الصفحات

الدموع الخضراء | قصة قصيرة ...*مريم حوامدة

⏪⏬ 
تناولت حقيبتي وغادرت البيت، في المصعد تذكرت أنني بدلت الحقيبة ، عدت مرة أخرى للبيت أخذت المال وخرجت إلى العمل ،

البيت له باب رئيس في نهاية ردهة طويلة موزعة بين الغرف في ناحيتها الجنوبية فرندة كبيرة مستطيلة معاكسة للمطبخ وغرفة الطعام يقابلهما مدخل آخر للبيت يحتوي على سلم حجري وفسحة صغيرة توصلك للسطح ،
هذا المعبر الضيق الذي تستخدمه العائلة ممراً لها يمتلىء عادة بالأغراض والبضائع القادمة من السوق وبعض المؤون ، في أكتوبر من كل عام تقوم والدتي بإفراغه من محتوياته استعداداً لاستخدامه لموسم الزيتون وحفظ الصفائح ونقع الزيتون وتمليحه لحفظه في اوعية ومرطبانات بلاستيكية كبيرة متعددة الألوان كي تعرف محتوياتها من الزيتون الاسود المملح و الأخضر بالماء والمحفوظ بالزيت ،
هذه الرحلة مع الموسم تستغرق ثلاثة اسابيع ،وكالعادة تبدأ عملها مع أذان الفجر في تبديل مياه الزيتون المنقوع وتمليح جزء منها واضافة قطع الليمون،
ذات يوم صحوت على زمجرة وبكاء متقطع ،علمت فيما بعد بأنها على عجلِة من أمرها وعازمة على ترك كل ما يشغلها والسفر الى مدينة تبعد عنا مسافة زمنية تقدر بساعتين واكثر في الحافلة، وذلك لتقديم واجب العزاء لصديقة لها توفي ابنها الشاب بمرض سريع بعد انتهاء امتحانات الثانوية وحصوله على المرتبة الأولى على المحافظة، مما زاد من حزنها وحرقتها ،
عزمتُ على الغياب عن المدرسة ومصاحبتها لشدة قلقي عليها ورأفة بحالها ،
صعدنا المركبة ،لم تتمالك أمي نفسها بدأت بالبكاء وأحياناً تتحدث بصوت عالٍ مما زاد من غضبي لشدة كرهي الحديث والنقاش في السيارات وعلى مائدة الطعام ، وكلما حاولت تهدأتها تبدأ في رواية أخرى ترثي حال صديقتها وكأن المسافرون سيخففون شيئاً ما من حزنها أو يعيدون الحياة لشخص فقد إلى الأبد ؛ المعاناة التي ذكرتها عن صديقتها جعلت جميع ركاب الحافلة يبكون...ثم بسرعة غيرت من الحديث لتنهال بالشتائم على زوج رفيقتها البخيل الذي طالما ترك زوجته وأولادهما العشرة بلا طعام وهو مقتدر مادياً ولطالما اعتاشوا على فتات الخبز الجاف المنقوع بالشاي الأسود ؛
ومما زاد من ألم المسافرين قولها أن هذا الشاب الذي توفي عندما كانت أمه تحمله في رحمها اشتهت بضع حبات من الزيتون فلم تجد ولعزة نفسها لم تطلبها من أحد، وفي يوم شاهدت جارة لها تلقي بباقي مؤونة زيتون العام المنصرم قرب حاوية النفايات، ...انتظرت حتى غادرت جارتها المكب وأسرعت تلتقط حبات الزيتون المغموس بالتراب تمسحها وتبتلعها خِلسة من المارة لتشبع شهوتها وتروي عطش عذاباتها ،
تناولت حقيبتي وغادرت البيت وفي المصعد تذكرت أنني نسيت ثمن صفيحة الزيت التي اشتريتها أمس من صديق لي ، ذهبت لوظيفتي مشياً على الاقدام أشق الشارع الطويل المؤدي لمكان العمل حيث تصطف ألأشجار الخضراء المحاذية على يمين الشارع؛ فتعثرت ببعض حبات من الزيتون التي حاول اللصوص سرقتها وتركها فريسة لعجلات الشاحنات التي سحقتها وتركت دموعها الزيتية تسقي الأسفلت .
مرّ الشريط ...
صفيحة الزيت ،مؤونة أمي، وحاجة امراةٍ حاملٍ لتتذوق حبة زيتون واحدة
تقاطعت دموعنا وتعانقت وسالت بدورها على الاسفلت ...

*مريم حوامدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.