⏪⏬
لم يكن بالشقة شيء غير مألوف يلفت النظر، أو يمكن أن يفيد منه المحقّق. كانت مكوّنة من حجرتين ومدخل، وبصفة عامة كانت غاية في البساطة. أما ما استحق الدهشة حقًا فهو بقاء حجرة النوم في حالة طبيعية، واحتفاظها بنظامها العادي رغم أنّ جريمة قتل
فظيعة ارتكبت بها. حتى الفراش ظلّ عاديًّا، أو لم يتغيّر إلا بالقدر الذي يطرأ عليه عقب النوم. غير أنّ الراقد عليه، لم يكن نائمًا، كان قتيلاً لمّا يجفّ دمه، وهو قد مات مخنوقًا كما يدلّ على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه، وتجمّد الدم حول أنفه وفيه، ولا أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة، سواء في الفراش أو في الحجرة، أو في بقية الشقة، كلّ شيء طبيعي ومألوف وعادي.
وقف ضابط المباحث ذاهلاً، يقلّب عينيه المدرّبتين في الأنحاء، يلاحظ ويتفحّص، ولا يخرج بطائل. إنّه يقف أمام جريمة بلا شك، والجريمة لا توجد إلا بمجرم، والمجرم لا يُستدلّ عليه إلا بأثر. وها هي النوافذ مغلقة جميعًا بإحكام. فالقاتل جاء من الباب، ومن الباب خرج. ومن ناحية أخرى فالرجل مات مخنوقًا بحبل فكيف تمكّن القاتل من لفّ الحبل حول عنقه. لعله تمكّن من ذلك وضحيته نائم، فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أيّ أثر للمقاومة.
وثمّة تفسير آخر، أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه، ثم أنامه في فراشه وسجاه وأعاد كل شيء إلى أصله وذهب غير تارك أيّ أثر! أيّ رجل؟ أيّ أعصاب؟ يعمل بأناة ورويّة وهدوء وإحكام كما يقع في الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجريمة وعلى المكان كلّه ثم يذهب في سلام! أيّ قاتل هذا؟ ورتب خطوات التحقيق في ذهنه، الباعث على الجريمة، التحقيق مع البواب، والخادمة العجوز، وافترض افتراضات شتى، وقاوم ما استطاع انفعالاته الشديدة، ثم عاد إلى التفكير في المجرم الغريب، الذي تسلّل إلى الشقة، وأزهق روحًا ، ومضى بلا أثر، كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس. وفتّش الصوان والمكتب والثياب، فوجد حافظة نقود وبها عشرة جنيهات، كما وجد الساعة وخاتمًا ذهبيا، يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة، فما الباعث إذن.
واستدعى البواب لاستجوابه، وهو نوبيّ طاعن في السنّ، يعمل في العمارة الصغيرة بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين، وقد أدلى بأقوال لها أهميتها، فقال عن القتيل إنه مدرّس بالمعاش، يُدعى حسن وهبي، فوق السبعين، يعيش وحده مذ توفّيت زوجته، وله بنت متزوجة في أسيوط، وابن طبيب يعمل في بورسعيد، وهو أصلا من دمياط، وتقوم على خدمته أمّ أمينة فتجيئه حوالي العاشرة صباحًا وتغادره حوالي الخامسة مساء.
• وأنت ألا تؤدي له بعض الخدمات أحيانًا؟
فقال العجوز بسرعة وتوكيد:
• ولا مرة في السنة، أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه.
• خبرني عن يوم أمس؟
• رأيته وهو يغادر البيت في الثامنة.
• ألم يكلفك بتنظيف الشقة؟
فقال الرجل بشيء من العصبية:
• قلت ولا مرة في السنة، ولا مرة في حياته، أم أمينة تجيء في العاشرة فتطهو طعامه، وتنظف الشقة وتغسل الثياب.
• هل ترك نوافذ شقته -أو بعضها- مفتوحة؟
• لا أدري.
• ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟
• شقته في الدور الثالث كما ترى، فالأمر غير ممكن، ثم إن العمارة محاطة بالعمارات من ثلاث جهات، والجهة الرابعة تطلّ على شارع البراد نفسه!
• استمرّ في حديثك.
• غادر البيت في الثامنة ثم رجع في التاسعة، وهذه هي عادته كل يوم منذ أكثر من عشر سنوات، ويبقى بعد ذلك في شقته حتى صباح اليوم التالي.
• ألا يزوره أحد؟
• لا أذكر أني رأيت أحدًا يزوره عدا ابنه أو ابنته.
• متى زاراه لآخر مرة؟
• في العيد الكبير.
• ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟
• الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح، أما الزبادي فتتسلمه أمّ أمينة عصرًا.
• هل تسلّمته أمس؟
• نعم، رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة ورأيته ذاهبًا.
• متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟
• حوالي المغرب.
• ومتى جاءت اليوم؟
• حوالي العاشرة، ودقت الجرس فلم يفتح
*نجيب محفوظ
لم يكن بالشقة شيء غير مألوف يلفت النظر، أو يمكن أن يفيد منه المحقّق. كانت مكوّنة من حجرتين ومدخل، وبصفة عامة كانت غاية في البساطة. أما ما استحق الدهشة حقًا فهو بقاء حجرة النوم في حالة طبيعية، واحتفاظها بنظامها العادي رغم أنّ جريمة قتل
فظيعة ارتكبت بها. حتى الفراش ظلّ عاديًّا، أو لم يتغيّر إلا بالقدر الذي يطرأ عليه عقب النوم. غير أنّ الراقد عليه، لم يكن نائمًا، كان قتيلاً لمّا يجفّ دمه، وهو قد مات مخنوقًا كما يدلّ على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه، وتجمّد الدم حول أنفه وفيه، ولا أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة، سواء في الفراش أو في الحجرة، أو في بقية الشقة، كلّ شيء طبيعي ومألوف وعادي.
وقف ضابط المباحث ذاهلاً، يقلّب عينيه المدرّبتين في الأنحاء، يلاحظ ويتفحّص، ولا يخرج بطائل. إنّه يقف أمام جريمة بلا شك، والجريمة لا توجد إلا بمجرم، والمجرم لا يُستدلّ عليه إلا بأثر. وها هي النوافذ مغلقة جميعًا بإحكام. فالقاتل جاء من الباب، ومن الباب خرج. ومن ناحية أخرى فالرجل مات مخنوقًا بحبل فكيف تمكّن القاتل من لفّ الحبل حول عنقه. لعله تمكّن من ذلك وضحيته نائم، فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أيّ أثر للمقاومة.
وثمّة تفسير آخر، أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه، ثم أنامه في فراشه وسجاه وأعاد كل شيء إلى أصله وذهب غير تارك أيّ أثر! أيّ رجل؟ أيّ أعصاب؟ يعمل بأناة ورويّة وهدوء وإحكام كما يقع في الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجريمة وعلى المكان كلّه ثم يذهب في سلام! أيّ قاتل هذا؟ ورتب خطوات التحقيق في ذهنه، الباعث على الجريمة، التحقيق مع البواب، والخادمة العجوز، وافترض افتراضات شتى، وقاوم ما استطاع انفعالاته الشديدة، ثم عاد إلى التفكير في المجرم الغريب، الذي تسلّل إلى الشقة، وأزهق روحًا ، ومضى بلا أثر، كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس. وفتّش الصوان والمكتب والثياب، فوجد حافظة نقود وبها عشرة جنيهات، كما وجد الساعة وخاتمًا ذهبيا، يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة، فما الباعث إذن.
واستدعى البواب لاستجوابه، وهو نوبيّ طاعن في السنّ، يعمل في العمارة الصغيرة بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين، وقد أدلى بأقوال لها أهميتها، فقال عن القتيل إنه مدرّس بالمعاش، يُدعى حسن وهبي، فوق السبعين، يعيش وحده مذ توفّيت زوجته، وله بنت متزوجة في أسيوط، وابن طبيب يعمل في بورسعيد، وهو أصلا من دمياط، وتقوم على خدمته أمّ أمينة فتجيئه حوالي العاشرة صباحًا وتغادره حوالي الخامسة مساء.
• وأنت ألا تؤدي له بعض الخدمات أحيانًا؟
فقال العجوز بسرعة وتوكيد:
• ولا مرة في السنة، أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه.
• خبرني عن يوم أمس؟
• رأيته وهو يغادر البيت في الثامنة.
• ألم يكلفك بتنظيف الشقة؟
فقال الرجل بشيء من العصبية:
• قلت ولا مرة في السنة، ولا مرة في حياته، أم أمينة تجيء في العاشرة فتطهو طعامه، وتنظف الشقة وتغسل الثياب.
• هل ترك نوافذ شقته -أو بعضها- مفتوحة؟
• لا أدري.
• ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟
• شقته في الدور الثالث كما ترى، فالأمر غير ممكن، ثم إن العمارة محاطة بالعمارات من ثلاث جهات، والجهة الرابعة تطلّ على شارع البراد نفسه!
• استمرّ في حديثك.
• غادر البيت في الثامنة ثم رجع في التاسعة، وهذه هي عادته كل يوم منذ أكثر من عشر سنوات، ويبقى بعد ذلك في شقته حتى صباح اليوم التالي.
• ألا يزوره أحد؟
• لا أذكر أني رأيت أحدًا يزوره عدا ابنه أو ابنته.
• متى زاراه لآخر مرة؟
• في العيد الكبير.
• ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟
• الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح، أما الزبادي فتتسلمه أمّ أمينة عصرًا.
• هل تسلّمته أمس؟
• نعم، رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة ورأيته ذاهبًا.
• متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟
• حوالي المغرب.
• ومتى جاءت اليوم؟
• حوالي العاشرة، ودقت الجرس فلم يفتح
*نجيب محفوظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.