الصفحات

الوصية | قصة قصيرة ...*ناديا ابراهيم

⏪⏬
أنفاس تموزالحار تغلي كالماء في الكوز، والمخيم محتشدابالتوتر والانتظار،بيوته المتقاربة تختنق بحشرجة الموت والإستغاثات، والناس توقفوا عن أعمالهم وعن الضحك والحركة والحكايا،هجعوا في بيوتهم بلا طعام وماء وأحلام .

عطرة المنهل شجرة سنديان لفحها الشوق والحنين لولدها الوحيد غسان الذي تبنته ،وأخذته في حضنهامنذ الصغر ،حين التحق بالخدمة الإلزاميةوانضم إلى مواكب الجنود المقاتلين على الجبهة الشرقية من العاصمة أحست بالخوف والوحشة كغيرها من العائلات الذين أقلقتهم الحرب وأصوات القذائف والقتل.
تلك الليلة السوداء،تركت النافذة مفتوحة على مصراعيها لتدخل إلى روحها المختنقةأنسام الهواء الصيفية،في اللحظة التي همد بها صوت لعلعة الرصاص الصادر من المقبرة القريبة من بيتها ،أحست بالوهن واسترخى جسدها،فغطت في نوم عميق،منتصف الليل أخذها الحلم إلى دروب بعيدة،سمعت صوتا ينادي عليها :
_ إنهضي أيتها العجوز ،ولدك عاد من الجبهة.
قامت من فراشها ترتج وترتجف،كما لو أنها مصابة بالحمى،عزف النداءات المتكررة دفعها لأن تتوجه نحو القبلة وتبتهل إلى الله أن لاتموت قبل ان تكحل عينيها برؤيته وتقرأعليه وصيتها التي خبأتها في الصندوق الخشبي الذي حملته معها من أرض الوطن يوم اللجوء واحتفظت في داخله بكل أسرارها من مناديل مطرزة بخيطان القصب وصور لبيتها ومزرعتهاوأشياء أخرى كانت تمدها بالفرح والسعادة وتطرد عنها وحشة الأيام بعد استشهاد زوجها.
قبل أيام هاتفها على الجوال ودغدغ صوته أذنيها ببعض الكلمات الرقيقة،يومها تورد وجهها ورقص قلبها على عتبات الحنين،فلبست عباءة الأمان وخلعت عنها القلق والهذيان.
ولشدة يقينها بأن ابنها سيأتيها الليلة فقد خبأت دغدغته في ذاكرتها وتركت الموت ينام إلى حين ،استرخت تحت نداءات الحلم وصدقت روحها بأن الله والأنبياء معها، ولن يطال بيتها أي مكروه ،نسيت القذائف لحظة تسقط لا تميز في مسارها الجهنمي بين السقوف والجدران وبين الأغنياء والفقراء،انتظرته إلى مابعد منتصف الليل أحست بدبيب خطوات خفية تتسلق النافذة، استبعدت أن يكون القادم لصا جاء ليسرقها وهي التي رأت بأم عينيها جحافل الأعداء واجتازت ثلاثين موتايوم دخلوا أرض
وطنها الحبيب،نادت عليه مستنفرة:
_ يمة غسان اجيت،لكن ما من مجيب فالصمت كان يعرش في المكان.
الناس البسطاء الذين غربهم الخوف عن أنفسهم اختبأوا في البساتين وتحت أدراج البيوت متلفعين بذكريات الوطن الجريح،حتى الصباح كان بعيدا عن يقظة العصافير والجنادب، ومابين رهبة الموت وشهقة الاحتضار لمع ضوء أحمر أعقبه سقوط قذيفة فوق بيتها، فتحول إلى ركام هامد.
الصغار الذين ارتدوا ربيع أجدادهم تراكضوا إلى بيتها يبكون فقد كانت الجدة التي تحكي لهم الحكايات وكبار السن الذين تمنواالشهادة مثلها انتشلوا جثتها من تحت الأنقاض مترحمين على روحها،أحد اللصوص المتربصين كان يراقب الأقدام المهرولة ويركض على إيقاعها توقف عند الصندوق الذي تكدست عليه أكوام الغبار ،وانبعثت منه رائحة الوطن السليب كسر قفله ونثر مايحويه على الأرض ممنيا النفس بأحلام تبعد عنه الجوع وعناء الواقع وصخبه،لكنه لم يجدداخله سوى ورقة وصية كتب عليها:
_ إذا مت يمة غسان ادفني في حديقة بيتنا تحت شجرة البرتقال التي زرعها جدك أبو عطية هناك .

*ناديا ابراهيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.