الصفحات

الفلاح والصياد .. والنمط الحائر ... *محمد اسماعيل احمد - مصر

⏪⏬
تتشعب أنماط الحياة اليومية بين الناس بشكل كبير مختلط ومتداخل يصعب على المرء صاحب النظرة العابرة أن يميز بينها او ان
يسبر اغوارها , أن من يدقق النظر ويحلل الأمور ويحاول ان يقف على أحوال الناس بشيء من التدبر والتأمل يجد ان أنماط الناس في الحياة تتشابك وتتداخل لينتج عنها في نهايتها خطان او قل نمطان .... نمط الفلاح ونمط الصياد ! نعم لاتتعجب واقرا المقال لنهايته حتى تعرف السبب فيزول عنك العجب
اما النمط الأول وهو نمط الفلاح فهو نمط الشخص الذي يركن الى حالة الاستقرار والنظام اليومي الروتيني المعتاد , فهو يخرج من بيته في موعد ثابت تقريبا غالبا ما يكون قبيل شروق الشمس , يركب دابته بعد ان يضع عليها طعامه وشرابه ويتوجه الى مزرعته او حقله , قد يكرر على مسامع نفسه شيئا مما يحفظ من القران او الشعر حتى يصل الى مبتغاه او أنه يلجأ إلى الصمت والتأمل في زراعات الناس ومعايشهم , يلقى بالسلام على من يلقى من إخوانه الفلاحين ويداعب آخرين بمزاح مقبول , ثم اذا انتهى الى مزرعته انزل رحله من على دابته واخذ يتابع عمله اليومي المعتاد في سقي الزرع ووضع العلف للبهائم وحلب الابقار ......الخ , حتى اذا انتهت أعماله اخر النهار أخذ يلملم حاجياته ويجمع اغراضه وحوائجه ويركب دابته ليعود لبيته واولاده
اما صاحبنا الصياد فإن الامر لا يفرق معه في شئ ان استيقظ مبكرا من نومه او متاخرا فهو لا يرتبط في عمله بساعة معينة او زمن محدد , انه حينما يصحو من نومه يجمع متاعه من الشباك والجرار والأدوات يضعها على مركبته ويتحرك بمجدافي المركب مستعينا بالله ومتوكلا عليه , لا يدري هل شباكه اليوم تسجل أهدافا ام ان الله يريد لها شيئا آخر ؟ لا يعلم هل تتعاطف معه امواج البحر اليوم ام انه سوف يكون طعاما لأسماكه وحيتانه ؟ اسئلة كثيرة تتردد في نفسه تدور حول قضيتين كبيرتين في الحياة قضية الموت والحياة وقضية الرزق , اما الفلاح فان أسئلة مثل تلك الاسئلة لا تكاد تطرأ على ذهنه الا قليلا ذلك أن نمط حياته الرتيب المستقر الهادئ تختلف عن نمط حياة الصياد ذات النمط المغامر المضطرب .
حياة الفلاح مكوناتها تدعو الى هدوء النفس وسكونها : زرع اخضر اللون ... انعام وبهائم وماشية لا يصدر منها الا أصواتها المعروفة لدى البشر جميعا
اما حياة الصياد فكلها مواقف تدعوا لليقظة والاستعداد والفطنة والسهر : أمواج متلاحقة – حركة القارب المضطربة , شباك متوثبة , مجاديف متأهبة , مستقبل مجهول .... الخ
لماذا اقول هذا الكلام ؟ لقد وجدت ان حياتنا اليومية المتلاحقة المتضاربة تتشابك في مواقفها وأحداثها لكنها في نهاية المطاف والصراع تنتمي الى هذين النمطين ... نمط الفلاح ونمط الصياد
ففي نفوس البعض اصحاب النمط الواحد علاقات روحية إلهية اكثر من العلاقات الروحية التي تتأكد في نفوس البعض الاخر أصحاب النمط المختلف
قد اجد فيما اقول شيئا يشبه الألغاز ! أليس كذلك ؟
نعم ولأضرب لذلك مثلا بسيطا , فقيمة مثل التوكل على الله أنها علاقة روحية عالية المقام لا يختلف على ذلك احد , لكني اجدها تتأكد في نفس الصياد أكثر مما تتأكد في نفس الفلاح ! فالاول يبتغي الرزق والنجاة من الأخطار المحدقة به من كل مكان , أما الثاني وهو الفلاح فان نظامه الرتيب المالوف يبتغى به التيسير التيسير والعون , ذلك ان الاول رزقه غير واضح المعالم اما الاخر فهو يعلم مسبقا مقدار رزقه اليومي ولو بشيء من التقدير والتخمين والإجمال .
وقس على هذين النمطين أنماط الناس وحياتهم ومعايشهم
نمط يحب الخلود الى بيته وسط عائلته و اولاده
ونمط يعشق الترحال والسفر و السعي والحركة
نمط يميل الى الروتين اليومي المعتاد , ونمط يكره الرتابة الجمود
نمط يحب السكون ونمط يعشق الجنون
نمط يميل الى التأمل ونمط لا وقت لديه لهذا !
ايها القارئ ...... قد أفاجئك اذا قلت لك أن هناك نمطا ثالثا من البشر قد أطلق عليه .... النمط الحائر
انه يقف من الفلاح و الصياد موقف أصحاب الأعراف يوم القيامة
لا يستطيع ان يحدد لنفسه نمطا يسير عليه ويجعله منهاجه في الحياة
فهو تارة مع الفلاح في سكونه ونظامه الرتيب , وتارة مع الصياد في جنونه ومغامراته ... يعجبه هذا ويستقر الى ذلك
يهبط برأسه الى الارض وعيناه تتابع حركة الفأس وهي تخاطب الارض بقوة تارة ويرفع رأسه الى الافق وهو يترقب اضطراب السماء وتمورها وهي تخرج لسانها الى البحر تارة اخرى
يصهل مع الخيل وينبح مع الكلب وينقنق مع الاوز والدجاج تارة ويزمجر مع البحر ويقصف مع الرعد ويبرق مع البرق تارة اخرى
هذا هو النمط الثالث ... النمط الحائر فمن هو صاحب النمط الحائر ؟
انه حائر بين تراب الارض وامواج البحار
لا الى هولاء ولا الى هولاء لا يستطيع ان يخط لنفسه في هذه الحياة نمطا يسير عليه وهدفا يتجه اليه
قد يكون هدفه في الحياة هو السعادة , ان يشعر بسعادة ما !
في اي اتجاه كانت يتجه معها , والى اي قبلة ما يصلي اليها
انه لا يدرك اين تكمن سعادته ....... في ركوب الموج ام في ضربات الفأس ؟
أحين يرتدي الكون ثوبه الأسود الداكن ويصارع ركلات البحر وقبضاته المميتة ؟ ام حين يرتدي جلبابه الأبيض الناصع الشفيف ويعقد مع الأرض اتفاقية السلام والمحبة
كم اشعر بالشفقة على صاحب هذا النمط المسكين !
كم يعاني من آلام الحياة ووعثائها , وكم يقاوم في معترك الحياة وساحة قتالها
كم من الليالي الطوال لا ترفأ له عين بنوم هادئ مطمئن وهو يكابد صراع الفكر , ووابل من الخواطر تتنزل على عقله كزخات المطر في ليله المظلم الطويل
تراني اسمعه وهو يردد قول النابغة :
كليني لهم يا اميمة ناصب .... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ..... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه ..... تضاعف فيه الحزن من كل جانب
اعلم تمام ان من يهوى قراءة الادب ويعشق التأمل في الفلسفة وافكارها انما تستريح نفسه الى هذا النمط ..... أنه يعشقه ويطمئن إليه ... يشعر معه بالدفء والطمأنينة و سكون النفس رغم الآلام التي يحدثها في نفسه وروحه
ورغم الأعاصير التي يخلفها في عقله وفكره
ورقم الأقاويل التي تتلقاها اذنه من صحبه وزوجه وأهله
هذه هي حياة الأديب المفكر
وهذا هو نمط الفيلسوف المتأمل
وتلك هي سنة الله في خلقه ...... ولله في خلقه شؤون سبحانه

*محمد اسماعيل احمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.