الصفحات

لعبة الكتابة في قصص «كمستير» للأردني جعفر العقيلي


لعبة الكتابة في قصص «كمستير» للأردني جعفر العقيلي
«كمستير»، هي المجموعة القصصية الرابعة للقاص الأردني جعفر العقيلي، صدرت عن «الآن ناشرون وموزعون» في عمّان (ط2 ـ 2017)، وتتضمن إحدى عشرة قصة قصيرة توزعت على 146 صفحة، وتزين غلافها لوحة للفنان التشكيلي الأمريكي (JANE
DAVIES)، إضافة إلى ملحق يتضمن آراء عدد من الكتّاب والنقاد العرب في سرد العقيلي وتجربته القصصية.
تتحرك المجموعة فضائياً في مقاهي المدينة وشوارعها وأرصفتها ومكاتبها ومؤسساتها خاصة، أما موضوعاتياً، فتلتقط عين القاص بعض قضايا هموم الإنسان، سواء كانت وجودية أو اجتماعية أو سياسية أو كتابية، تساوقاً مع هذا الانهيار لمنظومة القيم المتعارف عليها، باستخدام مجموعة من التقنيات التي من شأنها تحقيق الإدهاش، ومن ثمة تصيّد القارئ للدخول إلى عوالم قصص «كمستير» التي تتقن لعبة الكتابة.
جعفر العقيلي، إذن، هو قاصّ بارع ومتنوع، وأحد الذين يساهمون في تأثيث المشهد القصصي الأردني، منذ إصداره مجموعته القصصية الأولى التي وسمها بـ«ضيوف ثقال الظل» (دار أزمنة ـ عمّان ـ 2002).
إن المقبل على الدخول إلى قصص «كمستير»، يثير انتباهه عنوانها، الذي يعني «لعبة شعبية يمارسها الأطفال، يغمض فيها أحدهم عينيه بينما يختبئ البقية في محيطه، ثم يفتح عينيه ويبدأ البحث عنهم، فإذا ما عرف موقعَ أحدهم، لمسه بكفه وهو يقول: (كُمُستير). ثم يكون على الطفل (المقبوض عليه) إغماض عينيه لتبدأ اللعبة من جديد».
وعليه، يكون العنوان قد أفشى بسر القصص، فعند البحث عن جذور «كُمُسْتير» في ثقافتنا، نجد أنها لعبة تقوم على الظهور والاختفاء، والتلفظ بصوت مرتفع بـ«كُمُستير» في إشارة للإمساك بالمختفي. ما يعني برمجة القارئ للتورط في متخيل اللعب، وفتح شهيته لاستقبال قصص تمارس اللعب، خاصة أن الكتابة، في النهاية، لعبٌ في النص، ولعبة بين الكاتب والقارئ. واللعبة كما هو متداول ومعروف، تتحرك باتجاه الشيء الذي نلعب به، وقد يكون هذا الشيء مادياً أو كلمات، أو أحلاماً، ويعضد هذا اللعب قصة «كمستير» نفسها، حيث نتعرف على الشخصية المحورية التي تمارس لعبة البحث عن رأسها الغابر، بل يمكن اختزال ميزات المجموعة وخصائصها، منذ القصة الأولى «تصفية حساب»، وانتهاء بالقصة الأخيرة المعنونة بـ»لقاء وحيد» في صفة ناظمة هي «اللعب»، لكنه لعب جادّ ومُعَقْلَن ويعي أهدافه ومقاصده. فما تجليات لعبة الكتابة السردية في «كمستير»؟ وما الآليات التي تستند إليها لتشكيل المتخيل القصصي؟
تعد قصة «تصفية حساب» أوضح مثال عن لعبة الكتابة التي تتخذ من لعبة «الميتا قصّة» أفقاً لتشكيل السرد القصصي، حيث حديث القصة عن نفسها، وعن ظروف ومعاناة إنتاجها، والمتلقي في هذه الحالة يقرأ القصة في الوقت نفسه، ويقرأ قصةَ كتابتها، ما يعني أنه لن يكون أمام أحداث واقعية، بل أحداث نصية.
تتحدث القصة عن كاتبٍ يلتقي ببطل روايته، وتسرد وقائع اللقاء وتفاصيله، منذ دخول بطل القصة ومواجهته له: «لا بد من مجيئي، ولو في ساعة متأخرة، لم أعد أحتمل، بيننا حساب، فلْنُصَفِّه الآن، وهنا»، إلى أن يلملم الكاتب أوراقَه وكلماته ليبدأ فعل الكتابة من جديد، بعد خروج البطل. يقول السارد: «نهض بتمهُّلِ مَن لا يستعجل شيئاً، أخرج من معطفه ورقتين، ألقاهما نحوي فاستقرّتا على الطاولة، اجتاز الباب الذي كان ما يزال مفتوحاً».
نخلص إلى أن تقنية الميتا قصّة في «تصفية خشاب» ليست مجرّد نوع من اللعب السردي الذي يرضي غرور المبدع، وسعيه لاختراق الحدود، ولكنها أيضاً ليست تعبيراً عن رغبة حقيقية من الكاتب إلى توجيه المتلقي إلى عملية الكتابة وأسرار صنعتها. وفي قصة «كمستير»، تستند لعبة الكتابة إلى الفانتازيا، فالقاص يعود بنا إلى الأدب الغرائبي والابتعاد عن العقل والمنطق والاقتراب من تخوم اللامعقول، ففي هذه القصة نقرأ ما يشبه لعبة الخفاء والتجلّي بين الشخصية المركزية ورأسها المفقود. نأخذ هذا المقطع التصويري للاستدلال على هذا النوع من اللعب السردي الذي يستند إلى تداخل الواقعي بالمتخيل والافتراضي؛ يقول السارد: «المهم أنني الآن في مواجهة رأسي، بدت فكرة فانتازية كلما أمعنتُ فيها قادتني إلى ضفاف الجنون، رأسي معروضة للبيع في حانوت قديم، رأسي التي أستطيع تمييزها من بين ملايين الرؤوس، تنتظر من يشتريها، يا لها من (مسخرة)».
وفي سياق تقوية هذا المسار اللعبي في المجموعة، يستثمر القاص في قصة «خيبة أخرى» تقنية الحلم المغشوش، الذي يشي بتعلّق الأردنيين بالانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، وهو ما فتح الباب أمام القارئ لمعايشة مكر الحياة وخداعها. يقول السارد: «فالقانون كما يردد والده (لا يحمي المغفلين)، فمن الذي أجبره على بيع محل (الستلايت) الذي يحقق له دخلا منتظماً، ليسلّم رأسه للمحتالين، منفقاً ماله على تجارة يجهلها، فما جنى منها سوى (خراب الديار)؟». وبذلك، يُشركنا القاصّ في معايشة وقائع بطل القصة الذي كان ضحية المكر والاحتيال الخادع، وهو الأمر الذي يجعل المتلقي يتعاطف مع الشخصية المحورية الفاشلة نتيجة اللعب الماكر بخداع أحلامه. وتعميقاً لهذا النزوع اللعبي، يعمد القاص إلى انتهاك قدسية اللغة وانسجامها مع تقنية التدمير واللعب في ممارسته النصية، عبر تكسير التركيب اللغوي بمعطيات لسانية أجنبية، وهذا من شأنه نقض صفاء اللغة. ومن نماذج هذا النمط اللساني نقرأ: «أعرف أن الموت حق، فقررت البحث في GOOGLE عن حياة الشَّعر، وما وجدتُ سوى أن الإنسان يفقد مئة شعرة يومياً بدون أن يحس».
يقدم هذا النموذج نمطاً انزياحياً من طبيعة لسانية، ويتمثل في استثمار متوالية من لسان غير خاضع للنظام اللساني الذي كُتبت وفقه النصوص، بغرض خلق تعدد وفسيفساء لسانية داخل نسيجها، كما يبرز الانزياح اللساني في المنافرة اللغوية التي تسم التراكيبَ، إذ حدثت انكسارات في التوقع الأسلوبي داخل السياق، كما انتهكت قواعد اللغة ونحوها.
الخرق واللعب نفسه نصادفه في قصة «وقت مستقطَع»، يقول السارد: «عاود الاصطفاف على يمين الشارع العريض الذي يصل غربَ المدينة بشرقها، وتسنّى للسيارات القليلة التي مرت بالـ KIA الكُحْليّة، أن تلحظ سائقاً تنم هيئته عن حالٍ مزرية».
وضمن هذا السياق اللعبي، تتخلى بعض النصوص القصصية عن تجانس النص من خلال توزيعه إلى مقاطع مرقَّمة كما في قصص «مسافة كافية» و«دوار ـ مقاطع من (تكتكة)» و«لقاء وحيد». والمثير للانتباه في هذه النماذج، هو اشتراكها في اللعب، وإنْ بصيغ متفاوتة، إذ عمد القاص إلى تدمير الربط بين المقاطع، وهذا التقطيع لا ينفي العلاقة القصصية بين المقاطع، أو الوحدة العضوية والباطنية للنص، أو التجانس في مكونات التجربة النفسية للقاص. كما يعمد القاص وفي أفق تصعيد «تقنية اللعب»، إلى تشظية نصَّيْه القصصيين «كمستير» و»تعايش»، إلى مقاطع تفصل بين الواحد والآخر منها نُجَيمات ثلاث، وهذا من شأنه تنشيط فعل القراءة والخروج بالتلقي من رتابته المتداولة.
وصفوة القول، إن قصص «كمستير» تجربة قصصية تحاكي الحياة في تفاصيلها وإيقاعاتها، كما تتميز بأناقة لغتها البسيطة والعميقة كأفلام شارلي شابلن، وانحيازها لمكابدات الناس وهمومهم، وكذا حيويتها من خلال اللعب والشغب الجميل الذي من شأنه توريط القارئ إيجابياً في لذة هذه اللعبة القصصية.

*عبدالله المتقي
 كاتب مغربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.