الصفحات

المكان واللغة والذاكرة في إبداع الكاتب الفلسطيني محمد نفاع

⏪⏬ 
جاء في الصفحة الثانية من كتاب “جبال الريح” الصادر مؤخرا (2019): "خِلِق ولدنا محمد في 14 أيار سنة ال39، وفي نفس الصفحة: جابت العنزة العطرة توم سخلات". (ص14) هذا بعض ما وجده الكاتب محمد نفاع (2019) في أوراق والده. كيف يتلقف
القارئ مثل هذه المعلومة؟ هل ستأخذه إلى عالم القرية الفلسطينية؟ أم إلى تاريخ بعيد قد مر وانتهى؟ ثم ما أهمية أن يرتبط ميلاد ابن تفرح به العائلة بولادة "توم سخلات"؟
هذه المعلومة التي تبدو لنا بسيطة، هي بحد ذاتها مادة دسمة للباحثين في مجال علم الاجتماع والتاريخ، وللباحثين المؤمنين بسوسيولوجيا الأدب، وقد تكون مادة سيميائية تقودنا إلى دلالات فكرية بعيدة أو قريبة. جملة كافية لتجعلنا نفكرُ بأهمية ورودها في هذا السياق. هذه المعلومة هي حجر صغير من الحجارة التي يبني بها الكاتب محمد نفاع عالم هذا الكتاب، "جبال الريح"، في دلالة عنوانه الخشنة والمتحدية في آن معا.
 الكاتب الفلسطيني محمد نفاع
الكاتب الفلسطيني محمد نفاع
يعود بنا الأديب، في معظم ما كتب، إلى الجذور ليربُط الماضي بالحاضر ويؤسسَ للمستقبل. شعب يواجه الجبال والريح العاتية، ويصمد في وجهها ويتابع الحياة، إذ يرزق الله العائلة ابنا و"توم سخلات". إنه يكتب بدوافع وِجدانية وإيمان عميق أنّ ما لم تحققه السياسة يمكن للأدب التّخييلي أن يحققه. والفرق شاسع بين السياسة والأدب، فالسياسة هي فنّ الممكن، أما الأدب ففيه الكثير من الخيال والواقع والعاطفة التي تترجم المشاعر الإنسانية الصادقة. فالأديب يكتب للتعبير عن ألمه وأوجاعه وأفراحه وهمومه وطموحاته في آن معا.
يعتبر محمد نفاع من أهم كتاب القصة القصيرة في بلادنا، بدأ الكتابة والنشر في سن مبكرة، فلفت إليه الأنظار منذ ستينيات القرن المنصرم. أصدر مؤخرا كتابه "جبال الريح" (2019)، الجزء الأول من السيرة الذاتية التي أنهى الجزء الثاني منها قبل فترة قصيرة. وكان قد أصدر روايته "فاطمة" (2015) بعد أن أعطى الكثير في مجال القصة، وما يزال، فأثارت ردود فعل مباركة من نقاد ودارسين ومهتمين بالأدب، واحتفي بها في أكثر من محفل أدبي. وقد نشرتُ دراسة حولها بعنوان "فاطمة هوية اللغة ولغة الهوية" في مواقع عدة، وضمنتها في كتابي "دراسات في الأدب الفلسطيني" (2017).
تخرج إثر كل قراءة لأحد مؤلفات نفاع مشحونا بالأمل، لأنّ كتاباته أبعد ما تكون عن رومانسية الشعراء، إذ تستمد مواضيعها من الواقع، ومن رؤية تؤمن أن الفلسطيني قادر على اجتراح المعجزات، معتمدا على رؤية تاريخية ترى أن الظلم لا محالة زائل.
إنّ العمل الفني ينجح أكثر ويثير المتلقي أكثر حين يفاجئه بجديده بعيدا عن التكرار والتقليد. فبالرغم من اتباع نفاع أسلوب كتابة المذكرات في "جبال الريح"، كما تمليه أصول كتابة السيرة الذاتية والمذكرات وقواعدها، إلا أن سلاسة العرض وترابط السرد تجعلان القارئ يشعر أنه يقرأ سيروية، وليس مجرد "سيرة ومذكرات". كما أن اتكاءه على السرد الزمني المتسلسل يشد القارئ لمتابعة القراءة لأنّ هناك خيطا خفيا يشد الأحداث إلى بعضها البعض. فالمادة المسرودة غنية بمضمونها، تتغذى بالفكر والعاطفة والحساسية الأدبية.
إن مؤلفات محمد نفاع، في مجملها، تحمل ختمه وهويته، بعيدا عن التقليد المعهود لدى عديدين، إذ حين يتمكن الأديب من خلق أسلوب مغاير عمن سبقه فهو يحمل لقبا كبيرا لا يدركه كثيرون هو لقب "مبدع"، لأنه أتى بما لم يأت به السابقون. لقد قام الأديب الفلسطيني إميل حبيبي باختراق كبير للسرد العربي عامة حين كتب رواية المتشائل، إذ بنى روايته وفق أسلوب فنيّ حديث بعيدا عن التسلسل الزمني المتّبع، وبدت روايته وكأنها مجموعة روايات منفصلة ترتبط بخيط خفي وبمهنية سردية غير مألوفة، بحيث كونت في النهاية وحدة فكرية مترابطة. كما وظّف لغة تراثية نجد مثيلا لها في كتب الجاحظ وألف ليلة وليلة، وعالج، في حينه، موضوعا حديث العهد، ليس مطروقا من قبل، تفاجأ المتلقي واندهش لأن الرواية اختراق للمألوف.
كانت "المتشائل" رواية تقطع علاقتها مع التراث الغربي الذي يقلده الروائي العربي، وبالتالي فإن روايات إميل حبيبي وروايات جمال الغيطاني، وبالذات في "الزيني بركات" اختراق للمألوف. ونحن اليوم نشهد اختراقا آخر هو أسلوب محمد نفاع في رواية "فاطمة" التي لم تقلد أيا من الأساليب المعهودة سابقا، فبطلة الرواية ليست محاربة في ساحة القتال، ولا أما تحمي أطفالها من جنود الاحتلال، ولا امرأةً ترعى صغارها في ظل ظروف الحرب وشظف العيش، بل هي صبية قروية فلاحة ينشغل الرجال بجمالها الفتان، يتحرشون بها علها تكرُم عليهم بابتسامة أو بكلمة مجاملة، في حين أنها صبية تعيسة تعمل ليل نهار لتوفير لقمة عيش والديها، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، فهي تعمل في الحقل، بعد أن فقدت زوجها الشاب وإخوتها الذين لم يعودوا من السفربرلك، إنها المرأة العربية التي تجمع كل المتناقضات في شخصيتها المميزة؛ لا تخاف من الرجال، ولا من ألسنتهم، وألسنة نسائهم الجارحة، تقودهم كلَّهم في الأتراح الأفراح، ينتظرون لقمة الكبة من يديها، وتسبقهم في مقارعة رجال الشرطة، ويشيعون حولها ما هب ودب من إشاعات.
يعرض محمد نفاع روايته "فاطمة" بلغة فلسطينية ولهجة جليلية، متحديا الأصول والأعراف التي يلتزم بها الروائيون. إنه بذلك كمن يعمل على تقليص رقعة القراء، لأن هذه اللغة وهذه اللهجة لا يفهمها ولا يدركها إلا فئة قليلة جدا من أبناء الشعب الفلسطيني، ومع ذلك فإنه مصر على توظيفها حتى باتت جزءا هاما من هويته الأدبية، وها هو يكرر التجربة في "جبال الريح". يعمل نفاع على صيانة هذه اللغة تماما كما يعمل على صيانة القرية الجبلية الفلاحية، وكما يعمل على صيانة صورة أبنائها وناسها. يمكننا القول إنه يخلق لنا رواية فلسطينية جليلية بلغتها وشخصياتها وفضائها، يدخل في "دواوين" المجتمع العربي الفلسطيني في منطقة الجليل وما تعرض له هذا الإنسان في حقبة زمنية لها أبعادها على فكره الاجتماعي وعلى مصيره في هذه المنطقة.
لقد نال حنا مينة لقب "كاتب البحر" بفضل عدد من رواياته، إذ تمكن من خلق فضاء روائي بحري. وجعل نجيب محفوظ أزقة القاهرة وأحياءها فضاء تدور به أحداث العديد من رواياته، وهكذا جعل الطيب صالح القرية السودانية فضاء مميزا في رواياته. وما كان نجاحهم ليتحقق لولا انطلاقهم من محيط خاص بهم وحدهم، فأبد.

*رياض كامل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.