الصفحات

نهيق الحمار | قصة فصيرة ...* بقلم : محمود كامل الكومى


   نهيق الحمار غطى المكان ,وأزعج السكان , وبدا أنه يَستَجير وعلى غير المعتاد , فيما تكدس البشر فى غرف لاتطاق , وكما علب السردين فى حى أختنق وحر زاد الأختناق على الصغار والكبار ,فأنتج الأشرار المبرتعين خارج كل دار وكما سلف فالغرف
عشش تأوى الطيور والحشرات الزاحفة والطائرة والحيوانات من الهِرر والكلاب وبقايا أدميين .
وسيلة للنقل والمواصلات ,كانت الخيل والحمير, تبيت فى عربخانات, تملأ الحى الذى جاور (المستوقد )هذا الذى يحوى أطنان الزبالة ونفايات المدينة من كل فج وصوب عميق ,يبعث الروائح الكريهة نهار فيزكم الأنوف ويعطر الحى بشذوذ أنبعاث تفاعل القاذورات وروث الحيوانات وبقايا الذبائح فتهل الجراثيم والعناكب تحيل الأنسان الحى الى ميت راكب , فيوارى الثرى فى المقابر – وليلا يواصل المستوقد مهامه فَتُستقاد الزبالة والنفاية والأوراق وتشتعل النار وينبعث السناج أسراب أسراب على سكان الحى فَيُنامون مع الأختناق من قدر له أن يغشاه النوم فقد نام ولن يفتح جفنيه اِلا فى القيامة ومن أصبحه النهار فقد ثار واستفاد من النار التى تستغل فى أن تُوضع عليها (قِدرُ) الفول من المساء الى الصباح لتسوى على نار هادئ فيصبح الفول كمايسميه بائعه (بالعجمية ), ومن هنا استفاد ابناء الحى العربجية- الفائزين بغدو النهار - بنقل قِدر الفول من محلاتها الى المستوقد ليلا , ثم عودة نقلها فجرأً الى محلات بيعها على عرباتهم "الكارو"الخشبية التى يجرها الخيل او الحمير .
الآن وقد أستودع المستوقد الدنيا , وأَرَاحَ ساكنى الحى من أسراب السناج بعد أن عششت فى الصدور ومازالت أثارها تُسكِن شيوخ الحى القبور ,وملأت محلات الفول أنانبيب الغاز ومواسيره الآن, لتسوية مافى القدور, وماعاد العربجية يحققون أستفادة من نقلها التى انعدمت من المرور , وحتى فى نقل البضاعة المعتادة ممابدا للحمير والخيول ولا عربات الكارو استفاده ولا طاعة ولا قدرة مستطاعه , فالنقل بالتروسيكل والتُكتك صار فى الرياده , واِستُعمِل الوقود فى تحريك الموتوربزياده , فباع العربجية الحصان والفرس والحمار وصارت العربات الكارو الخشبيه على سطح الدار تحميه وتقيه من زمهرير الشتاء وقيظ الشمس, ورُقِىَ العربجية قائدى ترسيكلات وتكاتك تتحرك بالسولار .
خلت أزقة الحى من العربخانات وهدمت وبيعت أنقاض وبنى مكانها بيوت أرتفعت طبقات وأدوار – ولم يبق فى الحى سوى اثنتين من العربخانات , أحداهما بعد أن صارت فضاء , يبيت فيها صاحبها عم (مصباح ), ولم يجد انيسه من البغال والحمير والفرس والحصان , فَجن جنونه , وصار ليلا نديم الأقداح - كيزان من الألومنيوم وأحداها من زمن العز صنع من النحاس - وفى أغلب الأحيان يكرع " البوظة"وهى ماء شعير متخمر ومضاف اليه بعض من الكحول , من برميل صغير ليظل يلف ويدور داخل العربخانة يناجى حيطانها وبراحها ويتغنى بأيام العز حين كانت مصنعا للسماد الطبيعى من روث وبراز الأحصنة والحمير يجمع ويباع للفلاحين كسماد رائع لتخصيب الأرض الزراعية , ويزيد ما يربحة من ايجار عن مبيت الحيوانات, ويظل عم (مصباح) يكرع من البوظه ويترحم على زمان وايام زمان حتى الصباح فينقلب على الأرض كما ( الذكيبة ) و يغط فى ثُبات عميق .
والعربخانة الأخرى , كما الأولى لكنها تميزت بأن صاحبها( عم حسونه) كان سايسها وكان يملك حِمار , ظل أنيسه فى العربخانة الى الآن , فى حارتنا أستقرت تلك العربخانة
وكانت تعج بالحمير لكنها الآن اقتصرت على هذا الحمار الذى أقلق البشر ليل نهار بالنهيق وصوته الصفيق
وقد حذرتنا أمى من نهيق هذا الحمار , وأعتبرته شر مستطير ودليل شؤوم كطيور البوم والغربان …. لكن يبدو أن الناس تأقلمت… ومنهم من عَدَه ُصوت كروان ليطمئن نفسة فيستريح عسى ان ينام ..ويحلم بحريم السلطان
لكن عم ( مسعود ) رجل مريض ويبحث عن أخر ايامه فى هدوء , قبل أن يفارق الحياة ,فيما بدا نهيق الحمار يقلق منامه ويزيد سَقَمِه وأوجاعه ويُطَير النوم من دماغه , فينذره بالشؤم والعبوس .. فأرسل يستدعى سايس العرباخنه , الذى هو صاحب الحمار- فجاءه فورا على أمل ان يلبى حاجته قبل الجبانه
-ماذا تريد ياعم مسعود ؟ أجاب : أسألك ( يا حسونه) عن نهيق الحمار الذى زاد وعاب وملأ الضوضاء بالمكان ..
ضحك السايس ( حسونه)وقال : فى الضحك نذير البكاء وبديلا عن تضخيم العواء
لِمَ ..يسأل عم مسعود ؟ ويعاجلة حسونه أَنِى والحمار سواء لكن مايميز الحمار عنى أنه
عبر عن شكواه من شدة الجوع بالنهيق ليل ونهار ولم يَكِل
أما انا فالبطن خواء.. و رغم أنى اقتات من النفايات …زادتها عواء من شدة ألم الأمعاء , لكنى أخاف أن ابوح بشدة الجوع والبطن الموجوع
يسأل :عم مسعود ممن تخاف ؟ أجاب السايس حسونه بهمس الكلام : ممن يدعى أنه على الحارة حاكم الزمان وشاهبندر التجار ذلك الذى يُغلى أكل الحمار من (تبن وفول حراتى ودشيش )فلا يطيق الحمار العمل من شدة الجوع وأرانى كل يوم أمامه بلا عمل فأصير أشد من جوع الحمار ..فصار الحمار يُطلق العنان للنهيق معلنا الأحتجاج والعصيان , فزاد رعبى وأرتعدت بقايا جسدى
فأغلقت أذنى وأطبقت الشفاه .
أنتفض عم مسعود وقال: وهل يأكل الحمار بالأسترلينى واليورو والدولار ..فيتم استيراد أكله من خارج البلاد !!ويصير غلائه لايطاق
يرد صاحب الحمار..أنه بالريال السعودى ويغالى فى الضحكات والآهات والأنين المكبوت !!
هنا أدرك عم مسعود الغلاءالذى قضى على الفقراء وأحال البسطاء الى فقراء , فهو المريض ولايعرف للدواء مكان يجعله فى الاِمكان
فترحم على أيام زمان حين كان قرر جمال عبد الناصر العلاج والدواء بالمجان وأنصف الفقير والغلبان .
فأعلنها (عم مسعود)قبل الممات ……أتركوا كل الحمير تطلق النهيق بأعلى الأصوات
طالما الفقراء فى ثُبات حتى عن المطالبة بالفٌتات !!

*محمود كامل الكومى
كاتب ومحامى - مصرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.