⏪ تحكي الرواية عن رحلة ألم ومعاناة عاشها عزيز ورفاقه في ظلمات تحت الأرض تساوى فيها نور الصباح وظلمة الليل. رحلة مؤلمة ليس للإنسانية فيها مكان، فالحياة فيها فقدت أبسط معانيها، والموت أصبح حلما وغاية. رحلة داخل زنزانة تشبه علبة مستطيلة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران وعلوها أربعة أمتار. رحلة تعالت فيها الآهات والصيحات والصلوات طيلة ثمانية عشر عاماً، بدأها ثلاثة وعشرون سجيناً وانتهت بأربع مخلوقات تمشي على أربع من هول ما عاشت ورأت.
استطاع الطاهر بن جلون ببراعة على لسان عزيز - أحد الناجيين الأربع من سجن تزمامارت - أن يجعلنا نستشعر معاناة ثلاثة وعشرين سجيناً حُكم عليهم دون محاكمة أن يُرحلوا إلى معتقل تزمامارت ليتحولوا بعدها إلى أرقام، ولتصبح أبسط الأمور التي لا نلقي لها بالاً بالنسبة لهم أحلاماً صعبة المنال؛ فوجبة ساخنة وفراش ناعم وماء نظيف وهواء نقي أشياء لا وجود لها في معتقل تزمامارت.سرد لنا عزيز معاناته هو ورفاقه في معتقل تزمامارت، بعدما أُلقي القبض عليهم عقب محاولة انقلاب الصخيرات الفاشلة في المغرب عام 1971 بتهمة التخطيط لاغتيال الملك الحسن الثاني - ملك المغرب آنذاك- في عيد ميلاده الثاني والأربعين. محاولة انقلاب تزعمها بعض الجنرالات العسكريين المغاربة وبالأخص، الكولونيل أمحمد أعبابو قائد مدرسة أهرمومو العسكرية والجنرال محمد المدبوح. عزيز ورفاقه الضباط الذين شاركوا في هذه المحاولة لم يكونوا يعلمون أن أعبابو كان يقودهم لعملية انقلاب، فجل ما أخبرهم به هو أنهم ذاهبون للقيام بمناورة؛ فلم يكونوا سوى أحجار شطرنج بأيدي رؤسائهم لينتهي بهم الحال في معتقل تزمامارت.
عزيز ابن الأب المتهور الذي عاش مهرجاً للملك، والأم المكافحة التي قضت ريعان شبابها في تربية أولادها متناسية غياب الأب الأناني الذي باع أسرته بالرخيص واشترى هواه.
أما عزيز الذي حاول أن يهرب من واقعه إلى خيالات وأحلام يتناسى معها آلامه التي تمكنت من كل جزء في جسده، لكنها لم تمنعه من سرد الروايات والقصص إلى رفاقه ليشد من أزرهم ويخفف عنهم ظلمات السجن وظلم السّجّان. بعيداً عن جدران زنزاته حلقت روح عزيز مراراً تاركةً جسده خلفها في المعتقل لتطوف هي حول الكعبة المشرفة وتشحنه إيماناً، لتعود بعدها إلى جسده ليستطيع أن يكمل معاناته وسط رفاقه الذين لا يشبه أحدهم الآخر، فقد تشابهت زنزاناتهم لكن لم تتشابه نهاياتهم.
الموت لم يكن يفارق تازمامات فرائحته الكريهة تفوح بالأرجاء يصاحبها صياح طير الخبل. الموت في تازمامارت بطيء وأشكاله أكثر إيلاماً يصعب عليك تنبؤها أو حتى تخيلها؛ عقارب وبيوض صراصير وإمساك وغرغرينا وإسهال، هذه وغيرها كانت أسباباَ حملت معها نهايات أصحابها، لِتختفي جثثهم بعد ذلك تحت الكلس الحارق كأنهم لم يكونوا يوماً وتنتهي معاناتهم.
ورقة وقلم كانت كفيلة أن توصل أصوات المعتقلين إلى الخارج لتصبح بعدها قضيتهم قضية رأي عام انتهت بمحو تازمامارت (معتقل الموت) من الخريطة بعدما بقيت السلطات الرسمية تنكر وجوده إلى حين إغلاقه عام 1991، والإفراج عن الناجيين الأربع بعد سنوات عذاب طالت لتبقى صدى تلاوات واستغاثات عزيز ورفاقه شاهدة على ما حدث وباقية إلى أن يشاء الله.
*مي عبدالقادر
الطاهر بن جلون
تلك العتمة الباهرة
أدب السجون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.