمنا عنه سابقا، ليوافق علم المؤمنين. ولما أراد الله إظهار فضل أيوب، استجاب للشيطان، فأمر سبحانه بسلبه كل ما يملك، لتظهر حقيقته له ويزداد اطمئنانا بربه. وأما الشيطان، فإنه مُسخَّر لـ "أيوب" عليه السلام، من حيث لا يعلم؛ ولو أنه علم أنه سيكون سببا في زيادة علو شأنه عند ربه، ما تجاسر عليه. وهذا حال اللعين مع الربانيين، في كل الأزمنة؛ وهذا من أشد أسباب حسراته، عند انقلاب الخلق إلى الآخرة.
وجاء في التوراة: "وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، أَنَّ رَسُولًا جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ: «الْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ، وَالأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا، فَسَقَطَ عَلَيْهَا السَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «نَارُ اللهِ سَقَطَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ الْغَنَمَ وَالْغِلْمَانَ وَأَكَلَتْهُمْ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «الْكَلْدَانِيُّونَ عَيَّنُوا ثَلاَثَ فِرَق، فَهَجَمُوا عَلَى الْجِمَالِ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا.»"[5]. فتحقق التجرُّد لـ "أيوب" ذوقا، فعاد إلى مرتبة حقه، ناطقا بحقيقة ما أخبر الله عنه في القرآن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. ومعنى قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ}، أي نحن شؤونه، لا غيره؛ ومعنى قوله:{وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، أي مهما انفصلنا عنه تعالى من جهة الأحكام، فإننا راجعون إليه من جهة الحقيقة. غير هذا لا يكون أبدا!... وبهذا، لا يكون شيء قد زاد على الله، ولا يكون شيء قد نقص منا. وهذا هو معنى الرسوخ المشار إليه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وما هو من عند ربنا، فله الثبات؛ لقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
ثم تواصِل التوراة: "فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمُسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ». فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: «أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ اللهَ وَمُتْ!». فَقَالَ لَهَا: «تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟». فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ."[6]. لم يكتف الشيطان بإصابة "أيوب" في ماله وولده، ووجد ذلك مما لا يؤثر فيه كثيرا؛ فسأل الله أن يُمكّنه من بدنه؛ وبدنه هو ظاهر صورته. والصورة هي ما يُميّز شخصا عن آخر في هباء الحق. ولقد أوصى الله بحفظ النفس، عند فساد البدن؛ ليذوق "أيّوب" فساد الصورة مع بقاء النفس؛ لأن النفس لو ذهبت، فإن "أيوب" سيعود إلى العدم. والله سبحانه لا يحكم بإعدام من سبق له أن أوجده، كرما منه وجودا. فبقي أن "أيوب" سيذوق صنفا من الموت؛ ما دام الموت هو تفكيك المركّب إلى عناصره البسيطة، مع بقاء الحقيقة العبدية، كما أسلفنا.
فعندما أُصيب الجسد الشريف، اُضطُرَّ صاحبه إلى أن يبقى وسط الرماد، وأن يحك جلده المرة بعد الأخرى بأداة تصلح لذلك. وفي غالب الأحيان، لو أن هذا يحدث لشخص، فإن نفسه تعاف بدنه، إلى الحد الذي تصرف عنه وجهها من جهة الغيب، فيقع الموت. وذلك لأن حياة الأبدان، هي بتوجُّه الأرواح إليها فحسب. ولكن "أيوب" عليه السلام، كان من العلم بالله، بحيث لا تؤثر فيه الأسباب المعتادة. وكان نظره المنصرف إلى ربه، يجعل كل ما مرّ به، كأنه لم يكن. وأهل الله يعلمون هذا من أنفسهم ذوقا؛ لذلك ترى الواحد منهم في بلاء لو قُسم على أهل الأرض لأهلكهم، وهو لا يكاد يشعر به. وترى الناس من حولهم، يتعجبون من قوة احتمالهم لذلك. والحقيقة هي أن النظر إلى الله، يُغيّب كل ما سواه، حتى النفس وما يتعلّق بها. وفي أحيان كثيرة يقع للمُبْتَلَيْنَ من الأُنس في البلاء، ومن الانشراح، ما لا يتمكن أحد من فهم سببه!...
وأما قول "أيوب" الحكيم: "أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟"، فإنه من أعلى ما يتعلّق به العلم. وذلك لأن الخير والشر نسبيّان؛ فما هو من الخير عند قوم، هو من الشر عند آخرين. ولكن "أيوب" يريد منا أن نكون مع الله في حكمه على الأشياء، لا مع أنفسنا، ولا مع أضرابنا؛ وحكم الله أحدي الوجه من مرتبته. وهذا هو حال الربانيين، الذين لا يشهدون إلا الحق. ومن كان هذا مشهده، فإنه لا يرى الشرّ؛ بل يرى خيرا عُرفيّا، وخيرا غير عُرفيّ؛ أو خيرا معتادا، وخيرا غير معتاد؛ أو خيرا ملائما للغرض، وخيرا مخالفا له. وعلى كل حال، فإن كل ذلك خير. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في دعاء الاستفتاح: «... لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ؛ ...»[7]. ومعنى أن الخير بيدي الله تعالى، هو أن ما يراه الناس خيرا، فهو خير؛ وما يراه الناس شرا، فهو خير. ومعنى أن الشر لا يُنسب إلى الله، هو أن الشر عدم، والعدم لا يتصف به الحق؛ بل هو عائد إلى حقائق الخلق. لهذا يقول الله تعالى في موضع آخر: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]؛ والحسنة كما بيّنّا هي الوجود وهي الخير، وأما السيئة فهي العدم وهي الشر. وإذا كان الشر عدميَّ الحقيقة، فإنه لم يبق في الوجود كلّه إلا الخير من جهة العين!...
وهذا يجرنا قليلا إلى الرد على أنصاف العقلاء، من أولئك الذين يرون الشر في العالم، ويجعلونه مانعا عن الدلالة على خالِقية الله، أو عن الدلالة على كماله سبحانه!... وهم ما علموا حقيقة الشر، ولكنهم أخذوا صورا وجودية (خير) لا تلائم أغراضهم في الوقت، أو لا يُدركون الحكمة منها، فجعلوها شرا ونسبوها إلى الله؛ تعالى الله!... وهذا جهل بكل ما ذكرناه آنفا. ثم إنه بهذه الطريقة، قد يكون ما يراه واحد منهم خيرا، يراه الآخر شرا، كما بيّنّا. والمسألة إن كانت نسبية، فإنه لا يصح الاعتماد عليها في برهنة من هذا الصنف؛ لأنها (النسبية) ستكون متغيرا من متغيرات المعادلة لا ثابتا؛ وتغير المتغيرات، يجعل النتيجة متغيرة بحسبها. ومن أراد أن ينظر إلى صورة نسبية الخير والشر، فلينظر إلى المعارك التي تحدث بين جيشين، كِلاهما يرى الآخر عدوا له. فعند الاقتتال، يموت من هؤلاء ويموت من هؤلاء؛ وكل فريق يرى الموت في صفوفه هو، شرا؛ ويرى الموت في صفوف الجيش الآخر، خيرا؛ مع أن القتل في حقيقته هو القتل، بالنسبة إلى البشر أجمعين. لكن لا أحد من الفريقين يستطيع أن يترفّع عن الاعتبارات الضيقة، ليرى أن الاقتتال مضر بالجميع، وأنه شر على الجميع (هذا عند اعتبار القتل شرا). فهذا مستوى واحد من النظر، إن نحن رجعنا إلى العليم الحكيم سبحانه فيه، الذي قدّر على هؤلاء وهؤلاء الاقتتال، وقدّر عليهم الموت من هنا ومن هناك؛ فإنه سيكون في نظره سبحانه كله خيرا، بسبب عدم كونه طرفا، وإنما حَكَما على الجميع؛ وهذا هو ما سميناه آنفا، أحديةَ النظر من قِبل الله!... وقد تَنشَأ عن كثير من صور الشرور باعتبار ما، صُور من الخير غير معلومة في الوقت. وهذا يُشبه معنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. ثم يقول بعد ذلك: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]؛ ويقصد سبحانه: وعسى أن تُحبوا الدعة والاستقرار وعدم القتال، فيكون عندئذ ذلك شرا لكم. ثم يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]؛ أي هو وحده العليم بمآلات الأمور؛ فيكون ما حكم به سبحانه خيرا، هو الخير في نفسه؛ وما حكم به شرا، هو الشر في نفسه. وهذا العلم المحيط، لا يكون إلا له سبحانه؛ لذلك وجب على العباد، عدمُ اعتبار آرائهم بمعزل عن حكم الله. ومن هنا أيضا، وجب اتباع الأمر الإلهي الشرعي، وإن كان فيه العطب؛ لأن العطب صورة لا حكم. وأما الحكم فهو الخير والحسن المنوطان بالاتباع، لكون العبد مؤتمرا بأوامر ربه في ذلك كله. وهذا أيضا صنف من النسبية، مخالف للنسبية الأولى؛ ونعني أن هذه نسبية حُكمية، والأخرى تقابلية.
ولقد حُجب الشيطان عن خصوصية "أيوب"، وظن أن نظره في البداية إلى فقد ماله، وثانية إلى فقد سلامة بدنه، سيجعله يتأثر لذلك، ويسيء الظن بربه؛ وهيهات!... فـ "أيوب" مع ربه، في جميع الأحوال؛ منزّه عن الانفعال للأحكام الجزئية. وهذا الذي وقع في الحقيقة، ليس امتحانا لـ "أيوب"، وهو من هو في المرتبة؛ وإنما هو إبراز لمرتبته بين جميع الخلق، الذين منهم إبليس عينه. وإن كان إبليس لن يُدرك سر "أيوب" الذي جعله ثابتا، لا يتغير منه الشكر لربه؛ ما دام هو محجوبا بنفسه وبهواه. ولكن مع ذلك، سيتعجب الشيطان كثيرا لما رآه، وسيبقى الأمر لديه غير قابل للتفسير. وهذا ليس حاله وحده؛ وإنما هو حال كثير من الناس، الذين يظنون أنهم من أهل الفكر ومن أهل الرأي. بل إن من المسلمين مَن هو واقع في ذلك، ويظن أن ما هو عليه، هو أقصى ما يكون عليه أهل الدين؛ وهيهات!...
إن من يظن أن "أيوب" قد تغيّر عليه شيء قبل وأثناء وبعد البلاء، فهو بعيد عما نتكلم فيه هنا؛ لأنه عليه السلام، من بدايته إلى نهايته، كان مع ربه لا مع نفسه. ومن كان مع ربه، فإنه لا يتغيّر عليه شيء؛ وإن تغيرت الأحوال عليه. ولسنا هنا نتكلم عن معاملة مختلف الأسماء، التي يُدرك معانيها الخاص والعام، بوجه من الوجوه؛ ولكن نتكلم عن حقيقة الوجود والعدم. ولهذا انطلقنا في بداية الفصل من الأحدية، المنزهة عن العدم. وقد منع قوم من أهل الطريق أن يكون للولي ذوق في الأحدية، بسبب قياسهم على أنفسهم، وهم صادقون في إخبارهم عن أنفسهم لا فيما يُخبرون به؛ لأن العلم يُثبت ذوق الأحدية لخواص الأولياء. ومنهم على الأخص، أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه، الذي أخبر عن نفسه أنه لا صباح له ولا مساء، وأمثاله. وأصحاب الأحدية من الأولياء، لا يُطيقهم أحد من الخلق، كما لا يُطيقون هم أحدا. وهم إلى خراب أنفسهم وأموالهم، أميل؛ وإن كان الفقر التفصيلي يحكم عليهم بما يحكم على غيرهم. لكن فقرهم الأصلي الذي هو العدم المطلق، قد حكم عليهم بالفناء التام؛ لذلك هم يؤمنون بأنفسهم ولا يعلمونها ذوقا. وذلك لأن ذوقهم الحق الصرف، لا غيره. وهؤلاء من ينظر إليهم من الناس، يرى الله؛ علم ذلك أم لم يعلمه؛ بل إن كان الناظر على بعض إيمان، فإنه يرى الله، وقد لا يُطيق الرؤية. وقد وقع ذلك لمن رأى أبا يزيد فمات من رؤيته، عند عدم اتساع استعداده لتلك الرؤية. وإن هذه الأمور تقع بين الأولياء كثيرا؛ وكثير منهم يُشارف على الموت عند ارتفاع الحجاب في حقه مع أحد الربانيين. وعلى شيوع هذا بين الأولياء، فلا يطمع أحد من العوام في إدراكه من مجرد الكلام، وهو ما يزال حبيس طبعه وطبيعته منذ أن عقل.
غير أن الأحدية المطلقة لا تصح للعبد من كل وجه، بل لا بد له من ذوق الواحدية، كما وقع لـ "أيوب" عليه السلام. فيكون كمن حج البيت، ثم عاد إلى أهله موفور الأجر. غير أن الأحدية تبقى من جهة الباطن، سندا لنفس العبد ولكل ما يتعلّق به. ومن هنا يعلم المتحقق، غنى الله عن عباده، مع خلقه لهم؛ ويعلم أن عنايته بهم، ليست إلا من مرتبة الألوهية، لا من مرتبة الأحدية. وقولنا "مرتبة الأحدية" لا نعني منه الذات مطلقا، كما يتوهم كثيرون؛ لأن الذات محيطة بالوجود والعدم، وهي أصل الحق والخلق معا. ولولا أن المخلوقات لها مرتبة ذاتية من غيب الغيب، ما كانت الإرادة تعلقت بها من أجل أن توجد أصلا. ومرتبة الذات بحر طامس، لا تقوم فيه حجة ولا يثبت فيه برهان؛ ويستوي فيه الملك مع مَن بين يديه من الغلمان؛ ويبارز فيه الكفرُ صريحَ الإيمان، فلا تكون الغلبة للإيمان كما يظن أهله، ويكون الكفر أقرب منه إلى نيل السلطان؛ غير أنه لا سلطان. فهذا بعض ما اعتمل في باطن المظهر الأيوبي من أسرار الحق، التي لا يؤذَن لأحد بمطالعتها، إلا إن قام بعد موته من بين بني الإنسان.
وأما بنو إسرائيل، فإنهم لا يعلمون ما ذكرنا عن "أيوب" عليه السلام؛ وهم سينقسمون في حقه إلى قسمين: قسم مؤمنون، سيبقون على حسن ظنهم به؛ إلى أن يزول حكم الابتلاء؛ وقسم دون ذلك، سيسيئون الظن به ويؤذونه، إلى أن يَبين لهم جهلهم؛ فيعودون مضطرين لا مختارين. وأما عوام المسلمين، فإنهم لم يُبتلَوْا بذلك؛ فهم في أمان من جل ذلك، مع بقاء شيء طفيف في حقهم منوط بما أصاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وقت من الأوقات. وأما أصحاب العقائد من منزِّهة المسلمين، الذين يزعمون أن ما أصاب "أيوب" عليه السلام، ينافي العصمة الثابتة للأنبياء، فهم بعيدون عن إدراك الدين على ما هو عليه. ولعلنا نتناول هذه المتفرقات، في موضع آخر من هذا الكتاب أو من غيره، لضيق المجال عنها هنا.
وعلى "أيوب" السلام، وعلى آله، ومن تبعه في ذوقه من الأولياء في كل زمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] .أخرجه مسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] . أخرجه مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] . أيوب: 1: 8-12.
[5] . أيوب: 1: 13-21.
[6] . أيوب 2: 3-10.
[7] . أخرجه مسلم، عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
16
الصبر صفة إلهية، ولا يكون إلا على المكاره. يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:
46]. وهذا يعني أن الله يكره أشياء، منها ما يخرج إلى الوجود، ومنها ما لا يخرج. وذلك لأن العلم لا يُحابي الأسماء التفصيلية، وهو يتعلّق بالمعلوم وإن كان مكروها لله، من أحد وجوهه. وما تعلّق به العلم، فقد تتعلّق به الإرادة، فيوجد، وقد لا تتعلق به. وهذا أمر آخر، غير الأول. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ، مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ!»[1]. وهذا يُثبت أن الله مع كرهه لأشياء، فإنه يحفظ مظاهرها ويُمدُّها بما تقوم به، إيفاء لها بحق وجودها. وهذا، هو الجود العام الذي فاض على جميع الموجودات.
وأما "أيوب" عليه السلام، فهو صورة "الله" في زمانه؛ وتخلّقه بخلُق الله، هو من باب التحقق بالحق، لا كما يعتقد العامة بحسب ما يُعطيهم إيمانهم. وإن من مراتب الحق، الأحدية؛ التي هي بالنظر إلى العبد مقام التجرُّد (المتصوفة يسمونه التجريد). والتجرد يعطي انفراد العبد الرباني بحقه، فلا يكون له من النِّسب إلا الضروري لامتياز نفسه. ومن هذا الباب، كان جل الأنبياء عليهم السلام لا يُعقِبون إلا البنات؛ وحتى من خلّف البنين، فإن ذلك يكون أحيانا منه، بعد مدة من العُقم. وهذا، لأن ظهور الحق بالصورة العدمية، كان زيادة في الحكم على الحق الأصلي. والغيرة الإلهية تأبى الشريك الذي هو الزائد، فتلاحقه بأنوار الأحدية لتُفنيه في أي مرتبة كان. ومن هذا الباب، كان العالم (الكون) ينعدم (وهو غير الفناء المعلوم) في كل زمن فرد، ويخلقه الله خلقا جديدا بعد انعدامه في كل مرة. يقول الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ومن هذه الحقيقة كان الله خلاّقا، ولم يكن خالقا فحسب؛ ومنها أيضا كان التردد الإلهي المذكور في الحديث القدسي: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ!»[2]. فهذه الشؤون كلها، مما يتعلق بعبد الله "أيوب" عليه السلام.
يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84]؛ فظهر أن أيوب وجه من الوجوه الإبراهيمية الجمعية؛ لذلك سيظهر بما لم يظهر به غيره، وهو الصبر. ونعني هنا الإمامة في الصبر، لا كل صبر.
يقول الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. و "إذْ" هنا، على المعنى الذي ذكرناه في فصل سابق، تفيد الخروج عن الزمان. وهذا لا يكون إلا إذا صار الأمر متعلقا بالحضرات الاسمية، في حضرة الاسم "الله" الأعظم. و"أيوب" من كونه متحققا بربه الذي هو "الله"، فإنه سيدعو حقيقته من باطنه، بسبب ما لحقه من ضر؛ من وجه الرحمة العامة التي وردت هنا بصيغة اسم التفضيل. وصفة الرحمة الشاملة الكبرى، لا تكون إلا لـ "الرحمن". ويقصد أيوب من هذا الدعاء رحمة الحق لنفسه، كما يرحم كل اسم نفسه. فكل اسم راحم لنفسه، والرحمن أرحم الراحمين. ومعنى الكلام هو: يا رب ارحم نفسك في مظهري، كما يرحم كل اسم نفسه في مظهره. ومن رحمة الرحمن ظهور التجلي الذي نشأ عنه الخلق بجميع مراتبهم، كما ظهر عن صورة "أيوب" صور زوجته وأولاده وماله؛ من كونها كلها منوطة به. ولما كان الحق يكره من جهة الأحدية أن يُنسب إليه شيء، فقد جرّد "أيوب" عن اللواحق، وحكم عليها بالإفناء الذي خرج من شدة التحقق إلى الحس. وهذا هو الذوق، لا غيره!... ونعني أن من يحصل له العلم بالشيء، ولا يتصف به في عالم الشهادة، فإنه لا يكون ذوقا بالمعنى الاصطلاحي؛ إلا إن كان مما لا ذوق له في الحس!... فذهب الأولاد والمال، الذين هم من مرتبة الأفعال، وبقيت الزوجة لأنها من مرتبة حقيقته المتجلية بصفاته (صورته). وهذه المرتبة محفوظة بحقيقتها لا بغيرها. وهو معنى قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]؛ وهو يعني أنها باقية لتذوقَه؛ لأنه ليس إلا حالا من أحوالها فحسب.
ويقول الله في موضع آخر: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]؛ ولقد نسب الله "أيوب" إلى حضرة الجمع التي تدل عليها "نا" من عبدنا؛ ليُعلمنا عن تحققه بتفاصيل الأسماء من حقيقة جمعيته. وأما نداؤه عليه السلام ربه الذي هو "الله" بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، فهو يعني الضرر الحسيّ المتسبب في العذاب النفسي؛ وأما قلبه عليه السلام، فلا سلطان لهذه الأحوال عليه لقداسته. ونعني من هذا أن قلب "أيوب" هو حضرة الله، وحضرة الله لا يدخل إليها الشيطان. فإذا شاء الله أن يخاطب الشيطان، فإنه يخاطبه من وجه "الرحمن"، الذي له به تعلق. ولو خاطبه من وجه غيره، لانمحق وعاد إلى العدم.
وقد نسب "أيوب" عليه السلام الضرر اللاحق به إلى الشيطان، لكونه غريبا عن حضرة الحق، التي هي منزهة عن لحوق الأذى بها؛ وليس الأذى هنا، إلا العدم. والشيطان، من جهة حقيقته نشأ عن ظهور العدم بنور الحق. فهو من ظاهر الصورة الإنسانية، ولذلك انحجب عن ربه. وحُكم ظلمته ونوره، بعكس حكم ظلمة ونور الأنبياء عليهم السلام؛ ونعني من هذا، أن الأنبياء هم نور ظهر في صور عدمية، وأن الشيطان عدم ظهر في صورة وجودية. لذلك كانت أحواله وأفعاله بعكسهم عليهم السلام. والشيطان هنا، معنى خاص بـ "أيوب"، وليس المعنى العام المعروف؛ وإن كان هو هو من جهة أخرى. وهذا كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ! قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ؛ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ؛ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.»[3]. ومعنى هذا، أن الشيطان بالنظر إلى مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يأمر إلا بخير؛ وإن كان ظاهر ما يأمر به عند نفسه شرا. وهذا يدل على أن الشيطان لا يعلم حقيقة الخير ولا حقيقة الشر، وإنما هو يظن ظنّا. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ»، معناه: إن اسمي الذي هو الله، لا يترك لاعتبار الشر الجزئي وجودا في جمعية الخير العليا. ولولا أن الشيطان محجوب عما نذكر، ولولا أنه لا نية له في الخير، لوجد في صحيفته من الخير ما لا يعلمه إلا الله. ويكفي من ذلك الخير ما ذكره الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ ولكن بما أنه لا نية له في الخير كما ذكرنا، فإنه يُحرمُه. ولو أن الناس عادوا إلى القرآن، لوجدوا من أعاجيب العلم، ما لا نهاية له!...
ثم يقول الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، فدلّه على سبب عودة النِّسب العدميّة إليه، والتي هي أصل امتداد ظله. ونعني من هذا، أن الوجود (العالم= الكون) في زمان "أيوب" كان يصدر عنه. وأنه في أثناء ابتلائه، كان مقطوعا عن شهوده بسبب غلبة الحق عليه. واستمرار صدور الوجود عن "أيوب" في حاله تلك، كان كحال العالم قبل خلقه، وإبّان كتْمه الذاتي؛ في حقه هو، لا مُطلقا. وهذا مما يدل على أن الحق لم يتغيّر عليه شيء سبحانه، بخلقه الخلق؛ وإنما الخلق هم الذين تغير عليهم الحال، عند خروجهم من العدم إلى الوجود. ولقد كان أبو يزيد عليه السلام، على مثل تلك الحال؛ فهو على الرغم من تحققه بالأحدية، إلا أنه كان قطب زمانه. وهذا يعني أن كل قطب له نصيب من هذا الحال، على تفاوت بين الأقطاب في ذلك -من غير شك- عليهم السلام أجمعين.
يقول الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]؛ أي فاستجبنا له من حقيقة الرحمن الباطنة فيه، فكشفنا ما به من ضر الانحباس الحقّي، إلى التجلّي الخلقي. فظهر على حسه إعادة حال تكثُّره، إلى أضعاف ما كان عليه من كثرة في المال والولد. وهذا يعني أن ظهور الخلق من كمال مراتب التجلي الحقي، لا من كمال الحق؛ سبحانه!...
ولقد جاء في التوراة:
"فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟ أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ. وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ."[4]. وهذا الحوار بين الرب والشيطان، كان من باطن "أيوب" نفسه، كما أوضحنا سابقا. وظهر الاعتراض الشيطاني في صورة من ينسب طاعة "أيوب" لربه إلى إنعامه سبحانه عليه؛ أي من باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11]. فكان لا بد من الامتحان ذوقا، ليصح المقام. وهذا من ظاهر ما تكلمنا عنه سابقا، ليوافق علم المؤمنين. ولما أراد الله إظهار فضل أيوب، استجاب للشيطان، فأمر سبحانه بسلبه كل ما يملك، لتظهر حقيقته له ويزداد اطمئنانا بربه. وأما الشيطان، فإنه مُسخَّر لـ "أيوب" عليه السلام، من حيث لا يعلم؛ ولو أنه علم أنه سيكون سببا في زيادة علو شأنه عند ربه، ما تجاسر عليه. وهذا حال اللعين مع الربانيين، في كل الأزمنة؛ وهذا من أشد أسباب حسراته، عند انقلاب الخلق إلى الآخرة.
وجاء في التوراة: "وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنَاتُهُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، أَنَّ رَسُولًا جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ وَقَالَ: «الْبَقَرُ كَانَتْ تَحْرُثُ، وَالأُتُنُ تَرْعَى بِجَانِبِهَا، فَسَقَطَ عَلَيْهَا السَّبَئِيُّونَ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «نَارُ اللهِ سَقَطَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ الْغَنَمَ وَالْغِلْمَانَ وَأَكَلَتْهُمْ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «الْكَلْدَانِيُّونَ عَيَّنُوا ثَلاَثَ فِرَق، فَهَجَمُوا عَلَى الْجِمَالِ وَأَخَذُوهَا، وَضَرَبُوا الْغِلْمَانَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ». فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا.»"[5]. فتحقق التجرُّد لـ "أيوب" ذوقا، فعاد إلى مرتبة حقه، ناطقا بحقيقة ما أخبر الله عنه في القرآن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. ومعنى قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ}، أي نحن شؤونه، لا غيره؛ ومعنى قوله:{وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، أي مهما انفصلنا عنه تعالى من جهة الأحكام، فإننا راجعون إليه من جهة الحقيقة. غير هذا لا يكون أبدا!... وبهذا، لا يكون شيء قد زاد على الله، ولا يكون شيء قد نقص منا. وهذا هو معنى الرسوخ المشار إليه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وما هو من عند ربنا، فله الثبات؛ لقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
ثم تواصِل التوراة: "فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ. وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «جِلْدٌ بِجِلْدٍ، وَكُلُّ مَا لِلإِنْسَانِ يُعْطِيهِ لأَجْلِ نَفْسِهِ. وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمُسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: «هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ». فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: «أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ اللهَ وَمُتْ!». فَقَالَ لَهَا: «تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟». فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ."[6]. لم يكتف الشيطان بإصابة "أيوب" في ماله وولده، ووجد ذلك مما لا يؤثر فيه كثيرا؛ فسأل الله أن يُمكّنه من بدنه؛ وبدنه هو ظاهر صورته. والصورة هي ما يُميّز شخصا عن آخر في هباء الحق. ولقد أوصى الله بحفظ النفس، عند فساد البدن؛ ليذوق "أيّوب" فساد الصورة مع بقاء النفس؛ لأن النفس لو ذهبت، فإن "أيوب" سيعود إلى العدم. والله سبحانه لا يحكم بإعدام من سبق له أن أوجده، كرما منه وجودا. فبقي أن "أيوب" سيذوق صنفا من الموت؛ ما دام الموت هو تفكيك المركّب إلى عناصره البسيطة، مع بقاء الحقيقة العبدية، كما أسلفنا.
فعندما أُصيب الجسد الشريف، اُضطُرَّ صاحبه إلى أن يبقى وسط الرماد، وأن يحك جلده المرة بعد الأخرى بأداة تصلح لذلك. وفي غالب الأحيان، لو أن هذا يحدث لشخص، فإن نفسه تعاف بدنه، إلى الحد الذي تصرف عنه وجهها من جهة الغيب، فيقع الموت. وذلك لأن حياة الأبدان، هي بتوجُّه الأرواح إليها فحسب. ولكن "أيوب" عليه السلام، كان من العلم بالله، بحيث لا تؤثر فيه الأسباب المعتادة. وكان نظره المنصرف إلى ربه، يجعل كل ما مرّ به، كأنه لم يكن. وأهل الله يعلمون هذا من أنفسهم ذوقا؛ لذلك ترى الواحد منهم في بلاء لو قُسم على أهل الأرض لأهلكهم، وهو لا يكاد يشعر به. وترى الناس من حولهم، يتعجبون من قوة احتمالهم لذلك. والحقيقة هي أن النظر إلى الله، يُغيّب كل ما سواه، حتى النفس وما يتعلّق بها. وفي أحيان كثيرة يقع للمُبْتَلَيْنَ من الأُنس في البلاء، ومن الانشراح، ما لا يتمكن أحد من فهم سببه!...
وأما قول "أيوب" الحكيم: "أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟"، فإنه من أعلى ما يتعلّق به العلم. وذلك لأن الخير والشر نسبيّان؛ فما هو من الخير عند قوم، هو من الشر عند آخرين. ولكن "أيوب" يريد منا أن نكون مع الله في حكمه على الأشياء، لا مع أنفسنا، ولا مع أضرابنا؛ وحكم الله أحدي الوجه من مرتبته. وهذا هو حال الربانيين، الذين لا يشهدون إلا الحق. ومن كان هذا مشهده، فإنه لا يرى الشرّ؛ بل يرى خيرا عُرفيّا، وخيرا غير عُرفيّ؛ أو خيرا معتادا، وخيرا غير معتاد؛ أو خيرا ملائما للغرض، وخيرا مخالفا له. وعلى كل حال، فإن كل ذلك خير. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في دعاء الاستفتاح: «... لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ؛ ...»[7]. ومعنى أن الخير بيدي الله تعالى، هو أن ما يراه الناس خيرا، فهو خير؛ وما يراه الناس شرا، فهو خير. ومعنى أن الشر لا يُنسب إلى الله، هو أن الشر عدم، والعدم لا يتصف به الحق؛ بل هو عائد إلى حقائق الخلق. لهذا يقول الله تعالى في موضع آخر: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]؛ والحسنة كما بيّنّا هي الوجود وهي الخير، وأما السيئة فهي العدم وهي الشر. وإذا كان الشر عدميَّ الحقيقة، فإنه لم يبق في الوجود كلّه إلا الخير من جهة العين!...
وهذا يجرنا قليلا إلى الرد على أنصاف العقلاء، من أولئك الذين يرون الشر في العالم، ويجعلونه مانعا عن الدلالة على خالِقية الله، أو عن الدلالة على كماله سبحانه!... وهم ما علموا حقيقة الشر، ولكنهم أخذوا صورا وجودية (خير) لا تلائم أغراضهم في الوقت، أو لا يُدركون الحكمة منها، فجعلوها شرا ونسبوها إلى الله؛ تعالى الله!... وهذا جهل بكل ما ذكرناه آنفا. ثم إنه بهذه الطريقة، قد يكون ما يراه واحد منهم خيرا، يراه الآخر شرا، كما بيّنّا. والمسألة إن كانت نسبية، فإنه لا يصح الاعتماد عليها في برهنة من هذا الصنف؛ لأنها (النسبية) ستكون متغيرا من متغيرات المعادلة لا ثابتا؛ وتغير المتغيرات، يجعل النتيجة متغيرة بحسبها. ومن أراد أن ينظر إلى صورة نسبية الخير والشر، فلينظر إلى المعارك التي تحدث بين جيشين، كِلاهما يرى الآخر عدوا له. فعند الاقتتال، يموت من هؤلاء ويموت من هؤلاء؛ وكل فريق يرى الموت في صفوفه هو، شرا؛ ويرى الموت في صفوف الجيش الآخر، خيرا؛ مع أن القتل في حقيقته هو القتل، بالنسبة إلى البشر أجمعين. لكن لا أحد من الفريقين يستطيع أن يترفّع عن الاعتبارات الضيقة، ليرى أن الاقتتال مضر بالجميع، وأنه شر على الجميع (هذا عند اعتبار القتل شرا). فهذا مستوى واحد من النظر، إن نحن رجعنا إلى العليم الحكيم سبحانه فيه، الذي قدّر على هؤلاء وهؤلاء الاقتتال، وقدّر عليهم الموت من هنا ومن هناك؛ فإنه سيكون في نظره سبحانه كله خيرا، بسبب عدم كونه طرفا، وإنما حَكَما على الجميع؛ وهذا هو ما سميناه آنفا، أحديةَ النظر من قِبل الله!... وقد تَنشَأ عن كثير من صور الشرور باعتبار ما، صُور من الخير غير معلومة في الوقت. وهذا يُشبه معنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. ثم يقول بعد ذلك: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]؛ ويقصد سبحانه: وعسى أن تُحبوا الدعة والاستقرار وعدم القتال، فيكون عندئذ ذلك شرا لكم. ثم يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]؛ أي هو وحده العليم بمآلات الأمور؛ فيكون ما حكم به سبحانه خيرا، هو الخير في نفسه؛ وما حكم به شرا، هو الشر في نفسه. وهذا العلم المحيط، لا يكون إلا له سبحانه؛ لذلك وجب على العباد، عدمُ اعتبار آرائهم بمعزل عن حكم الله. ومن هنا أيضا، وجب اتباع الأمر الإلهي الشرعي، وإن كان فيه العطب؛ لأن العطب صورة لا حكم. وأما الحكم فهو الخير والحسن المنوطان بالاتباع، لكون العبد مؤتمرا بأوامر ربه في ذلك كله. وهذا أيضا صنف من النسبية، مخالف للنسبية الأولى؛ ونعني أن هذه نسبية حُكمية، والأخرى تقابلية.
ولقد حُجب الشيطان عن خصوصية "أيوب"، وظن أن نظره في البداية إلى فقد ماله، وثانية إلى فقد سلامة بدنه، سيجعله يتأثر لذلك، ويسيء الظن بربه؛ وهيهات!... فـ "أيوب" مع ربه، في جميع الأحوال؛ منزّه عن الانفعال للأحكام الجزئية. وهذا الذي وقع في الحقيقة، ليس امتحانا لـ "أيوب"، وهو من هو في المرتبة؛ وإنما هو إبراز لمرتبته بين جميع الخلق، الذين منهم إبليس عينه. وإن كان إبليس لن يُدرك سر "أيوب" الذي جعله ثابتا، لا يتغير منه الشكر لربه؛ ما دام هو محجوبا بنفسه وبهواه. ولكن مع ذلك، سيتعجب الشيطان كثيرا لما رآه، وسيبقى الأمر لديه غير قابل للتفسير. وهذا ليس حاله وحده؛ وإنما هو حال كثير من الناس، الذين يظنون أنهم من أهل الفكر ومن أهل الرأي. بل إن من المسلمين مَن هو واقع في ذلك، ويظن أن ما هو عليه، هو أقصى ما يكون عليه أهل الدين؛ وهيهات!...
إن من يظن أن "أيوب" قد تغيّر عليه شيء قبل وأثناء وبعد البلاء، فهو بعيد عما نتكلم فيه هنا؛ لأنه عليه السلام، من بدايته إلى نهايته، كان مع ربه لا مع نفسه. ومن كان مع ربه، فإنه لا يتغيّر عليه شيء؛ وإن تغيرت الأحوال عليه. ولسنا هنا نتكلم عن معاملة مختلف الأسماء، التي يُدرك معانيها الخاص والعام، بوجه من الوجوه؛ ولكن نتكلم عن حقيقة الوجود والعدم. ولهذا انطلقنا في بداية الفصل من الأحدية، المنزهة عن العدم. وقد منع قوم من أهل الطريق أن يكون للولي ذوق في الأحدية، بسبب قياسهم على أنفسهم، وهم صادقون في إخبارهم عن أنفسهم لا فيما يُخبرون به؛ لأن العلم يُثبت ذوق الأحدية لخواص الأولياء. ومنهم على الأخص، أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه، الذي أخبر عن نفسه أنه لا صباح له ولا مساء، وأمثاله. وأصحاب الأحدية من الأولياء، لا يُطيقهم أحد من الخلق، كما لا يُطيقون هم أحدا. وهم إلى خراب أنفسهم وأموالهم، أميل؛ وإن كان الفقر التفصيلي يحكم عليهم بما يحكم على غيرهم. لكن فقرهم الأصلي الذي هو العدم المطلق، قد حكم عليهم بالفناء التام؛ لذلك هم يؤمنون بأنفسهم ولا يعلمونها ذوقا. وذلك لأن ذوقهم الحق الصرف، لا غيره. وهؤلاء من ينظر إليهم من الناس، يرى الله؛ علم ذلك أم لم يعلمه؛ بل إن كان الناظر على بعض إيمان، فإنه يرى الله، وقد لا يُطيق الرؤية. وقد وقع ذلك لمن رأى أبا يزيد فمات من رؤيته، عند عدم اتساع استعداده لتلك الرؤية. وإن هذه الأمور تقع بين الأولياء كثيرا؛ وكثير منهم يُشارف على الموت عند ارتفاع الحجاب في حقه مع أحد الربانيين. وعلى شيوع هذا بين الأولياء، فلا يطمع أحد من العوام في إدراكه من مجرد الكلام، وهو ما يزال حبيس طبعه وطبيعته منذ أن عقل.
غير أن الأحدية المطلقة لا تصح للعبد من كل وجه، بل لا بد له من ذوق الواحدية، كما وقع لـ "أيوب" عليه السلام. فيكون كمن حج البيت، ثم عاد إلى أهله موفور الأجر. غير أن الأحدية تبقى من جهة الباطن، سندا لنفس العبد ولكل ما يتعلّق به. ومن هنا يعلم المتحقق، غنى الله عن عباده، مع خلقه لهم؛ ويعلم أن عنايته بهم، ليست إلا من مرتبة الألوهية، لا من مرتبة الأحدية. وقولنا "مرتبة الأحدية" لا نعني منه الذات مطلقا، كما يتوهم كثيرون؛ لأن الذات محيطة بالوجود والعدم، وهي أصل الحق والخلق معا. ولولا أن المخلوقات لها مرتبة ذاتية من غيب الغيب، ما كانت الإرادة تعلقت بها من أجل أن توجد أصلا. ومرتبة الذات بحر طامس، لا تقوم فيه حجة ولا يثبت فيه برهان؛ ويستوي فيه الملك مع مَن بين يديه من الغلمان؛ ويبارز فيه الكفرُ صريحَ الإيمان، فلا تكون الغلبة للإيمان كما يظن أهله، ويكون الكفر أقرب منه إلى نيل السلطان؛ غير أنه لا سلطان. فهذا بعض ما اعتمل في باطن المظهر الأيوبي من أسرار الحق، التي لا يؤذَن لأحد بمطالعتها، إلا إن قام بعد موته من بين بني الإنسان.
وأما بنو إسرائيل، فإنهم لا يعلمون ما ذكرنا عن "أيوب" عليه السلام؛ وهم سينقسمون في حقه إلى قسمين: قسم مؤمنون، سيبقون على حسن ظنهم به؛ إلى أن يزول حكم الابتلاء؛ وقسم دون ذلك، سيسيئون الظن به ويؤذونه، إلى أن يَبين لهم جهلهم؛ فيعودون مضطرين لا مختارين. وأما عوام المسلمين، فإنهم لم يُبتلَوْا بذلك؛ فهم في أمان من جل ذلك، مع بقاء شيء طفيف في حقهم منوط بما أصاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وقت من الأوقات. وأما أصحاب العقائد من منزِّهة المسلمين، الذين يزعمون أن ما أصاب "أيوب" عليه السلام، ينافي العصمة الثابتة للأنبياء، فهم بعيدون عن إدراك الدين على ما هو عليه. ولعلنا نتناول هذه المتفرقات، في موضع آخر من هذا الكتاب أو من غيره، لضيق المجال عنها هنا.
وعلى "أيوب" السلام، وعلى آله، ومن تبعه في ذوقه من الأولياء في كل زمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] .أخرجه مسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] . أخرجه مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] . أيوب: 1: 8-12.
[5] . أيوب: 1: 13-21.
[6] . أيوب 2: 3-10.
[7] . أخرجه مسلم، عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.