الصفحات

قصة الأعوام الخمسة ... * قصة : مصطفى الحاج حسين

...أمن المعقول أن أكون قد تراجعت ؟! ، منذ
سنوات وأنا أتأنّى وأدرس هذه القصة بنت الخمس
سنوات .

منذ ذلك الحين ، كنت في نظر الكثيرين أفضل
قاص في البلد ، وكان الجميع يتوقّع لي مستقبلاً
عظيماً ، وكان يرحّب بي أينما حللت ، ويتهافت
عليّ المهتمّون بالأدب . ويوم منحت الجائزة الأولى

في مسابقة القصة ، قررت أن أعتكف في غرفتي ،

يجبُ عليّ أن أخطط لمستقبل عظيم ، أن أكون

القاص الأوّل في بلدي هذا ليس كلّ شيء .. حلمي

أن أكون أعظم كاتب في العالم .

سأمتنع عن مقابلة الأصدقاء والمعارف ، سأكفّ

عن المشاركة في المهرجانات والنشر، كلّ هذا

مضيعة للوقت ، سأستثمر وقتي .. أغيب عن الأنظار

مدّة ثمّ أفاجئ العالم بعمل عظيم يكون خطوة

باتّجاه العالمية .

سأتوقّف أيضاً عن الكتابة ريثما أطّلع وبعمق

على الآثار الأدبية العظيمة ، عربيّة وعالميّة ، فإذا

كنت - ولم أقرأ بعد أكثر من خمسمائة كتاب - في

مستوى مدهش ، فماذا سيحدث إن قرأت آلاف

الكتب ؟ .. حينها تتضافر الموهبة العظيمة التي

أملكها مع الثقافة العميقة الواسعة ، لتكوّنا الشّيء

الرّائع الذي أحلم به .

من أجل كلّ ماذكرت ، انقطعتُ عن العالم ،

وانكببتُ في غرفتي الصّغيرة على القراءة ليلاً

ونهاراً ، التهمتُ كلّ كتبي ، واندفعتُ إلى المكتبة

الوطنيّة ، والمركز الثّقافي .

وطرق الأصدقاء بابي مرّات عديدة ، لكنّني لم

أفتح ، وحين ملّوا لم يعكّر صفو وحدتي أيّ واحد

منهم .

وزّعتُ وقتي على هذا النّحو : أستيقظ صباحاً

لأذهب إلى وظيفتي ، ولكوني أعمل موظّفاً إدارياً لم

يسند إليه أيّ عمل ، أخذتُ أقرأ الجّرائد والمجلّات

الأدبية هناك ، وحين أعود إلى غرفتي ، أتناول

طعامي وأنا أقرأ ، أجلس إلى طاولتي المهترئة ،

أحتسي الشّاي وأنا غارق في المطالعة لساعات

عديدة متواصلة ، ثمّ أنهض إلى سريري المنهك ..

وأنام ساعتين ، وأعاود الأكل وشرب الشّاي

مع القراءة ، ثمّ أعود إلى النّوم حتّى الصّباح.

كانت فكرة الكتابة تراودني ، فأردع نفسي

وأطوي رغبتي وأقول :

- أنا الآن في مرحلة التّخزين ، وقريباً ستأتي

لحظة الإبداع الرّائعة ، ولذلك لن أستنزف قريحتي ،

سأرتوي من الأدب العظيم لأكتب أعظم منه ، لن

أسمح لفكرة الكتابة أن تسيطر عليَّ ، أنا صائم عن

الكتابة ، وهو صوم ضروري وصحّي ، ولن أضعف

أمام شيطان الإبداع .

رميتُ بالقلم في سلّة المهملات ، وقررتُ ألّا

أدخل إلى غرفتي قلماً .. وفي الوظيفة سأترك القلم

في درج المكتب .

كنتُ أطّلع أحياناً على مايكتبه النّقاد عن قصصي

السّابقة في الجّرائد والمجلّات ، فأضحك في سرّي :

- إنّهم لم ينسوني .. ولكن ماذا سيفعلون حين

سيقرؤن قصصي العظيمة غداً ؟ .

لم أمتنع عن الكتابة فحسب ، بل امتنعت عن

الحبّ أيضاً ، أليس الحبّ مضيعة للوقت ؟.. لم أعد

أمنح ( رهام ) زميلتي في الوظيفة ، أيّ فرصة

للكلام ، حتى لا تعطّلني عن قراءة الصّحف

والمجلات وحين سألتني مستفسرة ، نهرتها ..

وحين أصرّت على توضيح موقفي منها ، أجبتها

بصراحة تامة:

- آنسة( رهام ).. كلّ مافي الأمر أنّني أعتذر عن

تضيعة الوقت معك في ثرثرة لا طائل وراءها .

وكبتُّ كلّ شعور بالتّعاطف معها ، حين رأيت

وجهها يمتقع ويشحب ، وطلائع الدّموع تسيل على

خدّيها .

وبعد أيام انتقلت إلى الغرفة المجاورة ، ولم

تلبث أن أعلنت خطبتها على الأستاذ ( عامر )

شريكها في الغرفة .. ومع أنّ قلبي بكى ، إلّا أنّني

أقنعت نفسي بأنّ مافعلتهُ كان خيراً لي .

كلّ هذا في سبيل الهدف النّبيل ، الذي أقدمُ

عليه .. غداً حين أصبح أكبر كاتب في العالم ، سوف

يتهافت عليّ النّسوة ، حينها سأختار فتاة أوربّية ،

شقراء بعيون خضر وقوام رشيق .

كلّ ما أخشاه الآن سوء التّرجمة ، المترجم السّيء

يقتل أعظم النّصوص ، يجب أن لا أسمح لكلّ من

هبَّ ودبَّ بترجمة أعمالي .

قرأت كلّ شيء صدر من قصّة وروايةفي الأدب

العربي ، إلى جانب الدّراسات النّقديّة ، واطّلعتُ على

أهم المنجزات العالمية في القصّة والرّواية والنّقد .

ولم يبقَ أمامي سوى الكتب التي تصدر حديثاً ،

ولذا سأرجئ التّفكير في الكتابة ريثما أنتهي من

الإطّلاع على ما يصدر هذه الأيام .

تمنيّتُ أن تتوقّف المطابع عن إصدار الكتب

الجّديدة ، حتى أستريح وأكتب قصّة واحدة

على الأقل ، كم ستكون القصّة عظيمة بعد هذا

الإنقطاع الطّويل .

سأرغم جميع نقّاد العالم على الإعتراف بي

كأعظم كاتب ، ويجب أن بتوّج هذا الاعتراف ،

بمنحي جائزة ( نوبل ) في نفس العام .

فكرة القصّة جاهزة في ذهني منذ سنوات ، وأنا

كلّ يوم أؤجّل كتابتها وأقول :

- انتطر .. ريثما تقرأ هذه الرّواية العظيمة ، وكتابتكَ

للقصّة بعد قراءتها أفضل .

هكذا .. في كلّ يوم ، أقنع نفسي بالانتظار ، ريثما

أنتهي من رواية أو مجموعة قصصيّة أو كتاب

نقدي ، لعلّ،قصّتي تكون أرقى بعد قراءة هذه

الأعمال ، وأقرأ من هنا ومن هناك ، في المسرح

والشّعر والملحمة ، فكلّ شيء يفيد .

وفي ذات يوم .. تنبّهتُ على حقيقةٍ أفزعتني ،

فلم تعد الرّغبة في الكتابة تلسع أعماقي ، إنّ

الجّمرة خبت ، بل انطفأت ، أسرعتُ ، واشتريتُ

قلماً ودفتراً ، وقرّرتُ إخراج القصّة التي حبستها

طويلاً من سجنها ، إنّها قصّة الأعوام الخمسة ..

وخلال خمس ساعات فرغت من كتابتها ، شعرتُ

بغبطةٍ لا توصف ، لا شكّ،أنّها قصّة عظيمة وخالدة .

تذكّرتُ أصدقائي ، اشتقتُ إلى جلساتهم الدّافئة ،

بودّي أن أصفعهم بقصّتي هذه ، وعندما اجتمعنا

والتمّ شملنا ، اغتنمتُ الفرّصة وقرأت قصّتي .

وكم كانت خيبتي مريرة ، حين اتّفقوا جميعاً

على أنّ مستوايّ قد تراجع عمّا كتبته، منذ خمس

سنوات .. أردتُ أن أصرخَ في وجوههم المقرفة :

- أنتم جهلة .. قصّتي عظيمة .. إنّها تضاهي أعظم

مافي الأدب العالمي ، لقد كتبتها بعد أن هضمتُ

آلاف الكتب ، فأين ذهبت خبرتي وثقافتي ، أين

ذهب لقبي كأفضل كاتب في بلدي ؟؟!!.

*مصطفى الحاج حسين
حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.