الصفحات

الحُبّ في زمنِ الكورونا | قصة قصيرة ... *‏فوز حمزة الكلابي‏

⏪⏬
كنتُ منهمكةٌ بالمراسلة مع صديقتي عَبرَ الماسنجر حينَ سرتْ همهمة بينَ ركابِ الباصِ الذي كنتُ استقلهُ، في أولِ الأمرِ لمْ أهتمْ
بِمعرفةِ مايجري، فحديثُ صديقتي عنْ حبيبها الذي هجرها بَعدَ علاقة دامتْ سنوات ليذهبَ ويَرتبطَ بأخرى، كَانَ حدثُ الساعةِ بالنسبة إليّ، قنبلة الموسم، لا، إنه تسونامي عَظيم غطى على كلِ الأحداثِ الصغيرة وابتلعها كما تبتلعُ الحيتان بشهية ودونِ رحمة الأسماك الصغيرة، لهذا بدأتُ أفكرُ معها لوضعِ خطةٍ محكمةٍ لأسترجاعِ الحبيب الهارب الخائن، الناكر للأيامِ الجميلة التي جمعتهما والذكرياتِ الرائعة التي تقاسماها معاً، ليس حباً فيهِ أو تمسكاً به، لا وألفُ لا، بلْ أنتقامٌ منهُ، لتلقينهُ دَرساً في معنى الوفاء، وأيضاً ليعرفَ إنها ليستْ لقمة سهلة، فسقفُ كرامتها عالٍ جداً، لنْ يستطعْ الوصولَ إليهِ أوالنيلَ منهُ، بالرغمِ من علمي بكذبها إلا أنني فضلتُ الصمتَ في تلك اللحظة ..
حين كتبتْ جملتها الأخيرة، أرسلتْ معها صورة لوجه غاضب ..
أرتفاع مستوى الأصوات من الهمهة إلى البسبسة إلى التساؤل جعلني أطلبُ منها تأجيلَ الموضوع لأنّ حَدثاً غريباً يقعُ في الباص شوشَ على أفكاري وسببَ في انقطاع سلسلتها، سخريتها مني ونعتها لي بأن جميعَ حلقاتُ أفكاري صدأة وغير نافعة، لم يثيرا غضبي لأنَّ خيالها في تلك اللحظة يسمحُ لها بتصور أيُّ شيء لامكان له على أرض الواقع، أغلقتُ هاتفي بسرعة وبدأت أتلفتُ، ورغم إنَّ أشعارات رسائلها لمْ تنقطعْ لكنني تجاهلتُها وسَألتُ الرجلَ الجالسُ في المقعد الموازي لمقعدي عن سببِ توقفُ الباص المفاجىء وما قصة الرجال المسلحين الذين يحيطونٍ بهِ، لكنَ الرجل هزَ رأسهُ وكتفيهُ ومطَ شفتيهِ علامة عدم المعرفة وبدأ يراقبُ الأحداثَ بصمتٍ لكنْ بأهتمام ..
شعوري بالخجلِ جعلني أفتحُ الهاتف وأقرأ رسائلَ الحبيبة المغدورة، لمْ أفهم كلمة مما كتبتْ لأنّ تصاعد الأحداث في الباص لجمَ رغبتي في الفهم وقضى على شهيتي للحديثِ معها ..

بدأ القلق يتمكنُ مني، فجأة أنتبهت إلى الرجل الجالس بجانبي، كيفَ لمْ أشعرَ بوجودهِ من قبل، ربما هدوءهُ وصمتهُ هما السبب، كررتُ عليهِ السؤال وكنتُ أتوقعُ نفس الرد،
ُ لكن ما حصل كان الأسوأ، أكتفى بالنظر إليّ ثم أستدارَ نحو النافذة، نظراته البلهاء ورسائل الصديقة المستفزة التي لم تنقطع وصوت إشعارات تلك الرسائل والفوضى التي أحتلتْ المكان أشعلتْ النار في شراييني أما دخان تلك النار أخذَ يتجمعُ فوقَ رأسي كغيمةٍ ثقيلةٍ حجبتْ الرؤية عني ..

نظرتُ إلى السماء خلال النافذة، لاشيء سوى الغيوم، إلى ماذا يحدق هذا الأحمق ؟؟
بدا لي أنه ينظر إلى الفناء ..

شعورٌ كأنني أسير في نفقٍ مظلم، وحيدة، قد تمكنَ مني ..
نهضتُ من مكاني لأحاولَ معرفة مايجري، رجالٌ مسلحون يٍرتدون ملابس بألوانٍ غامقة يَحيطونَ بالباص من كلِ جانب، لكن عدد منهم يقف قرب نافذة السائق الذي بدا خائفاً ومتماسكاً في نفس الوقت وهم يطلبون منه بلهجة آمره فيها غضب كبير فتح أبواب الباص ..
أرتجفتْ كلَ خلية من خلايا جسدي وكانت هذه هي المرة الأولى التي أشعر بوجود تلك الخلايا حين رأيت رجلاً منهم ينظر إليّ ويبتسم ..
وأنا في هذهِ الحالة لمحتُ واحداً منهم يرتدي زي الأطباء يقفُ مع الرجالِ المسلحين ..
ربما يوجد مجرم بيننا، تفوهتْ بهذا الكلمات امرأة ستينية لكن جارتها الشابة ردتْ، حتى لو كانَ الأمرُ صحيحاً، فهؤلاء ليسوا رجال شرطة ..
أحدهم والذي يبدو عليه إنه قائدهم، بدأ يَرسلُ للسائقِ إشارات توعد في الهواء بينما أخذَ الباقون يَطرقونَ على زجاجِ النافذة مما سبب رعباً لجميعِ الركاب ..
في هذه اللحظة أستجمعتُ ماتبقى من شجاعتي المسفوحة وسألتُ جاري عنْ كلِ ما يحدث، لم يكن أمامي خيارٌ آخر، فكرتُ ربما يملك رأياً آخر يطمئنني ويبعثَ الأمانَ في نفسي، لكنه أكتفى بالابتسام وسحبَ يدهُ حينَ وجدَ يدي فوقها ..
مشاعر تقاسمها الأحراج والخجل تملكتني وتمكنتْ مني ..
غريبُ الأطوارِ هذا الرجل، بهذهِ الكلمات حاولتُ تبرير فعلهُ معي ...
رسائل الصديقة المستمرة وهي تلعنُ الحبيب الخائن وتنتعتهُ بأقبحِ الصفات جعلتني أشعرُ بأن العالم مكانٌ غير آمن، تعزز لدي هذا الشعور ونما حين رأيت جاري يبتسمُ ببلاهة للطبيب الواقف بين المسلحين ثم يوزع نظراته بيني وبين ذلك الرجل، هل يمكن للموتِ التجسدَ بهيئةِ إنسان ؟!

تمنيت في تلك اللحظة لو أنني اتبخر، اختفي عن الوجود، فكرتُ في مغادرة مكاني، لكن المقاعد كلها كانت مشغولة بالأضافة إلى أن أقدامي فقدت قدرتها على الحركة، فالموت إلى جواري والبحرُ أمامي ..

سَادَ صمتٌ مخيف حتى تهيأ لي أنني أسمع نبضات قلبي حين صعد المسلحون الباص وبدأوا يتفرسون في وجوهنا ومعهم الطبيب الذي وضع يديه في جيب ردائهُ الناصع البياض ..
لمْ يعد البحر أمامي بل أحاطني من جميعِ الجهات ..
حين وصل أحدهم ومعه الطبيب إلى مقعدي، تجاهلني وهو يأخذ ورقة من يد الرجل الجالس بجانبي، لم يكن في الورقة سوى أربع كلمات ..
هذا الرجل أبكم وأصم ..
أما الطبيب، قال لي بعد أن بقي للحظات يتأمل وجهي :
سيدتي، جاركِ مصاب بالكورونا ..

*فوز الكلابي

هناك تعليق واحد:

  1. مع المودة وتقديري العالي؟المقارنة مجحفة سيدتي الكريمة بين زمن الكوليرا والكورونا

    ردحذف

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.