الصفحات

بنو إسرائيل في مصر | كتاب " الحوار الغائب "... للشيخ المجدد: عبد الغني العمري الحسني

⏪- 8 - : بنو إسرائيل في مصر
⏪كتاب " الحوار الغائب "
⏪المجدد الشيخ عبد الغني العمري الحسني
⏪الباب الثاني : خصوصيات ومطابقات
لما هاجر إبراهيم عليه السلام من بابل، استوطن أرض كنعان (فلسطين). ووُلد له هناك، إسماعيل؛ فأخذه مع أمه هاجر إلى مكة وهي يومئذ قفر؛ ثم وُلد له إسحاق من سارة، ووُلد ليعقوب اثنا عشر ولدا وبنت، هم: روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ودان ونفتالي وجاد وعشير وزبلون ودينا وإيساخر ويوسف وبنيامين. ولما كاد الإخوة ليوسف، بسبب ما رأوه له من حظوة لدى أبيهم، وأخذته قافلة الإسماعيليين (كما جاء في التوراة) -الذين إما كانوا من أهل مدين (مديان) أو كان معهم بعض أهل مدين- فباعوه في مصر؛ دخلها بدخوله سبط من الأسباط. ولما علا شأن يوسف وأصبح وزيرا، فإنه بعث يستقدم والديه وإخوته؛ فعاشوا جميعا في مصر، وتكاثرت ذريتهم هناك؛ فكانت مصر تاريخيا برغبة من أهلها الآن أم بغيرها، بلدا لذرية إسرائيل عليه السلام. ولما كان بنو إسرائيل لا يندمجون -كما هو حالهم دائما- في المجتمع المصري، وكانوا يحرصون على أن لا يختلط نسبهم بغيرهم، فإن ذلك جعل حكام مصر يتوجسون منهم؛ وتحول التوجس مع المدة اضطهادا ومعاملة تشبه معاملة العبيد. فلما أراد الله تخليص بني إسرائيل من فرعون (حاكم مصر)، بعث إليهم نبيّه موسى عليه السلام، ليُخرجهم من هناك بنية العودة إلى فلسطين (بيت المقدس)؛ حيث دُفن آباؤهم الأولون.

وعناية الله ببني إسرائيل، لم تكن خافية، وهم ذريةٌ من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ ولكن العناية كان ينبغي أن تُقابل بالشكر، لا أن تُحسب امتيازا واستحقاقا. وهو ما لم يتمكن بنو إسرائيل (اليهود خصوصا) من تمييزه والعمل عليه. فهم ينطلقون من كونهم خيرة الله، ومن كونهم أبناء الأنبياء؛ وينسون أن الله يُحبّ أن يُعبد بتواضع وإخلاص. ونعني من هذا، أن شرف العبد الحقيقي، لا يكون بنسبه في المرتبة الأولى؛ وإنما يكون بمقدار تعظيمه لربه، وبمقدار نفعه لخلقه. وهو ما لا يُحسن اليهود فهمه إلى الآن.

ونزول بني إسرائيل في عمومهم من فلسطين إلى مصر، هو نزول عن مرتبة القلب الإيمانية (الموافقة لبيت المقدس)، ليبقوا على مرتبة الإسلام العام (الطاعة العامة الظاهرة)، حيث يكتفي الناس بأعمال الجوارح على إيمان مجمل. وقد أشار الله إلى هذا النزول في المرتبة، بعد قرون عند خروجهم في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].

ولا بد هنا من أن نلاحظ أن بني إسماعيل، في جزيرة العرب، كانوا يرتبطون في كل مدة تعاقبهم، بمكة وبيت الله الحرام، الذي أقام إبراهيم قواعده مع ابنه إسماعيل هناك؛ بينما كان ارتباط بني إسرائيل ببيت المقدس؛ سواء وجدوا به أم لا. وهذا راجع من جهة المعنى إلى أن المقام الذاتي الذي دعا إليه إبراهيم وأذّن له بالحج، والذي سيتحقق بختم الرسالات على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مداره على مكة؛ في حين أن الدعوة الإسرائيلية المنتهية إلى عيسى عليه السلام، والتي كانت تحقيقا لمقام الصفات، مدارها على بيت المقدس. وهذا يعني أن الكعبة ذاتية، وأن بيت المقدس قلبي؛ وما هو ذاتي، له الإحاطة بما هو صفات أو أفعال، كما هو معلوم. والسرّ الذاتي، محيط بالقلب وبالبدن؛ ولا يتقيد بأي منهما. والذات لها الإطلاق، بعكس الصفات، فإنها تقييد في الذات. لهذا، كانت الدعوة في بني إسرائيل مقيّدة في نسبهم، وكانت الدعوة المحمدية مطلقة تشمل العالمين؛ وكانت الدعوة الإسرائيلية يغلب عليها إما الظاهر مع موسى، أو الباطن مع عيسى؛ وبقي الاعتدال البرزخي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا السبب، كان بنو إسرائيل إذا نظروا إلى دين محمد، ظنته يهود منتحلا ما لديهم من ظاهر، وظنه النصارى منتحلا ما لديهم من باطن؛ ولم يتفطنوا لأن السر في الجمع بين ذلك كله. ولو كُلّف اليهود (وقد كلّفوا) بالنظر إلى باطن الدين، لما أطاقوا؛ كما لو كلّف النصارى بالنظر إلى ظاهر الدين دائما، لما أطاقوا. وهم عند ملاحظتهم شَبه الدين المحمدي بما لديهم، لم ينظروا إلى ما ينقصهم منه في المقابل؛ وهذا إخلال بأصول النظر غير خاف.

ولما كان أهل مصر يخافون من استيلاء بني إسرائيل على بلادهم، إن هم تكاثرت أعدادهم، فإنهم لجأوا إلى الحد من نسلهم عن طريق قتل الذكور من المواليد. يقول الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]؛ والطائفة المستضعفة هي طائفة الإسرائيليين. وكان رجال السلطة آنذاك، يحرصون على تنفيذ الحكم الفرعوني بتحديد نسل بني إسرائيل بصرامة؛ بحيث لا ينبغي أن يُفلت من بطشهم وليد واحد. هذا من جهة الظاهر، وأما من جهة الباطن فإن صورة موسى الإلهية، قد حكمت على الصور الأخرى بالفناء، ليكون لها الظهور وحدها في ذلك الجيل، ولتكون لموسى من جهة الروح قوة جيل بأكمله.

ولما كان الله يريد لعبده موسى تنشئة خاصة، يُعدّه بها لتحمل الرسالة والقيام بمهمة الإجلاء الإسرائيلي، فإنه استبقاه بأمر والدته بإلقائه في النهر. يقول الله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى . أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي . إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى . وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 38 - 41]. وهذا من عناية الله الخاصة، التي تجعل المـُعتنى به يُربّى في بيت أعدى الأعداء. ومن أحاطت به العناية، فلا خوف عليه من أحد!... وإن كان بنو إسرائيل يعيشون في غربة بين المصريين كما ذكرنا، فإن موسى تغرب مرّتين: مرة لأنه إسرائيلي، ومرة لأنه عاش في قصر فرعون وهو ليس منهم. وهذه الغربة عائدة إلى غربة الصورة الإلهية في عالم الخلق، حيث تُنكرها العقول وتردّها التقييدات. وهي مسألة معرفية متكررة في كل زمان.

وينبغي أن نعلم هنا، أن المصريين كان لهم دينهم الذي لم يتأسس على الوحي الإلهي، كما هو دين بني إسرائيل، وإنما تأسس على الوحي الروحاني الذي تتلقاه عقول الصفوة المتريّضة من طبقة رجال الدين، من أرواح الكواكب. ولقد كانوا يُشبهون في ذلك ما كان عليه أهل بابل في بلادهم. وكما أن إبراهيم خالف النمرود وقومه في شركهم، فإن الإسرائيليين خالفوا أهل مصر أيضا فيه، وإن اختلفت الصورة بين الشركين في التفاصيل. ولا بد من الإشارة هنا إلى بُعد الشُّقّة بين دين التوحيد الذي مداره على القلب (بيت المقدس)، ودين الشرك الذي مداره على الجسد والقوى النفسية. وهذا هو ما جعل المصريين يبرعون في الطب والعلوم الطبيعية والعقلية، في الوقت الذي حافظ فيه الإسرائيليون على الإيمان، الذي لا يقبل البرهنة بالمنطق العقلي. ونعني من هذا أن ظاهر الطبيعة في أصله، يدعو إلى الشرك بسبب الكثرة التي يتسم بها، وهذا ما كان يسهل على العقول الدنيا إدراكه؛ وأما الإيمان فكان معنى غيبيا، لا يتمكن العقلاء من بلوغه بعقولهم. وحتى إن هم عثروا على معنى الوجود الكلّي المجرّد عن الأجسام، فإنه كان يبقى لديهم صفة لا تعيُّن لها في نفسها؛ ونعني من هذا الذات، التي هي الحقيقة الوجودية العليا. فيبقون ممزقين بين المحسوس، وما وراء الحس (الميتافيزيقا)؛ كما كان بعض فلاسفة اليونان المتألهين.

وغربة موسى المخلوق على الصورة، كانت غربة مقامية، عند خروجه من المعنى السماوي الذي عرفناه سابقا باسم "الإنسان"، إلى عالم الطبيعة الأرضي في هذا القالب الطيني. ولما أعاد الله موسى إلى أمه في صورة غير الصورة الأصلية، علمنا أنه سيعود إلى حقيقته المحمدية من صورته الموسوية، لتصح له رضاعة الاستمداد، وينمو فيه السر الذي به سيكون له الحكم على العالم من جهة غيبه. وقولنا من جهة غيبه، هو للتفريق بين المظاهر الإلهية عموما، والتي يكون لها الحكم العام، والمظاهر الملِكيّة (نسبة إلى الاسم الملِك) التي يكون لها الحكم الذي يظهر به الملوك في أقوامهم. وهذا يعني أن فرعون سيكون تحت حكم موسى من جهة الغيب، وإن كان موسى تحت حكمه من جهة الشهادة. وهذه المسألة من أعوص ما يعرض للعقول، إن هي أرادت تتبع المظاهر الإلهية ومراتبها. وإلى هذا المعنى أشار المسيح عليه السلام بقوله: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ، وَمَا لِلّهِ لِلّهِ!"[1]. وهذا في حال كون الخليفة الإلهي غيبيا من الجانب الولائي، كما هو شأن عيسى وموسى عليهما السلام؛ وأما عندما يظهر الخليفة بصورة الملك، كما هي حال داود وسليمان ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ما لله يكون ما لقيصر ذاته، والعكس. وهذا يعني أن التجلي في الزمان، لا يختلف من حيث المظاهر وحدها؛ وإنما يختلف أيضا من حيث ظهور أحدها بمظهر الآخر في الاعتبار؛ وإلا فإن الخلافة الغيبية متضمنة للملك حتما، كما قد أسلفنا.

كان المصريون يعبدون فرعون، لظهوره بالقوة والبطش فيهم. وهذا حال جميع البشر الذين تكون عقولهم مغلوبة من قِبل الحس. ونعني أن ضعفاء العقول، مهما تألهوا، فإنهم في محضر الجبابرة يعودون إلى عبادة مظاهر "الملِك" لا "الله". وهم لو علموا أن المتجلي في مظهر الحاكم هو "الله الملك" لكانوا على التوحيد؛ ولكنهم -خصوصا عند كون الحاكم داعيا إلى الكفر- يتوهمون أن مَن وراءه لا يُمكن أن يكون الله (الرب). ولولا أن فرعون كان مظهرا ربانيا، ما اشترط الله عند إرساله موسى وهارون إليه، أن يقولا له قولا ليّنا. فقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]؛ وطغيان فرعون هو بالصفة الإلهية، وإلا لما تحقق له شيء من ذلك. وأما القول الليّن، فهو من اعتبار الظاهر بالمظهر، حتى يكف عنهما الظاهر بطش الصفة؛ وحيث يقومان بما عليهما من أدبٍ مع الظاهر . وليس الأمر معاملة بين أشخاص، كما يتصور ذلك العامة من كل فريق؛ فإن ذلك يكون شركا؛ والقرآن لا يدل على شرك البتة!... وتذكُّر فرعون المقصود هنا، هو أن يعود إلى حقيقة مظهريته، التي هي من العدم؛ ويفرق بين وجوده وصورته. فإنه إن فعل ذلك، فإنه سيعود إلى الله ويخشى إفناء مظهره منه؛ وهذا الامتحان هو امتحان كل ملك في زمانه لا يكون خليفة ربانيا. ونعني أن الملوك تغلبهم الصورة على الحقيقة، فيظهرون بالربوبية بغير حق؛ بخلاف الخلفاء، فإنهم على عبودية، تمنع أن يغفلوا عن حقيقتهم. فالأمور اعتبارية، بحسب ما يُعطي علم العباد من الحكام ومن المحكومين؛ وأما من الناحية الوجودية فلا فرق فيها، ما دام الله هو الظاهر بجميع الصور.

ولقد كان بموسى ثقل في لسانه، يحول دونه والكلام في العلوم الخاصة؛ وإن كانت العلة في قصور قومه عن هذه المعاني. وقد سأل عليه السلام عند تكليفه بالرسالة، أن يكون أخوه هارون عونا له عليها؛ فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ . قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 34، 35]. فكان هارون خليفة الخليفة، وترجمان الألوهية، بعد أن يسمع من موسى. ومعنى "أفصح" هنا، أقرب إلى قومه في العبارة، لكونه إسرائيليا نسبا وتنشئة (تربية). وأما موسى، فإن تربيته كانت مصرية؛ وذلك يجعل عبارته غير مناسبة دائما. وقد تُفهم على غير مراده، كما هو الحال عند اختلاف الثقافات.

وهذه المرة الوحيدة في تاريخ البشرية كله، التي تكون فيها الرسالة برسولين؛ أي بمظهرين اثنين. والحقيقة تأبى أن يكون للاسم في الزمن الواحد مظهران؛ فبقي أن يكون هارون خليفة للخليفة، كما ذكرنا، كما هو الاسم "الرحمن" خليفة للاسم "الله".

وكان الله قد تجلى لعبده موسى، في أثناء رحلة عودته من مدين، في الشجرة المباركة. وقد كانت حاجته وأهله إلى النار في الليل والخلاء، فاشتعلت الشجرة من دون أن تحترق. يقول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى . فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 9 - 12]. وكان فقره عليه السلام سبب غناه في هذه المرة وفي التي قال فيها: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ . فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ...} [القصص: 24، 25]. أما هذه المرة فقد كان قد كمل استعداده، فكان فوزه بربه من وراء غرضه؛ كما هو الله من وراء غرض كل فقير. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]؛ أي إن الله هو الغني الحميد من وراء صورة كل ما يُفتقر إليه. فهذا هو الفقر العام، الموازي للتجلي العام، والذي لا يشعر به إلا الخواص من العباد. وأما النار، فقد أحرقت من موسى التطلع إلى السوى، فانجمع بكليته على الله؛ لكن من جهة السمع لا من جهة الإبصار؛ ولهذا كان كليم الله لا شهيده. ومقام السمع أدنى من مقام الشهود في المرتبة؛ لأنه لا يتجاوز الإيمان، بخلاف البصر الذي يُعطي العيان. والعيان بعد السماع، هو ما سأله -عليه السلام- بعد هذا بمدة، عندما قال عنه ربه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. ولما كانت رسالة موسى مؤسسة على الكلام، فإنها بقيت قابلة للتكميل بالمشاهدة؛ وهو ما جاء به عيسى عليه السلام. فكانت نسبة موسى إلى عيسى، هي نسبة السميع إلى البصير. والسميع والبصير أخوان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر قط من جهة الحقيقة؛ وإن ظهر أحدهما وبطن الآخر، على وفق ما يُعطيه التجلي في الوقت. ولقد قال علماؤنا بالله إن السمع لكلام الله وشهود صورته لا يجتمعان، إلا في عالم الخيال؛ وأما في الواقع فلا. وهذا يدل على أن موسى ما شاهد الحق، عند مشاهدته النار؛ وإنما كانت النار عبارة عن فناء الصور كلها في عينه. وهذا ما يقع للمشاهد من جهة سمعه، فإنه يسمع صلصلة ولا يستبين خطابا. وهذا كله من علوم الذوق، التي لا ينفع فيها بيان.

وأما أمر الله لموسى بخلع نعليه، فإنه كان إيذانا له بالوصول إلى حضرة الحق، وانتهاء سببية الأعمال والأحوال؛ لأن الله لا يُستمع إليه إلا بسمعه، كما لا يُشاهد إلا ببصره سبحانه. وأي أذن تقوم للخطاب الإلهي، أو أي عين تقوم لشهوده!... تعالى الله!... وهذا معنى قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12]؛ أي إني أنا حقيقتك السامعة منك والمخاطِبة لك. ومعنى الوادي المقدس، هو الحضرة المنزهة عن الحدوث، التي جاء اسم "طوى"، ليدل على انطواء الحدوث كله في قِدمها. وهذه المعاني لا تُدرك إلا ذوقا، من وراء حقيقة المظهرية. ورغم أن الحكم هنا للذات، إلا أنه من جهة العلم السمعي. وهو أثبت في العلم وأرقى مما هو عن شهود؛ لأن شهود الذات، بخلاف شهود الصفات لا يكون عنه علم البتة.

ويقول الله بعد ذلك: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 13، 14]؛ أي إنني أنا مسمّى الأسماء كلها، فلا تعتبر فيّ وجها واحدا أو وجوها بعينها؛ ولكن اعتبر الكل في الوحدة. وعبادتك لي لن تكون محصورة بوجه من وجوهي، وإنما ستعبدني فيها جميعا، عندما تذكرني فيها جميعا. وهذه هي الصلاة المشروعة لأهل الكمال. ولأجل هذه السعة في العبادة، عرف موسى كيف يُعامل فرعون!... فإنه كان -عليه السلام- أعلم به من نفسه ومن كل شعبه!..

ولما كان بنو إسرائيل ممن يغلب عليهم الحس، وكان فرعون الذي هو ملك مصر لا يتجاوز إدراكه الحس، فإن الله أيد موسى بآيتين يكون لهما الوقع في نفوسهم جميعا؛ وهما العصا واليد. والعصا لها صلة باليد، من كونها امتدادا لها عند الحاجة؛ فهي آية واحدة من مرتبتين: من مرتبة الفعل ومرتبة الصفة. ولما كان انقلاب العصا حية، انقلابا حقيقيا لا صوريا، فإن ذلك دل على أن الفعل لله لا لسواه؛ حتى يُعلم أن موسى هو الله، ما دام هو وحده سبحانه المتصرف في الأعيان المتصوِّرة. وأما اليد التي تخرج بيضاء، فإنها تدل على صفة الاقتدار الإلهي المطلق؛ والبياض هو سلامتها من أثر الحدوث، وبراءتها من النسبة الشركية التي تكون للغافلين (من الحكام خصوصا). ولو أن موسى بقي من حدوثه شيء، لما ظهرت الصفة الإلهية منه، ولا خرج الفعل الإلهي؛ لأن بطون الصفات في الذوات البشرية متحقق لها كلها، لا يختلف فيه أحد عن غيره؛ والاختلاف يكون من جهة الظهور بذلك لا غير. والظهور لا يكون حتى يفنى المظهر في عين الظاهر. والفناء لا يكون إلا بعد احتراق الصورة العدمية بنار التجلي. والتجلي قد يكون في صورة نار شجرية، كما حدث لموسى، وقد يكون في صور أخرى.

فلما أخبر موسى قومه بعد عودته بتكليم الله له، وبتحميله الرسالة إليهم، سارعوا إلى تكذيبه لولا أنهم رأوا منه ما يُخرس شياطينهم. ولولا أن فرعون عاين ذلك أيضا، ما كان ليعيره اهتماما، وهو يراه دونه في المرتبة!... وسنرى ما يكون من أمرهم جميعا في الفصل المقبل بإذن الله...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] .مرقس: 12: 17.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.