⏪⏬
بعد "الضفاف المتجددة" الحائزة جائزة الحسن الثاني في البيئة (2004)، و"احتراق في زمن الصقيع" (2007)، "وأراني أحرث أرضا من ماء ودم" (2011)، و"ليالي الظمأ" (2013)، ثم رواية "امرأة في الظل" الحائزة جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها
الأولى (2015)، يصدر للروائي المغربي عبد الجليل الوزاني التهامي عن المركز الثقافي العربي رواية جديد بعنوان" متاهات الشاطئ الأزرق".
لعل أهم عتبة یلجأ إلیها القارئ قبل الولوج إلى عوالم النص الروائي هي العنوان، فهو يعد من جملة المفاتیح التأویلیة المساعدة على استنطاق معاني النص ودلالاته، كما أنه يعتبر من جملة العتبات النصیة التي تعمل على تحديد هویته النصية.
1- التشكيل المعجمي:
یتشكل عنوان هذا العمل «متاهات الشاطئ الأزرق» من كلمتین هما: "المتاهات" و"الشاطئ"، وقد جاءت الكلمة الثانية موصوفة بصفة مخصوصة وهي الزرقة. ولا أدري إن كانت هذه الصفة من مستلزماتها (أي الشاطئ) أم من مستلزمات غيره ونقصد البحر أو النهر.
ويبدو أن اللفظة الأولى "متاهات" مشتقة من تاهَ يتيه ويتُوه توْها، والتوْه لغةٌ في التيه وهو الهلاك. وقد قمت بالبحث عن هذه الكلمة "متاهات" في المعاجم اللغویة، فوجدتها قد وردت باشتقاق مخالف، فجاءت في "المحكم" و"المخصص" لابن سيدة المرسي بصيغة جمع الجمع وهي: "أتواه" وأتياه و"أتاويه"، وإذا قصدنا اسم المكان قلنا: مَتْيهٌ ومتيهةٌ.
أما «الشاطئ» فهو الشط والضفة والجانب، وهو لا يرتبط- فقط- بالبحر، بل بالوادي أيضا، )فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ( [سورة القصص الآية 30].
2- المستوى التركیبي:
جاء العنوان في هذه الروایة «متاهات الشاطئ الأزرق» جملة اسمیة مكونة من مبتدأ وخبر، فمتاهات: خبر لمبتدأ محذوف تقدیره "هذه" (ضمیر)، وهو مضاف. والشاطئ: مضاف إلیه، والأزرق: صفة للشاطئ، وبذلك تكون كلمة متاهات قد جاءت معرفة بالإضافة، كما يكون العنوان قد جاء تركیبا إضافیا.
من خلال التشكيل المعجمي والتركيبي نلاحظ أن العنوان يحمل دلالات لها علاقة وطیدة بمحتوى ومضمون النص الروائي، حیث يساهم في توضیح دلالته واستكشاف معانیه الظاهرة والخفیة.
عتبة الاستهلال في رواية «متاهات الشاطئ الأزرق»:
افتتح الروائي الروایة باستهلال نثري وصفي: "ضباب كثيف، خضم لُجي، ارتجاج عنيف، ارتفاع وهبوط، كنت في كل الاتجاهات، وصرت من دون أي اتجاه، فقدت الأبعاد كلها، وصرت في اللامكان واللازمان.."
نلاحظ أن عبد الجليل الوزاني أحسن صیاغة استهلاله ببراعة ملحوظة، وأسلوب تعبيري مثير، بحيث عمل على جذب القارئ إلى عوالمه الروائية في «متاهات الشاطئ الأزرق»، كما تمّ فيه التلميح إلى الشخصیة الرئیسیة/البطل من خلال ضمير المتكلم (كنتُ/ صرتُ/ فقدتُ/ وصرتُ)، وقد أتى الاستهلال مشحونا بكثافة دلالية ملمّحة إلى التوتر الذي سيسود نفسية البطل، وأجواء الرواية عموما، بحيث سيمكث خلالها البطل باحثا عن قرار، إلا أنه سيظل على امتداد الرواية فاقدا له، بل سنجده مفتقدا حتى إلى الإحساس بالزمان والمكان، وهكذا سنلفيه في النهاية كغريق دُفع به قسرا إلى أعماق اليمّ وهو مكبل اليدين. وقد عمد الكاتب إلى تكرار نفس الملفوظ الذي استهل به روايته في نهاية روايته، ليتضح للقارئ جليا سياقه النصي، وجذوره وامتداداته وتشعباته داخل المحكي.
في الحقيقة إن رواية "متاهات الشاطئ الأزرق" تعتبر نقلة نوعية في مسار الكتابة الروائية عند المبدع عبد الجليل الوزاني، وتجريبا جديدا في مسار الرواية المغربية. إنّها رواية تبتعد عن المدارات والعوالم التي اشتغل عليها سابقا في "الضفاف المتجددة" (2004)، و"احتراق في زمن الصقيع" (2007)، "وأراني أحرث أرضا من ماء ودم" (2011)، و"ليالي الظمأ" (2013)، و"امرأة في الظل" (2015)، إنها تعالج قضايا جديدة لم يسبق أن تطرق إليها في هذه الأعمال، كما أن شكلها الفني يختلف عن سابقاتها، فهو يستعير لعبة المتاهات؛ ليبني سردا يقوم على تقنيات جمالية جديدة، تتداخل فيها الشخصيات، وتتمرد على البناء الروائي المعهود بما في ذلك الزمان والمكان.
أولى متاهة سيجد البطل/ الكاتب نفسه فيها هي التي أفضت به إلى جلسة مع الطبيب وهو يعاني دوخة كبيرة كان يحس بها، وستتداخل على البطل الأمور، فلم يعد يعرف إن كان أمام طبيب أم وكيل عام يصدر الاتهامات بعد أن اطلع على سيرة الرجل، وليكتشف بعد ذلك أنه داخل مستشفى الأمراض العقلية جراء الإجهاد في التفكير.
بعد ذلك سيعرض أمام أنظار لجنة تترأسها سيدة وتتشكل من مجموعة من الأعضاء، سوف يقاد إليها داخل فضاء مغلق شبيه بدهليز أو متاهة، وهو فاقد الإرادة، في حالة غير مستقرة، يعاني من حالة شرود واضطراب شديدين، ذاكرته غير نشطة تعاني من أثر النسيان. وسوف يقوم أعضاء هذه الهيئة بأمر من الرئيسة بتقديم تقارير؛ لكشف هوية الماثل أمامهم انطلاقا من سيرته وأعماله ومخطوطاته وآثاره.
وبعد أن أشارت السيدة الرئيسة إلى أن الوثائق المخطوطة التي وقعت بين أيديها ذات أهمية بالغة وأكثر صدقا، لأنها تتضمن أسراره وتخفي سريرته، سيؤكد الدكتور هاشم وهو أحد أعضاء هذه الهيئة بعد اطلاعه على مخطوطات الكاتب ومسوداته بأنها تتسم بالعشوائية والفوضى ورداءة الخط وعدم التركيز، وأحيانا يلفي كلمات تنقصها بعض الحروف كأنها رموز مشفرة، بالإضافة إلى الاضطراب الفكري والاهتزاز العاطفي، ثم يواصل ليقول "إنها في الغالب عبارة عن مناجاة مع الذات، واعترافات شخصية تحتوي الكثير من البوح الذي لم يكن المعني بالأمر يتجرأ ليبوح به لسواه". (ص: 28).
أما الدكتورة صفاء فستحاول العودة إلى البدايات الأولى للكتابة عند المبدع (أنوار الراوي)، فتشير إلى أنها عبارة عن مجموعة من المحاولات الشعرية الساذجة، وعن خربشات سردية خجولة وعشرات من مسودات الرسائل العاطفية (ص: 29)
أما العضو الثالث من هذه الهيئة وهو الدكتور محمود، فسيحاول كشف شخصية الكاتب من خلال عمله الأول (الشاطئ الأزرق)، وسيصرح بأن بوادر معاناة الأستاذ وأزمته النفسية تتسرب وبجلاء بين سطور رواية (الشاطئ الأزرق) لأن الكاتب قد اتكأ اتكاء كليا على الواقع، أو بعبارة أخرى نقل أحداث روايته من محيطه الاجتماعي مدفوعا برغبته في انتقاد ما يراه من اختلالات بهذا المجتمع، لكن ما قام به كانت له نتائج عكسية، بعبارة أخرى أساءت للناس وبشكل كبير (...) (ص: 40- 41-42- 46)
في حين سنجد الدكتور المختاري يركز بشكل أساس على النزعة الإنسانية في أعمال الكاتب بحيث يرى أن نصوصه رصد للحياة، للإنسان... (ص: 48)
وكذلك على السمات المكونة لمعظم الشخصيات الرئيسية الموجودة في أعماله والمتمثلة في الضعف والهشاشة وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة (ص: 48).
وداخل المتاهة الأولى/ المستشفى سوف يتعرف البطل على نزلاء آخرين كانوا كلهم من الكتاب أو الشعراء أو المفكرين أو الفنانين التشكيليين، كانوا يعانون مثله من التعب الفكري مثل الزجال الذي حكى له أنه كان يبيع كلماته التي يكتبها إلى الآخرين دون أن يوقع عليها، لينال بعض المال وينال الآخرون الشهرة، وكذلك الرسام حسن منصور الذي سيحكي له قصته الطويلة والتي خصص لها الكاتب فضاء ورقيا يمتد من الصفحة (58) إلى (77)، أي الفصل التاسع بكامله. وهي قصة مثيرة تحكي حكاية طالب مغربي درس الرسم بالمعهد العالي للفنون الوطنية ببروكسيل ليرتبط بِبَتريسيا البولونية التي كانت تنتمي إلى فصيل طلابي شيوعي. وبعد تخرجهما سيصحبها إلى فرسوفيا حيث تقيم أسرتها. وهناك سيتعرض لمتاعب بحيث سيفقد زوجته وولديه في ظروف غامضة؛ وسيعود هو إلى الوطن ليلقى عليه القبض، ويحكم بعشر سنوات سجنا. وداخل السجن سيتعرض عليه إحدى زوجات الجنرالات أن تبتاع منه رسوماته على أساس أن يوقعها باسم مستعار أو بحرفين. وبعد خروجه من السجن ستنقله ليسكن بجوار فيلاتها ليواصل عمله، وليكتشف مصادفة ذات يوم أنه تعرض للنصب والاحتيال بحيث إن أعماله كلها كانت مسجلة باسمها، وحققت من خلالها شهرة ومجدا، وهذا ما جعله يقوم بحرق المسكن ليصاب من جراء ذلك بحروق، سينقل على إثرها إلى المستشفى ثم إلى هذا المكان.
حقا إن أهم منجز في هذه الرواية هو ذلك الخطاب النقدي المضمن في ثنايا هذا العمل، والذي يتناول تجربة الكتابة والإبداع عند الكاتب/ البطل، ولعل أهم تقرير كانت تنتظره اللجنة ليكشف العديد من الحقائق هو الذي كانت تعدّه الدكتورة زكية التي كانت تبدو متحاملة كثيرا على البطل من خلال مقاطعتها بحدة لتدخلات الآخرين بين الفينة والأخرى، غير أنه في اليوم الذي كانت ستقدم فيه تقريرها أمام اللجنة، سيفاجأ الجميع بنبأ اغتيالها بواسطة أداة حادة جشت رأسها وهي في غرفتها؛ ليعرف مجرى الرواية تغيرا كبيرا، وليدخل البطل إلى متاهة جديدة، بحيث ستوجه إليه تهمة القتل، ولتبدأ فصول أخرى من الرواية، سينقل خلالها إلى السجن، وهو فضاء مغاير للأول، "فلا الأكل بالزنزانة كان أكلا، ولا النوم نوما، ولا المعاملة معاملة بشرية، بقدر ما هي لخنازير في حديقة الحيوانات النتنة، ولا الهواء يشبه الهواء، بل حتى لحظة قضاء الحاجة كانت عبارة عن عقاب ممعن في العذاب." (ص: 86)
كما أن قاعة جلسات اللجنة سوف تتحول إلى قاعة للمحاكمة لتحل بها وجوه جديدة، ليبدأ البحث عن أدلة الجريمة وملابسات الجريمة والشهود، كما تم إدراج نصوصه السردية التي كتبها لاسيما تلك التي تصور مشاهد القتل باعتبارها أدلة للاتهام والإدانة، كما أن ضمير المتكلم المستعمل داخل النص كان مدعاة عند بعضهم لمطابقته بشخصية الكاتب وإلصاق التهمة به.
هذا ولقد استطاع الكاتب قبل نهاية الرواية تحقيق اشتباك سردي قل نظيره ليخلط كل أوراق اللعبة، بحيث سيعيش البطل حدثا كابوسيا، تزاحمت عليه عدة تفصيلات جراء استرجاع الذاكرة أو من خلال استرجاع المرحلة التي كان لا يزال يافعا، حيث كان يدرس مع زكية في صيغتها الأولى أثناء مرحلة الباكالوريا، وكان يبعث إليها برسائل موقعة باسم صديقه بوشعيب الميكانيكي، غير أنها ستقع في حب كتابته.
نعم، لقد كانت هناك قوى خفية تتخذ موقفاً مضادّا، نظير ما نجده في رواية «المحاكمة»، لكافكا وفي بعض أعماله الأخرى، فعلى الرغم من كل المحاولات التي قامت بها الممرضة كوثر لتبرئة جانب الكاتب الذي كان في السابق أستاذا لها، إلا أن ذلك سيبوء بالفشل، وستصبح هي الأخرى طرفا مدانا في القضية. ولعل النهايات الفاجعة في أعمال كافكا، ظلت تلخص الحياة البائسة نفسيا التي كان يعيشها المؤلف واليأس المحدق به، ولم تبتعد خاتمة رواياته عن الموت بكافة أشكاله.. ورواية «متاهات الشاطئ الأزرق» تنتهي هي الأخرى بتصوير مشهد الموت/ الإعدام (ص 158).
وفي الختم أود أن أشير إلى أن رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» تكشف عن ذائقة جديدة، اهتمت بفعل الكتابة الروائية، والهوية السردية، وبعض المواقف النقدية الشائكة، وفي هذا السياق أستحضر كتابات ميلان كونديرا النقدية التي كانت تهتم بالكتابة عن الأعمال التي تصير فيها الفلسفة وتأملات الكتاب جزءا من السرد، ونابعة من أحداث الرواية. وهذا أمر لا يستطيع التعبير عنه سوى من راكم خبرة سردية، وتمثلات عميقة في الكتابة الروائية والسردية نظير المبدع عبد الجليل الوزاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي من المغرب
بعد "الضفاف المتجددة" الحائزة جائزة الحسن الثاني في البيئة (2004)، و"احتراق في زمن الصقيع" (2007)، "وأراني أحرث أرضا من ماء ودم" (2011)، و"ليالي الظمأ" (2013)، ثم رواية "امرأة في الظل" الحائزة جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها
الأولى (2015)، يصدر للروائي المغربي عبد الجليل الوزاني التهامي عن المركز الثقافي العربي رواية جديد بعنوان" متاهات الشاطئ الأزرق".
لعل أهم عتبة یلجأ إلیها القارئ قبل الولوج إلى عوالم النص الروائي هي العنوان، فهو يعد من جملة المفاتیح التأویلیة المساعدة على استنطاق معاني النص ودلالاته، كما أنه يعتبر من جملة العتبات النصیة التي تعمل على تحديد هویته النصية.
1- التشكيل المعجمي:
یتشكل عنوان هذا العمل «متاهات الشاطئ الأزرق» من كلمتین هما: "المتاهات" و"الشاطئ"، وقد جاءت الكلمة الثانية موصوفة بصفة مخصوصة وهي الزرقة. ولا أدري إن كانت هذه الصفة من مستلزماتها (أي الشاطئ) أم من مستلزمات غيره ونقصد البحر أو النهر.
ويبدو أن اللفظة الأولى "متاهات" مشتقة من تاهَ يتيه ويتُوه توْها، والتوْه لغةٌ في التيه وهو الهلاك. وقد قمت بالبحث عن هذه الكلمة "متاهات" في المعاجم اللغویة، فوجدتها قد وردت باشتقاق مخالف، فجاءت في "المحكم" و"المخصص" لابن سيدة المرسي بصيغة جمع الجمع وهي: "أتواه" وأتياه و"أتاويه"، وإذا قصدنا اسم المكان قلنا: مَتْيهٌ ومتيهةٌ.
أما «الشاطئ» فهو الشط والضفة والجانب، وهو لا يرتبط- فقط- بالبحر، بل بالوادي أيضا، )فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ( [سورة القصص الآية 30].
2- المستوى التركیبي:
جاء العنوان في هذه الروایة «متاهات الشاطئ الأزرق» جملة اسمیة مكونة من مبتدأ وخبر، فمتاهات: خبر لمبتدأ محذوف تقدیره "هذه" (ضمیر)، وهو مضاف. والشاطئ: مضاف إلیه، والأزرق: صفة للشاطئ، وبذلك تكون كلمة متاهات قد جاءت معرفة بالإضافة، كما يكون العنوان قد جاء تركیبا إضافیا.
من خلال التشكيل المعجمي والتركيبي نلاحظ أن العنوان يحمل دلالات لها علاقة وطیدة بمحتوى ومضمون النص الروائي، حیث يساهم في توضیح دلالته واستكشاف معانیه الظاهرة والخفیة.
عتبة الاستهلال في رواية «متاهات الشاطئ الأزرق»:
افتتح الروائي الروایة باستهلال نثري وصفي: "ضباب كثيف، خضم لُجي، ارتجاج عنيف، ارتفاع وهبوط، كنت في كل الاتجاهات، وصرت من دون أي اتجاه، فقدت الأبعاد كلها، وصرت في اللامكان واللازمان.."
نلاحظ أن عبد الجليل الوزاني أحسن صیاغة استهلاله ببراعة ملحوظة، وأسلوب تعبيري مثير، بحيث عمل على جذب القارئ إلى عوالمه الروائية في «متاهات الشاطئ الأزرق»، كما تمّ فيه التلميح إلى الشخصیة الرئیسیة/البطل من خلال ضمير المتكلم (كنتُ/ صرتُ/ فقدتُ/ وصرتُ)، وقد أتى الاستهلال مشحونا بكثافة دلالية ملمّحة إلى التوتر الذي سيسود نفسية البطل، وأجواء الرواية عموما، بحيث سيمكث خلالها البطل باحثا عن قرار، إلا أنه سيظل على امتداد الرواية فاقدا له، بل سنجده مفتقدا حتى إلى الإحساس بالزمان والمكان، وهكذا سنلفيه في النهاية كغريق دُفع به قسرا إلى أعماق اليمّ وهو مكبل اليدين. وقد عمد الكاتب إلى تكرار نفس الملفوظ الذي استهل به روايته في نهاية روايته، ليتضح للقارئ جليا سياقه النصي، وجذوره وامتداداته وتشعباته داخل المحكي.
في الحقيقة إن رواية "متاهات الشاطئ الأزرق" تعتبر نقلة نوعية في مسار الكتابة الروائية عند المبدع عبد الجليل الوزاني، وتجريبا جديدا في مسار الرواية المغربية. إنّها رواية تبتعد عن المدارات والعوالم التي اشتغل عليها سابقا في "الضفاف المتجددة" (2004)، و"احتراق في زمن الصقيع" (2007)، "وأراني أحرث أرضا من ماء ودم" (2011)، و"ليالي الظمأ" (2013)، و"امرأة في الظل" (2015)، إنها تعالج قضايا جديدة لم يسبق أن تطرق إليها في هذه الأعمال، كما أن شكلها الفني يختلف عن سابقاتها، فهو يستعير لعبة المتاهات؛ ليبني سردا يقوم على تقنيات جمالية جديدة، تتداخل فيها الشخصيات، وتتمرد على البناء الروائي المعهود بما في ذلك الزمان والمكان.
أولى متاهة سيجد البطل/ الكاتب نفسه فيها هي التي أفضت به إلى جلسة مع الطبيب وهو يعاني دوخة كبيرة كان يحس بها، وستتداخل على البطل الأمور، فلم يعد يعرف إن كان أمام طبيب أم وكيل عام يصدر الاتهامات بعد أن اطلع على سيرة الرجل، وليكتشف بعد ذلك أنه داخل مستشفى الأمراض العقلية جراء الإجهاد في التفكير.
بعد ذلك سيعرض أمام أنظار لجنة تترأسها سيدة وتتشكل من مجموعة من الأعضاء، سوف يقاد إليها داخل فضاء مغلق شبيه بدهليز أو متاهة، وهو فاقد الإرادة، في حالة غير مستقرة، يعاني من حالة شرود واضطراب شديدين، ذاكرته غير نشطة تعاني من أثر النسيان. وسوف يقوم أعضاء هذه الهيئة بأمر من الرئيسة بتقديم تقارير؛ لكشف هوية الماثل أمامهم انطلاقا من سيرته وأعماله ومخطوطاته وآثاره.
وبعد أن أشارت السيدة الرئيسة إلى أن الوثائق المخطوطة التي وقعت بين أيديها ذات أهمية بالغة وأكثر صدقا، لأنها تتضمن أسراره وتخفي سريرته، سيؤكد الدكتور هاشم وهو أحد أعضاء هذه الهيئة بعد اطلاعه على مخطوطات الكاتب ومسوداته بأنها تتسم بالعشوائية والفوضى ورداءة الخط وعدم التركيز، وأحيانا يلفي كلمات تنقصها بعض الحروف كأنها رموز مشفرة، بالإضافة إلى الاضطراب الفكري والاهتزاز العاطفي، ثم يواصل ليقول "إنها في الغالب عبارة عن مناجاة مع الذات، واعترافات شخصية تحتوي الكثير من البوح الذي لم يكن المعني بالأمر يتجرأ ليبوح به لسواه". (ص: 28).
أما الدكتورة صفاء فستحاول العودة إلى البدايات الأولى للكتابة عند المبدع (أنوار الراوي)، فتشير إلى أنها عبارة عن مجموعة من المحاولات الشعرية الساذجة، وعن خربشات سردية خجولة وعشرات من مسودات الرسائل العاطفية (ص: 29)
أما العضو الثالث من هذه الهيئة وهو الدكتور محمود، فسيحاول كشف شخصية الكاتب من خلال عمله الأول (الشاطئ الأزرق)، وسيصرح بأن بوادر معاناة الأستاذ وأزمته النفسية تتسرب وبجلاء بين سطور رواية (الشاطئ الأزرق) لأن الكاتب قد اتكأ اتكاء كليا على الواقع، أو بعبارة أخرى نقل أحداث روايته من محيطه الاجتماعي مدفوعا برغبته في انتقاد ما يراه من اختلالات بهذا المجتمع، لكن ما قام به كانت له نتائج عكسية، بعبارة أخرى أساءت للناس وبشكل كبير (...) (ص: 40- 41-42- 46)
في حين سنجد الدكتور المختاري يركز بشكل أساس على النزعة الإنسانية في أعمال الكاتب بحيث يرى أن نصوصه رصد للحياة، للإنسان... (ص: 48)
وكذلك على السمات المكونة لمعظم الشخصيات الرئيسية الموجودة في أعماله والمتمثلة في الضعف والهشاشة وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة (ص: 48).
وداخل المتاهة الأولى/ المستشفى سوف يتعرف البطل على نزلاء آخرين كانوا كلهم من الكتاب أو الشعراء أو المفكرين أو الفنانين التشكيليين، كانوا يعانون مثله من التعب الفكري مثل الزجال الذي حكى له أنه كان يبيع كلماته التي يكتبها إلى الآخرين دون أن يوقع عليها، لينال بعض المال وينال الآخرون الشهرة، وكذلك الرسام حسن منصور الذي سيحكي له قصته الطويلة والتي خصص لها الكاتب فضاء ورقيا يمتد من الصفحة (58) إلى (77)، أي الفصل التاسع بكامله. وهي قصة مثيرة تحكي حكاية طالب مغربي درس الرسم بالمعهد العالي للفنون الوطنية ببروكسيل ليرتبط بِبَتريسيا البولونية التي كانت تنتمي إلى فصيل طلابي شيوعي. وبعد تخرجهما سيصحبها إلى فرسوفيا حيث تقيم أسرتها. وهناك سيتعرض لمتاعب بحيث سيفقد زوجته وولديه في ظروف غامضة؛ وسيعود هو إلى الوطن ليلقى عليه القبض، ويحكم بعشر سنوات سجنا. وداخل السجن سيتعرض عليه إحدى زوجات الجنرالات أن تبتاع منه رسوماته على أساس أن يوقعها باسم مستعار أو بحرفين. وبعد خروجه من السجن ستنقله ليسكن بجوار فيلاتها ليواصل عمله، وليكتشف مصادفة ذات يوم أنه تعرض للنصب والاحتيال بحيث إن أعماله كلها كانت مسجلة باسمها، وحققت من خلالها شهرة ومجدا، وهذا ما جعله يقوم بحرق المسكن ليصاب من جراء ذلك بحروق، سينقل على إثرها إلى المستشفى ثم إلى هذا المكان.
حقا إن أهم منجز في هذه الرواية هو ذلك الخطاب النقدي المضمن في ثنايا هذا العمل، والذي يتناول تجربة الكتابة والإبداع عند الكاتب/ البطل، ولعل أهم تقرير كانت تنتظره اللجنة ليكشف العديد من الحقائق هو الذي كانت تعدّه الدكتورة زكية التي كانت تبدو متحاملة كثيرا على البطل من خلال مقاطعتها بحدة لتدخلات الآخرين بين الفينة والأخرى، غير أنه في اليوم الذي كانت ستقدم فيه تقريرها أمام اللجنة، سيفاجأ الجميع بنبأ اغتيالها بواسطة أداة حادة جشت رأسها وهي في غرفتها؛ ليعرف مجرى الرواية تغيرا كبيرا، وليدخل البطل إلى متاهة جديدة، بحيث ستوجه إليه تهمة القتل، ولتبدأ فصول أخرى من الرواية، سينقل خلالها إلى السجن، وهو فضاء مغاير للأول، "فلا الأكل بالزنزانة كان أكلا، ولا النوم نوما، ولا المعاملة معاملة بشرية، بقدر ما هي لخنازير في حديقة الحيوانات النتنة، ولا الهواء يشبه الهواء، بل حتى لحظة قضاء الحاجة كانت عبارة عن عقاب ممعن في العذاب." (ص: 86)
كما أن قاعة جلسات اللجنة سوف تتحول إلى قاعة للمحاكمة لتحل بها وجوه جديدة، ليبدأ البحث عن أدلة الجريمة وملابسات الجريمة والشهود، كما تم إدراج نصوصه السردية التي كتبها لاسيما تلك التي تصور مشاهد القتل باعتبارها أدلة للاتهام والإدانة، كما أن ضمير المتكلم المستعمل داخل النص كان مدعاة عند بعضهم لمطابقته بشخصية الكاتب وإلصاق التهمة به.
هذا ولقد استطاع الكاتب قبل نهاية الرواية تحقيق اشتباك سردي قل نظيره ليخلط كل أوراق اللعبة، بحيث سيعيش البطل حدثا كابوسيا، تزاحمت عليه عدة تفصيلات جراء استرجاع الذاكرة أو من خلال استرجاع المرحلة التي كان لا يزال يافعا، حيث كان يدرس مع زكية في صيغتها الأولى أثناء مرحلة الباكالوريا، وكان يبعث إليها برسائل موقعة باسم صديقه بوشعيب الميكانيكي، غير أنها ستقع في حب كتابته.
نعم، لقد كانت هناك قوى خفية تتخذ موقفاً مضادّا، نظير ما نجده في رواية «المحاكمة»، لكافكا وفي بعض أعماله الأخرى، فعلى الرغم من كل المحاولات التي قامت بها الممرضة كوثر لتبرئة جانب الكاتب الذي كان في السابق أستاذا لها، إلا أن ذلك سيبوء بالفشل، وستصبح هي الأخرى طرفا مدانا في القضية. ولعل النهايات الفاجعة في أعمال كافكا، ظلت تلخص الحياة البائسة نفسيا التي كان يعيشها المؤلف واليأس المحدق به، ولم تبتعد خاتمة رواياته عن الموت بكافة أشكاله.. ورواية «متاهات الشاطئ الأزرق» تنتهي هي الأخرى بتصوير مشهد الموت/ الإعدام (ص 158).
وفي الختم أود أن أشير إلى أن رواية «متاهات الشاطئ الأزرق» تكشف عن ذائقة جديدة، اهتمت بفعل الكتابة الروائية، والهوية السردية، وبعض المواقف النقدية الشائكة، وفي هذا السياق أستحضر كتابات ميلان كونديرا النقدية التي كانت تهتم بالكتابة عن الأعمال التي تصير فيها الفلسفة وتأملات الكتاب جزءا من السرد، ونابعة من أحداث الرواية. وهذا أمر لا يستطيع التعبير عنه سوى من راكم خبرة سردية، وتمثلات عميقة في الكتابة الروائية والسردية نظير المبدع عبد الجليل الوزاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أكاديمي من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.