- القدس ليست أورشليم
- فاضل الربيعي يُعيد قراءة جغرافية التوراة من خلال مقاربات لغوية وجغرافية
⏬ مهدي نصير - الأردن
مغامرة شاهقة تلك التي يحاولها فاضل الربيعي في كتابه القدس ليست أورشليم من خلال إعادة توطين جغرافية التوراة في مواقعها اللغوية والجغرافية وذلك من خلال مطابقة أسماء الأماكن وعلاقاتها الجغرافية وكما وردت في كتاب الهمداني وصف جزيرة العرب مع الأماكن والأسماء كما وردت في التوراة وخصوصاً في سِفر المكابيين، ومن خلال إعادة قراءة المعارك التي قادها الملك يهوذة المكابي في السِّفر المُسمَّى باسمه ومطابقتها جغرافياً ولغوياً مع بعض التحليل التاريخي التخميني وإسقاطها على مناطق ووديان وقرى في اليمن وخصوصاً جنوب محافظة تعز اليمنية الحالية.
فاضل الربيعيكذلك يقرأ فاضل الربيعي أسماء العائلات اليهودية في السبي البابلي والتي أُعيدت إلى موطنها الأصلي "أورشليم" بمرسومين إمبراطوريين فارسيين في الأعوام 540 ق.م و 446 ق.م في سِفري عزرا ونحميا ومطابقتها مع أسماء عشائر يمنية وقام بمطابقة وجودها مع جغرافية الوصف الوارد في السِّفرين المشار إليهما والوصف الوارد لهذه العشائر ومساكنها كما وردت في كتاب الهمداني وصف جزيرة العرب.
ويتقدَّم المؤلف أكثر في سِفر نحميا والذي بدأ مشروع إعادة إعمار أورشليم بعد العودة من السَّبي البابلي حيث بدأ بمطابقة الوصف الجغرافي الوارد على لسان نحميا لمواقع أسوار أورشليم بالوصف الجغرافي لمنطقة جنوب تعز اليمنية وكما وردت في كتاب الهمداني وطابق أسماء العشائر المشاركة في الإعمار والمناوئة لنحميا وللإعمار بمطابقات مدهشة وآسرة وساحرة وتقترب بالقاريء من التصديق بفرضية الكتاب.
غلاف كتابالسؤال الذي ألحَّ عليَّ عند الوصول إلى هذه المرحلة في الكتاب والذي يحاول إعادة قراءة التاريخ القديم والعميق للعرب ولغتهم وجغرافيتهم في الجزيرة العربية من خلال أدوات لغوية تعتمد الاستقراء للربط بين الأسماء وطفولة اللغة العربية واللهجات اليمنية العربية القديمة وأدوات اللغة العبرية القديمة والحديثة وتحوُّلات الحروف بين اللهجات السامية القديمة ونحوها وصرفها، كان السؤال: إذا كانت جغرافية سِفر المكابيين قد تم تفسيرها وإعادتها في هذا الكتاب إلى جغرافية اليمن وبأدقِّ تفاصيل الوصف الجغرافي واللغوي والبشري وكما وردت في هذا السِّفر وفي " وصف جزيرة العرب " للهمداني، فأين السَّند الآثاري؟ أين أسوار أورشليم التي قاد عملية إعادة إعمارها نحميا النبي بعد العودة من السَّبي البابلي في عام 446 ق.م؟ وأين بقايا التفاصيل العمرانية الواردة في هذا السِّفر على أرض الواقع في منطقة تعز اليمنية؟ الكتاب لا يتحدَّث عن هذه النقطة الهامة جداً إطلاقاً إلا في موقعٍ واحد سيرد ذكره لاحقاً.
إن الحَكم العلمي الذي سيُسند ويدعم ما ذهب إليه فاضل الربيعي من تحليل لغوي وجغرافي نظري مدهش هو الدليل الآثاري الذي يُعيد التوراة إلى جغرافيتها الفعلية وعدا ذلك يبقى ما يقوله الكتاب في إطار نظرية لغوية لِلُغاتٍ كانت ذات أصلٍ واحدٍ وتتشابه فيها الاشتقاقات والأسماء والكلمات والبُنى، فربَّما كانت بعض هذه الأسماء موجودة في اليمن فعلاً وموجودة في مواقع أخرى من الجزيرة العربية بحكم العلاقات والحروب والهجرات والسَّبي والأسْر وخصوصاً الهجرات اليمنية قي وقت مبكر إلى الشمال " نجد والحجاز والعراق وبلاد الشام ".
السؤال الثاني والذي أجاب عليه الكتاب إجابة سريعة هو: كيف يفسِّر الكتاب التاريخ القريب لولادة السيد المسيح في فلسطين ووقوف اليهود ضده وتأليب الحاكم الروماني عليه، كيف جاء اليهود بهذا الثِّقل السكاني والسياسي في تلك السنوات الأولى من الميلاد والتي هي قريبة جداً من عهد المكابيين حوالي 130 ق.م والتي يستند عليها الكتاب في تحليله لجغرافية التوراة؟ هل يُعقل أن 130 عام فقط من الوجود في فلسطين – حسب تحليل الكتاب لوجود اليهود في مرحلة السيد المسيح وما تلاها من عهود – فترة كافية لتشكيل هذا الثِّقل والنفوذ؟ وأين ثِقل السكان الأصليين قبل هجرة القبائل اليهودية من اليمن كما يشير الكتاب؟
إن تاريخ علاقات الشعوب في تلك المراحل المبكرة من تاريخ الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وعدم تكوُّن الشخصية القومية لكثير من الجماعات ومن بينها العرب وبني إسرائيل والتي كانت قبائل بدوية مترحلة يجعل من الصعب الحكم على دقَّة التحليل اللغوي المشترك، حيث أن كثير من القبائل العربية واليهودية كانت تحمل أسماء عربية متشابهة يصعب تمييزها وتمييز حركتها وهجراتها المتتالية من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب بحثاً عن الحياة أو هرباً من الكوارث والقحط والحروب.. الخ.
بقيت ملاحظتان لا بدَّ من الإشارة إليهما وهما:
الأولى: الفرضية التي بنى عليها فاضل الربيعي كتابه، قام الدكتور كمال الصليبي بطرحها قبل ذلك في كتابه التوراة جاءت من جزيرة العرب الذي اعتمد أيضا أسلوب التحليل اللغوي واشتقاقات اللغة وعلاقات اللغات السامية ببعضها وذلك لتوطين التسميات التوراتية في اليمن وجباله ووديانه، وإن لم يُركِّز كتاب الدكتور الصليبي على تحليل البعد الجغرافي وعلاقاته اللغوية بالعمق والتفاصيل التي أفردها لها فاضل الربيعي في هذا الكتاب.
بالإضافة لذلك فكتاب الدكتور الصليبي يتحدث عن خروج موسى عليه السلام من مصر ويبين –لغوياً أيضاً– أنه خرج إلى اليمن وليس إلى سيناء وفلسطين وفي فترة ترجع إلى عام ُ3000 قبل الميلاد، بينما يتحدث كتاب فاضل الربيعي عن مرحلة أكثر قرباً وهي مرحلة السَّبي البابلي والعودة منه (حوالي 500 ق.م ).
الثانية: تكثر في متن الكتاب عبارات تقديرية وتخمينية وتحليلية مثل "لا يُعقل، وهل من الممكن، وليس هناك دليل آثاري يدل على ذلك" إلى آخره. في المقابل لم يُقدِّم الكتاب أيَّ دليلٍ آثاري للفرضية التي يُقدِّمها سوى ما ورد في كتاب الهمداني من إشارة واحدة لجدار قديم في قرية سلامة في اليمن ويُسمّى جدار أم المقتدر وهو جدار عباسي لا يمكن البناء على أنه من آثار المكابيين وقبورهم.
ومثل هذا الاستدلال غير الموثوق والتخميني كرَّره المؤلف في قراءته لما ورد في كتاب الهمداني ما نصه: "وأما سائر أجزاء هذا الربع الذي يلي وسط جميع الأرض المسكونة وما يقع فيها مثل أرض سورية وأرض فلسطين وبلاد اليهودية العتيقة من إيلياء... الخ".
يبني المؤلف على هذا النص استدلالاً قسرياً ويُحمِّل النص أكثر مما يحتمل، فمن المعروف في اللغة العربية أن تذكر الكل (سورية) في النص المشار إليه وتذكر بعض أجزاءه للتمييز (فلسطين كجزء من سورية) و(بلاد اليهودية كجزء من فلسطين)، والبناء على هذا التحليل ضعيف ولا يوثق بقدرته على الصمود أمام النقد والتحليل الجاد وخصوصاً في قضية بأهمية القضية التي يطرحها الكتاب.
وأخيراً يجب الاعتراف بالقدرة التحليلية الفذَّة للمؤلف فقد جاء الكتاب متماسكاً في تحليله للغة والجغرافيا والأسماء وربطها بالتاريخ تحليلياً من خلال قراءة حركة العلاقة بين الرومان والفرس ومعاركهم للسيطرة على ساحل البحر الأحمر كطريق تجاري هام وقراءة علاقات اللغات وتاريخ تطورها وكيف انعكست على تحوير وتحوُّل أسماء الأماكن والقبائل والملوك، والفرضية التي يقدمها الكتاب فرضية ممكنة تاريخياً وحدسياً ولكنها حتى تصبح حقيقة تاريخية وقابلة لأن أن تكون أساساً لإعادة قراءة تاريخ المنطقة العربية برمَّتها وتخليص وتصحيح تاريخ فلسطين المحتلة من أعتى قراصنة التاريخ، لا بُدَّ لذلك من تأكيد التحليل اللغوي التخميني بكشوفات آثارية في المنطقة المشار إليها كمسرح لجغرافية التوراة في جنوب الجزيرة العربية وفي جبال وأودية اليمن.
فاضل الربيعي في كتابه هذا يفتح الباب واسعاً أمام الآثاريين والمؤرخين للتحقق من جغرافية التوراة وإعادة توطينها في مواطنها ومواقعها الحقيقية وتصحيح كثير من المغالطات في تاريخ فلسطين القديم.
*مهدي نصير
الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.