⏪ بديع منير صنيج:
تمثِّل مجموعة «أرض الشهوات» للقاص «أيمن غزالي» الصادرة عن دار نينوى لعبةً سردية مُتقنة، تضع الماضي وأفعاله وأحاسيسه، بكامل طزاجتها، في مواجهة مع الحاضر المستمر، وكأننا في ميزان للزمن يدمج ملوحة الأيام بعبثيتها وعدميتها، ليعيد
لها شيئاً من المعنى، عبر إزاحة مجاهيلها، والخضوع المستمر لـ«امتحان الطريق»، كما جاء في قصة «العتبة»، وبين الانصياغ والإذعان للعبث، والهروب إلى الأمام، والحنين إلى كل شيء حي في الوجدان، ترتسم معالم الألم كعتبة لا يمكن تجاوزها، ولا تخطِّي أَسْرِها المُضيء بالذكريات. وتتوشى هذه المجموعة القصصية بامتثال آخر إلى أهمية رسم معالم «جغرافيا الحنين»، وتصوير الفاجعة تلو الأخرى، بصوتٍ مكلوم بُحَّت أوتاره، لكن القاص «غزالي» يستعير صوتَ من أصابه الأمل فجأةً لسرد الحكاية، وترميم فجواتها، بحيث تختال الصور التراجيدية على لسان الأمل، لتخفيف وطأة الأحزان، وعدم البقاء بين تلافيف الكَمَد، للدرجة التي جعلته ينهي قصة «ديستوبيا» بابتسامة على شفاه ميِّت. الطريق له سطوته الكبيرة على ما يسرده «غزالي»، فالانتقال بين الأمكنة ليس مجرد انتقالٍ عادي، بل هو مُكثَّفٌ في زمنيَّته، إذ تُكْسى الجغرافيا بالتاريخ، وتستعيد الشخصية حضورها عبر روزنامة الأحزان، ومن خلال بضعة أسطر بالإمكان مراجعة مُدوَّنة شخصية عن قرية، أو مدينة، بكامل أحزانهما وجمالية الطفولة فيهما، ومآلات القسوة التي حلَّت بهما، والتي جعلت المكان الأمثل ليتفيّأ الإنسان فيه هو شاهدة قبرٍ حفرته أمٌّ لابنها، بعدما تمَّ انتشاله من تحت ركام منزلهم، ثم بقاؤه سبعة أشهر في المشفى في انتظار إشراقة رجاء تعيده إلى أمِّه المكلومة، فهو أملها الوحيد في هذه الحياة، لكن القدر وسخريته يأبيان إلا أن يزيدا أوجاع قلب الأم، التي بعدما دفنته في تراب قريتها «أم الريحان»، أصابها المَسّ لدقائق معدودة قبل أن تُصيبها شاحنة وترديها جثة هامدة بجوار قبر ابنها. وفي قصة «يوم واحد» يستعيد «غزالي» قصة أخٍ وهجرته إلى أوروبا عبر سماسرة الطرقات، و«البالمات» المهترئة، ويعيد إذكاء الرغبة في العودة من ذاك الصقيع ولو كان عبر إذابتها بنيران الحرب، فأكبر أمنية للأخ بعد رحلة عذابه كانت الوقوف أمام بوابة دارهم، وأن يطرق عليها فتفتح له والدته، برغم أن الموت تذكَّرها بعد رحيله عن القرية بثلاثة أيام، لكن عبر استعارة رسالة من رسائل ذاك الأخ المهاجر وتوثيق غصَّاته عبر الهاتف، يرسم القاص تهويمات المشاعر بين السخط والخذلان والندم والرجاء ومحاولة مواساة الذات، والحلم بيوم واحد آخر في البلد، وهو ما كان عبر دعوة الأخ المقيم إلى تجديد جواز السفر ومُناقشة شرعية ذاك القرار وضرورته. الأرشيف الذي يبتغيه «غزالي» ليس فقط ذاك المملوء بالحسرات والرجاء واللا جدوى، فثمة تصويب في تصوير أرشيف انتصارات وهمية وشعارات إيديولوجية، جعلت الكثيرين أسرى أوهام النصر، ولعلمهم بأهمية الميديا قاموا بتصوير مُشاركاتهم في الحراكات وتوثيقها وأرشفتها لتكون بمنزلة جوازات سفر لهم إلى بارات العالم ومنافيه الراقية، حيث يتخلُّون عن العرق البلدي مقابل النبيذ الفرنسي وأمام «الشومينيه» التركي، ويستعيضون عن الحانات الشعبية بفنادق الخمس نجوم، لأن سورية «نضالهم الثوري» لا تصح إلا في مثل تلك الأماكن. و«من قبر إلى قبر» يتخلى السرد عن مهنة حفَّار القبور، ليُعيد الألق للّحظة التي آثرت إلا أن تسبق الموت، وللأسباب التي أدَّت إليه، حيث إن المُقدِّمات هي ما يسعى إليها القاص، وتسويغ فجائعية السرد بكل ما أوتي من قدرة على نقل الأثر، وترصيع الزمن الماضي بالحياة، لأن الحكاية كائن حي يتأثر وينمو ويشعّ بالتفاصيل التي تتراكم في «أرض الشهوات» بين المقابر وروائح الموت وشفافيات الروح الحزينة، والفقد من أبرز تلك المقدمات، كتلك الأم التي أفنت روحها في تربية أولادها السبعة، بينما والدهم في الخليج يتابع شؤون «اللقمة المغمسة بالدم»، وبعد اختطاف أبنائها الثلاثة وتسفير رابعهم ليبقى في أمان، لم يعد قلبها قادراً على التماسك أكثر، إذ استرسل الحزن بين أضلعها ليجدها أقرانها أمام باب منزلها مُسجَّاةٍ والسيجارة في فمها. وعندما تكون «الأمانة» حكايةً، فإن الإخلاص لها ولكيفية سردها يضع القاص أمام رهان المصداقية، وأن يترك للخيال الحصة الأقل في مقابل عين سينمائية تكثِّف كل شيء، وتلتقط مونتاجها الخاص، حيث إن تبدُّلات الأزمنة وتحريرها من جمودها يندرج ضمن سيرورة الحكاية نفسها، وتفنيد مفرداتها الواحدة تلو الأخرى، فالهجر والألم والخذلان واتساع الرجاء ليست سوى مكوِّنات سردية قادرة على تظهير الصورة بتدرجات ألوانها، ورمادياتها المختلفة، من أجل عدم ترك الحالة الشعورية من دون تعزيزٍ وتنميةٍ بالتدرجات على كامل المشهد المرسوم بعناية منذ حرب تشرين عام 1973 وحتى الزمن الحاضر، حيث يتحوَّل السرد في حدِّ ذاته إلى أمانة تنبغي المحافظة عليها قدر الإمكان. أما في «مات فلان من الناس» فتعشق ذاك «الفلان» لشهامته التي أدخلته السجن عندما أنقذ مُصاباً بحادث سير، ولكبريائه الذي أعاده إلى قريته، حيث يحرث الأرض ويزرع الحب حول بيته وداخله وخارجه، وليس في باله سوى العطاء، لكن ذلك «الفلان» برغم كل محبته والظلم الذي عاناه، مات ببساطة، من دون أن يلتفت لجماليات إنسانيته أحد، فهذا النوع من الموت ما زال حدثاً تافهاً منذ الأزل، ولذلك لا يجد «غزالي» سوى محاولته السردية لإنقاذ الذكريات، وهو يعرف أنه كما بطلة قصته «أم زيد» أثناء محاولتها إنقاذ ذكرياتها ستلتهمها النيران، فبعد الفقد، وهجرة الأبناء، وانزوائها في ثمانينياتها لم يبق لها سوى الحزن والوحشة اللذين لا يؤنسهما سوى الضياع والموت والبرد، وغير ذلك ما هو إلا مماطلة غير محمودة لكل هذا الألم المديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.