الصفحات

مـــقـــعـــد خلـــــفي ــ قصة قصيرة ...*عادل المعموري


رميتُ سيجارتي المتقدة فوق الرصيف..متجها صوب سيارتي المركونة في أقصى المرآب..بيني وبين نفسي حوار لا ينقطع .. عيناي الناعستان ترصدان سيارتي الغافية لصق الجدار ..دكَّاني أغلقتهُ قبل قليل، ، ثمة سيارات قليلة مركونة بلا نظام ،أمسكتُ مفاتيح
السيارة بين أصابعي مقتربا من فتحة الباب القريب، جلُّ تركيزي على بصيص الضوء الذي يرشدني إلى وضع رأس المفتاح في ثقب قفل الباب ،
أدرتُ المفتاح.. لم يستجب ..أعدتُ المحاولة ثانية ..انحشر المفتاح ولم يدر ..جلب انتباهي شئ ما في المقعد الخلفي، ظلٌ لرجل بكامل هيئته يجلس في المقعد الخلفي ،يجلس كالدمية بلا حراك ..وقفت أنظر إليه ،عيناي لا تطرفان محاولاً التعرَّف على ملامح سحنته ..تركتُ المفتاح في قفل باب السيارة واقتربتُ من الباب الخلفي كي أتمكن من رؤيته بوضوح ..اقتربتُ مسندا كفي على وجه الزجاجة ..لم يتحرك قيد أنمُلة ولم يكلّفّ نفسه النظر إلي ،طرقتُ بقبضتي على الزجاج محاولاً جلب انتباهه..ظل ثابتا. عيناه جامدتان تنظران إلى الأمام ، رجلُ ميتٌ في سيارتي ؟!أسرعتُ بخلع المفتاح عن الباب
بصعوبة .لا يوجد أي شخص البتة في المقعد الخلفي ..وقفتُ هنيهة تلفني الحيرة والاستغراب ،أنا رأيته بعيني يجلس مرتديا بذلة سوداء وقميص أبيض وربطة عنق حمراء قاتمة ، رجل أربعيني لم أره من قبل ، فتحتُ الباب ثانية وأدرتُ محرك السيارة، عيناي تلتصقان بالمرآة القابعة فوق رأسي ،خرجتُ من المرآب..لمحني الحارس دون أن ينهض من مكانه ...كان جالسا على أريكته المهترئة وبيده كوب الشاي كعادته ..قطعتُ مسافة ليست بالقليلة ،الشارع فارغ والأضواء الخافتة ترقد فوق ذؤابات أعمدة الإنارة المنتشرة على طول الشارع ، يبسَ ريقي ، شعرتُ بعطش شديد
،فتحتُ علبة ماء معدنية ، رشفتُ منها رشفتين ، رفعتُ رأسي ، رأيتهُ أمامي ..يقف وسط الشارع ، قامة طويلة مهيبة ، الأضواء الأمامية لسيارتي، كشفت لي عن وجهه بوضوح ، ملامحه قاسية. عيناه ثابتتان تنظران إليَّ بجمود وشبح ابتسامة على شفتيه .. أبطأتُ من سرعة السيارة ، لمحته يتجه نحوي ببطء ،لم يمل نحو أية جهة ..تفاديا للاصطدام ..بل كان يتقدم بخطوات ثابتة لا يبدو عليه أنه يخشى شيئاً ،اشتعلَ الدم في عروقي وقررتُ ُ أن أصدمه بمقدمة السيارة إذا لم ينسحب من أمامي ..ما أن اقتربّ حتى سمعتُ صوت اصطدام جسمه ، شاهدته يطيرُ في الهواء ويهبط دفعة واحدة إلى الأرض،
ضغطتُ بقدمي على دواسة الوقود بكل قوة وانطلقتُ بها، سمعتُ طقطقة عظامه تحت قوة عجلات السيارة ، اعترتني رجفة شديدة حتى ظننتُ أني لن أستطع مسك المقود بأصابعي المرتجفة.. استدرت إلى الخلف أنظرُ عبر الزجاجة الخلفية ..وجدتهُ ممدداً بلا أدنى حركة..الدم يسحُ منه فوق الإسفلت.
تنفستُ بارتياح ومسحتُ وجهي المتعرّق الشاحب ..ثمة سيارة قادمة مرقت مسرعة دون أن تلحظ شيئا ،
قبل وصولي إلى مشارف المدينة التي أقطنها ..نظرتُ إلى ساعة معصمي ..كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحا .. من المتوقع أ ن زوجتي لن تنتظرني .. قد أجدها تغط في نوم عميق، سأدخل إلى البيت خلسة ولن أجعلها تشعر بدخولي ..حتما ستعيدُ عليّ الموّال ذاته ككل مرة عند تأخري عن العودة في مثل هذه الظروف العصيبة ،كانت تقول لي:
_يا رجل لا أمان في هذا البلد ..أحفظ نفسك من شرور السفلة والمجرمين ..الأن استطعت أن أطمئن لوصولي مشارف مدينتي الصغيرة.. ما أن خففتُ من سرعة السيارة كي أستدير في شارعنا الفرعي، سمعتُ همساً أشبه بفحيح الأفاعي ..يتسلل إليّ من المقعد الخلفي، الخوف غرز أصابعه في قلبي من جديد..شارعنا كان مطفأ تماما ، تمطّى الرعب في جسدي وظلّل عيني كي لا ترى شيئا في المرآة .. يا لتلك اللحظة التي لا أتوقعها أبداً ..التفتُ مفزوعاً إلى الوراء ..صوب المقعد... رأيتهُ يجلس خلفي مباشرةً وعلى شفتيه شبح ابتسامة ساخرة !

*عادل المعموري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.من مجموعتي القصصية (الركض في فراغ )2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.