الصفحات

رحيل الأكاديمية السورية ملكة أبيض رفيقة درب الشاعر سليمان العيسى


⏫⏬

*بقلم :مولود بن زادي
“رحلة النجاح، لا تتطلب البحث عن أرض جديدة ، ولكنها تتطلب الاهتمام بالنجاح، والرغبة في تحقيقه والنظر إلى الأشياء بعيون
جديدة”، بهذه الكلمات وصف لنا إبراهيم الفقي، خبير التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية ورئيس مجلس إدارة المركز الكندي للتنمية البشرية، رحلة تحقيق النجاح في الحياة. كان ذلك بالتأكيد الدرب الذي سلكته الأيقونة العربية السورية ملكة أبيض التي رحلت الأربعاء 26 يونيو /حزيران عن عمر 91 سنة.
طفولة صعبة
ولدت ملكة أبيض عام 1928 في حلب ونشأت في أحضان أسرة تضم تسع بنات. وكانت أسرتها تحيا في ظروف مادية صعبة وهو ما كاد يمنعها من مواصلة الدراسة لو لم تحظ بالحصول على منحة دراسية بفضل اجتهادها وتفوقها، ما سمح لها بإتمام دراستها الثانوية.
وكان والدها يتقن عدة لغات، وهو بلا شك ما غرس فيها حب اللغات الأجنبية. كانت منذ صغرها شغوفة بالقراءة حيث استفادت من وجود مكتبة منزلية فأقبلت على قراءة أمهات الكتب العربية. قرأت لمحمد بن سليمان الجزولي وجبران وغيرهما.
مناضلة سياسية
شاركت ملكة أبيض منذ البداية في النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي، وكان من نتائج ذلك تعرضها لضغوطات وصلت إلى حد حرمانها من المنحة الدراسية التي كانت ضرورية لها لمواصلة التعليم، ما اضطرها إلى العمل وهي صغيرة. وعن هذا النضال ضد الاستعمار وما واجهته من صعوبات نتيجة مشاركتها فيه قالت: “كنتُ أشارك في جميع التظاهرات التي كانت على أشدها ضد الاستعمار الفرنسي، ما جعل إدارة المدرسة تحجب عني المنحة فاضطررت الى العمل أنا وشقيقاتي في التطريز والخياطة والدروس الخصوصية لإتمام دراستي، فحصلت على البكالوريا بتفوق وعملت على تثقيف نفسي بحيث لا أترك وقتاً للفراغ.”
حققت نجاحها بإرادتها
وهكذا اجتهدت ولم تترك وقتا للفراغ، مثلما قالت تماما. أقبلت على القراءة والتعلم بكل شغف وإثارة، فاستطاعت رغم العراقيل المادية مواصلة الدارسة والنجاح فيها حيث نالت الشهادة الثانوية. وبفضل تفوقها، أوفدتها وزارة المعارف إلى بلجيكا حيث درست في جامعة بروكسل الحرة. درست فيها اختصاصين ونالت إجازتين في التدبير المنزلي والعلوم التربوية والنفسية معا. شغفها بتحصيل العلوم والمعارف لم يتوقف عند ذلك الحد حيث أنها انتقلت بعد ذلك إلى بيروت بلبنان حيث التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت وفيها نالت الماجستير. ومن لبنان انتقلت الى فرنسا فدرست في جامعة ليون الثانية حيث نالت الدكتوراه في تاريخ التربية.
رفيقة درب الشاعر سليمان العيسى
التقت ملكة أبيض رفيق درب عمرها، الشاعر السوري الشهير سليمان العيسى، في مدينة حلب. كانت آنذاك منشغلة بالدراسة في بروكسل بلجيكا. حصل اللقاء أثناء إجازة العطلة الصيفية للسنة الثالثة في بيت أهلها بسوريا. كانت تجمعه روابط وثيقة بأسرتها، حتى أنها قالت عنه “صار واحداً من أفراد الأسرة”. وقد كان له عميق الأثر في حياتها. كان لها السند الدائم في مشوارها الثقافي والأكاديمي. فهو من كان يرافقها إلى الندوات والمحاضرات والمكتبات.
ومثلما اعترفت، فلولا سليمان لما تمكنت من دراسة الدكتوراه ومواصلة نشاطها الثقافي والفكري حيث واجهتها آنذاك مشاكل بسبب الأسرة والأولاد وهو من وقف بجنبها.
وقد جمعها وإياه شغفهما بالكتابة وحب الوطن والنضال لأجل هذا الوطن العظيم سوريا. كان سليمان العيسى آنذاك معارضا للانتداب الفرنسي. كان نشيطا في العمل السياسي منذ حداثة سنه. فقد شارك في النضال ضد الحكم الفرنسي بينما كان طالبا يتابع دراسته في ثانويات حماة واللاذقية ودمشق. وفي هذه الفترة وأثناء هذا النضال، تعرض للمضايقات وذاق طعم التشرد وأدرك قيمة الأوطان ومشقة الكفاح لتخليصها من أغلال الاحتلال المحيطة بها، وضمان حرية شعبها، ووحدة ترابها، وسيادة أهلها، وكرامة مواطنيها. كان زوجها مناضلا باسلا، شارك في تأسيس البعث منذ البداية وهو طالب في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق.
مسيرة أكاديمية وفكرية ثرية
عملت ملكة أبيض مدرسةً جامعية في كل من سوريا واليمن وكانت عضوا في جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب. وقد ساهمت الفقيدة في إثراء المكتبة العربية بجملة من المؤلفات القيمة، فضلا عن الدراسات والترجمات. وقد كانت ملكة أبيض بارعة في اللغات، ما مكنها من الترجمة من الانجليزية والفرنسية معا. استهلت مشوارها هذا في ستينات القرن الماضي بترجمة “تسع قصص” (د ز ج سالنجر). وقد صدر ذلك المؤلف في عام 1964 عن دار الاتحاد في بيروت. وبادرت بعد ذلك بترجمة أعمال جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية أواخر سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي. وفي عام 1980، نشرت كتاب “التربية والثقافة العربية الإسلامية في الشام والجزيرة” عن دار العلم للملايين في بيروت. وفي السنة الموالية، 1981، أصدرت مجموعة من الدراسات: “تاريخ التربية وعلم النفس عند العرب”، “علم الاجتماع التربوي”، “التربية المقارنة”، “تاريخ التربية”، “التربية في الوطن العربي”. ونشرت في عام 1984 دراسة بعنوان “الثقافة وقيم الشباب: دراسات ميدانية، وزارة الثقافة والارشاد القومي”. وفي عام 1986، أصدرت دراسة ميدانية عن المركز العربي لبحوث التعليم العالي بدمشق بعنوان “أنماط التعليم العالي في الوطن العربي”. وفي سنة 1987، أصدرت ترجمة عن اللغة الانجليزية لكتاب “التربية المقارنة: منطلقات نظرية ودراسات تطبيقية ( مرجع علمي لادموندكنغ)” عن وزارة الثقافة والارشاد القومي. ونشرت ترجمة أخرى عن الإنجليزية سنة 1992 بعنوان “طريقة مونتسوري للأم والمعلمة في تربية الطفولة المبكرة” ( مرجع علميي لاليزابيت هنيستوك). وفي السنة الموالية 1993، أصدرت “الطفولة المبكرة والجديد في رياض الأطفال” و”التربية المقارنة والدولية” ببيروت، فضلا عن مجموعات من القصص والمسرحيات للأطفال، ترجمتها عن الفرنسية والانجليزية بالاشتراك مع زوجها سليمان العيسى.
لها فضل في ترجمة الأدب الجزائري الفرانكفوني
التقت ملكة أبيض بعض أدباء عهد الثورة الجزائرية (1954-1962) من أمثال مالك حداد فترجمت له، عن اللغة الفرنسية، ديوان “الشقاء في خطر” سنة 1979.
وفي تلك السنة أيضا قامت بترجمة “الجثة المطوقة والأجداد يزدادون ضراوة”، مسرحيتين لكاتب ياسين. وفي العام الموالي ترجمت مؤلف كاتب ياسين الشهير “نجمة. وقد صدرت الترجمة عن المؤسسة العربية للدراسات للنشر عام 1980. قالت عن تجربتها مع الأدب الجزائري الفرانكفوني في حوار نشرته صحيفة (البيان): “في تلك الفترة كانت الثورة الجزائرية مشتعلة، وقدِمَ الشاعر الجزائري مالك حداد وهو قطب من أقطاب الثورة الى حلب ليجلب الدعم لها، وكان يتكلم الفرنسية ولا يجيد العربية، فبدأت أنا وسليمان ترجمة الكتب التي يحضرها لنا من الفرنسية الى العربية، وأولها ديوان «الشقاء في خطر». فترجمته له بمساعدة سليمان الذي كان يدقق ويراجع ليصدر في الستينات ديوان مالك حداد في ترجمة لملكة أبيض ومراجعة العيسى. ثم أرسل إليّ كاتب ياسين روايته المشهورة »نجمة« وعدداً من المسرحيات باللغة الفرنسية فترجمتها الى العربية.”
سوريا دائما وأبدا
رحلت الأيقونة العربية السورية ملكة أبيض التي ناضلت بالأمس لأجل تحرير سوريا. ورغم الظروف الصعبة التي عانتها في طفولتها والتي كادت تكلفها دراستها، لم تنس ابدا فضل الأوطان عليها وعلى أسرتها. فقد بقي حب سوريا يجري في دمها إلى آخر لحظة من لحظات عمرها. وهي من خاطبت سوريا من خلال صحيفة الوطن: “أقول لسورية نحن نحبك يا سورية وندين لك، وبأنني محظوظة لأنني ولدت في بلد منحني الدراسة المجانية منذ كنت في المرحلة الإعدادية، وحتى أولادي حصلوا على الكثير من الخدمات، وسورية قدمت الكثير من الخدمات لأنها ودائما رائدها المواطن.”
وهكذا كانت ملكة أبيض، بفضل اجتهادها ومثابرتها ونضالها وإخلاصها، أفضل نموذج للمرأة العربية.. تلك المرأة المتعلمة، القوية، الشجاعة، الوفية للأوطان.

*كاتب جزائري
بريطانيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.