الصفحات

نشأة البنيوية وتطورها ... *بقلم د لامية مراكشي


⏪  لقد أرسى دو سوسير المنهج البنيوي كمنهج يدرس اللغة، ثم ما لبث أن أصبح منهجًا علميًا له قواعده وأصوله، فنقله النقاد واستثمروا مبادئه في دراسة الأدب . وبرز كتيّارٍ فكريٍّ ظهرَ ليتجاوزَ النزعةَ التاريخيةَ والفلسفاتِ التي تعتمد الذات كخلفيةٍ مثل الوجوديةِ أو الظاهراتيةِ .

كلمة بنية لغة :
تشتقُّ كلمةُ (بنية) من الفعلِ الثلاثيِّ (بنى) وتعني البناءَ أو الطريقةَ ، وكذلك تدلُّ على معنى التشييدِ والعمارةِ والكيفيةِ التي يكون عليها البناءُ ، ()، وفي النحو العربي تتأسسُ ثنائيةُ المعنى والمبنى على الطريقةِ التي تُبنى بها وحدات اللغةِ العربيةِ، والتحولات التي تحدثُ فيها .
ولذلك فالزيادةُ في المبنى زيادةٌ في المعنى، فكلُّ تحولٍ في البنيةِ يؤدي إلى تحول في الدلالةِ، والبنيةُ موضوعٌ منتظم له صورتهُ الخاصةُ ووحدتهُ الذاتيةُ؛ لأنَّ الكلمةَ في أصلها تحملُ معنى المجموعِ والكلِّ المؤلِّفِ من ظواهرَ متماسكةٍ، يتوقفُ كلٌّ منها على ما عداه، ويتحددُ من خلالِ علاقته بما عداه .
إصطلاحا :
لقد واجه تحديدَ مصطلحِ البنيةِ مجموعةٌ من الاختلافاتِ ناجمةً عن تمظهرِها في أشكالٍ متنوعةٍ لا تسمح بتقديمِ قاسمٍ مشتركٍ؛ فإعطاء تعريف موحد للبنية رهينٌ بالتمييز "بين الفكرة المثالية الإيجابية التي تُغطي مفهوم البنية في آفاقٍ مختلفةِ أنواعِ البنياتِ، والنوايا النقديةِ التي رافقتْ نشوءَ وتطورَ كلِّ واحدةٍ منها مقابلَ التياراتِ القائمةِ في مختلفِ التعاليم" .
فهخي نسق () من التحولات :" يحتوي على قوانينهِ الخاصةِ، ومن شأنِ هذا النسقِ أن يظلَّ قائمًا ويزدادَ ثراءً بفضلِ الدور الذي تقومُ به هذه التحولاتُ نفسُها، دون أن يكونَ من شأنِ هذه التحولات أن تخرجَ عن حدودِ ذلك النسقِ أو أن تستعينَ بعناصرَ خارجية، فالبنيةُ تتألفُ من ثلاثِ خصائصَ: هي الكليةُ والتحولاتُ والضبط الذاتي"() .
فالبنيةُ أولاً نسقٌ من التحولاتِ الخارجيةِ، وثانيًا لا يحتاجُ هذا النسقُ لأي عنصرٍ خارجيِّ، فهو يتطورُ ويتوسعُ من الداخلِ، مما يضمنُ للبنيةِ استقلالاً ويسـمحُ للباحثِ بتعقلِ هذه البنيةِ() .
خصائصِ البنيةِ :
الكلية أو الشمول :
وتُعني هذه السمةُ خضوعَ العناصرِ التي تُشكِّل البنيةَ لقوانينَ تُميّزُ الكلَّ ككلٍّ واحد ومن هذه الخاصيةِ تنطلقُ البنيويةُ في نقدِها للأدبِ من المسلَّمةِ القائلةِ بأنَّ البنيةَ تكتفي بذاتها، فالنصُّ الأدبيُّ مثلاً هو بنيةٌ تتكونُ من عناصرَ، وهذه العناصرُ تخضعُ لقوانين تركيبيةٍ تتعدى دورَها من حيثُ هي روابطُ تراكميةٌ تشدُّ أجزاءَ الكيانِ الأدبيّ بعضَه إلى بعضٍ، فهي تُضفي على الكلِّ خصائصَ مغايرةً لخصائصِ العناصرِ التي يتألف منها البعض() .
كما أن هذه الخاصية تُبرزُ لنا أنَّ البنيةَ لا تتألفُ من عناصرَ خارجيةٍ تراكميةٍ مستقلةٍ عن الكلِّ، بل هي تتكونُ من عناصرَ خارجيةٍ خاضعةٍ للقوانينِ المميزةِ للنسقِ، وليس المهمُّ في النسق العنصرُ أو الكلُّ، بل العلاقاتُ القائمةُ بين هذه العناصرِ .
التحولات :
توضحُ القانونَ الداخليَّ للتغيراتِ داخلَ البنيةِ التي لا يمكنُ أن تظلَ في حالةِ ثباتٍ؛ لأنها دائمةُ التحولِ .
فكلَّ نصٍّ يحتوي ضمنيًا على نشاطِ داخلي، يجعل من كلِّ عنصرٍ فيه عُنصرًا بانيًا لغيرهِ ومبنيَّاً في الوقت ذاته، ولهذا فقد أخذت البنيويةُ هذه السمةَ بعينِ الاعتبارِ لتُحاصرَ تحوّلَ البنيةِ وما قد يعتريها من بعض التغيير() .
فالبنيةَ لا يمكن أن تظلَّ في حالةِ سكونٍ مطلق، بل هي دائمًا تقبلُ من التغيّراتِ ما يتضمنُ مع الحاجاتِ المحددةِ من قِبل علاقاتِ النسقِ أو تعارضاته، فالأفكارُ التي يحتويها النصُ الأدبيُ مثلاً تُصبح بموجبِ هذا التحولِ سببًا لبزوغِ أفكارٍ جديدة() .
التنظيم الذاتي :
خاصيةِ التنظيمِ الذاتي تمكّنُ البنيةَ من تنظيمِ نفسِها كي تُحافظَ على وَحدتِها واستمراريتِها؛ وذلك بخضوعِها لقوانينِ الكلِّ . وبهذا فيحقق لها نوع من " الانقلاب الذاتي " ونُعني به أن تحولاتِها الداخليةَ لا تقودُ إلى أبعدَ من حدودها، وإنّما تُولّدُ دائمًا عناصرَ تنتمي إلى البنيةِ نفسِها، وعلى الرغم من انغلاقها هذا لا يُعني أن تندرج ضمن بنيةٍ أخرى أوسعَ منها، دون أن تفقد خواصها الذاتية() .
وقد اختلف النقادُ في تبيانِ مفهومِ البنيويةِ ، ()، وهي في معناها الواسع "طريقةُ بحثٍ في الواقعِ، ليس في الأشياءِ الفرديةِ بل في العلاقاتِ بينَها". وهي مجردُ طريقةٍ أو منهجٍ يمكن تطبيقُها في أي نوعٍ من الدراسات "() .
وهي "نسقٌ يتألفُ من عناصرَ يكونُ من شأنِ أيِّ تحولٍ يعرضُ للواحدِ منها أن يُحدثَ تحولاً في باقي العناصرِ الأخرى"() .
فَالبنيويين يرون أنَّ العلاقةَ بين الجزءِ والكلِّ ليست مجرّدَ اجتماعِ مجموعةٍ من العناصر المستقلةِ، بل إن هذه العناصرَ تخضعُ لقوانينَ تتحكّمُ في بناءِ العلاقةِ التي تجمعُ الأجزاءَ، وتُضفي هذه القوانينُ على البنيةِ سماتٍ كليّةً تختلفُ عن سماتِ العناصرِ كلٌّ منها على حدةٍ.
والبنيويةَ هي " القيامُ بدراسةِ ظواهرَ مختلفةٍ كالمجتمعاتِ، والعقولِ، واللغاتِ، والأساطيرِ، بوصفِ كلٍّ منها نظامًا تامًا، أو كلاً مترابطًا، أي بوصفِها بنياتٍ، فتتمُ دراستُها من حيثُ أنساقُ ترابِطها الداخليةُ، لا من حيثُ هي مجوعاتٌ من الوحداتِ أو العناصرِ المنعزلةِ، ولا من حيـثُ تعاقبُها التاريخي "() .
وفي أدبِنا العربيّ الحديث نجدُ عددًا من النقاد العرب الذين اهتموا بالبنيوية في دراساتِهم وطبقوا مبادئِها وأسسها على النصوص التي درسوها، و منهم ما كتبه موريس أبو ناصر في كتابهِ (الألسنية والنقد الأدبي في النظرية الممارسة)، وخالدة سعيد في كتابها (حركية الإبداع)، وكمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي)، وعبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية)، الذي طبق فيه فَهمه للبنيويةِ على شعر حمزة شحاتة
وكان النقاد العرب ـ شأن النقاد البنيويين الغربيين ـ يعدّون النصّ بنيةٌ مغلقةٌ على ذاتِها ولا يسمحون بتغيرٍ يقع خارج علاقاتهِ ونظامه الداخلي() . فهذا عبد السلام المسدي يُعرِّف المنهج البنيوي بأنه " يعتزم الولوج إلى بنية النص الدلالية من خلال بنيته التركيبية "() .
ويرى جميل حمداوي بأن البنيوية: طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين هما : التفكيك والتركيب، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز عل شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقيه النص في اختلافاته وتآلفاته() .
وذكر إبراهيم السعافين أن البنيوية ابنة حضارة معينة تنتمي إليها وتحاور منجزاتها المادية والروحية، إنها ذات صلة وثيقة بحركة الحداثة من جانب، وبالدراسات اللغوية الحديثة ومدرسة النقد الجديد() من جانـب آخر .
بمعنى إن البنيوية في النقد الأدبي ثمرة من ثمرات التفكير الألسني وآثاره في العلوم الإنسانية المختلفة، مثلما أنّ صورتها الشكلية الأولى ذات قرابة واضحة بحق مدرسة النقد الجديد تلك الحركة النقدية التي تدعو إلى التخلي عن البحث عن المعايير الجمالية في الآثار الأدبية، وتعتبر أن وظيفة النقد الحقيقية هي فَهم وتفسير المؤلفات الأدبية عن طريق تحليلها وفق المعايير الشكلية واللغوية ..
ولعل غياب تعريف موحد للبنيوية هو غياب ترجمة موحدة للمصطلح نفسه، إلى جانب اختلاف التكوين الفكري والعلمي لمن يقوم بترجمة مصطلح البنيوية، ولذلك كان من الطبيعي أن يختلف مفهوم مصطلح البنيوية من ناقد لآخر .
فالبنيوية منهج نقدي يعني بدراسة النصوص الأدبية من داخلها، أي تبدأ بالنص وتنتهي به، والعلاقة بين الجزء والكل ليست مجرّد اجتماع مجموعة من العناصر المستقلة، بل إنّ هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكّم في بناء العلاقة التي تجمع الأجزاء .
أصول المنهج البنيوي :
ظهرت البنيوية اللسانية في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين مع رائدها (فرديناند دي سوسير)، من خلال كتابهِ "محاضرات في اللسانيات العامة"()، الذي نُشر في باريس سنة 1916م .
وكان الهدفُ من الدرسِ اللساني هو التعامل مع النص الأدبي من الداخل وتجاوز الخارج المرجعي ، وقد حقق هذا المنهج نجاحه في الساحتين اللسانية والأدبية حينما انكب عليه الدارسون بلهفة كبيرة لاستعماله منهجًا وتصورًا في التعامل مع الظواهر الأدبية والنصية واللغوية .
وأصبح المنهج البنيوي أقرب المناهج إلى الأدب؛ لأنه يجمع بين الإبداع وخاصيته الأولى وهي اللغة في بوتقةٍ ثقافيةٍ واحدة، أي يقيس الأدب بآليات اللسانيات بقصدِ تحديدِ بُنيات الأثر الأدبي وإبراز قواعده وأبنيته الشكلية والخطابية .
فظهرت البنيوية في بداية الأمر في علم اللغة()، وبرزت عند فرديناند دي سوسير الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية عندما طبق المنهج البنيوي في دراسته للغة، واكتشاف مفهوم البنية في علم اللغة دفع بارت وتودوروف وغيرهما إلى الكشف عن عناصر النظام في الأدب() .
أما عن نظرية دي سوسير في علم اللغة، فهو يرى أنَّ موضوع علم اللغة الصحيح هو اللغة في ذاتِها ومن أجلِ ذاتها، وقد فرّق بين اللغةِ والأقوالِ المنطوقةِ والمكتوبةِ، فاللغة أصواتٌ دالةٌ متعارف عليها في مجتمع معين، وإن لم توجد كواقع منطوق لدى أي فرد من أفرادهِ، أما الأقوال فكل الحالات المتحققة من استعمالات اللغة () .
ففي دراسة اللغة لابد من عزلها واعتبارها مجموعة من الحقائق؛ لأن اللغة بالتحليل السابق هي نظام إشاري (سيميولوجي)، ومن هنا انطلقت البنيوية من حقلِ علم اللغة إلى حقل علم الأدب، فسوسير في نظريتهِ كان يفرقُ بين اللغةِ والأقوال أو بين اللغة كنظام واللغة كاستعمال كلامًا أو كتابةً () .
فالكلمة لا يتحددُ معناها إلا بعلاقتِها مع عدد من الكلماتِ، بما سبقها وما لحقها، والعلاقة بين صوت الكلمة ومفهومها هي علاقة تعسفية ، بمعنى أنه لا علاقة لمفهوم الكلمة بصوتها بدليل اختلاف صوت هذا الشيء بين لغة وأخرى، إذن فبناء اللغة أو نظامها لا يتمثل إلا في العلاقات بين الكلمات، وهي تمثل نظامًا متزامنًا حيث أن هذه العلاقات مترابطة() .
ومن أبرز ما استحدثته البنيوية هو إدخال عامل النسبية في تقدير الظواهر والتخلي نهائيًا عن ناموس الإطلاق الذي قيّد العلم اللغوي تاريخًا طويلاً، أما مِفتاح هذا التحول فيتمثل في التمييز الذي علينا أن نعتبر به في تحليلنا للغة بين الزمن الطبيعي، وهو البعد الموضوعي لتوالي الأحداث وتعاقب أجزاء الكلام المعبّر عن تلك الأحداث، والزمن التقديري الذي هو موقف افتراضي يقوم على القيمة الاعتبارية للأشياء كما تعبر عنه اللغة، وهو الزمن التقديري وهو جوهر الفكرة البنيوية وهو بالتالي المعين الذي تستمد منه سطوتها المنهجية() .
وهنالك من النقاد العرب من يرى أن البنيوية لها جذور عند نقادنا القدامى()، فعبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم، يرى أن ليس للفظة في ذاتِها ـ لا في جرسِها ولا في دلالتِها ـ بين الألفاظ والمعاني والمعاني هي المقصودة في إحداث النظم والتأليف() .
فالأجزاء لا معنى لها دون هذه النظرة العلائقية التي يحكمها النظم، فعلينا أن نُدرك هذه العلاقة في النص لندرك قيمته، فقيمة النص تكمن في قيمة علاقة عناصره وأجزاءه ببعضها البعض وترابطها، والخصائص التي تضفي على تلك العـلاقات ككل.
وأوّل من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي في الثقافة الغربية رومان جاكبسون وكلود ليفي شتراوس على قصيدة (القطط) للشاعر الفرنسي بودلير في منتصف الخمسينيات، وبعد ذلك طُبقت البنيوية على السرد مع رولان بارت وكلود بريموند وتودوروف، كما ستتوسع ليدرس الأسلوب بنيويًا وإحصائيا مع بيير غيرو كما طبقت البنيوية على السينما والتشكيل والموسيقا والفنون والخطابات الأخرى .
أما بالنسبةِ إلى استقبالها في الساحة العربية فجاء في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات ، وذلك عبر الترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوروبا، وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية .
كما كان تطورها في البلاد العربية تطورًا غير متكافئ فلم يكن النقاد مطلعين في كثيرٍ من الأحيان على ما يقوم به إخوتهم في الأقطار الأخرى، ونتيجة لذلك تعددت مشارب أخذهم عن النقد الغربي فبعضهم يرجع إلى ترجمات انجليزية ككمال أبو ديب، أو اسبانية مثل صلاح فضل، والبعض إلى النصوص الفرنسية () .
وذلك حسب العلاقات التاريخية التي تربط كل بلد عربي بالبلدان الغربية، وقد عُرف هذا التيار في مصر مع الناقد صلاح فضل من خلال كتابهِ (النظرية البنائية في النقد الأدبي عام 1977م)، وكتابه (علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته)، وفي الأردن أعطى الناقد كمال أبو ديب دفعًا لهذا التيار من خلال نشره لكتابه (جدلية الخفاء والتجلي، دراسة بنيوية في الشعر الجاهلي)، وكتابه (البنية الإيقاعية في الشعر المعاصر عام 1974م) .
وفي تونس عبد السلام المسدي من خلال كتابه (الأسلوب والأسلوبية نحو بديل البنى في نقد الأدب)، وكتابه (النقد والحداثة) وكتابه (قضية البنيوية، دراسة ونماذج)، أما في المغرب فتوجد مجموعة من النقاد لهم ترجمات كثيرة لبارت وتودوروف وجنت، وهنالك مقالات حول الحداثة العربية في مجال الأدب والنقد، ومن هؤلاء محمد برادة في كتابه (محمد مندور والتنظير النقد)() .
أما في لبنان فتمثل هذا التيار الناقدتان يُمنى العيد في كتابها (في معرفة النص)، وخالدة سعيد، وإن تفاوتتا في استخدام المنهج البنيوي نظرًا؛ لأنهما أقبلتا على هذا النقد بعد أن تمرستا مناهج النقد التي سبقت زمنيًا المنهج البنيوي . فحاول النقاد العرب الجدد من مثل كمال أبو ديب ويمنى العيد فتح طرق للبحث من أجل مقارنة التيار البنيوي بما قدمه التراث العربي من جهد في مجال علم اللغة كالجرجاني، والخليل بن أحمد الفراهيدي .


الروافد التاريخية للبنيوية :
إن الروافد التاريخية للبنيوية هي مدرسة الشكليين الروس التي ظهرت في عشرينات وثلاثينات هذا القرن، وما سمي بمدرسة النقد الجديد في أمريكيا .
فمدرسة الشكليين الروس دعت إلى ضرورة التركيز على العلاقات الداخلية للنص وقالت بأن موضوع الدراسة التاريخية ينبغي أن ينحصر في ما أسماه جاكبسون أدبية الأدب، وتتكون الأدبية بشكلٍ عام من الأساليب والأدوات التي تميز الأدب عن غيره، أي الخصائص التي تميز ذلك الأدب() .
من هنا انطلقت في مفهومها للأدب بأنه صورة رمزية، أو وسائط إشارية للواقع وليس انعكاسًا له بأي حال، كما أنها درست النص بمعزل عن سياقه التاريخي والجغرافي والاجتماعي وعزلته عن الأديب نفسه . فهدف علم الأدب ليس الأدب في عموميتهِ وإنما أدبيتهِ ، أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منه عملاً أدبيًا"() .
فهي لم تتحدث عن الواقع الاجتماعي للأدب، بل درست الأدب من الداخل وليس من الخارج وعملت على تنسيق عناصر العمل الأدبي وأدواته بهدف خلق علاقة مغايرة كيفًا للعلاقات المألوفة بين الإنسان والعالم .
والفروض والمعطيات التي أبرزتها مدرسة الشكليين الروس بخاصة الأدبية، جاءت البنيوية لتطورها وتؤكد صحتها على الصعيدين النظري والتطبيقي، وكما تتضح العلاقات الحميمة بين البنيوية ومدرسة النقد الجديد من خلال مفاهيم أعلامها للأدب() .
لكن الفرق بين الشكلية والبنيوية هو أن الأولى تفصل تمامًا بين جانبي الشكل والمضمون ؛ لأن الشكل هو القابل للفهم ، أما المضمون لا يتعدى أن يكون بقايا خالية من القيمة الدالة . أما البنيوية فترفض هذه الثنائية، فليس ثمة جانب تجريدي واحد محدد واقعي، حيث الشكل والمضمون لهما نفس الطبيعة ويستحقان نفس العناية في التحليل، فالمضمون يكتسب واقعه من البنية، وما يسمى بالشكل ليس سوى تشكيل هذه البنية من أبنية موضعية أخرى تشمل فكرة المضمون نفسها . ونتيجة لهذا التصور فإن البنية لا تبتر الواقع، وإنما هي على العكس من ذلك تتيح الفرصة لإدراكه بجميع مظاهره() .
أعلام المنهج البنيوي :
فرديناند دي سوسير:
ولد سوسير في جنيف عام 1857م والتحق بجامعتها عام 1875م ، ليتخصص في دراسة الفيزياء كما كانت له بحوث في النحو الإغريقي واللاتيني ، وقد شجعته هذه البحوث على قطع دراسته ومغادرته إلى جامعة ليبرغ ليتخصص في اللغات الهندو أوروبية ().
ويصدر بعد ذلك بأعوام أول كتاب له في اللغات هو كتاب (النظام الصوتي في اللغات الهندو أوروبية القديمة) عام 1887م، وبعد أربع سنوات أصبح عضوًا في الجمعية الألسنية الفرنسية، وعند عودته إلى جنيف شغل كرسي أستاذ اللغات لسنوات طويلة، قدم من خلالها سلسة من المحاضرات نُشرت بعد وفاته، وقد طُبع الكتاب من تلاميذه سنة 1916م، بعد وفاته بثلاث سنوات، وقد تُرجم إلى العربية بعنوان (محاضرات في الألسنية)() .
بدأ سوسير كتابه المذكور آنفًا بتعريف اللغة ذاتها مميزًا بين ثلاث مستويات من النشاط اللغوي (اللغة، واللسان، والكلام)، فاللغة عنده "نظام من الرموز المختلفة التي تُشير إلى أفكار مختلفة، وهي مجموعة المصطلحات التي تتخذها هيئة المجتمع بأكمله؛ لإتاحة الفرصة أمام الأفراد لممارسة ملكاتهم"()، أما اللسان فيُعنى بنظام اللغة التي من خلاله تُنتج عملية المحادثة، ()، أما الكلام فُيعرف بأنه "التحقق الفردي لهذا النسق في الحالات الفعلية من اللغة"().
فاللغة هي العنصر الاجتماعي للكلام، والكلام هو المظهر الفردي للغة . واللغة رموز تعبر عن أفكار، ولا علاقة للغة بأخطاء الكلام فهي الهياكل التي تخضع لها عمليات التنفيذ الكلامية . فاللغة عنده هي الحاضر الأوسع فالظروف النفسية والجسدية ونظام النطق ونظام الإشارة وتاريخ اللغة هو ما يشكل عنده اللغة بذاتها .
إذن يعدُّ دي سوسير ، الأب المؤسس لمدرسة البنيوية في اللسانيات ، فهو من أشهر علماء اللغة في العصر الحديث، حيث اتجه تفكيره نحو دراسة اللغات دراسة وصفية باعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية، حيث كانت اللغات تدرس دراسة تاريخية () . فكان مساهمًا كبيرًا في تطوير العديد من نواحي اللسانيات في القرن العشرين ، وهو أول من اعتبر اللسانيات فرعا من علم أشمل يدرس الإشارات الصوتية واقترح تسميته بالسيميوتيك أو علم الإشارات() .
وقد توصل إلى أربعة كشوف هامة تتضمن : مبدأ ثنائية العلاقات اللفظية أي التفرقة بين الدال والمدلول، الذي يتحدث عن الكلمة، فالكلمة عنده هي إشارة وليست أسمًا لمسمى بل هي كل مركب يربط الصورة السمعية والمفهوم، وهو يقصد بذلك الدال وهو الصورة السمعية، وأما المدلول فهو المفهوم() . إذن فاللغة عند سوسير هي نظامًا من الإشارات التي تُعبر عن اللغة، وإن العلاقة بين تلك الإشارات ومدلولاتها علاقة اعتباطية، بدليل اختلاف الإشارة وهذا ما قاده إلى تأسيس على السيمولوجيا() .
ومبدأ أولوية النسق أو النظام على العناصر، وهو يُشير بذلك على أن اللغة نظامًا، ويُريد بنية هذا النظام وذلك لكونه مؤلف من وحدات لها تأثير متبادل على بعضها() . فهو يدعو إلى تحليل البنية (النظام) وكشف عناصرها كالرموز والصور والموسيقى في نسيج العلاقات اللغوية أي في أنساقها؛ لمعرفة ملابسات بُنيتها من الداخل والخارج، فيريد البحث عن مجموعة العناصر وعلاقاتها المتشابكة داخل هذا النظام ) .
أما المبدأ الثالث وهو التفرقة بين اللغة والكلام، فإذا كان يعتبر اللغة نظامًا من الإشارات التي تعبر عن تلك اللغة، فهو بذلك يُفرق بينهما ، فاللغة مجموعة القواعد والوسائل التي يتم التعرف اللغوي طبقًا لها ، أما الكلام فهو الطريقة التي تتجسد من خلالها تلك القواعد والوسائل في موقف بعينه، ولوظيفة بعينها() .
وكان اهتمام دي سوسير في معالجتهِ لمكونات العملية الإبداعية الكلامية باللغة دون الكلام ؛ لأن الكلام في رأيه فعل فردي لا يمثل سوى بداية اللسان أو الجزء الفيزيائي، وهو مستوى خارج الواقعة الاجتماعية .
أما المبدأ الرابع والأخير وهو التفرقة بين التعاقب والتزامن، حيث يرى سوسير أنه من الممكن أن تكون دراسة نسق اللغة إما تزامنية أو تعاقبية، ويعرِّف سوسير هذين المصطلحين بقولهِ: "يمكن أن نصف كل شيء يرتبط بالجانب السكوني من عملنا بأنه تزامني، في حين يمكن أن نصف كل شيء له علاقة بالتطور يوصف بأنه تـعاقبي"() . فالتزامنية تختص بوصف حالة اللغة ، في حين أن التعاقبية تختص بوصف المرحلة التطورية للغة .
ومن إسهامات سوسير أيضًا في مجال علم اللغة أنه فرَّق بين اللغة باعتبارها منظومة من الأصوات الدالة المتعارف عليها في مجتمع معين وبين الأقوال ، وهي كل الحالات المتحققة من استعمالات اللغة () .
فانتقلت تلك الفكرة من علم اللغة إلى علم الأدب فأخذوا يفرِّقون بين الأدب باعتباره نظامًا رمزيًا تحته نظم فرعية يمكن أن تُسمى الأنواع الأدبية، وبين الأعمال الأدبية باعتبارها نصـوص متحققة يمكن أن تمثل هذه النـظم بكيفية ما أو بدرجة ما () .
ولسوسير بالنسبة إلى التحليل اللغوي طريقتين متكاملتين ، وهما في إطار العلاقات العمـودية والأفقية للغة .
فالعلاقة الأفقية هي وجود الكلمة داخل سياق معين ، وغايتها معرفة ارتباط بعض الكلمات ببعض ، أما العمودية أو الرأسية فهي إيجاد الكلمة أي ما تستثيره الكلمة من معنى خارج السياق من خلال علاقة هذه الكلمة بكلمات أخرى في الذاكرة () .
رومان جاكبسون :
تنطلق مقولاته من أن الأدب في مقامه الأول لغة، وأن البنيوية منهج يتخذ من علم اللغة أساسًا له ؛ لذلك يعمد إلى تطوير ثنائيات (التأليف والاختيار)، وينصب عمله بشدة في البحثِ عن تحقق الوظيفة الشعرية() في اللغة داخل الأدب .
ولهذا كانت من الأمور المهمة التي ظهرت عنده ، بأنه يدرس علاقة اللسانيات كما ظهرت عند دي سوسير بالشعرية()، فيرى أن موضوع الشعرية يهتم بقضايا البنية اللسانية ، وبما أن اللسانيات هي العلم الشامل للبنيات اللسانية ، فإنه يمكن اعتبار الشعرية جزءً لا يتجزأ من اللسانيات() .
لقد حاول أن يدرس البنيوية الأدبية، في ضوء الشعرية وله دراسات وأبحاث على ذلك()، ومن إسهاماته أيضًا في ذلك المجال، وضعه لنظرية الاتصال والتي مفادها أن أي كلام نتفحصه نجد فيه رسالة تنطلق من مرسل إلى متلقٍ ()، وهذه الرسالة هي سياق لا يمكن فَهمه إلا من خلال شيفرة التماس لغوي، وقد أثرت هذه النظرية في حركة النقد البنائي فيما بعد وخاصة عن شتراوس() .
إظافة إلى وضعه لعلم الأصوات وهو تابع لعم اللغة، ذلك العلم الذي أضاف إلى علم اللغة البنيوي أبحاثًا جديدةً، حيث قالوا بأن علم الأصوات يؤكِّدُ نفس النظرية البنيوية من أن النسق الصوتي ليس مجموع من العناصر، ولكن ما يوجد بينها من علاقات() .
فلاديمير بروب :
يعد (بروب) من الشكلانيين الذين مهدوا الطريق للحركة البنائية في النقد، وقد خصص كل أبحاثه لدراسة جنس أدبي شعبي هي الحكاية الخرافية ، وترجع أهمية هذه الأبحاث؛ إلى أنها كانت الأولى لوضع قواعد عامة لقص الخرافي الجمعي الذي يعد بالنسبة إلى القص الفردي بمثابة اللغة بالنسبة للكلام على حد تعبير دي سوسير() .
يعد كتاب (مورفولوجية الحكاية الخرافية)، لبروب حصيلة هذا التخصص والذي أثار ضجة كبيرة لدى ترجمته إلى الانجليزية عام 1985م وذلك لأن شتراوس أخذ في معالجته الأساطير بمنهج شديد الشبه بذلك المنهج لبروب، ونشر كتابه عن (الانثربولوجيا البنائية) مما جعل بعض النقاد يعتبره امتدادًا لمنهج بروب() .
لقد درس بروب محاولات تبويب القصص الخرافي ووجد أن معظم التبويبات التي سبقته()، قد انصبت على الموضوعات بناءً على دراسة مستفيضة لمائة قصة روسية، ووجد أن الوظائف() التي تقوم بها الشخصيات ثابتة بينما تتغير الشخصيات فقط، وهذا ما قاده إلى تعريف الوظيفة() قبل بدئه بدراسة الوظيفة في القصص، ووضع قوانين بنية الحكاية() .
كلود ليفي شتراوس :
من أهم إسهاماته أنه نشر كتابه (الأبنية الأولية للقرابة) في باريس سنة 1948م، حيث درس فيه عن علاقات المحارم التي افتتحت عصر البنائية، حيث حدد أن الهدف من دراسته ليس معرفة المجتمعات في نفسها، وإنما اكتشاف كيفية اختلافها عن بعضها البعض، فمحورها مثل علم اللغة هو القيم الأخلاقية() .
وهذا يقودنا إلى أن شتراوس قد اعتمد اعتمادًا واضحًا على فكرة تقابل اللغة والكلام التي نادى بها رائد البنيوية الأول، حيثُ أننا نحس أنه ينقل كلام دي سوسير عن نظام اللغة واصطلاحاته مباشرة إلى المجال الأنثروبولوجي والاجتماعي . فليفي شتراوس يتحدث مثلاً عن الوحدة ( سلوكًا كانت أو نظامًا اجتماعيًا أم وحدة لغوية )، التي تعد في حد ذاتها نظامًا مغلقًا ومتجانسًا من الإشارات، ثم تتجانس الوحدات من حيث إن كل إشارة أو مصطلح يكون موضوعًا لإشارة أخرى، ولا يكتشف مغزى هذه الإشارات إلا عندما تتحد داخل نظام كلي، وهذا الكلام يتفق مع فكرة نظام اللغة عند دي سوسير() .
لقد طبق المنهج الصوتي عند سوسير على دراسته الأنثروبولوجية فيرى أن علاقات القرابة مثلها مثل الحروف في الصوتيات في أنها عناصر للدلالة، كما أنه لا تكتسب دلالتها إلا بشرط أن تنخرط في نظم خاصة كالحروف تمامًا() .
وله كتاب آخر بعنوان (ميثولوجيات)، يعمد فيه إلى محاولةٍ لجمع أساطير قارات أمريكا الشمالية والجنوبية؛ بغرض إظهار علاقاتها وإثبات قواها الموحدة للعقل البشري ووحدة منتجاته() .
إن شتراوس يرى أن الأساطير كلام أو نظام رمزي يمكن اكتشاف وحداته وقواعده التركيبية ، ومن ثم فإن جزءً من اللغة أو مجموعة جمل يمكنها أن تعرفنا نظام اللغة كله ، فالأساطير لا تُمثل سوى أداء جزئيا خاصا وعفويا لأسطورة مثالية كلية ذات هيكل عام يُعتبر كاللغة بالنسبة لمظـاهر القول المتعددة ، وهذا النظام يهدف العالِم في دراسته إلى البحث عن بنيته محللاً الأساطير التي تعد مظاهر تنفيذية محددة له() .
وقد كانت مساهمة شتراوس المهمة في الدراسات اللاحقة تتمثل في نظريته التي تقوم على أساس أن بناء الكون يتمثل في مجموعات من الثنائيات التي تبدو متعارضة، ولكنها متكاملة في الوقت نفسه، إذ لا يمكن أن يتم هذا التكامل إلا من خلال هذا التناقض والحياة المبنية على أساس من هذا التكامل() .
ومن هذه الرؤية ينطلق التحليل البنائي في تفتيت العمل الأدبي وتحليله إلى تلك الثنائيات، مثل: (الموت والحياة، والنقص والكمال، والهرم والشباب، والنور والظلام)، وإلى موقف الإنسان من هذه الثنائيات وصراعه معها وقد تأثر شتراوس في ثنائيات سوسير في الدراسات الصوتية في صياغة نظريته هذه() .
أما المنطلق الفكري لهذه الثنائيات فتعود إلى الخلفية الفكرية لشتراوس القائمة على أبحاثه المستفيضة في دراسة المقابلة بين الطبيعة والحضارة . ويرى أن المنهج البنياني (الألسنيات، أو الإناسة)، يقوم على تعيين أشكال ثابتة في صلب مضامين مختلفة، أما التحليل البنياني، فيقوم على البحث عن مضامين متواترة خلف أشكال متبدّلة() .
مستويات النقد البنيوي :
قسم النقاد المستويات على النحو التالي() :
المستوى الصوتي :
تدرس فيه الحروف ورمزيتها وتكويناتها الموسيقية من نبر وتنغيم وإيقاع، ويتم معرفته من خلال الصوتيات .
المستوى الصرفي :
تُدرس فيه الوحدات الصرفية ووظيفتها في التكوين اللغوي والأدبي خاصة، وهذا المستوى يحتاج إلى كل ما يُبنى عليه علم الصرف .
المستوى المُعجمي :
ويبحث في دلالة الكلمات اللغوية .
المستوى النَحوي :
يبحث في بناء الجملة سواء أكانت فعلية أو أسمية أو شبة جملة .
مستوى القول :
وذلك لتحليل تراكيب الجمل الكبرى لمعرفة خصائصها الأساسية والثانوية .
المستوى الدلالي :
وذلك يشغل بتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة والصورة المتصلة بالأنظمة الخارجية عن حدود اللغة والتي ترتبط بعلوم النفس والاجتماع وتمارس وظيفتها على درجات في الأدب والشعر .
المستوى الرمزي :
تقوم فيه المستويات السابقة بدور الدال الجديد الذي ينتج مدلولاً أدبيًا جديدًا يقود بدوره إلى المعنى الثاني أو ما يُسمى باللغة (داخل اللغة) .
فالمحلل البنيوي يقوم بدراسة جميع هذه المستويات في نفسها أولاً، وعلاقتها المتبادلة وتوافقاتها والتداعي الحر فيما بينها والأنشطة المتمثلة فيها، وثانيًا هو ما يحدد في نهاية الأمر البنية الأدبية المتكاملة() .
منطلقات التحليل البنيوي :
يهاجم البنيويون بعنف المناهج التي تُعنَي بدراسة إطار الأدب ومحيطه وأسبابه الخارجية، ويتهمونها بأنها تقع في شرك الشرح التعليلي، في سعيها إلى تفسير النصوص الأدبية في ضوء سياقها الاجتماعي والتاريخي؛ لأنها لا تصف الأثر الأدبي بالذات حين تلح على وصف العوامل الخارجية ().
فالبنيويين ينطلقون من ضرورة التركيز على الجوهر الداخلي للنص الأدبي، وضرورة التعامل معه دون أية افتراضات سابقة من أي نوع من مثل علاقته بالواقع الاجتماعي أو التاريخي أو بالأديب وأحواله النفسية، ويعود سبب هذا المنطلق؛ أنهم يرون في أن العمل الأدبي له وجود خاص وله منطقه ونظامه وبنيته مستقلة سواء أكانت عميقة أو تحتية أو خفية، فهو مجموعة من العلاقات الدقيقة .
البنية العميقة أو الشبكة من العلاقات المعقدة هي التي تجعل من العمل الأدبي عملاً أدبيًا، وهنا تكمن أدبية الأدب، وهم يرون بأن هذه البنية العميقة يمكن الكشف عنها من خلال التحليل المنهجي المنظم . وهدف التحليل البنيوي هو التعرف عليها ؛ لأن ذلك يعني التعرف على قوانين التعبير الأدبي، وهذا مما يجعل التحليل البنيوي مميزًا عن سائر المناهج؛ لأنه هو الوحيد القادر على البحث عن أدبية الأدب أي عن خصائص الأثر الأدبي .
يقف التحليل البنيوي عند حدود اكتشاف هذه البنية في النص الأدبي، فهو جوهرها، فبعضهم يسمي تلك البنية (نظام النص) أو (شبكة العلاقات) أو (بنية النص)، وحين التعرف عليها لا يهتم التحليل بدلالتها أو معناها، بقدر ما يهتم بالعلاقات القائمة بينها .
ولهذا يرى بارت وتودوروف، وهما من أبرز روّاد المنهج البنيوي أن هذا التعرف على بنية النص مقصود لذاته؛ لأن عقلانية النظام الذي يتحكم في عناصر النص، غدت بديلاً عن عقلانية الشرح والتحليل() .
ينطلق البنيويون من مسلمة تقول بأن الأدب مستقل تمامًا عن أي شيء، إذ لا علاقة له بالحياة أو المجتمع أو الأفكار أو نفسية الأديب ...الخ؛ لأن الأدب لا يقول شيئًا عن المجتمع أما موضوع الأدب فيكون هو الأدب نفسه .
للتوصل إلى بنية الأثر الأدبي ينبغي تخليص النص من الموضوع والأفكار والمعاني والبعدين الذاتي والاجتماعي، وبعد عملية التخليص أو الاختزال يتم التحليل البنيوي أو تحليل النص بنيويًا من خلال دراسة المستويات السابقة الذكر .
ويتم التركيز لاكتشاف بنية النص على إظهار التشابه والتناظر والتعارض والتضاد والتوازي والتجاور والتقابل بين المستويات، فمثلاً يتم التحليل الصوتي من خلال إظهار الوقف، والنبر، والمقطع، أما تحليل التركيب فتتم دراسة طول الجملة وقصرها وهكذا مع كل مستوى أو تحليل .

شروط النقد البنيوي :
يقوم النقد البنيوي على تحليل النصوص، ولتحليل هذه الأعمال يحاول تفسير النص نفسه، دون أن يلجأ إلى ما يدور حوله من عوامل تاريخية أو اجتماعية أو سياسية أو نفسية() .
وهذا التفسير لا يُعبِّر عن قصور الأدب في التعبير عن نفسهِ، ولكنه اكتشاف لغة ثانية تختلف عن اللغة الأولى، أي توليد معنى معين اشتقاقًا من الشكل الذي هو الأثر الأدبي نفسه .
فأول شروط النقد هو اعتبار العمل كله دالاً، إذ أن أية قواعد نحوية لا تشرح جميع الجمل فهي ناقصة ، ولا يُكمِّلُ أيُّ نظامٍ للمعنى وظيفته إن لم تعثر كل الكلمات فيه على وضعها المفهوم، وإذا كان الكاتب عالمًا فإن الناقد ينبغي أن يرى نفس الاتجاه دون أن يتحول عمله إلى تجربة شخصية لأنه محكوم بقواعد الرمز ومنطق العمل نفسه، كما أن معيار العمل النقدي هو الدقة() .
وهكذا فإن الناقد كي يقول الحقيقة لا بد أن يكون دقيقًا في محاولته لوصف الشروط الرمزية للعمل الأدبي() . أما على الصعيد النقدي فتهدف البنيوية إلى اكتشاف نظام النص ، ومن ثَّم ترفض أن يتجه النقد إلى الكشف عن الوظيفة الاجتماعية للنص أو ما يتصل بالجوانب الإبداعية للغة والكاتب() .
ولهذا فإن وظيفة النقد البنيوي تنحصر في قضية التذوق والفَهم ؛ لأنها تدعو إلى نقد النص نفسه دون اللجوء إلى سياقه الخارجي، فهي تدعو بذلك إلى تذوق النص وفَهم العلاقات الداخلية التي يتكون منها النسق أو النظام .
كما أن النقد البنيوي يدفع بالناقد إلى ضرب من الوضعية الأمر الذي جعله يتخلى عن النظر إلى الأثر الأدبي نظرة مرتبطة بتاريخهِ الاجتماعي أو النفسي، وهذا يدل على وجود رغبة قوية لدى الناقد على اعتبار الأثر الأدبي مقال أو خطاب، أو حديث يخضع لمعايير التحليل البنيوية() .
وأن النقد ولغويته منطقية يقوم عليها ويعتمدان على علاقة لغة الناقد بلغة المؤلف ، واحتكاك هاتين اللغتين هو الذي يولد شرارة النقد ويكشف عن شبهه الشديد بنوع آخر من النشاط الذهني، الذي يعتمد على التمييز بين هذين النوعين من اللغة وهو المنطق، ويترتب على هذا أن النقد ليس سوى ما وراء اللغة () .
فالتحليل البنائي لا يقوم بوصف الأعمال الأدبية بالجودة والرداءة وإنما يحاول إبراز كيفية تركيبه، والمعاني التي تكتسبها عناصره ، فالشكل عند البنائية تجربة تبدأ بالنص وتنتهي معه ، وكلما مضينا في القراءة التحليلية تكشف لنا أبنية العمل الأدبي() .
فالنقد البنيوي قد أخذ طابع التحليل وليس التقييم، فهو يحلل البنى والعناصر الداخلية ويفككها إلى عناصر بسيطة وينظر في العلاقات العلائقية القائمة بينها . والواقع الذي يقوم عليه الأدب لا يخرج عن الخطاب أو اللغة، فالعمل الأدبي كله دال() .
إن النص الأدبي يُمكن أن يُدرس على وفق مناهج كثيرة، قد تتفق كلها، أو بعضها في نتائجها، وأحكامِها على النص الأدبي الواحد، ويمكن القول بأن الوظيفة الأولى والأسمى للنقد الأدبي هي إنتاج معرفة بالنص الأدبي نفسه، وهذا يعني أن النقد الأدبي هو نص ثانٍ، لكنه يختلف عن النص الأدبي المدروس في كونهِ يحاول أو يؤسس لعناصر المعرفة في هذا النص() .

*د لامية مراكشي
--------------------------
قائمة المراجع :

1– إبراهيم محمود خليل : النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، دار المسيرة للنشر والتوزيع، ط1، 2003م .
2– إبراهيم السعافين وعبد الله الخياص : مناهج تحليل النص الأدبي، منشورات جامعة القدس المفتوحة، ط1، 1993م .
3 – إبراهيم خليل : مجلة أفكار، العدد 118، آب 1994م، ص 140.
4 – إيهاب مصطفى: مجلة أفق الثقافية
– زكريا إبراهيم : مشكلة البنية، دار مصر للطباعة، د.ط، د.ت
7 – جان بياجه : البنيوية .
8– جوناثان كللر .
9 - جميل حمداوي : مقال بعنوان : ما البنيوية، دارسات وأبحاث أدبية، موقع على الإنترنت، http://www.rezgar.com .
10 – جودت الركابي : مجلة الموقف الأدبي، العدد 220 ـ 221، آب 1989.
11– هادي نصر: البحوث اللغويّة والأدبية ( الاتجاهات، المناهج، الإجراءات )، دار الأمل، الأردن، ط1، 2005 م .
12– يورى لوتمان : تحليل النص الشعري، تر: محمد فتوح أحمد، دار المعارف، القاهرة .
13 - يمنى العيد : تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي .
14– مزهر حسن الكعبي ،مقال بعنوان: البنيوية والتحليل البنيوي في النص الأدبي، جريدة الجريدة، موقع على الإنترنت http://www.aljaredah.com
15– محمد ولد بوعليبة : النقد الغربي والنقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002م .
16– عبد السلام المسدي : قضية البنيوية دراسة ونماذج، وزارة الثقافة، تونس، ط1، 1991م .
17– شكري الماضي : في نظرية الأدب، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986م .
18– صلاح فضل : البنائية في النقد الأدبي .
19– روبرت شولز : البنيوية ، اتحاد الكتاب العام، ط6، 1977م .
20– رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة، تر: جابر عصفور، سلسلة آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط2، 1996م .
21– يمنى العيد : تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت، ط2، 1999م .
22– نبيلة إبراهيم : فن القص في النظرية والتطبيق، مكتبة غريب، القاهرة، (د. ط)، (د. ت) .
22– نبيلة إبراهيم : نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة .
23– سمير حجازي : قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1990م .
24– س. رافيندان : البنيوية والتفكيك تطورات النقد الأدبي، تر: خالدة أحمد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2002م .
- عز الدين المناصرة : علم الشعريات .
26– عدنان علي النحوي : الأسلوب والأسلوبية بين العلمانية والأدب الملتزم بالإسلام، دار النحوي للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 1999م.
- فائق مصطفى وعبد الرضا .
28 - صلاح فضل : البنائية في النقد الأدبي .
29 - روبرت شولز : البنيوية ، اتحاد الكتاب العام، ط6، 1977م .
30 – روبرت شولز : البنيوية ، اتحاد الكتاب العام، ط6، 1977م .
31 - شكري الماضي : في نظرية الأدب، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1986م .
32– شكري عياد : بين الفلسفة والنقد، منشورات أصدقاء الكتاب، د.ط، 1990م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.