الصفحات

رواية "امرأة من ماء" لعز الدين التازي: نموذج انفراط علاقة عاطفية


*فضيلة الوزاني التهامي

رواية " امرأة من ماء" للروائي محمد عز الدين التازي، الصادرة عن منشورات السليكي إخوان بطنجة، ليست راوية عن امرأة
منفلتة هي زهرة، ولا رجل منفلت هو زين العابدين، بل هي علاقة حب تنفرط بين بطلي الرواية، في بنية متميزة بنمط ينهض القول فيه بين موقعين:
ـ الموقع الأول، يشغله البطل، زين العابدين الذي يقدمه النص بضمير المتكلم.
ـ الموقع الثاني تشغله البطلة زهرة، والتي يقدمها النص أيضا بضمير المتكلم.
بحيث يسير البناء الروائي على خطين متوازيين من خلالها يقدم كل متكلم صورة الآخر. إلا أن الراوي الأول زين العابدين يحتكر مساحة سرد أكبر، ليقدم لنا عبر استرجاع يتخذ من طنجة فضاء له، حتى تلتبس الصورتان، صورة المرأة وصورة المدينة، فيخوض البطل رحلة بحث يجوب خلالها شوارع المدينة، عن طيف امرأة انفلت منه في لجة الحياة.
" سوف لن تتوحد صورة هذا الالتباس بين مدينة هي طنجة وامرأة هي زهرة إلا في رحلة للكشف والاكتشاف أقوم بها داخل ذاتي وقد استبطنتُ المرأة َ التي هي امرأتي، والمدينة التي هي مدينتي، استبطانا يعيد لي ما افتقدته لأعيش مدينتي وامرأتي عيشا يحاول أن يَلُمَّ ها الشتات الذي يصيبني بالذهول، حتى وأنا أحيا في المدينة وفي بيتي ص 11
زهرة التي كانت توأما للروح" كنا أنا وزهرة صنوين نسمع ما تقوله الريح للريح، وما تعصف بع العواصف في الأيام والليالي ص11.
زهرة التي كانت علامة في حياة زين العابدين كما كانت طنجة علامة، ص9.
هي علامات ملتبسة مزق كل معانيها فقدان المعنى، زهرة توأم للروح وقد تحلل ما في الروح من كل عناصر التوأمة حتى انتصرتُ لفردانية وتوحد وجدتُ فيهم ذاتي، ثم فقدت ما وجدتن وأين يجد المرء ذاته إذا لم يجدها في مدينة في مدينة هي تنبض بالحياة، وهو يشرف على موت ليست له النهاية، ث كيف يعيش رجل بدون امرأة؟ ص 9 .
زهرة نفسها "ستغدو حاملة لنكد هو لعنتها" ص11، نكد ينخر العلاقات، كما تتشقق جدران البيوت، ومن حيث لا تُعْلِمُ أحداً من ساكنيها بأنها ستتشقق ص 11
رواية" امرأة من ماء" تضعنا أمام صورة امرأتين تقفان على طرفي النقيض؛
ـ الأولى: الأم، التي ستعرف الترمل في وقت مبكر.
ـ والثانية : الحبيبة والزوجة.
الأولى ستصحب البطل في رحلته الأولى منذ الولادة إلى الشباب، لتنسحب بإرادتها أو تُسحب من حياة البطل، وتحل محلها المرأة الثانية حبيبة فزوجة، ثم أما لأولاده.
الأولى / الأم: لا تظهر في شكل مادي محسوس، لا مظهر خارجي ولا أوصاف، فقط هو الخنوع والاستسلام المتواصل والمتكرر.
استسلام للزوج الأول، والد البطل زين العابدين، سرعان ما ستخرج منه الأم، بوفاة البرقوقي كما كانت تسميه أمام ولدها، لتستسلم مجددا لإرادة مجتمع يرى في بقاء المرأة دون زواج عريا؛ " لم تمض مدة حتى سمعت إحدى الجارات تقول لأمي:
ـ يا لالة رحمة، هل ستبقين وحيدة أنت وزين العابدين..خصك راجل يغطي راسك.
أحنت أمي رأسها وكأنها تفكر في ذاك الرجل، من هو ؟ رجل يغطي رأسها؟ وهل هو عار؟ ألا ترى الجارة رأس أمي وهو ملوف في منديل؟ يتساءل البطل/ الطفل. ص 40
هو استسلام سيبلغ ذروته بخضوع الأم لسطوة الزوج الثاني، تتنكر معه لماضيها مع والد ابنها الوحيد، وتردد على مسامعه ما أُجبِلتْ على تقبله، إنه الخوف من الوحدة التي استشعرت بوادره بوفاة الزوج الأول، وتكسير لإرادة أهله ـ كما تبرر لنفسها ولابنهاـ :
" هم ـ أي أعمامك ـ أرادوا أن أبقى وحيدة بعد موت البرقوقي، الرجل يا ولدي هو غطاء المرأة، رأس المرأة، هو سقف البيت، بدون سقف لا يكون بيت" ص 54
يرفض زين العابدين هذا التبرير، ويستغرب هذا التنكر، يعترض من غير صوت :" أعجب لها كيف تسمي والدي البرقوقي، وكأنه قد أصبح غريبا عنها، يا لغربة الوالد في قبره، وقد أنكرته امرأته ، فلماذا لا تنكرني طنجة؟ ص 55
كما تنفلت الأحلام من إنسان استيقظ من حلمه والليل قد انتصف، يستفيق البطل على حقيقة انفلات أمه منه، وهي بعد على قيد الحياة، " غادرت طنجة، فما عاد لي أحد في طنجة سوى أمي...هي نفسها فرحت بمغادرتي للبيت..هي اختارت زوجها ولم تخترني"" ص 55 .
بانطفاء صوت الأم تبرز أكثر صورة زهرة؛ امرأة لم يكن لها على البطل سطوة الجسد إذ تتوارى صورة المرأة بمظهر خارجي، أمام خوض البطل في سبر الأغوار النفسية لهذه المرأة في خط تصاعدي تتحول فيه المرأة / زهرة، من مجرد صورة صامتة إلى صوت صارخ دون صورة، ابتداء من اللقاء الأول إلى انتهاء العلاقة بعد سنوات من المد والجزر: " كنت في ساحة الكلية، كنت أتطلع لرؤية زهرة... شابة مشاغبة، لا تأبه لجمالها، وقد استولت عليها نزعة ذكورية...لها رقة اكتشفت أنها تخفيها عن نفسها وعن الآخرين..إذا ما وجدت أحدا ينظر إليها بوله، تتعطل لديها لغة الكلام...وتبدو سارحة بخيالها ، تختلج شفتها السفلى ثم تعود ...إلى صلابة النظرة " ص 94
لغة الكلام ستتعطل غير قليل من الوقت بين بطلي الحبيبين، فرغبة زين العبدين بالكلام تصطدم أما صلابة النظرة، لزهرة، يقول" أحببتها ولم أجرأ على ملامسة يدها، أو الهمس في أذنها بكلمات نابعة من القلب، وإن كنت أنظر إليها بنظرة حنان، وأبعث له برسائل عبر ما يخفق به قلبي من خفقان، فكانت تشعر ولكنها كانت لا تأذن بالبوح" ص 94
وفي موضع آخر يعلن: " دون أصباغ أو مساحيق، فقد كان وجهها وضيئا وجسدها بهيا، أتطلع إليه، فتضيع مني الكلمات" ص 96
هي سطوة الحضور تمارسها زهرة، بدل الكلمات، وحدها كانت تملك القدرة على إسكات صوت زين العابدين وانطلاقه:" أجلستها بقربي ونظرت إلى عينيها الحمامتين وانأ اخشى أن تطير مني الحمامتان إن أنا أفزعتهما بنظري " ص 96 " لم أستطع الكلام...نظرت إليها نظرة حب، فلما رأتها عيني احمَّر خداها، قلت لها : أحبك يا زهرة، اختلجت شفتاها ورمش رمش من إحدى عينيها، بعد صمت قالت: أنت حبيبي...نحن في القطار وهو قطار للذهاب، رحلة قصيرة ولكنها تبدأ رحلة عمر، فهل نعود مع نفس القطار؟ 97
عوالم البطل تقوم على ثنائية لا يستطيع الفصل فيها بين زهرة المرأة/ وطنجة المدينة.
بوجود الأولى وجدت الثانية، وبضياع الأولى يضيع في دروب المدينة بحثا عن المرأة وبحثا عن ذاته، فـ "كل شيء ممكن في عالم تقيمه أمامي امرأة هي زهرة، ومدينة هي طنجة، عالم يتبدد وجوده من الدهشة وكأنه لم يكن موجودا من قبل، أبهاء المدينة، وأبهاء زهرة، كلاهما وإن تبدد فهو يبدأ وجوده من ذلك التبدد، ليجعلني قريبا من ولادة أخرى لزهرة في ذاتي...هو اللبس الذي يجاور بيني وبين امرأة هي امرأة ومدينة" ص 8ـ9 .
لا يقدم زين السارد خلال سرده الطويل عن أسباب انفلات العلاقة بينه وبين زهرة، إلا في ما يسميه تمردا داخل المرأة يحيل العالم المشترك بين الاثنين حلبة صراع صامت في الغالب:" لتبقى المرأة ذاتا متمردة على رقة إحساسها، فهي غضوب غير راغبة فيما هو كائن، وفيما كان، ولا نظرة لها لما سيكون ؟ ص 9 .
هي امرأة من ماء إذن، هي علاقة حب مستحيل،" امرأة من ماء ممكن أو مستحيل، هو بدءُ بدءِ اللحظة...لا أدري كيف التقيت بها، وأنا ذاهب إلى غير مكان، لا أعرف من هي من النساء، فهي امرأة بغير ملامح ما عدا ما يجعل منها أنوثة باذخة...رأيتها تصعد من أعماق الماء فسبحت في اتجاهها، وهي تتباعد ... امرأة وماء، من ماء جاءت، وهي الماء وأنا الماء... هل هو ممكن المستحيل؟ عاد الماء إلى الماء وبقيت في اللجة وحيدا".
استحالة استرجاع البطل لزهرة، التي هي" امرأتي وضوء عيني" ص 8، تجعله يدخل في دائرة الطواف بالشوارع ، يصاحبه صوت داخلي يصرخ:" زهرة أحبيني قبل أن يأخذني الموت، خذيني في حناياك ...أمسكي بيدي وأريني أين الطريق حيث لا يبدو ثمة طريق...إذا مت فادفنيني في جرة ...مدينة تموت ومن قتلوها لا يدرون بأن موتها هو موتهم، وإن دفنت في جرة من تلك الجرار، فسأدهش للرفات الذي صنعته من طين مبلل...طنجة لا تموت، زهرة لن تموت، كمنا لا تموت المد إلا موتا عابرا، فالحب لا تخبو جذوته إلا لأوقات ..34
هي حالة الشرود في رحلة داخل المدينة وداخل الذات، قال لي الجعفري:
ـ أين شردت كل هذا الشرود؟
قلت : في بطن الحوت.
هذه الحالة أراد لها البطل أن تنتهي، فقد أعلن :" كنت أحب زهرة لكني تركت لها أن تبقى وحيدة لتتأمل ما نحن فيه، وربما تراجع نفسها وتخرج من قلبها ذلك الشيطان...." 11 .
لكن صوت المرأة يرتفع ليضع بدوره اللوم على الرجل في هذا الفشل:
" أنت ذاهب إلى مآل يا زين العابدين وأنا ذاهبة إلى مآل آخر..مآلي في أولادي لا يؤنسني فيه غير أولادي، ومآلك لا أعرف أين؟ هل هو ضياع في المقاهي والحانات، أم هو ضياع آخر في الزوايا والأضرحة، وما حول ذلك من عالم لا أعرف بدايته من منتهاه، أخشى عليك من أن تفعل ذات يوم مثل ما كان قد فعله المتصوف بشر بن الحافي، حين رأى ما راعه في المدينة، فأخذ يجري والناس يتبعونه حتى خرج خارجها، وهو يجري والناس يجرون وراءه، ما الذي راعك في بيتك ، وفي المدينة حتى تفعل مثل ما فعله بشر...كل الناس يرتاعون من واقعهم، ولكنهم لا يهربون منه، أنت ميال إلى الهروب" 135 .
عند هذا الحد يرجع البطل من رحلة الاسترجاع، ليجد رسالة من زهرة تختصر فيه الطريق كلمات قليلة:
"أنا حزينة على ما ضاع؛ أطلب الطلاق..."
تعلن زهرة انفلاتها النهائي، ويدخل زين العابدين دائرة الطوف مجددا في المدينة، يناجي طيفها:" لم أنم تلك الليلة، بقيت أحدثها طوال الليل، أقبل عينيها وأراها بعيون القلب، أليس الغضب أعمى؟" ص 139
وبهذا الاستفهام تنتهي فصول شيقة من رواية: لامرأة هي بالفعل من ماء.

* كاتبة وناقدة من المغرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(رواية " امرأة من ماء" للروائي محمد عز الدين التازي. عن السليكي إخوان، 2005. طنجة المغرب).

المراجع:
ـ تيوغرافيا الفن الروائي، مصطفى يعلى؛ مجلة آفاق 43/ 1984
ـ اعترافات روائي ناشئ، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنغراد، المركز الثقافي العربي، 2014
ـ حدود القراءة حدود التأويل، محمد المعادي، منشورات مرايا. طنجة 2005.
الرواية المغربية، رؤية الواقع الاجتماعي، حميد الحميداني .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.