الصفحات

رسالة الى صديقي ...*فؤاد حسن محمد

⏪⏬
هكذا إذن ياصديقي الأعز، طلبت مني أن أكتب عن ذكرياتنا انا وأنت في مدينة الحسكة، وأنا اخبرتك سابقا انه لا يوجد لدي ذكريات ،
وسأكون في غاية اللطف معك ، انني دلفت الى فناء ذاكرتي وفتشتها خلية خلية، لا يمكنني ان ان أصف لك ماوجدت ، حتى لو حاولت ، فهناك بعض الناس الذين لا يمكن ان اتذكر حتى أسماؤهم، فالأحدات الثانوية تبقى تافهة مادامت تتكرر بشكل اعتيادي.
هل تفهم قصدي ياصديقي ، فهؤلاء الناس لم يكونوا يريدون منا الا أن نكون خارج ذاكرتهم، قد تسألني عن الأستاذ رمضان الحمد ، الذي اخبرتني انت انه هاجر الى تركيا، حسنا لماذا لم يأتي الى دمشق أو حلب، أمرا ليس غامضا، بل يؤكد تلك النظرة البلهاء التي كان يتمتع بها وجهه الرمادي، وشفتيه المقلوبتين اللتين تصطفقان عدة مرات قبل أن يتأتأ بكلمات لا معنى لها.
لكن الأمر الجدير بالذكر انه كان يرفع خصلات شعره من عند فوده الأيسر ، ليغطي بها صلعته مستخدما مراهم خاصة، وقد يكون لهذا السبب اختاروه مديرا للمدرسة.
أؤكد لك انه لا شي مهم طالما غير موجود، رغم أنا وأنت كنا نستغل رأسه المفعم بالأوهام الغبية، وبخبث كنا نستثمر هذا الضعف لصالحنا، وبصراحة شديدة كان صيدا سهلا ، فهو يعتبرنا جزء من السلطة او بشكل أدق مخابرات لمجرد أننا من الساحل. ولهذا السبب كان هو وأهل القرية يعاملونا باحترام
ممل.
المشكلة في الايمان والقناعة اننا مختلفون على كل شيء، في المذهب والولاء
والمواطنة وطريقة نطق الأحرف وكيف نغسل الموتى وفي إلقاء التحية، التي نتظاهر بأننا نكذبها بالعلن ، ونصدقها في السر ، ولا يظهر هذا الخلاف الا في فلتات اللسان ، لقد قال لي رمضان الحمد عندما قدمت له قرار تعييني في مدرسته :
ـ من اين انت استاذ
قلت له :
ـ من جبلة
قال لي :
من جبلة أم من ريف جبلة
شعرت بالإهانة من سؤاله وأنا لا تعوذني التجربة أو الحنكة ، لأفهم قصده ، فقلت له بشيء من التذمر والسخرية:
ـ انا من الطائفة الفلانية
وبما انه لم يتدرب سابقا على ماسيرد عليه، راح يلتقط كلتا شفتيه مصدرا صوتا غريبا يشبه بيب ببب. ببب بببا ....ولم يكن أمامه إلا خيارا واحدا ان يبرر:
ـ بب بب بيب ببا ما أقصده ليس كذلك
قلت له بارتياح :
ـ أعذرني هكذا فهمت سؤالك
وكان يخشى ان يكون معي ميكرفون مخفي قد سجل كلامه ،ولا يوجد شيئا أكثر فظاعة من ذلك.
شيء مسل ان تكون في حضرة شخص ابله، يبتلع نصف كلامه ، وينطق النصف الآخر متلعثما، فيصل اليك المعنى ملتبسا وعشوائيا وغير مفهوم ، وهو في الوقت ذاته هائل الدلالة على التضاد بيننا.
وهل تظن ان الموقف انتهى عند هذا الحد، انك مخطىء فالكره دافع ليس له حدود، اكتشفت ذلك بنفسي ، وهذا ما أكده لي ماحدث في ظهيرة هذا اليوم وانا مازلت في مكتبه، وسأختصر لك ما أمكن ، لأؤكد لك هواجسي ، فقد أدخل عريف صف السابع طالبا الى عنده ، وقال له :
ـ يقول لك استاذ التاريخ أنه لا يقبله في الصف
نظرت في عيني هذا الطفل ، سوداوتان وداكنتان ، ولأهم من ذلك انهما جميلتان، لقد رأيت كيف تولد البراءة مع الأطفال ، والتي تتحول بفعل الدين الى قوة لا حدود لها من الحقد عندما يبلغوا سن الىشد.
قال له:
ـ دعني اشرح لك
هل تتخيل مقدار اللذه المتولدة من تفريغ شحنة الكبت، اتذكر جيدا كيف انهال عليه أولا بأقذع الشتائم ، وأكثرها قذارة ، وكان يقصدني بها شخصيا، وإلا مامعنى هذا الهوس الجنوني بقذفه الدنيء:
ـ يلعن ابو دينك ...لأبو سلالتك ..ياواطي يادنيء، ولك انت ليش مابترجع على ضيعتك وتريحنا من غلاظتك
بعد ذلك بدأ بضربه بالعصا على يديه ، وهو يزمجر : ياكلب يا ابن الكلب ، وتابع ضربه على ظهره وساقيه ، وأخيرا ضربه بقوة على رأسه ، فسقط على الأرض والدم يسيل منه.

*فؤاد حسن محمد
 سوريا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.