⏪⏬
ذكرت لي أمي بأن شقيقها كان يريد تسميتي "كاتيا" وذلك بسبب حبه الشديد لابنة صديقه الأرمني الذي كان يعمل لديه في مصنع
الشيكولاته والحلويات وكانت والدتي على استعداد لقبول الاسم كونه نادراً غريباً لدينا في سبعينيات القرن الماضي ولكن لا أعلم لما بدلت اسمي في اللحظات الأخيرة وأصبَحتُ " صابرين "
كان هناك تقاطع طرق يفصل بين مدينتي رام الله والبيرة وعلى زاوية هذا التقاطع توجد أعمدة كهرباء وأعمدة خشبية لشبكة الهواتف الثابتة واحد من الأعمدة الخشبية مثبت عليه جهاز هاتف عمومي ولم يكن في تلك الأوقات اجهزة محمولة حتى ان هواتف البيوت لا يسمح بها لأي مواطن ويجب الموافقة عليها من سلطات عليا ، ذات يوم كانت أمي ذاهبة لمراجعة معاملة بنكية لها فشاهدتني وأنا عائدة من المدرسة الثانوية وانا ألتصق بالعامود والتقط سماعة الهاتف وأتحدث مع حبيبي " الياس " فما كان منها إلا أن مدت يدها وأعادت السماعة إلى مكانها في الأعلى وكان مقبض السماعة يشبه إلى حد كبير الحبل المعدني لصنبور "دوش الحمام " الشاور " وسحبتني من يدي وعدنا للبيت وتم تهديدي بأنها سوف تخبر أبي عن فعلتي إذا لم انهي هذه العلاقة ،
كنت في الثامنة عشر من العمر عندما التقيت ناجي صدفة في متجر صغير لبيع مستلزمات الكهرباء واتضح لي بعد فترة أنه يمتلك هذا المحل ، بدأت بيننا علاقة طيبة ولطيفة واكتملت بالحب ، اخفيت عن أمي هذا الموضوع على غير عادتي فقد كنت اخبرها دوما بعلاقاتي منذ بداية تغيرات دماغي وتأثيرات قلبي وتشكيلات جسدي ، وخاصة علاقتي بالحبيب الأول الياس الذي كان يعمل في محطة تعبئة لمنتجات البترول ، كنت في الرابعة عشر من العمر وكان هو في العشرين من العمر ، هذا الكاثوليكي وهو من بلدة صغيرة مسيحية في ضواحي رام الله أحببته أكثر من أمي لدرجة أنني أقسمت يوماً لها بأنني لن أتزوج أحد غيره حتى لو قضيت خمسين سنة من العمر بلا زواج ، ضحكت أمي ولم توبخني لكنها قالت لي سوف نرى وستحبين خمسين شاب بعده ،
لم استجب لطلبها إلا بعد شهور قليلة عندما اختلفت مع الياس من أجل شراء بطاقة شحن للهاتف تخاصمنا وافترقنا للأبد .
كبرت ونضجت وعلاقتي بناجي كانت على مستوى يليق بالمحبين مر عام على هذه العلاقة الجميلة وكنت على مشارف دخولي الجامعة ، أخبرت والدتي بأنني أحب شاب واسمه ناجي يعيش في منتصف المدينة ، صمتت والدتي لحظة عندما ذكرت لها اسمه الرباعي ذُهِلت واكفهر وجهها وبدأت تحدثني :
كنت يا ابنتي في الصف العاشر وكانت لي صديقة جميلة وهادئة وعزيزة جداً أحبها وكنا ندرس سوياً ونلتقي في اوقات الفراغ ونتفسح وحدث يوماً وفوجئنا بوفاة والدتها بعد معاناة مع مرض خبيث وكانت في ريعان صباها ، حزنا جداً لأجل صابرين وأخواتها الثمانية وشقيقاها ، وبقيت لوعة في قلوبنا ، كان الحزن في عيونها يفتت فؤادي وذات يوم كان عيد ميلادها بعد وفاة والدتها بستة اشهر ذهبت وبعض الصديقات وحملنا الورود والهدايا للاحتفال بها والتخفيف عنها جلسنا ورقصنا وتناولنا المقبلات والحلويات وفي خضم الاحتفال طلبت الذهاب إلى التواليت فدلتني صابرين عليه
كان بيتهم واسع جداً يحتوي على غرف كثيرة وكبيرة وفي صدر البيت غرفة كبيرة مميزة و غالباً يكون الباب فيها مشقوقاً قليلاً كما لاحظته في زياراتي اللاحقة لها وكانت هذه الغرفة مخصصة لزوجة والدها الأربعينية والتي لا تسمح لأحد بدخول غرفتها بل الاكتفاء بالوقوف والتحدث من خلال الفتحة الصغيرة التي تتركها وهذا النظام يسري على كل من بنات زوجها الثمانية ،
في طريقي للردهة شاهدت طفلاً لم يتجاوز الخمسة أعوام جالس على أريكة صغيرة يضع يداه فوق بعض كتلميذ عاقبه المعلم في الصف الأول لعدم إتمام الواجب عيناه خضراوتان ما ان تنظر إليه ينفطر قلبك من الحزن بسبب الحزن المخبأ في ملامحه ، كان اسمه ناجي داعبته بلطف وعدت إلى صالة الاحتفال ولم تغب نظراته الحزينة عني ابداً .
تداعت السنوات وفرقتنا الأيام تزوجت والدك وتزوجت صابرين شقيق صديقتنا أيام الدراسة وكان زوجها يصغرها بخمسة أعوام و آخر مرة رأيتها كان يوم ولادتها لابنتها الكبرى الدكتورة " هيام " فيما بعد تلقيت خبر أنها انفصلت عن زوجها بعد رحلة عذاب شاقة ومن ثم انقطعت الأخبار ،
قالت امي فجأة :
أنت تحبين الطفل ناجي أليس كذلك ؟
هل تعلمين أنني أسميتك صابرين على اسم شقيقة ناجي صابرين رفيقتي في المدرسة؟ يااا للزمن !! رمقتني والدتي وذهبت لشئون البيت .
فرحت جداً وأنا اسمع كلمات أمي ولكنها تابعت القول لن أزوجكما لو لم يبق رجل غيره في الدنيا ،
انصعقت بكيت وصرخت استفسرت ولكن لا جواب مقنع من أمي ، وكلما سألتها عن السبب تقول ناجي لم يكمل تعليمه ولدية اخوات كثيرات وزوجة أب يمكن ان تكون قاسية وسوف تتعبين معهم وكذلك هم من بيئة مختلفة عنا.
توالت الأيام والسنوات وكل يوم يزداد حبنا وارتباطنا بالرغم من رفض عائلة ناجي لي ورفض أمي أكثر ،
مضت خمس سنوات انقطعت فيها عن الدراسة وتركت البلد وسافرت للعمل والدراسة في بلد مجاور حاولت ان انسى وأتناسى ناجي تعذبت تمزقت حتى وصلت لمرحلة طرده من داخلي .
في عملي الجديد تعرفت على شابٍ يعمل مهندس اتصالات حالته ميسورة ورفيع المستوى ونشأت بيننا علاقة حب راقية ناضجة واتفقنا على الزواج وتمت خطبتي وبدأنا بالتحضيرات وقبل يوم الزفاف بأسبوع خرجنا لفسحة وتناول الطعام في مكان هادىء، تقدم سامي وسحب لي المقعد وجلست وهو كذلك وبدأنا بالحديث المفرح والتخطيط لفرحتنا ولكن حصل مالم اتوقعه ، تعرض سامي حداد لوعكة ضغط دموي مفاجىء على الدماغ ودخل في غيبوبة اسبوعاً كاملاً وتوفي خطيبي ولم اسمع منه كلمة واحدة ، بكيته أيام وشهور وحزنت سنوات .
كان قد مضى على علاقتي مع ناجي ثلاثة عشر سنة وانا في بلاد الغربة وقبلها كنت لم أشاهد أمي لمدة اربعة أعوام ، اشتقت لها وارسلت في طلبها لزيارتي ، حضرت والدتي ليلتها وكانت فرحتى لا تضاهي احداً ؛ وفي اثناء سهرتنا اتاني اتصال هاتفي خارجي وكان هذا الاتصال من شقيقة ناجي صابرين رفيقة أمي الغالية التي اسمتني امي باسمها لتخبرني بأن شقيقها ناجي يعاني مرض السرطان وهو مشتاق لي ولا يريد إلا رؤيتي وأنهم في حالة أسف مني ويعتذرون لأنهم كانوا سبب التفرقة بيني وبين ناجي ، توسلت إليّ كثيراً وبكت واعتذرت واقسمت بأنها سترسل تكاليف رحلتي لزيارة ناجي غداً ،
وقعت حينها في ورطة كبيرة حزني على ناجي وبكاء شقيقته وألمي للابتعاد عن أمي التي لم أجالسها منذ اربعة سنوات وكيف لي أن أخبرها وأنا أعلم بانها سوف ترفض سفري لاسيما أنه لم يمضي على حضورها ساعات ،
جلست صامتة واجمة وفي نهاية المطاف أخبرتها بنيتي للسفر من اجل ناجي ، لم تعطني امي فرصة لاتوسل إليها واطلب السماح منها
قاطعتني الحديث وقالت جهزي حقيبتك واذهبي في الصباح لناجي وسأنتظر عودتك ،
لم أنم ليلتها من القلق والحزن والخوف ، كيف لي أن أعود لفلسطين بعد سنوات من الغربة أعود لوطني حزينة ؟ كيف سأرى ناجي وكيف سيكون اللقاء ،
حضر السائق مبكراً ودعت أمي وخرجت إلى فلسطين ناجي ،
الخوف والتوتر افقدني أعصابي تحديداً مخاوف والدتي من إجراءآت الحدود والتفتيش والأسئلة بسبب غربتي وتنقلي في دول عربية وغربية ،
أخيراً وصلت بيت ناجي استقبلني أهله بحفاوة كبيرة وناجي لم يكن حاضراً بل كان راقداً في المشفى في مدينة أخرى ، أخبروه بقدومي له لكنه رفض بشدة ان اذهب لرؤيته وهو يعاني ، مكثت ثلاثة ايام لم انقطع فيها عن البكاء وكنت قد طمأنت امي بأنني شاهدت ناجي وهو بخير نوعاً ما ،
في اليوم الرابع تشجعت وذهبت بلا تصريح للمشفى وصلت ناجي اخيراً لأجدني أحضن شبحاً على شكل ناجي ، بعد غياب وفراق ثلاثة عشر عاماً استقبلني بكى ناجى وبكيت و شعرت بأن عظامه تفتت في أحضاني ، لم أغادر المشفى لمدة شهر كامل إلا بضع ساعات أعود بها لبيت ناجي للاستحمام والنوم قليلاً
كان شهر رمضان أعددت لناجي الأكلات الطيبة التي يحبها ولا يأكل منها ، واحضرت له تسلية الشموع والزجاجات والكثير من الهديا وصندوق زجاجي آخر مغلق وله فتحة تسمح بتمرير الأشياء كنت قد طلبت منه أنه عندما يتذكر امراً ويريد إخباري به في حالة عدم وجودي أن يكتب على قصاصات ملونه ويتركها في الصندوق حتى عودتي ووضعت له بعض من زهور الورود الجافة في الصندق حتى إن رأها يبتسم ويتذكرني ، كذلك طلبت من صديق لي طبيب يعمل في الولايات المتحدة ان يرسل لي مسكن جيد لناجي كي يخفف الألم ،
وتحدثت مع قريب لي يسكن في مدينة بعيدة ولديه مزرعة خضار تخلو من الهرمونات المحسنة والكيماويات ان يرسل لي أنواع من الخضار لناجي وكذلك طلبت من اصدقاء ان يحضروا لي العسل الطبيعي والمراهم الجيدة لأجل ناجي ،
اقتربنا من عيد الفطر وبدأ ناجي يتحسن قليلاً لساعات او ايام ويعود لحالة البؤس واليأس والألم وفي ليلة العيد كان في أحسن احواله سهرنا ليلتنا وأشار لنا بالعودة للبيت جميعاً ، طمئننا الطبيب وابتسامة ناجي لي الدائمة عندما انوي المغادرة يغمزني بعينيه فأفهم طلبه فوراً بالإيحاء لي بفتح الستائر جميعها وأخفاء ألة التسجيل واسطوانة القرآن الكريم التي كانت تديرها شقيقته عند رأسه كلما حاول النوم او تألم وكان هذا التصرف يشعره بالخوف واقتراب الموت ،
بتنا ليلتنا فرحين بالعيد وبتحسن ناجي وفي الصباح جهزنا أنفسنا والأطباق اللذيذة والحلويات لنذهب لناجي ولكننا فؤجئنا باتصاله بأن لا يذهب إليه أحد إلا مساءً ليكون في حال أفضل بعد جرعة الدواء المؤلمة ،
عدنا ادراجنا خائبين بينما شقيقته الكبرى اصرت على الذهاب له صبيحة العيد ،
وقبل الظهيرة .....
كانت روح ناجي قد عادت ادراجها للسماء
مات ناجي ولم ينجُ
توفي ناجي وهو في الأربعين ولم يتزوج ابداً كما اقسم ذات مرة أنه لن يكون زوجاً لأي امرأة بعد فراقنا ،
ذهب ناجي رفيقي الأول وصديقي الصدوق الحنون
ذهب ولم أنجُ من ميراثه السخي من القهر و الصبر والأحزان .
*مريم حوامدة
ذكرت لي أمي بأن شقيقها كان يريد تسميتي "كاتيا" وذلك بسبب حبه الشديد لابنة صديقه الأرمني الذي كان يعمل لديه في مصنع
الشيكولاته والحلويات وكانت والدتي على استعداد لقبول الاسم كونه نادراً غريباً لدينا في سبعينيات القرن الماضي ولكن لا أعلم لما بدلت اسمي في اللحظات الأخيرة وأصبَحتُ " صابرين "
كان هناك تقاطع طرق يفصل بين مدينتي رام الله والبيرة وعلى زاوية هذا التقاطع توجد أعمدة كهرباء وأعمدة خشبية لشبكة الهواتف الثابتة واحد من الأعمدة الخشبية مثبت عليه جهاز هاتف عمومي ولم يكن في تلك الأوقات اجهزة محمولة حتى ان هواتف البيوت لا يسمح بها لأي مواطن ويجب الموافقة عليها من سلطات عليا ، ذات يوم كانت أمي ذاهبة لمراجعة معاملة بنكية لها فشاهدتني وأنا عائدة من المدرسة الثانوية وانا ألتصق بالعامود والتقط سماعة الهاتف وأتحدث مع حبيبي " الياس " فما كان منها إلا أن مدت يدها وأعادت السماعة إلى مكانها في الأعلى وكان مقبض السماعة يشبه إلى حد كبير الحبل المعدني لصنبور "دوش الحمام " الشاور " وسحبتني من يدي وعدنا للبيت وتم تهديدي بأنها سوف تخبر أبي عن فعلتي إذا لم انهي هذه العلاقة ،
كنت في الثامنة عشر من العمر عندما التقيت ناجي صدفة في متجر صغير لبيع مستلزمات الكهرباء واتضح لي بعد فترة أنه يمتلك هذا المحل ، بدأت بيننا علاقة طيبة ولطيفة واكتملت بالحب ، اخفيت عن أمي هذا الموضوع على غير عادتي فقد كنت اخبرها دوما بعلاقاتي منذ بداية تغيرات دماغي وتأثيرات قلبي وتشكيلات جسدي ، وخاصة علاقتي بالحبيب الأول الياس الذي كان يعمل في محطة تعبئة لمنتجات البترول ، كنت في الرابعة عشر من العمر وكان هو في العشرين من العمر ، هذا الكاثوليكي وهو من بلدة صغيرة مسيحية في ضواحي رام الله أحببته أكثر من أمي لدرجة أنني أقسمت يوماً لها بأنني لن أتزوج أحد غيره حتى لو قضيت خمسين سنة من العمر بلا زواج ، ضحكت أمي ولم توبخني لكنها قالت لي سوف نرى وستحبين خمسين شاب بعده ،
لم استجب لطلبها إلا بعد شهور قليلة عندما اختلفت مع الياس من أجل شراء بطاقة شحن للهاتف تخاصمنا وافترقنا للأبد .
كبرت ونضجت وعلاقتي بناجي كانت على مستوى يليق بالمحبين مر عام على هذه العلاقة الجميلة وكنت على مشارف دخولي الجامعة ، أخبرت والدتي بأنني أحب شاب واسمه ناجي يعيش في منتصف المدينة ، صمتت والدتي لحظة عندما ذكرت لها اسمه الرباعي ذُهِلت واكفهر وجهها وبدأت تحدثني :
كنت يا ابنتي في الصف العاشر وكانت لي صديقة جميلة وهادئة وعزيزة جداً أحبها وكنا ندرس سوياً ونلتقي في اوقات الفراغ ونتفسح وحدث يوماً وفوجئنا بوفاة والدتها بعد معاناة مع مرض خبيث وكانت في ريعان صباها ، حزنا جداً لأجل صابرين وأخواتها الثمانية وشقيقاها ، وبقيت لوعة في قلوبنا ، كان الحزن في عيونها يفتت فؤادي وذات يوم كان عيد ميلادها بعد وفاة والدتها بستة اشهر ذهبت وبعض الصديقات وحملنا الورود والهدايا للاحتفال بها والتخفيف عنها جلسنا ورقصنا وتناولنا المقبلات والحلويات وفي خضم الاحتفال طلبت الذهاب إلى التواليت فدلتني صابرين عليه
كان بيتهم واسع جداً يحتوي على غرف كثيرة وكبيرة وفي صدر البيت غرفة كبيرة مميزة و غالباً يكون الباب فيها مشقوقاً قليلاً كما لاحظته في زياراتي اللاحقة لها وكانت هذه الغرفة مخصصة لزوجة والدها الأربعينية والتي لا تسمح لأحد بدخول غرفتها بل الاكتفاء بالوقوف والتحدث من خلال الفتحة الصغيرة التي تتركها وهذا النظام يسري على كل من بنات زوجها الثمانية ،
في طريقي للردهة شاهدت طفلاً لم يتجاوز الخمسة أعوام جالس على أريكة صغيرة يضع يداه فوق بعض كتلميذ عاقبه المعلم في الصف الأول لعدم إتمام الواجب عيناه خضراوتان ما ان تنظر إليه ينفطر قلبك من الحزن بسبب الحزن المخبأ في ملامحه ، كان اسمه ناجي داعبته بلطف وعدت إلى صالة الاحتفال ولم تغب نظراته الحزينة عني ابداً .
تداعت السنوات وفرقتنا الأيام تزوجت والدك وتزوجت صابرين شقيق صديقتنا أيام الدراسة وكان زوجها يصغرها بخمسة أعوام و آخر مرة رأيتها كان يوم ولادتها لابنتها الكبرى الدكتورة " هيام " فيما بعد تلقيت خبر أنها انفصلت عن زوجها بعد رحلة عذاب شاقة ومن ثم انقطعت الأخبار ،
قالت امي فجأة :
أنت تحبين الطفل ناجي أليس كذلك ؟
هل تعلمين أنني أسميتك صابرين على اسم شقيقة ناجي صابرين رفيقتي في المدرسة؟ يااا للزمن !! رمقتني والدتي وذهبت لشئون البيت .
فرحت جداً وأنا اسمع كلمات أمي ولكنها تابعت القول لن أزوجكما لو لم يبق رجل غيره في الدنيا ،
انصعقت بكيت وصرخت استفسرت ولكن لا جواب مقنع من أمي ، وكلما سألتها عن السبب تقول ناجي لم يكمل تعليمه ولدية اخوات كثيرات وزوجة أب يمكن ان تكون قاسية وسوف تتعبين معهم وكذلك هم من بيئة مختلفة عنا.
توالت الأيام والسنوات وكل يوم يزداد حبنا وارتباطنا بالرغم من رفض عائلة ناجي لي ورفض أمي أكثر ،
مضت خمس سنوات انقطعت فيها عن الدراسة وتركت البلد وسافرت للعمل والدراسة في بلد مجاور حاولت ان انسى وأتناسى ناجي تعذبت تمزقت حتى وصلت لمرحلة طرده من داخلي .
في عملي الجديد تعرفت على شابٍ يعمل مهندس اتصالات حالته ميسورة ورفيع المستوى ونشأت بيننا علاقة حب راقية ناضجة واتفقنا على الزواج وتمت خطبتي وبدأنا بالتحضيرات وقبل يوم الزفاف بأسبوع خرجنا لفسحة وتناول الطعام في مكان هادىء، تقدم سامي وسحب لي المقعد وجلست وهو كذلك وبدأنا بالحديث المفرح والتخطيط لفرحتنا ولكن حصل مالم اتوقعه ، تعرض سامي حداد لوعكة ضغط دموي مفاجىء على الدماغ ودخل في غيبوبة اسبوعاً كاملاً وتوفي خطيبي ولم اسمع منه كلمة واحدة ، بكيته أيام وشهور وحزنت سنوات .
كان قد مضى على علاقتي مع ناجي ثلاثة عشر سنة وانا في بلاد الغربة وقبلها كنت لم أشاهد أمي لمدة اربعة أعوام ، اشتقت لها وارسلت في طلبها لزيارتي ، حضرت والدتي ليلتها وكانت فرحتى لا تضاهي احداً ؛ وفي اثناء سهرتنا اتاني اتصال هاتفي خارجي وكان هذا الاتصال من شقيقة ناجي صابرين رفيقة أمي الغالية التي اسمتني امي باسمها لتخبرني بأن شقيقها ناجي يعاني مرض السرطان وهو مشتاق لي ولا يريد إلا رؤيتي وأنهم في حالة أسف مني ويعتذرون لأنهم كانوا سبب التفرقة بيني وبين ناجي ، توسلت إليّ كثيراً وبكت واعتذرت واقسمت بأنها سترسل تكاليف رحلتي لزيارة ناجي غداً ،
وقعت حينها في ورطة كبيرة حزني على ناجي وبكاء شقيقته وألمي للابتعاد عن أمي التي لم أجالسها منذ اربعة سنوات وكيف لي أن أخبرها وأنا أعلم بانها سوف ترفض سفري لاسيما أنه لم يمضي على حضورها ساعات ،
جلست صامتة واجمة وفي نهاية المطاف أخبرتها بنيتي للسفر من اجل ناجي ، لم تعطني امي فرصة لاتوسل إليها واطلب السماح منها
قاطعتني الحديث وقالت جهزي حقيبتك واذهبي في الصباح لناجي وسأنتظر عودتك ،
لم أنم ليلتها من القلق والحزن والخوف ، كيف لي أن أعود لفلسطين بعد سنوات من الغربة أعود لوطني حزينة ؟ كيف سأرى ناجي وكيف سيكون اللقاء ،
حضر السائق مبكراً ودعت أمي وخرجت إلى فلسطين ناجي ،
الخوف والتوتر افقدني أعصابي تحديداً مخاوف والدتي من إجراءآت الحدود والتفتيش والأسئلة بسبب غربتي وتنقلي في دول عربية وغربية ،
أخيراً وصلت بيت ناجي استقبلني أهله بحفاوة كبيرة وناجي لم يكن حاضراً بل كان راقداً في المشفى في مدينة أخرى ، أخبروه بقدومي له لكنه رفض بشدة ان اذهب لرؤيته وهو يعاني ، مكثت ثلاثة ايام لم انقطع فيها عن البكاء وكنت قد طمأنت امي بأنني شاهدت ناجي وهو بخير نوعاً ما ،
في اليوم الرابع تشجعت وذهبت بلا تصريح للمشفى وصلت ناجي اخيراً لأجدني أحضن شبحاً على شكل ناجي ، بعد غياب وفراق ثلاثة عشر عاماً استقبلني بكى ناجى وبكيت و شعرت بأن عظامه تفتت في أحضاني ، لم أغادر المشفى لمدة شهر كامل إلا بضع ساعات أعود بها لبيت ناجي للاستحمام والنوم قليلاً
كان شهر رمضان أعددت لناجي الأكلات الطيبة التي يحبها ولا يأكل منها ، واحضرت له تسلية الشموع والزجاجات والكثير من الهديا وصندوق زجاجي آخر مغلق وله فتحة تسمح بتمرير الأشياء كنت قد طلبت منه أنه عندما يتذكر امراً ويريد إخباري به في حالة عدم وجودي أن يكتب على قصاصات ملونه ويتركها في الصندوق حتى عودتي ووضعت له بعض من زهور الورود الجافة في الصندق حتى إن رأها يبتسم ويتذكرني ، كذلك طلبت من صديق لي طبيب يعمل في الولايات المتحدة ان يرسل لي مسكن جيد لناجي كي يخفف الألم ،
وتحدثت مع قريب لي يسكن في مدينة بعيدة ولديه مزرعة خضار تخلو من الهرمونات المحسنة والكيماويات ان يرسل لي أنواع من الخضار لناجي وكذلك طلبت من اصدقاء ان يحضروا لي العسل الطبيعي والمراهم الجيدة لأجل ناجي ،
اقتربنا من عيد الفطر وبدأ ناجي يتحسن قليلاً لساعات او ايام ويعود لحالة البؤس واليأس والألم وفي ليلة العيد كان في أحسن احواله سهرنا ليلتنا وأشار لنا بالعودة للبيت جميعاً ، طمئننا الطبيب وابتسامة ناجي لي الدائمة عندما انوي المغادرة يغمزني بعينيه فأفهم طلبه فوراً بالإيحاء لي بفتح الستائر جميعها وأخفاء ألة التسجيل واسطوانة القرآن الكريم التي كانت تديرها شقيقته عند رأسه كلما حاول النوم او تألم وكان هذا التصرف يشعره بالخوف واقتراب الموت ،
بتنا ليلتنا فرحين بالعيد وبتحسن ناجي وفي الصباح جهزنا أنفسنا والأطباق اللذيذة والحلويات لنذهب لناجي ولكننا فؤجئنا باتصاله بأن لا يذهب إليه أحد إلا مساءً ليكون في حال أفضل بعد جرعة الدواء المؤلمة ،
عدنا ادراجنا خائبين بينما شقيقته الكبرى اصرت على الذهاب له صبيحة العيد ،
وقبل الظهيرة .....
كانت روح ناجي قد عادت ادراجها للسماء
مات ناجي ولم ينجُ
توفي ناجي وهو في الأربعين ولم يتزوج ابداً كما اقسم ذات مرة أنه لن يكون زوجاً لأي امرأة بعد فراقنا ،
ذهب ناجي رفيقي الأول وصديقي الصدوق الحنون
ذهب ولم أنجُ من ميراثه السخي من القهر و الصبر والأحزان .
*مريم حوامدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.