الصفحات

أنا.. وصديقي بـــاش - قصة قصيرة ...*صفوان محمود حنوف

  آااااخ ........
فأسند ظهري إلى جذع كرزةٍ و أنظر إلى آخر المدى .

أقلّب أحلامي فلا أعثر على واحدٍ يرفرف بأجنحة من ضياء يملأ النفس نوراً ليطرب الفؤاد .
هكذا أمنياتي ..تتحوّل كلّها إلى هباءٍ تذروه الرّياح .
من بين برقٍ و رعدٍ تومض غيمة في مساء يجيء من طين حزين، تثقبه حبّات مطر تنهمر خفيفة من خلف ستائر السماء فتثير غباراً تفوح منه رائحة الأرض.

أودّع الأشجار في ثوبها الأخضر ، تلوّح لي شاكرةً كلّ قطرة من عرق الجبين سقيتها بها منذ زرعتها .

أجرّ جسداً ضعيفاً في طريقي إلى غرفتي الصغيرة قرب باب المزرعة ، ملأته القروح و استحكمت بهيكله الهزيل العلل ، لا أرى غير قدميّ الثقيلتين .

أتفقده في بيته الخشبي الصغير و لا أجده . لقد أحضرت له هذه المرّة وجبة دسمة أرسلتها له السيدة ، لا تزال بقايا لحم يشتاق إليه منذ مدّة عالقة عليها .

أرمي ما بيدي أمام بيته و أنادي :

- باش .. يا باش . .

أدخل غرفتي ، أغسل صحن عشاء الأمس لآكل فيه . ثمّ أسمع حركته ، فأخرج إليه ضاحكاً لأنني أعرف من أي مكان جاء .

كان قاعياً أمام بيته الذي تلفعه فيه شمس الصيف و يقرصه برد الشتاء ، يشمّ العظمة فيخيّل إليّ أنه سيخبئها إلى يوم أسود، و ما أكثر أيامنا السود معاً، لكنه يركلها غير عابئ بها.

إنه ليس جائعاً بالتأكيد ، فعدا عن جسدها .. فإن صديقته في المزرعة المجاورة تقدّم له كل ما تسرقه أو تصطاده.

أقرفص أمامه ، أمسح فوق رأسه و أمازحه :

- تبدو مسروراً يا باش ، يجب أن تجلد مائة جلدة .

يهرّ فيّ كأنه يضحك ، ثم يهز رأسه محولاً هريره إلى همهمة أفهم معناها . فهو مثلي ... لا يزال يهوي على ضفاف أحلام وصلت إلى مرافئ جريحة .

في هذه الأثناء كان ابنه الصغير في غرفة السيدة بعد أن خرج زوجها إلى سهراته الماجنة . إنه أحسن حالاً منه ، فهي تدلّله منذ طفولته و تحرص عليه ، تمشّطه و تغسله بالماء و الصابون ، و تطعمه لحماّ حقيقياً لقاء ما يقوم به من مهمّات خاصة درّبته على القيام بها .

هكذا كان الجدّ حتّى كبر فرمته السيدة في البيت الخشبي الصغير إلى أن قتله السيد حين لم يعد قادراً على القفز من سطح بنايةٍ إلى سطح بنايةٍ مجاورة.

كان باش يحفر باحثاً عن شيءٍ لا يجده ، وكان ينظر في الوقت نفسه إلى المزرعة المجاورة التي يسمع منها بين الحين والآخر نداءً لا أسمعه ، لكنه يجعلني أعرف ما يجول في خاطره ، فأقول له :

- إيّاك يا باش . إن من تعرفه أحسن ممن تتعرّف إليه . إذا ذهبت سيقول عنك السيد ما قاله عني يوماً، سيتّهمك بالخيانة .

يهرّ فيّ ثانيةً بطريقة مختلفة ، فأقول :

- معك حق . الجوع طريقٌ للرحيل .

يتحول هريره إلى نوعٍ من الزّمجرة ، أربت على رأسه و أدغدغ رقبته قائلاً :

- أعرف ... أعرف يا صديقي . لقد خدمتَه و كنتَ له مخلصاَ وفياَ ، وفي رفقته كنتَ عيناَ متربّصة ، ولم تتمسّح بجوخه يوماً .

ثمّ أردفُ قائلاً :

أما أنا... فتعرفُ أني كنتُ شريكاً له في أحزانه ومغتبطاً في أفراحه. ألا تذكر؟ وفي النهاية كما ترى .." العشا خبّيزة " ، أو بقايا من مائدته التي أترك لك ما فيها من عظامٍ إذا وُجد .

وأتابع قائلا :

- أقول لك سرّاً لا تعرفه ياباش ؟.. حين استولى على المزرعة كُنت على موعدٍ بأن نكون شركاء فيها ، حتى لو كان هو السيّد وأنا مجرّد عامل.

لقد قتلتُ نفسي منذ ثلاثين سنةً يا باش حين حوّلني إ لى مجرّد أجير لا يعرف ماذا عليه أن يفعل. لم أكن أطمح إلى شيء ، ولم تكن لديّ أحلام . لكن .. أكثر من مجرّد خادمٍ على كلّ حال .

يكاد باش يبكي لحالنا معاً ، فأخفّف عنه :

- اصبر ياباش . قدرُك أن تُسرع خلف قمامةٍ أنقلها من البيت آخر النهار لأرميها خارج المزرعة ، تحشر أنفك فيها باحثاً عن عُظيماتٍ أو عن علبةٍ من التَّنَك لا تزال رائحة لحمٍ تفوح منها . ولهذا تضطرّ للقيام بأعمالٍ إضافيةٍ، كأن تسرق عصفوراً رماه صيّاد أو تكمن لجرذٍ في مكانٍ ما .

يرنو إليّ بعينيه المستديرتين خلال فترة صمتٍ سادت بيننا ، يسحرني بريقهما الذي لا يخلو من بأسٍ ومراوغة . كان كأنّه يسألني عما أفكّر فيه هذه الأثناء.

- ليتك تفهمني يا باش. إنني أتسائل فعلاً : أيّنا هو الآخر ؟.

ثمّ يهدّني التعبُ ويخزُني النُّعاس ، فأنبّهه:

- كن يقظاً يا باش .. مزرعتنا صارت محفوفةً بالأفاعي والخناجر.

أدخل غرفتي معتمداً على مابقي لديه من الشّجاعة والذّكاء ، إذ لا تمرّ عليه حيل اللصوص السّود ، لكنّني خائفٌ عليه ، فهو لم يعد قادراً أيضاً على الهجوم وحده .

أخلع جزمتي ، أرمي جسدي المنهك فوق طرّاحةٍ مددتها على لوحٍ خشبيّ منذ ثلاثين سنةً أو ما يزيد .

وسط صرصرةٍ تنبعث من هنا ونقيقٍ يأتي من هناك.. أنام . أظنّني لم أغفُ تماماً ، فلقد كنتُ أسمع من وقتٍ لآخر عواء ذئبٍ بعيد.

يباغتني السيد بعد جهجهة الضّوء . أنهض واقفاً من أوّل ركلةٍ من رجله وهو يصرخ قاذفاً إيّاي بأقذع الشتائم المصحوبة برائحة خمرٍ نافذةٍ تفوح منه.

- إنهض أيّها العجوز المترهّل ..لا يكفيك نوم النّهار . بابُ الحظيرة مفتوحٌ وأنت تشخر .

ألبس حذائي - أو ما يمكن أن أسمّيه حذاءً - كيفما كان . أخرج مسرعاً باتّجاه الحظيرة تسبقني أقسى كلماته التي يذكّرني في بعضها بأنّ لحم كتفيّ الهزيلتين من خيره ، ويشير في بعضها الآخر إلى أنّ نهايتي في هذه المزرعة قد اقتربت بطريقةٍ أو بأخرى ، إذ قال لي أكثر من مرّة :

- ابحث لك عن مكانٍ يطعمك ويؤويك .

كان باب الحظيرة مفتوحاً فعلاً ، ربما نسيتُ أن أتفقّده بسبب التعب و النعاس ، أو بسبب أشياء أخرى. أما الحظيرةُ فقد كانت قائمةً وقاعدة . أجول بعينيّ بحثاً عن باش ولا أجده, بل أرى في الأرض بقعاً من دمٍ متخثّر .

أغلق الباب و أخرج متلفّعاً بتقريع السيّد الذي يتبعني مترنّحاً . ثمّ يلتقط السيّد حجراً ويقذف به جسداً يصرخ من عمق أعماقه إذ يصطدم الحجر به . إنه صوت باش . أركض متتبعاً استغاثاتٍ يطلقها آهاتٍ مجروحة .

بين العشب كان جسده متوحّلاً، وكان وجهه ملطّخاً بالدّماء , وكذلك كانت مخالبه ، وإلى جانبه يرقد ذئبٌ ضخمٌ لفظ أنفاسه .

أساعده على النّهوض، أبحث عن السيّد ليكافئ البطل الذي ظنّه السيّدُ نائماً . لعلّ السيّد قد دخل غرفته إذ أرى الكلب الصّغير يخرج منها بعد أن أمضى فيها ليلةً لزجة .

- أصيل يا باش .

أقرفص أمامه وأضمّه . أخلع قميصي الدّاخليّ الوسخ وأضمّد جراحه . تتحرّك عواطف أحدنا نحو الآخر ، وتتمايل تأثّراته مجسّمةً نظراته كلاماً متعارفاً بين البشر ، وأنظر إليه لأجد في عينيه الذّليلتين دمعةً حرّى .

لا تنظر إليّ هكذا يا باش .

يزمجر غاضباً ، فأحاول تهدئته :

يكفيك أنك لا تلعق اليدين اللتين تضغطان حول عنقك .

ينظر إلى المزرعة المجاورة ليرى صديقته اللطيفة إلى جانب سيّدها وهو يمسك بفرخٍ من السّمك يلوّح له به .

- تماسك يا باش . لا يغريك أنّ ذلك السيّد كان يرمي لزميلك قبل أن يُقتل في ظروفٍ غامضةٍ رأس دجاجةٍ كاملاً ، أو قطعةً من لحمٍ يكاد أن يفسد. إيّاك يا باش.. " زيوان بلدك ولا قمح الغريب".

يشيح بوجهه عن السّمكة أكثر من مرّة ، يتردّد، ينظر إلى الأرض التي يقف عليها تارةً ، و أحياناً إلى السّمكة .

ثمّ يجهش ببكاءٍ مرٍّ وهو ينظر إلى الأرض للمرّة الأخيرة . أرجوه وهو يهرول باتجاه السّمكة :

- لا تتركني يا باش !..

ثمّ أصرخ و أنا أزرّر حذائي ناظراً إلى الأشجار:

- اصبر يا بااااش ...." زيوان بلدك ولا قمح الغريب يا باااااااااش" .

لكن الجوع كان أكبر من كلماتي .

*صفوان محمود حنوف
---------------
من مجموعتي القصصية: البيدق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.