الصفحات

الهروب نحو فضاء الرواية ...* د.عمر الخواجـــــا


⏫⏬
..... كثير من كتّاب القصة القصيرة والشعراء يتجهون بتسارع ملحوظ نحو كتابة الرواية فيما يمكن أن نسميه ( موسم الهجرة للرواية ) ... لقد ساهم هذا الاندفاع الكبير في جعل الرواية هي الصنف الأدبيّ الأكثر انتاجا على السّاحة الثقافية العربية ، ولكنّ هذا الإنتاج
الكمي الغزير لم ترافقه جودة نوعية مميزة ، حيث يقول النّاقد الدكتور محمد عبيد الله في دراسة له حول الراوية ( ولعلّ المتابع لنشاط الرواية الأردنية والعربية في الحقبة الراهنة يهوله أنّ أكثر هذه الروايات ليست الا خواطر شعرية وسـردية ممتدّة أو قصصا طويلة وليست روايات بالمعنى الوظيفي والحضاري والأسلوبي للرواية الحديثة) مجلة أفكار( الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية ) العدد 395 ص 17 ... من خلال هذه الكلمات التي تمثل رأيا نقديا عميقا يتسم بالجدية والقوة والمباشرة حول ما يشهده المسرح الثقافي من تداعيات جراء الإنتاج الروائي الغزير نسبيا نجد أن كثيرا مما يوصف بالرواية هو بعيد بنسب متفاوتة عن القواعد والمحددات الرئيسة للرواية مع مراعاتنا لما تشهده الرواية كنوع أدبي من تحوّل في الشكل والمضمون نتيجة للتغيرات السريعة التي طرأت على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الجغرافي ...
 نحن نعيش عصر التّحولات التي أحدثتها القفزات التّكنولوجية الهائلة في الاعلام والاتصالات والعلوم والتي غيّرت طريقة حياتنا بنسبة كبيرة ورافق هذا التغيير النوعي والكمي تغيير كبير في أهداف وأشكال ومقاصد هذا الفن الحديث نسبيا فبدت الرواية سـاحة كبيرة تتسعُ لهذا الزخم المختلط من القديم والجديد والماضي والحاضر والواقع والمستقبل والحقيقة والخيال ... فالعواطف والأحاسيس والمشاعر الإنسانية لم تكن بعيدة عن هذا الموج الهادر من التشوهات والاختلالات والمفاجآت مما مهد الطريق للكاتب كي يجد في الرواية شكلا أدبيا يستطيع أن يحمل في داخله كلّ هذه التناقضات الغريبة بجمالها حينا وبشاعتها أحيانا أخرى وهنا يقول الناقد سعيد يقطين في كتابه قضايا الرواية العربية الجديدة ص 47 ( منذ ان حظيت الرواية بمكانة خاصة في الابداع العربي وعرفت تحولها الكبير في الستينات من القرن الماضي وواصلت فرض وجودها وهيمنتها على الساحة الأدبية والثقافة العربية إلى حدّ اعتبارها ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين صارت بمثابة النوع الحاجب لما عداها من الاجناس والأنواع الأدبية فاستأثرت باهتمام القراء والنقاد والناشرين على السواء ) ...
من الواضح اننا نعيش العصر الذهبي للرواية العربية بحيث أصبحت ديوان العرب الجديد بعد ان أبعدت الشعر العربي عن عرشه الذي تربع عليه طويلا ونتيجة لذلك فلقد شاهدنا هذا التحول السريع للشعراء والقاصين والمفكرين والصحفيين والفنانين وحتى بعض السياسيين إلى روائيين يحلقون بحرية في فضاء السرد ويقتحمون عالم الرواية ناثرين كلماتهم وذكرياتهم وأوجاعهم و معبرين عن آلامهم وآمالهم وتطلعاتهم دون تردد او استئذان وان كننا لا ننكر على الكاتب ان يختار الشكل الادبي المناسب له كي يعبر عن فكرنه ولكننا نبحث في السبب الذي دفع الشعراء الناجحين والقاصين المبدعين للتحول بزخم كبير نحو فن الرواية ... ما الذي دفع هؤلاء الكتاب لمغادرة مسرحهم الأصلي والاتجاه نحو فضاء الرواية وعالمها الغريب؟ لماذا هجر القاصون عالمهم بعد أن نجحوا في ترسيم القصة القصيرة شكلا ادبيا فرض وجوده النوعي على ساحة القراءة والنقد والثقافة ؟ ...
 من الملاحظ أن الشعراء الذين اقتحموا مجال الرواية بقوة واقتدار ما زالوا يتمسكون بكونهم شعراء رغم عدم دفاعهم عن المقولة الأدبية التي أسست لعديد من الحقائق الأدبية العربية ( الشعر ديوان العرب ) فمعظم هؤلاء الشعراء يعللون عدم اهتمام الجمهور والنقاد بالمنتج الشعري بانتفاء وظيفته السابقة كمصدر للإعلام والتدوين والفخر والثقافة ولا يتطرقون لماهية الشعر وجودته وقوة حضوره باعتباره اداة مهمة من أدوات السلطة والحكم ... إنّ هذا الترحال الأدبي المفاجئ والذي ساهم في ابتعاد الجمهور والنقاد عن الاهتمام بالشعر وجعل من الرواية ميدانا متاحا بسهولة ويسر للشهرة والجوائز والظهور .. قد جعل من كلام الكاتب وليام فوكنر بأن الشعراء الفاشلين ينتهون روائيين ميدانا للتجاذب والأخذ والرد ... وبالعودة للكلمات السابقة للناقد عبيد الله فإنّ اللغة الشعرية وهي أكثر ما يتسلح به الشعراء الروائيين لا تضيف ميزة إيجابية تجعل من الرواية عملا أدبيا ناجحا ... فالكاتب اللبناني عباس بيضون يصف نفسه بشاعر يكتب رواية .. وهو ما يؤكد أن الشاعر يتمسك في داخله بموهبته الأصلية وبكونه يتميز ابداعيا في مجال الشعر وما اقتحامه لميدان الراوية سوي لبعض الاستراحات التي تتضمن الكتابة السردية حول بعض التجارب والأفكار التي تحتاج لمساحات واسعة من الحرية بعيدا عن محددات الشعر وقواعده وقيوده الصارمة ...
 إن عملية استسهال الرواية وانتشار الجوائز الأدبية الخاصة ( بوكر النسخة العربية وجائزة كتارا للرواية ) بها وتأكيد بعض النقاد بأفول زمن الشعر وقدوم عصر الرواية ساهم في عملية الهجرة السريعة باتجاه شط الرواية كونها منتجا ادبيا يجلب الاهتمام والربح المادي والمعنوي وهو ما دفع بسيل من الدخلاء الذين ساعدتهم بعض دور النشر في ترسيم تهويماتهم التي تفتقر للأسس الرئيسة للسرد كروايات مرشحة لجذب انتباه النقاد ولجان تحكيم الجوائز الأدبية العربية المخصصة للرواية . يقول الدكتور سمير قطامي في أفكار 359 ( خرج علينا الروائيون بإنتاجهم السريع وكأنّي ببعضهم كان يكتب لإرضاء جهة ما او طائفة او دولة وهذا ما انعكس على عدد الروايات الصادرة وعلى الخطاب الروائي وعلى المستوى الفني لتلك الروايات ) ..
والنتيجة المحتومة وجود كمية كبيرة من المنتج الروائي مع تأكيد النقاد بأن الجيد منه نادر وقليل ولا يمكن لنا ان تثق بالجوائز كمقياس جودة يحدد الغثّ من السمين كوننا ندرك المحددات التي تصاحب تشكيل اللجان وتوجه قراراتهم في كثير من الأحيان .. لم يكن الشعر ضحية وحيدة لهذا التحول السريع بل لقد واجهت القصة القصيرة مصيرا مشابها بعدما رحل العديد من كتاب القصة القصيرة والذين ساهموا بقوة في إعلاء شان هذا الشكل الادبي باتجاه الرواية ... من غير الممكن الجزم بكون رحلة كتاب القصة القصيرة باتجاه فضاء الرواية نتيجة لضعف الاهتمام بالقصة أم سببا مباشرا ...
ولكننا يمكن أن نقول بأنّ عالم القصة القصيرة قد اخذ يعاني من التجاهل النقدي والجماهيري بعدما اخذ حيزا هاما من نشاطات الساحة الأدبية والثقافية الأردنية ومن الممكن ان يكون لكتاب القصة كثيرا من المبررات فالجنسان الأدبيان يعتمدان السرد ويبتعدان عن الغنائية ولكن كثيرا من كتاب القصة القصيرة طغت على كتاباتهم الروائية الأساليب الشاعرية والتي كانت منطقية في مجال القصة القصيرة ولكننا نجدها في السرد الروائي قد أخذت حيزا من الاهتمام بالحبكة وإجادتها كأهم عنصر يجعل من السرد فنا روائيا جيدا ..
نحن امام ظاهرة أدبية تستحق الاهتمام والدراسة والمتابعة رغم إدراكنا باستحالة الرجوع للوراء فهذا الزخم الروائي المفاجئ جاء مصاحبا لتغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية اكتسحت واقعنا الحالي وعملت فيه تفكيكا وخرابا دون إعادة تركيب فبدا التشظي سائدا في كافة الميادين الحياتية فلقد أصبحت عناصر الحياة قطعا ممزقة ومشوهة لا تصلح لإعادة تصنيع وتجميع واقع مضى وانتهى وربما هذا ما دعا الناقد د. براهيم خليل لوصف هذا المنتج الادبي ب اللارواية حيث يقول (القدس العربي 22/8/2018 ) تحت عنوان في الأردن ازدهار لافت لرواية اللارواية ( يشهد الأردن في الظروف الحالية ازهارا لافتا في نشر رواية اللارواية اذا جاز التعبير فالمتابع يلاحظ كثرة الروايات الصادرة حديثا وهي كثرة كان من الممكن الشعور بالفخر والزهو حيالها لو أن الروايات المنشورة تتوفر على الحد الأدنى من شروط السرد الروائي لكن الواقع يحبط المتابعين المهتمين فاكثر هذه الروايات لا يدلّ الا على جهل المؤلفين بفنّ الرواية واستخفاف الناشرين بعقول القراء مادام المؤلف مستعدا وقادرا على تسديد كلفة الطباعة كلاَ او جزءا )
ولكي لا تبدو كلماتنا كمحاكمة أدبية لواقع أدبي فرض نفسه بقوة واكتسح الساحة الثقافية بشكل مفاجئ وقوي فأننا ندعو لاعتبار جودة النص الأدبي مهما كان شكله او موضوعه او كاتبه هي المعيار الأصيل في الحكم او النقد الأدبي.

* د.عمر الخواجـــــا

هناك تعليق واحد:

  1. كل الامنيات بأن تكون الرواية العربية في افضل حالاتها

    ردحذف

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.