الصفحات

صُكوكٌ غَارِقَة | قصة قصيرة ...*بقلم:عبد الحكيم قويدر - الجزائر

⏪⏬
الشَّمسُ تَمشي ألهَوِّينا في مُرتفعٍ.. إنّها الثَّامنة إلاّ الرُّبع صَباحًا حينما اِصطفَّ التَّلاميذُ في ساحَةِ المَدرسة. الجِبالُ الشَّامِخات الشَّاهقات
تُقلِّد بِصَداها نَغَمات النَّشيد الوطني:
"قَسَمَا بالنَّازلات المَاحقات... والدِّماء الزَّكيَّات الطَّاهرات.."
بَعدها توجَّه كلّ فوجٍ لِيُقابل بابَ قِسمهِ وأمامَ كلِّ قسم يقف معلمٌ.
المديرُ يَتوَسَّطُ ساحةَ المدرسةِ. يَتأمَّل ويتفحَّص كلَّ شيءٍ، ينظرُ في أَعْيُنِ التَّلاميذ ويبحثُ فيها عنْ أحوالِهم، فيرَى التَّزاحُمَ بين الفَرحِ والحُزن في أَعينِهم البَريئَة والَّتي لا تَعرفُ أي تَزيِّفٍ ولا تَحريف.
تقدَّمَ من أحدٌ التّلاميذ بعد أن رآهُ مَهموما والحُزنُ يَجرِفهُ إلى ما لا نِهايَةٍ..
يَمسحُ على رأسِه..
يسألهُ عنْ إِسمهِ..؟
يَنظرُ إليه التّلميذ بهشاشَةٍ، يَنطقُ بِصوتٍ مُحاصر..
إسمي: "آمين".
ترتَجِفُ شفتاه، يتألَّم، يتأَوَّه لِقسوةٍ تَطبِقُ على جَسدِه النَّحيف. تَنْزَلِقُ دمعَة من عينهِ، أحسَسْتُ بِثِقلها على الأرضِ، اِغرورقتْ عيناهُ في أوحالِ الدَّمعِ المُمتزج مع حَرارةِ جَسدِه المُستسلم لِحُزنِ التَّصادم وعُنفِ الزَّمن.
يسألهُ المديرُ: ما بكَ يا ولَدِي؟.
تنزلُ دمعةٌ أخرى بنفسِ مُستوى الأولى..
يردُّ بصوتٍ بارد جاف: ماتَ أبي..
صَمتَ وقتًا قَصيرا..
واصلَ كلامَه: ..
قالت أمِّي إن جدي اِستشهد في نفسِ اليوم والشَّهر الَّذي مات فيه أبي.
قال هذه العبارة ثم خرس كأنَّهُ سمكة تَختنقُ على شاطئِ نهرٍ.
اِستدارَ المديرُ إلى الخلفِ وقَدْ سَبقتهُ دمعَة بحرقةٍ، مَسحَها بِسرِّيةٍ دون أن يتفطّنَ إليه أحد. صارعَ الدَّمعَ المُتبقي في جُفونِه وتغلَّب على مشاعِره.
أصبح يتعامل معه بصورةٍ طبيعيّة بعد أن جمع أنفاسه..
اِكتشفَ لِأولِ مرةٍ أن الأبوة تَحِنُّ وتتحرك أيضا لغير الأبناء الحَقيقيين.
سَحَبهُ من يَدِه إلى جِوار شجرة الصَّفصاف الشَّامخة الّتي تَتَوسَّط السَّاحة.
وقال له:
أنظرْ يا بُني إلى عَظمةِ اللَّه عزَّ وجلَّ إنَّه منحنا الأرضَ كلّها ونأكلُ طعامَنا ونشرب مِنها ما نشاء من الماءِ، ونحلم بِما نشاء حتى بِعودة آبائِنا وأمهاتنا ذاتَ يومٍ..
يواصلُ المديرُ حديثَهُ إذا لم يَرجِعو لا بُدَّ أن نذهبَ نحنُ إليهم.
نظرَ إليه التّلميذُ بدهشةٍ ولهفَةٍ في آنٍ واحد:
ـ هلْ ما تَقولُه صَحيح يا سيِّدي؟
ـ هلْ سَيَعودُ جَدِّي وأبي؟
إذا لَمْ يعودَا هل سأذهبُ إليهما أنا؟ وأينَ أجدهما؟
أنا لا أعرف جَدِّي!
وهل أرَى أبي كمَا كان بِبدلَتهِ السَّوداء الأنِيقَة وقَميصه الأبيض وربْطَة العُنق الخضْرَاء الجَميلة؟.
أعادَ التّلميذُ العبارةَ:
"قالتْ أمي أنّ أبي ماتَ في نفسِ اليوم والشَّهر الّذي اِستشهدَ فيه جَدِّي منذ أكثر من خَمسين عامًا".
سَألَ التّلميذُ المديرَ:
ما الفرقُ بين ماتَ واِستشهدَ؟.
أجابـَهُ المديرُ:
يا بُني الموتُ لِكلِّ الكَائنات الحيَّة وكلّ البَشر. لكنَّ الشَّهادة لا يَنالها إلا المَحظوظونَ مِن البَشر.
طرحَ "آمين" سؤالًا آخر وكأنَّه في عمر أبيه:
لماذا يا سيِّدي المَحظوظونَ قَليلون وباقي النَّاس قَطيعٌ من البـَشر؟.
أجابه المديرُ: هولاءِ هم صَفوةٌ من العِبادِ و أُخيَارٌ خَرجوا من طَحين المُعاناة وتعلَّموا السِّباحة في حوضِ الكَدِّ والشَّقاء.
ـ هل للشَّهادة لونٌ يا سيِّدي؟
ـ المدير:
نعم يا بُني لونها دَمٌ يَسقي الأوطانَ كي تبقَى حيةً لا تموتُ أبدًا، هذا الدَّم أغلى وأعظم مانَملِكه في حَياتنا، يتسرب عبر الثُّقوب الضّيقة إلى باطِنِ أرضٍ مُباركةٍ تَنبسط أمامَنا، وتُفجِّرُ فينا يَنابيع الحب والحنان. ويَعطينا أعظم هَدية في الكُونِ: مفاتيح المدن والقِلاع المُستَحيلة.
واصلَ "آمين" أسئلته اللاَّمُنتهيّة..:
ـ لَكنْ يا سيِّدي جَدِّي لم يَمُتْ في هذهِ الأرض المُباركة.
قالتْ أمي:
اِستشهدَ في فرنسا، ولَقدْ حَفظتُ عَنها حرفُ السِّين!...
سألهُ المديرُ في أيِّ تاريخٍ اِستشهدَ جَدّك؟
يُجيبهُ "آمين" بِنفسِ الإجابة:
"في نفسِ اليوم والشَّهر الَّذي ماتَ فيه أبي".
ماتَ أبي منذُ أسبوعٍ..
في السَّابع عَشر أكتوبر.
قال المديرُ: استشهدَ في فرنسا..!
السَّابع عَشر أكتوبر..!
حَفظ الطِّفلُ حَرف السِّينِ!
يُواصلُ المديرُ حديثَهُ بعد أن تغيرتْ مَلامِحه، واِستفاقَ مُضطربًا كَمَنْ صُبَّ عليهِ دَلْوَ ماءٍ.
وقال لِآمين في مِثل هذا اليُوم رُميَّ بمِئات الجَزائريينَ المُهاجِرينَ من طرف السَّفاح "موريس بابون" في نَهرِ السِّين وجَدّك واحدٌ من هؤلاءِ المِحظوظينَ.
ـ ومن هو "موريس بابون" يا سيِّدي؟
ـ"موريس بابن" هو مَسؤول الشُّرطة وقتَها بِمنطِقةِ باريس، وبالضَّبط في مُقاطعة السِّين.
ـ ما تُهمة هؤلاء المُهاجرينَ يا سيِّدي؟
ـ في السَّابع عَشر أكتوبر من سنة (1961) خَرجَ المُهاجرونَ الجَزائريون إلى شَوارِع المُدُن الفرنسية الكُبرى في مُظاهَرات سِلميَّة مُطالبين بِرفعِ حظر التّجول، والتَّنديد من الرَّقابة البوليسيَّة على تَحرُّكاتِهم.
فَقامَ السَّفاح "موريس بابون" وشُرطَتُه برميِّ مِئات الجَزائريينَ مُقيَّدين في نَهرِ السِّينِ.
ـ أينَ يقعُ نهر السِّينِ يا سيِّدي؟
ـ هوَّ نهرٌ كبيرٌ وعَميقٌ يَعبر علَى العاصِمةِ باريس.
ـ يا لَهُ من جُرمٍ فَضيعٍ..! و إرهاب مريع..!
يُكملُ المديرُ حَديثَه:
هَؤلاءِ الشُّهداءُ هُمْ جزءٌ من إجمَالي ثَمن الحُريَّة.
يؤكد التّلميذ: إذن جَدِّي كان بينَ هؤلاءِ .
يجيبه المدير: نَعمْ يا بُني أكيد..
له شرف ذلك.
في المَسَاءِ عاد "آمين" إلى منزلهِ وهوَّ يُردد على مَسامِعِ أمِّه:
"فرنسا سِينْ..
باريس سِينْ..
السِّينُ سينْ.."
يا فَرحَتي ... يا فَرحَتي..
جَدِّي شَهيدٌ من شُهداءِ حرف السِّين.. عفوًا يا أمي نَهرُ السِّين.

*بقلم:عبد الحكيم قويدر
ـــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة عن جريمة فرنسا الشَّنعاء في حق المهاجرين الجزائريين:
النهر اللَّعين (السِّين) 17 أكتوبر 1961

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.