الصفحات

ملاك ...*د. زهير اتباتو

⏪⏬ 
يقال إن الكتابة كالرسم بريشة فنان على صفيحة من ماء، تختفي الصورة كلما زاد إبداعه رونقا وجمالا، لكن، بعض أنماط الكتابة قد تعيش أطول مما يعيش أصحابها، وخصوصا، إن كانت تحتوي في طياتها قصة شخص، غَيَّرَ، بدلَ، نوعَ، وأعطى أبعادًا أخرى
للحياة، غير الأبعاد التي نعرفها، وإن تغيرت أوجه الدنيا وأحوالها..
صادفت على مر السنين، شخصيات، يقف لهم الزمان احتراما وإجلالا، لتبديلهم منحى التاريخ، إلا أن أعظم شخصية شاءت الأقدار أن أحاصر معانيها، كانت شخصية طفلة..
قد أخطئ أشد الخطأ إذا وصفتها بطفلة، بل هي في وجهها انعكاس لملاك، وكلامها حلو زلال، أما شخصيتها فهبة من هبات الرحمان، يقف كل مخاطب لها تائها بين دلالها وعبق فكرها الرنان، حائرا من الذات التي تكتنزها، فروحها جوهر مكنون لا يعرف خباباه إلا عاشق للبحث عن مفاتيح الكون.
كان لقائي الأول بها عبارة عن صدفة، تأملتها بين وجوه اعتادت أعيني أن تتأملهم، لكنها مختلفة، بشيء قد أعجز عن تحديده بالذات: نظراتها محيرة، وابتسامتها غريبة إذ تخفي أكثر مما تظهر للعيان، لها نوع من برودة نسمات الخريف حين تداعب وجه الإنسان...
مر الوقت وهي بين أروقة المدرسة مُمَثِلَةً خير نموذج للإنسان الطموح، وعلى أرصفة البلدة تتخذ نموذج الإنسان المحترم، أما في علاقاتها الاجتماعية، فهي عود من نفحات طيب الورد إذا حملها هبوب رياح الشمال..
كانت تداعب الجميع بحيويتها اللامتناهية، وبسرعة بديهتها الخاطفة، تحب الجديد، وتعشق البحث في الغريب...أسئلتها تحير الألباب وتترك السامع مفكرا في الجواب بعد حهد جهيد لإدراك معاني الكلام في كنه السؤال...
لكنني أدركت بعد فترة، أن هذه الملاك، إنسانة تخفي سرا عظيما، تكتم كنهه بأسلوب رنان، إنها ابنة عاشت في كنف أسرة عريقة، ذات باع وحسبان، تحضنـها العائلة كطائر طاووس بنغالي عجيب، كلما فرد ريشه إلا وأبهر من حوله، ولكن الحال قد تغير بين الأمس والآن، فجدارها المنيع قد كسر وتحطم، ذلك السند الذي لطالما اعتمدت عليه قد اختفى بين مقابر المجهول، كان والدها ركنا أساسيا في حياتها، لكنه ذهب إلى رياض الرحمان، وترك بداخلها جرحا لم أعتقد أن لطفل القدرة على تحمله، بيد أنها تحملته بكل ما أوتيت من طاقة داخلية.
تبدي للعيان وجه القوة، وبداخلها عصفور صغير مكسور الجناح، تفضي بقول مرح، والكآبة تملأ كأس فؤادها البلوري، تنطق بمرح، والبعد قد أفقدها طاقتها، لكنها بقيت تقاوم وتكافح وتناضل في سبيل رفع راية تلك الروح الطيبة، لتجعل من اسمه علما لأهلها، ودستورا لحياتها، تناضل ليعلم كل من حولها أنها محاربة من صنف رفيع قد يعجز أعظم أبطال الزمان من مجاراتها في ساحات الأمل والصبر..
لها طاقة عجيبة، كل من جاورها إلا وأحس بشجاعتها، بحيويتها، بروحها وجوهرها الذي يقبع كجبل العَّلَمِ وسط التلال والغدران والسهول...
وأنا على عتبات كتابة هذه الحياة التي تمثل حياوات لا مثيل لها، لا أدري لما لا تفارق مخيلتي صورتها المبتسمة كوردة وسط حقل من الزهور، كشمس تنير بضيائها عالما من الظلام، كزنبقة مائية انبعثت من وسط صحراء قاحلة، كبطلة جابهت كل البشر لتتربع على قلوب العالم، مثل أميرة تحمل صولجان الأمل آملة أن تزرع روحه في كل إنسان، وأنا أولهم.
من هذه الطفلة استلهمت أساليب الحياة، من عمقها عرفت مفاتيح الأمل، من وعيها أدركت الشجاعة في مواجهة الصعاب، من عبق بوحها استنبطت نمط البقاء بكل تجلياته، هي روح من الرحمان، تزرع في داخلي طفلا يحاول أن يحاكيها من أجل المقاومة، مقاومة كل أمر جلي، مقاومة كل مشكل عويص، مقاومة كل ضربة من عند الدهر، مقاومة كل تقلبات الحياة بعواصفها ورعدها وبرقها، وأفراحها وأحزانها..
هذه الطفلة أنبتت بداخلي طفلا حالما أقسم للأكوان أنه لن يركع للدهر، ولن يقبل النزول نحو الهاوية، أنبتت صغيرا ليتعلم منها كل شيء عن خبايا هذه المعمورة..,إنها معلمتي الأزلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.