الصفحات

حفلة رأس السنة | قصة قصبرة ...*فؤاد حسن محمد

⏪⏬
أضواء الألعاب النارية تنخفض بالتدريج على مقبرة القرية،تضيئها ثانيتين متتاليتين.ثم تعيدها إلى عالم الظلام والرعب.
أصوات المفرقعات القوية قضّت مضجعه، وحرمته من لذة الموت،وما أن فتح عينيه حتى تملكه الهلع، وبدافع عفوي نهض من تمدده
، ثم انتصب، وقد راودته فكرة الخروج والتخلي عن القبر،والمشي في طرقات القرية، رغم علمه إن ما يقترفه جرما لا يمكن للأحياء القبول به،فمن يشطب اسمه من السجلات لا مكان له فوق الأرض.
كان الليل مقمرا،لكن سطوعه أبهر عينيه،ولم يكن حوله أحدا ، فالناس يختفون في الليل، انتابنه لحظة من الفرح عندما داعبت وجهه نسمة باردة ، أنعشت فيه حب الحياة، محاكمة غير منطقية،تابع السير،وفي ذهنه كل شيء جميل ، أن يأكل ، ويشرب ، ويستحم، دون أن يضع جانبا عاطفته القوية نحو زوجته، وقد جذبه التوق الى العائلة، والتخلص من بالوعة العدم، والخروج من الطين الذي تمكن من افقاده الذاكرة.
بريق الالعاب النارية لا يخلو من المتعة ، الحنين إلى الحياة، وخيل إليه إن شيئا ما تهدم بعده، كان باب بيته سعيدا، تهرب منه إيقاعات الموسيقا الشعبية،اتكأ على حافة النافذة ، وقد شعر ببعض الخجل من نفسه، حين رأى صورته المعلقة على الحائط، الشهيد هي الكلمة التي يصفونك بها أذا مت دفاعا عن الأحياء.
ومرة ثانية رفع نظره إلى الحجرة، إن ثمة شيء في داخله يقول:
- الكل منهمك في نفسه
كان الكل أخوه وزوجته يتحركون بفرح عارم، وضجيج الموسيقا يصم الآذان،وعلى الطاولة تتوزع الصحون المليئة بالبذورات والفستق والبندق، كانت عيناه سريعتان جدا تتنقلان من وجه لوجه،لا أسف بمحياهم ولا حزن، وعلى مبسمهم تتكرر الضحكات والقهقهات،تغير عليه كالخفافيش، في الجانب الأقصى من الغرفة شاهد زوجته تتراقص سرت في جسده قشعريرة الغضب، عندما رأى اخيه يقوم ليحتضن زوجته ويشاركها الرقص، ويهمس في أذنها:
ـ إياك أن تنسينا الليلة
ابتسمت بميوعة وأصدرات آهات ، وهي تتمايل أمامه متغاواية ومتفاتنة، عصر بلطف نهدها النافر، اتسعت عيناه دهشة ، تتنهد...اي ... اي ....تدفقت دماء الغيرة في وجهه ،انسحب إلى الخلف، رحل مرة ثانية عن عالم الحياة، يتدلى في داخله جرح قبيح، وهوى على الارض، وبدأ يبكي.
شيء مقدس انكسر بقلبه، هو رآها ترمي جسدها المتأجج كعذراء بريئة اثقلها الحب، هم ان يدخل البيت لكن جزءا منه كان خائفا خوفا عميقا، احس ان اقتراب الخطر يزداد ، لكن هناك شيء واحد يهمه، في فناء روحه، ان يصرخ محذراڜّ:
ـ ايها الجنود...لا تخافوا .. ان برد القبر أكثر دفئا من ذل المحتل
عاد وبوق كلا كفيه حول فمه، وشد عروق رقبته الى حد المتانة، ومط جسده المتيبس رافعاكعبيه ، واقفا على رؤزس اصابعه كان حلقه يزداد جفافا، و صوته الحربي أصبح رتيبا وأكثر حزنا:
ـ لا شرف للجبناء .... تقدموا....تقدموا
وتسود الموسيقا وقرع الطبول الشعبية، طبل كبير يحرك اقدام زوجته التي صارت تتغاوى أكثر من المعتاد، مغمضة العينين ، والفم نصف مفتوح، ومع بعض التغنجات العذبة :
ـ بم...بم...بم
يعود الى نفسه أخيه الذي يفرك بكلتا يديه ،طربا، عندما اصبحت زوجته على بعد سنتيمترات منه، تألق وجهها مثل تفتح زهرة الكرز، تصنعت التعثر بحافة المنضدة، وتهاوت في حضن اخيه، الذي لفها بذراعيه وقبلها، فتمزق الهواء عن ازيز رصاص، يخالطه صوتا آمرا:
ـ انتباه....انتباه ّ...تراجعوا....تراجعوا
تراجع هو ايضا يجرجر قدميه ، وهويبكي ، إن عودته الى الحياة ستؤرقهم اكثر مما يؤرقهم ان يكون ميتا.

*فؤاد حسن محمدـ جبلة
سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.