"الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48: الواقع، والتحدّيات، والآفاق"، كتاب صادر مؤخّرًا عن "مركز مدار للدراسات الإسرائيليّة" (2018)، من تحرير وتدقيق علي مواسي.
يقع الكتاب في 209 صفحات من القطع الكبير، ويشارك فيه 9 باحثين وخبراء ثقافيّين: أنطوان شلحت، بشّار مرقص، سمير جبران، صالح ذبّاح، علي مواسي، محمّد جبالي، نديم كركبي، هشام نفّاع، هنيدة غانم.
يستند الكتاب، بالأساس، إلى وقائع يوم دراسيّ عقده "مدار" تحت نفس العنوان أواخر عام 2017، ويمثّل ثمرة توسيع وتطوير للأوراق الّتي قُدّمت خلاله.
الثقافة ناظمةً
لعلّ المتأمّل في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ ومجتمعه الراهن، يلحظ إصرارًا كبيرًا
على اقتراح الفعل الإبداعيّ والمعرفيّ لنفسه، مولّدًا وصانعًا مركزيًّا للمعاني والمواقف الوطنيّة الجامعة، وكذلك القيميّة المشكّلة والمطوّرة والناقدة لمنظومة قيم الشعب الفلسطينيّ وفق احتياجات عصره وتحدّياته.
يأتي ذلك في سياق سياسيّ مأزوم، موسوم بالتخبّط وانسداد الأفق، وتعطيل دور الجهات والمؤسّسات الّتي من المفترض أن تضطّلع في تنظيم الفلسطينيّين وتمثيلهم سياسيًّا، في مختلف أماكن وجودهم، والتعبير عن احتياجاتهم وطموحاتهم المدنيّة والوطنيّة والإجابة عنها،[1] وذلك على الرغم من المواجهات والتضحيات الّتي يخوضها ويقدّمها الفلسطينيّ على نحو مكثّف ومطّرد، فرديًّا وجماعيًّا، لكن دون أن يجد مَنْ يُسَيِّسَ غضبه، غالبًا، ويستثمره في مواجهة سياسات الاستعمار الإسرائيليّ وانتزاع حقوقه منه؛ وهذا يتجلّى، مثلًا، في كون الهبّات والحراكات المركزيّة الّتي شهدها الشارع الفلسطينيّ، خلال العقد الأخير،[2] جاءت منعتقة من المؤسّسة السياسيّة، وبعيدة عن إيقاعها واعتباراتها، بل وقد نزع الفعل الاشتباكيّ نحو الفرديّة باستثناء الحالة الغزّيّة، حتّى صار نموذج "المشتبك المنفرد"،[3] ظاهرة شائعة وبارزة.
قد يقول معترض، إنّ الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ لطالما أدّى هذا الدور، منذ بدايات الصراع مع الحركة الصهيونيّة والقوى الإمبرياليّة الراعية لها،[4] لكنّ مجموعة من العوامل المتزامنة والمتراكمة والمتشابكة، تجعل هذا الدور أكثر خطورة وحساسيّة ومركزيّة في المرحلة الراهنة، ضمن السياق السياسيّ الموصوف أعلاه، إذ تصبح الثقافة ناظمًا مركزيًّا لشرائح واسعة ومختلفة من المجتمع الفلسطينيّ، في ظلّ غياب أو تراجع الناظم السياسيّ الكلاسيكيّ.
ملامح مركزيّة
ويمكن الإشارة إلى مجموعة ملامح تميّز المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ الراهن، وتجعله مختلفًا عن مراحل تاريخيّة سابقة، ولا بدّ من التأكيد على أنّ هذه الملامح ليست منفصلة في حضورها، بل متزامنة ومتشابكة ومتبادلة التأثير:
أ. مسائل قيميّة: الانشغال بمسائل قيميّة لم تكن مطروقة سابقًا على هذا النحو من الاطّراد والكثافة، تتعلّق بالحرّيّات الفرديّة وحقوق الإنسان، ولا سيّما الحقّ في التعبير، وذلك بتأثّر من خطابات ومرجعيّات حداثيّة وما بعد حداثيّة ومقاصديّة عربيّة وإسلاميّة،[5] ومن ديناميكيّات السجال معها ونقدها، بل ورفضها من قبل خطابات ومرجعيّات مقابلة، توصف غالبًا، حتّى من متبنّيها، أو المنتمين إليها، بـ "الدينيّة" أو "المحافظة" أو "السلفيّة" أو "الملتزمة". ومن تلك المسائل: النسويّة، والمواطنة، والديمقراطيّة، والعلمانيّة، والتعدّديّة، والعقد الاجتماعيّ، وحرّيّة الاعتقاد، والتعدّديّة الجنسيّة، والكويريّة، وقضايا الأحوال الشخصيّة، وغيرها. وقد أدّى تصاعد قوّة وحضور التيّار الإسلاميّ في فلسطين بخاصّة، وفي الإقليم بعامّة، ووصوله إلى مواقع حكم في عدد من الدول العربيّة، وفي قطاع غزّة في الحالة الفلسطينيّة، إلى سجالات محتدّة، بل يمكن وصفها بالشرسة، حول قيم المجتمعات وأشكال التنظيم السياسيّ المعبّرة عنها؛ وهي تتّخذ غالبًا صيغة ثنائيّة، أعدّها سطحيّة وشعبويّة وزائفة في كثير من جوانبها، تقوم على "الظلاميّ" مقابل "المتنوّر"، و"الرجعيّ" مقابل "التقدّميّ"، و"المنحلّ" مقابل "العفيف". وقد شهدت فلسطين خلال السنوات القليلة الماضية، وعلى نحو غير مسبوق، عشرات السجالات حول أنشطة ومبادرات وإصدارات إبداعيّة ومعرفيّة، بلغت حدّ حظر العديد منها، والاعتداء الكلاميّ والجسديّ على عدد من الشخصيّات والأطر الفنّيّة والعلميّة والتربويّة والسياسيّة، لذرائع تتعلّق بـ "خدش الحياء العامّ"، و"المسّ بثوابت الدين"، و"الخروج على العادات والتقاليد"، وغيرها.[6]
ب. تعدّد المراكز: يحكم الاستعمار الإسرائيليّ الفلسطينيّين اليوم، ولا سيّما الملايين الستّة الباقين في فلسطين، بمنطق "المعازل"،[7] مخصّصًا لكلّ معزل منظومة قانونيّة تخدم مصالحه فيه، وهو منطق يعزّزه نهج الصراعات والانقسامات الفلسطينيّة المستمرّ: الضفّة الغربيّة (2.446 مليون)، قطاع غزّة (1.899 مليون)، أراضي 48 (1.57 مليون)، القدس (0.435 مليون)، الشتات (6.44 مليون).[8] هذا الواقع يفرض على المشتغلين في الحقل الثقافيّ العمل ضمن سياقات وأرضيّات متفاوتة، تفرض أشكال تنظيم، وأدوات، وفرصًا، ومضامين، وتحدّيات مختلفة. وفي ظلّ هذا الواقع، يمكن الإشارة، آنيًّا، إلى خمسة مراكز ثقافيّة فلسطينيّة أساسيّة، من حيث كمّ الإنتاج، والبنى التحتيّة والفضاءات والمؤسّسات، وزخم حضور المبدعين والمشتغلين في الحقل الثقافيّ، وصياغة التوجّهات والخطابات الثقافيّة العامّة: حيفا، ورام الله، وغزّة، والقدس، وعمّان؛ تُضاف إليها الناصرة وبيت لحم وبيروت، والأخيرة تُعَدّ اليوم "مركزًا" للفعل الثقافيّ الفلسطينيّ على نحو أقلّ بكثير ممّا كانت عليه يومًا.[9] أمام واقع المعازل هذا، المانع لتواصل الفلسطينيّين عبر جغرافيّتهم، وبالتالي للفعل وللإنتاج الطبيعيّ المشترك؛ وجد المجتمع الثقافيّ نفسه مصرًّا على جعل مسألة "التواصل" و"لمّ الشمل" من أولويّاته، فصار الفعل الثقافيّ حسّاسًا على نحو لافت لتمثيل "خماسيّة" الوجود الفلسطينيّ المبيّنة أعلاه (المعازل)، في مختلف الأنشطة والمبادرات والمسابقات والمحافل، وغير ذلك، في تحدّ واضح للسياسات الاستعماريّة، واحتجاجًا على حالة الانقسام الفلسطينيّة.[10] ومع ذلك، لم يَرْقَ الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ حتّى اليوم، إلى صياغة مشروع وطنيّ ثقافيّ جامع، يقدّم منهجيّة واستراتيجيّة تساهم في تحقيق الحرّيّة والعدالة والمساواة للإنسان الفلسطينيّ في وطنه، يُعَبّر عنها من خلال مؤسّسات وطنيّة، كالمكتبة الوطنيّة،[11] والمتحف الوطنيّ، وصندوق دعم الإنتاج الإبداعيّ الوطنيّ، والمسرح الوطنيّ، والصندوق الوطنيّ، دون ذلك.
ت. المقاطعة: يرجع خطاب المقاطعة العربيّة لما هو صهيونيّ إلى مراحل مبكرة من الصراع،[12] لكنّ تأسيس حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) عام 2005، كان محطّة مفصليّة جعل من هذا الخطاب استراتيجيّة نضاليّة مركزيّة نحو نيل الفلسطينيّ للحرّيّة والعدالة والمساواة، وصولًا إلى حقّ تقرير مصيره. وقد حقّقت الحركة اتّساعًا وتطوّرًا ونجاحًا كبيرًا في فلسطين والعالم،[13] وساهمت في جعل خطاب المقاطعة حاضرًا بقوّة في حياة الفلسطينيّ، بمختلف مجالاتها، وأبرزها الفعل الثقافيّ والأكاديميّ، ولا سيّما أنّ الحركة تمثّل ائتلافًا واسعًا من المؤسّسات الرسميّة والأهليّة، والأحزاب، والشركات، والناشطين، والأفراد من مختلف الحقول.
تُعَدّ المقاطعة، اليوم، مسألة ذات أولويّة كبيرة في المشهد الثقافيّ، وهي محلّ تناول وسجال دائمين في مجتمعه، وذلك ضمن أربعة محاور رئيسيّة:
- مصادر تمويل المؤسّسات والمشاريع والأنشطة الثقافيّة.
- قدوم مبدعين وأكاديميّين وممثّلين عن مؤسّسات وجهات ثقافيّة لفلسطين، ولا سيّما إن كانوا عربًا.
- المشاركة في محافل إسرائيليّة، رسميّة وغير رسميّة، أو بشراكة إسرائيليّة، أو إلى جانب إسرائيليّين، في فلسطين أو خارجها.
- استضافة إنتاجات إبداعيّة ومعرفيّة حصلت على تمويل إسرائيليّ، جزئيّ أو كلّيّ، أو شارك فيها إسرائيليّون، في محافل بدول عربيّة وإسلاميّة.
وفي ضوء حضور خطاب المقاطعة على النحو الموصوف أعلاه، يزداد السجال ويشتدّ حول ما يُعرف بـ "معايير المقاطعة"، مَنْ يحدّدها، ووفق أيّ اعتبارات، وما مدى قابليّة تطبيقها، وهل تراعي خصوصيّات "المعازل" الفلسطينيّة المختلفة، بل وظروف إنتاج مجالات إبداعيّة معيّنة، بالإضافة إلى تناول أساليب عمل وتوجّه الناشطين المركزيّين في حركة المقاطعة، ودون ذلك.[14]
ث. تنوّع المجالات: كان للأدب في الثقافة الفلسطينيّة، وتحديدًا الشعر، الحضور المسيطر والمكانة الأبرز على مدار القرن الماضي، بالإضافة إلى الغناء؛ إذ كُرّسا رمزين حضاريّين، ومعبّرين أساسيّين عن الوجدان، والذاكرة، والطموحات، وكانت لهما الحظوة لدى المؤسّسة السياسيّة، والنقديّة، والإعلاميّة، دون غيرهما من مجالات إبداعيّة، على الرغم من وجود مبدعين رائدين وبارزين في مجالات أخرى. أمّا اليوم، فإنّ المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ يزخر بإنتاجات تنتمي لمجالات إبداعيّة عديدة، تحظى باهتمام لا يقلّ عمّا للأدب والغناء؛ كالمسرح، والرقص، والسينما، والتصوير الفوتوغرافيّ، والأزياء، والعمارة، والفولكلور، ومختلف أصناف الفنون البصريّة. بل في مجال الأدب نفسه، لم تعد الأفضليّة للشعر، إذ انزاحت بوصلة التلقّي والاستثمار والاهتمام نحو السرد، الرواية تحديدًا،[15] كما لم تعد الأغنية التقليديّة الملتزمة صاحبة الصدارة، فالموسيقى البديلة[16] تزاحمها، بل وتنتصر عليها حضورًا واحتفاءً وإنتاجًا لدى شريحة الشباب بخاصّة، ولا سيّما غناء الراب (Rap)، الذي يرى البعض أنّ انتشاره والإقبال عليه بلغ حدًّا لم يعد بالإمكان معه اعتباره من ضمن الموسيقى البديلة. هذا التنوّع في المجالات، وبهذا الزخم، إنتاجًا وتلقّيًا واستثمارًا ونقدًا، لم يعرفه المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ خلال فترات تاريخيّة سابقة.
لو عمدنا إلى صناعة السينما مثالًا، لوجدنا أنّ الأفلام الروائيّة الطويلة التي أنجزها فلسطينيّون خلال العقد الثاني من القرن الحالي (2011 – 2018)، بلغ 42 فيلمًا؛ بينما في العقد الأوّل منه (2000 – 2010)، بلغ 19 فيلمًا؛ وخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين (1980 – 1999)، فلم يتجاوز 10 أفلام.[17]
ج. خروج على المركزيّة: اتّسم المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ، على مدار عقود، بمركزيّة الفعل والإنتاج والتنظيم والنقد؛ فمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، مثلًا، ومن خلال المؤسّسات البحثيّة والفنّيّة والإعلاميّة الّتي أنشأتها، سيطرت على هذا المشهد في الشتات، وحدّدت على نحو كبير البِنى والمعاني والأسماء المصنّفة ضمن "الثقافة الفلسطينيّة الوطنيّة" أو "الثقافة الثوريّة"، وما زال إرث هذا التوجّه قائمًا حتّى اليوم، وإن على نحو أقلّ، في توجّهات الفعل الثقافيّ المؤسّساتيّ الرسميّ في مناطق سيطرة ونفوذ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، إذ انتقل ثقل المنظّمة من الشتات إلى داخل فلسطين. ويشبه ذلك في أراضي 48، الدور الّذي اضطّلع به الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، ثمّ الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة، منذ النكبة حتّى سنوات التسعين من القرن الماضي، وقد قُدّمَتْ في هذا اجتهادات وشهادات عديدة، لعلّ أبرزها شهادة الأديب والمربّي حنّا أبو حنّا، في ثلاثيّة سيرته الذاتيّة، حول علاقته بالحزب وافتراقه عنه، وذلك لحميميّتها وحيويّتها، بصفتها تجربة إنسانيّة خاصّة.[18]
أمّا اليوم، فيتّسم المشهد الثقافيّ، على نحو بارز، بالتعدّديّة، والتنوّع، والانفتاح، بل وبالإصرار على رفض المركزيّة ونقدها، وهي حالة أدّى إليها مسار طويل ومعقّد منذ تسعينات القرن الماضي حتّى اليوم، ساهمت فيه مجموعة من العوامل، مثل: تصاعد دور مؤسّسات المجتمع المدنيّ؛ وازدياد التنوّع في أحزاب وقوى المجتمع السياسيّ، ولا سيّما في أراضي 48؛ وتعدّد مصادر التمويل والفرص المتاحة، فلسطينيًّا، وعربيًّا، ودوليًّا؛ وتنامي أعداد الأكاديميّين والمهنيّين على نحو ملحوظ؛ واستثمار القطاع الخاصّ في القطاع الثقافيّ؛ والثورة التكنولوجيّة الّتي خلخلت ضوابط التواصل وشروطه تمامًا، ومن ضمنها مناليّة الوصول إلى المعلومات ونشرها؛ وأيضًا، للمفارقة، واقع "المعازل" الاستعماريّ، الّذي لا يسمح لجهة سياسيّة أو أيديولوجيّة معيّنة أن تحكم/ تسيطر على... / تضبط سوى قطاع محدود من الشعب الفلسطينيّ.
كما أنّ تبنّي خطاب الهامش ونقد المركز، أداةً للتحليل والفعل، لدى شريحة واسعة من المشتغلين في الحقل الثقافيّ، مثلما يُلحظ من مدوّنة الصحافة الثقافيّة الفلسطينيّة النشطة خلال العقد الأخير، وكذلك البحثيّة، ساهم على نحو كبير في الوصول إلى هذه الحالة.
ولعلّ واقع "انهيار النظام" الفلسطينيّ،[19] ومسار هذا الانهيار، ولّدا نسقًا جديدًا، يستفيد من الشبكيّة والتعاونيّة والتبادليّة والتكامليّة، بصفتها ثقافةً وأدوات للفعل، على حساب الهرميّة وما قد يرشح عنها من ثقافة وأدوات عمل احتكاريّة وتسلّطيّة محتملة، لتغدو المؤسّسة الرسميّة الفلسطينيّة، في مختلف المعازل، وعلى الرغم من كلّ الأدوات والإمكانيّات المتاحة لها، شريكًا على أحسن حال، لا مركزًا مسيطرًا، كما كانت على مدار عقود. وهذا في رأيي، وإن اكتنف على جوانب إيجابيّة عديدة، لكنّه، في الوقت نفسه، يعبّر عن قصور في دور المؤسّسة الرسميّة، إذ المتوقّع والمطلوب منها أن تكون الداعم المركزيّ للمشهد الثقافيّ ومجتمعه، وضامنة لحرّيّة تنظيمه وتعبيره.
وعلى الرغم من خطاب وممارسة "الخروج على المركزيّة" الموصوف أعلاه، إلّا أنّ المشهد الثقافيّ ما زال يعاني من فعل مؤسّساتيّ مدينيّ يحصر نفسه في مراكز محدّدة، كما بيّنّا أعلاه، وليس من أولويّاته، غالبًا، ما هو خارج هذه المراكز، إن كان مدينة أخرى، أو ضاحية، أو مخيّمًا، أو ريفًا، أو بادية، أو غيرها، لنكون أمام حالة جديدة من المركز/ الهامش. وإن كان ثمّة توجّه لدى مؤسّسات عديدة، ومجموعات، وأفراد، يزداد باطّراد، نحو معالجة هذه المسألة والإقلال من أثرها، إلّا أنّه لم يَرْقَ بعد، كمًّا وكيفًا، لمستوى اقتراح حلول جوهريّة لها على المدى البعيد. لا يعني هذا أنّ ما يحيط بالحيّز المدينيّ أو يقع خارجه لا يشهد فعلًا ثقافيًّا، لكنّه قليل نسبيًّا وفق اعتبارات ديموغرافيّة، ويفتقد لمجموعة من الخصائص الضروريّة في أيّ مشهد ثقافيّ حيويّ، في نظري: الاستدامة، والإنتاجيّة، والوفرة، والتعدّديّة، والنقديّة، وبالتالي التأثير في الحيّز العامّ. إذ ليس يُنتظر من الفعل الثقافيّ، مثلًا، أن يقتصر دوره على الاستهلاك والإمتاع والترفيه، في سياق استعماريّ ومجتمعيّ مليء بالتحدّيات.
هذا الكتاب
يُعَدّ هذا الكتاب، بمقالاته وشهاداته التسع، اجتهادًا نوعيًّا ومساهمة ضروريّة في تأريخ الثقافة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، ورصد أهمّ ملامحها، وتوثيقها، والبحث في بِناها ومضامينها وقيمها، وتشخيص تحدّياتها المركزيّة، واقتراح حلول ونماذج عمليّة لتجاوزها، وبيان مكامن قوّتها وضعفها، واستشراف مستقبل فعلها وأثره، وكلّ ذلك من خلال موضعتها في سياقها الجمعيّ الفلسطينيّ المحكوم بظروف الحالة الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة.
كما أنّ تبنّي خطاب الهامش ونقد المركز، أداةً للتحليل والفعل، لدى شريحة واسعة من المشتغلين في الحقل الثقافيّ، مثلما يُلحظ من مدوّنة الصحافة الثقافيّة الفلسطينيّة النشطة خلال العقد الأخير، وكذلك البحثيّة، ساهم على نحو كبير في الوصول إلى هذه الحالة.
ولعلّ واقع "انهيار النظام" الفلسطينيّ،[19] ومسار هذا الانهيار، ولّدا نسقًا جديدًا، يستفيد من الشبكيّة والتعاونيّة والتبادليّة والتكامليّة، بصفتها ثقافةً وأدوات للفعل، على حساب الهرميّة وما قد يرشح عنها من ثقافة وأدوات عمل احتكاريّة وتسلّطيّة محتملة، لتغدو المؤسّسة الرسميّة الفلسطينيّة، في مختلف المعازل، وعلى الرغم من كلّ الأدوات والإمكانيّات المتاحة لها، شريكًا على أحسن حال، لا مركزًا مسيطرًا، كما كانت على مدار عقود. وهذا في رأيي، وإن اكتنف على جوانب إيجابيّة عديدة، لكنّه، في الوقت نفسه، يعبّر عن قصور في دور المؤسّسة الرسميّة، إذ المتوقّع والمطلوب منها أن تكون الداعم المركزيّ للمشهد الثقافيّ ومجتمعه، وضامنة لحرّيّة تنظيمه وتعبيره.
وعلى الرغم من خطاب وممارسة "الخروج على المركزيّة" الموصوف أعلاه، إلّا أنّ المشهد الثقافيّ ما زال يعاني من فعل مؤسّساتيّ مدينيّ يحصر نفسه في مراكز محدّدة، كما بيّنّا أعلاه، وليس من أولويّاته، غالبًا، ما هو خارج هذه المراكز، إن كان مدينة أخرى، أو ضاحية، أو مخيّمًا، أو ريفًا، أو بادية، أو غيرها، لنكون أمام حالة جديدة من المركز/ الهامش. وإن كان ثمّة توجّه لدى مؤسّسات عديدة، ومجموعات، وأفراد، يزداد باطّراد، نحو معالجة هذه المسألة والإقلال من أثرها، إلّا أنّه لم يَرْقَ بعد، كمًّا وكيفًا، لمستوى اقتراح حلول جوهريّة لها على المدى البعيد. لا يعني هذا أنّ ما يحيط بالحيّز المدينيّ أو يقع خارجه لا يشهد فعلًا ثقافيًّا، لكنّه قليل نسبيًّا وفق اعتبارات ديموغرافيّة، ويفتقد لمجموعة من الخصائص الضروريّة في أيّ مشهد ثقافيّ حيويّ، في نظري: الاستدامة، والإنتاجيّة، والوفرة، والتعدّديّة، والنقديّة، وبالتالي التأثير في الحيّز العامّ. إذ ليس يُنتظر من الفعل الثقافيّ، مثلًا، أن يقتصر دوره على الاستهلاك والإمتاع والترفيه، في سياق استعماريّ ومجتمعيّ مليء بالتحدّيات.
هذا الكتاب
يُعَدّ هذا الكتاب، بمقالاته وشهاداته التسع، اجتهادًا نوعيًّا ومساهمة ضروريّة في تأريخ الثقافة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، ورصد أهمّ ملامحها، وتوثيقها، والبحث في بِناها ومضامينها وقيمها، وتشخيص تحدّياتها المركزيّة، واقتراح حلول ونماذج عمليّة لتجاوزها، وبيان مكامن قوّتها وضعفها، واستشراف مستقبل فعلها وأثره، وكلّ ذلك من خلال موضعتها في سياقها الجمعيّ الفلسطينيّ المحكوم بظروف الحالة الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة.
*علي مواسي
شاعر وباحث ومدرّس. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط ثقافيًّا وسياسيًّا في عدد من الأطر والمبادرات. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (2016)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع - عمّان.
عرب 48
يقع الكتاب في 209 صفحات من القطع الكبير، ويشارك فيه 9 باحثين وخبراء ثقافيّين: أنطوان شلحت، بشّار مرقص، سمير جبران، صالح ذبّاح، علي مواسي، محمّد جبالي، نديم كركبي، هشام نفّاع، هنيدة غانم.
يستند الكتاب، بالأساس، إلى وقائع يوم دراسيّ عقده "مدار" تحت نفس العنوان أواخر عام 2017، ويمثّل ثمرة توسيع وتطوير للأوراق الّتي قُدّمت خلاله.
الثقافة ناظمةً
لعلّ المتأمّل في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ ومجتمعه الراهن، يلحظ إصرارًا كبيرًا
على اقتراح الفعل الإبداعيّ والمعرفيّ لنفسه، مولّدًا وصانعًا مركزيًّا للمعاني والمواقف الوطنيّة الجامعة، وكذلك القيميّة المشكّلة والمطوّرة والناقدة لمنظومة قيم الشعب الفلسطينيّ وفق احتياجات عصره وتحدّياته.
يأتي ذلك في سياق سياسيّ مأزوم، موسوم بالتخبّط وانسداد الأفق، وتعطيل دور الجهات والمؤسّسات الّتي من المفترض أن تضطّلع في تنظيم الفلسطينيّين وتمثيلهم سياسيًّا، في مختلف أماكن وجودهم، والتعبير عن احتياجاتهم وطموحاتهم المدنيّة والوطنيّة والإجابة عنها،[1] وذلك على الرغم من المواجهات والتضحيات الّتي يخوضها ويقدّمها الفلسطينيّ على نحو مكثّف ومطّرد، فرديًّا وجماعيًّا، لكن دون أن يجد مَنْ يُسَيِّسَ غضبه، غالبًا، ويستثمره في مواجهة سياسات الاستعمار الإسرائيليّ وانتزاع حقوقه منه؛ وهذا يتجلّى، مثلًا، في كون الهبّات والحراكات المركزيّة الّتي شهدها الشارع الفلسطينيّ، خلال العقد الأخير،[2] جاءت منعتقة من المؤسّسة السياسيّة، وبعيدة عن إيقاعها واعتباراتها، بل وقد نزع الفعل الاشتباكيّ نحو الفرديّة باستثناء الحالة الغزّيّة، حتّى صار نموذج "المشتبك المنفرد"،[3] ظاهرة شائعة وبارزة.
قد يقول معترض، إنّ الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ لطالما أدّى هذا الدور، منذ بدايات الصراع مع الحركة الصهيونيّة والقوى الإمبرياليّة الراعية لها،[4] لكنّ مجموعة من العوامل المتزامنة والمتراكمة والمتشابكة، تجعل هذا الدور أكثر خطورة وحساسيّة ومركزيّة في المرحلة الراهنة، ضمن السياق السياسيّ الموصوف أعلاه، إذ تصبح الثقافة ناظمًا مركزيًّا لشرائح واسعة ومختلفة من المجتمع الفلسطينيّ، في ظلّ غياب أو تراجع الناظم السياسيّ الكلاسيكيّ.
ملامح مركزيّة
ويمكن الإشارة إلى مجموعة ملامح تميّز المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ الراهن، وتجعله مختلفًا عن مراحل تاريخيّة سابقة، ولا بدّ من التأكيد على أنّ هذه الملامح ليست منفصلة في حضورها، بل متزامنة ومتشابكة ومتبادلة التأثير:
أ. مسائل قيميّة: الانشغال بمسائل قيميّة لم تكن مطروقة سابقًا على هذا النحو من الاطّراد والكثافة، تتعلّق بالحرّيّات الفرديّة وحقوق الإنسان، ولا سيّما الحقّ في التعبير، وذلك بتأثّر من خطابات ومرجعيّات حداثيّة وما بعد حداثيّة ومقاصديّة عربيّة وإسلاميّة،[5] ومن ديناميكيّات السجال معها ونقدها، بل ورفضها من قبل خطابات ومرجعيّات مقابلة، توصف غالبًا، حتّى من متبنّيها، أو المنتمين إليها، بـ "الدينيّة" أو "المحافظة" أو "السلفيّة" أو "الملتزمة". ومن تلك المسائل: النسويّة، والمواطنة، والديمقراطيّة، والعلمانيّة، والتعدّديّة، والعقد الاجتماعيّ، وحرّيّة الاعتقاد، والتعدّديّة الجنسيّة، والكويريّة، وقضايا الأحوال الشخصيّة، وغيرها. وقد أدّى تصاعد قوّة وحضور التيّار الإسلاميّ في فلسطين بخاصّة، وفي الإقليم بعامّة، ووصوله إلى مواقع حكم في عدد من الدول العربيّة، وفي قطاع غزّة في الحالة الفلسطينيّة، إلى سجالات محتدّة، بل يمكن وصفها بالشرسة، حول قيم المجتمعات وأشكال التنظيم السياسيّ المعبّرة عنها؛ وهي تتّخذ غالبًا صيغة ثنائيّة، أعدّها سطحيّة وشعبويّة وزائفة في كثير من جوانبها، تقوم على "الظلاميّ" مقابل "المتنوّر"، و"الرجعيّ" مقابل "التقدّميّ"، و"المنحلّ" مقابل "العفيف". وقد شهدت فلسطين خلال السنوات القليلة الماضية، وعلى نحو غير مسبوق، عشرات السجالات حول أنشطة ومبادرات وإصدارات إبداعيّة ومعرفيّة، بلغت حدّ حظر العديد منها، والاعتداء الكلاميّ والجسديّ على عدد من الشخصيّات والأطر الفنّيّة والعلميّة والتربويّة والسياسيّة، لذرائع تتعلّق بـ "خدش الحياء العامّ"، و"المسّ بثوابت الدين"، و"الخروج على العادات والتقاليد"، وغيرها.[6]
ب. تعدّد المراكز: يحكم الاستعمار الإسرائيليّ الفلسطينيّين اليوم، ولا سيّما الملايين الستّة الباقين في فلسطين، بمنطق "المعازل"،[7] مخصّصًا لكلّ معزل منظومة قانونيّة تخدم مصالحه فيه، وهو منطق يعزّزه نهج الصراعات والانقسامات الفلسطينيّة المستمرّ: الضفّة الغربيّة (2.446 مليون)، قطاع غزّة (1.899 مليون)، أراضي 48 (1.57 مليون)، القدس (0.435 مليون)، الشتات (6.44 مليون).[8] هذا الواقع يفرض على المشتغلين في الحقل الثقافيّ العمل ضمن سياقات وأرضيّات متفاوتة، تفرض أشكال تنظيم، وأدوات، وفرصًا، ومضامين، وتحدّيات مختلفة. وفي ظلّ هذا الواقع، يمكن الإشارة، آنيًّا، إلى خمسة مراكز ثقافيّة فلسطينيّة أساسيّة، من حيث كمّ الإنتاج، والبنى التحتيّة والفضاءات والمؤسّسات، وزخم حضور المبدعين والمشتغلين في الحقل الثقافيّ، وصياغة التوجّهات والخطابات الثقافيّة العامّة: حيفا، ورام الله، وغزّة، والقدس، وعمّان؛ تُضاف إليها الناصرة وبيت لحم وبيروت، والأخيرة تُعَدّ اليوم "مركزًا" للفعل الثقافيّ الفلسطينيّ على نحو أقلّ بكثير ممّا كانت عليه يومًا.[9] أمام واقع المعازل هذا، المانع لتواصل الفلسطينيّين عبر جغرافيّتهم، وبالتالي للفعل وللإنتاج الطبيعيّ المشترك؛ وجد المجتمع الثقافيّ نفسه مصرًّا على جعل مسألة "التواصل" و"لمّ الشمل" من أولويّاته، فصار الفعل الثقافيّ حسّاسًا على نحو لافت لتمثيل "خماسيّة" الوجود الفلسطينيّ المبيّنة أعلاه (المعازل)، في مختلف الأنشطة والمبادرات والمسابقات والمحافل، وغير ذلك، في تحدّ واضح للسياسات الاستعماريّة، واحتجاجًا على حالة الانقسام الفلسطينيّة.[10] ومع ذلك، لم يَرْقَ الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ حتّى اليوم، إلى صياغة مشروع وطنيّ ثقافيّ جامع، يقدّم منهجيّة واستراتيجيّة تساهم في تحقيق الحرّيّة والعدالة والمساواة للإنسان الفلسطينيّ في وطنه، يُعَبّر عنها من خلال مؤسّسات وطنيّة، كالمكتبة الوطنيّة،[11] والمتحف الوطنيّ، وصندوق دعم الإنتاج الإبداعيّ الوطنيّ، والمسرح الوطنيّ، والصندوق الوطنيّ، دون ذلك.
ت. المقاطعة: يرجع خطاب المقاطعة العربيّة لما هو صهيونيّ إلى مراحل مبكرة من الصراع،[12] لكنّ تأسيس حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) عام 2005، كان محطّة مفصليّة جعل من هذا الخطاب استراتيجيّة نضاليّة مركزيّة نحو نيل الفلسطينيّ للحرّيّة والعدالة والمساواة، وصولًا إلى حقّ تقرير مصيره. وقد حقّقت الحركة اتّساعًا وتطوّرًا ونجاحًا كبيرًا في فلسطين والعالم،[13] وساهمت في جعل خطاب المقاطعة حاضرًا بقوّة في حياة الفلسطينيّ، بمختلف مجالاتها، وأبرزها الفعل الثقافيّ والأكاديميّ، ولا سيّما أنّ الحركة تمثّل ائتلافًا واسعًا من المؤسّسات الرسميّة والأهليّة، والأحزاب، والشركات، والناشطين، والأفراد من مختلف الحقول.
تُعَدّ المقاطعة، اليوم، مسألة ذات أولويّة كبيرة في المشهد الثقافيّ، وهي محلّ تناول وسجال دائمين في مجتمعه، وذلك ضمن أربعة محاور رئيسيّة:
- مصادر تمويل المؤسّسات والمشاريع والأنشطة الثقافيّة.
- قدوم مبدعين وأكاديميّين وممثّلين عن مؤسّسات وجهات ثقافيّة لفلسطين، ولا سيّما إن كانوا عربًا.
- المشاركة في محافل إسرائيليّة، رسميّة وغير رسميّة، أو بشراكة إسرائيليّة، أو إلى جانب إسرائيليّين، في فلسطين أو خارجها.
- استضافة إنتاجات إبداعيّة ومعرفيّة حصلت على تمويل إسرائيليّ، جزئيّ أو كلّيّ، أو شارك فيها إسرائيليّون، في محافل بدول عربيّة وإسلاميّة.
وفي ضوء حضور خطاب المقاطعة على النحو الموصوف أعلاه، يزداد السجال ويشتدّ حول ما يُعرف بـ "معايير المقاطعة"، مَنْ يحدّدها، ووفق أيّ اعتبارات، وما مدى قابليّة تطبيقها، وهل تراعي خصوصيّات "المعازل" الفلسطينيّة المختلفة، بل وظروف إنتاج مجالات إبداعيّة معيّنة، بالإضافة إلى تناول أساليب عمل وتوجّه الناشطين المركزيّين في حركة المقاطعة، ودون ذلك.[14]
ث. تنوّع المجالات: كان للأدب في الثقافة الفلسطينيّة، وتحديدًا الشعر، الحضور المسيطر والمكانة الأبرز على مدار القرن الماضي، بالإضافة إلى الغناء؛ إذ كُرّسا رمزين حضاريّين، ومعبّرين أساسيّين عن الوجدان، والذاكرة، والطموحات، وكانت لهما الحظوة لدى المؤسّسة السياسيّة، والنقديّة، والإعلاميّة، دون غيرهما من مجالات إبداعيّة، على الرغم من وجود مبدعين رائدين وبارزين في مجالات أخرى. أمّا اليوم، فإنّ المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ يزخر بإنتاجات تنتمي لمجالات إبداعيّة عديدة، تحظى باهتمام لا يقلّ عمّا للأدب والغناء؛ كالمسرح، والرقص، والسينما، والتصوير الفوتوغرافيّ، والأزياء، والعمارة، والفولكلور، ومختلف أصناف الفنون البصريّة. بل في مجال الأدب نفسه، لم تعد الأفضليّة للشعر، إذ انزاحت بوصلة التلقّي والاستثمار والاهتمام نحو السرد، الرواية تحديدًا،[15] كما لم تعد الأغنية التقليديّة الملتزمة صاحبة الصدارة، فالموسيقى البديلة[16] تزاحمها، بل وتنتصر عليها حضورًا واحتفاءً وإنتاجًا لدى شريحة الشباب بخاصّة، ولا سيّما غناء الراب (Rap)، الذي يرى البعض أنّ انتشاره والإقبال عليه بلغ حدًّا لم يعد بالإمكان معه اعتباره من ضمن الموسيقى البديلة. هذا التنوّع في المجالات، وبهذا الزخم، إنتاجًا وتلقّيًا واستثمارًا ونقدًا، لم يعرفه المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ خلال فترات تاريخيّة سابقة.
لو عمدنا إلى صناعة السينما مثالًا، لوجدنا أنّ الأفلام الروائيّة الطويلة التي أنجزها فلسطينيّون خلال العقد الثاني من القرن الحالي (2011 – 2018)، بلغ 42 فيلمًا؛ بينما في العقد الأوّل منه (2000 – 2010)، بلغ 19 فيلمًا؛ وخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين (1980 – 1999)، فلم يتجاوز 10 أفلام.[17]
ج. خروج على المركزيّة: اتّسم المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ، على مدار عقود، بمركزيّة الفعل والإنتاج والتنظيم والنقد؛ فمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، مثلًا، ومن خلال المؤسّسات البحثيّة والفنّيّة والإعلاميّة الّتي أنشأتها، سيطرت على هذا المشهد في الشتات، وحدّدت على نحو كبير البِنى والمعاني والأسماء المصنّفة ضمن "الثقافة الفلسطينيّة الوطنيّة" أو "الثقافة الثوريّة"، وما زال إرث هذا التوجّه قائمًا حتّى اليوم، وإن على نحو أقلّ، في توجّهات الفعل الثقافيّ المؤسّساتيّ الرسميّ في مناطق سيطرة ونفوذ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، إذ انتقل ثقل المنظّمة من الشتات إلى داخل فلسطين. ويشبه ذلك في أراضي 48، الدور الّذي اضطّلع به الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، ثمّ الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة، منذ النكبة حتّى سنوات التسعين من القرن الماضي، وقد قُدّمَتْ في هذا اجتهادات وشهادات عديدة، لعلّ أبرزها شهادة الأديب والمربّي حنّا أبو حنّا، في ثلاثيّة سيرته الذاتيّة، حول علاقته بالحزب وافتراقه عنه، وذلك لحميميّتها وحيويّتها، بصفتها تجربة إنسانيّة خاصّة.[18]
أمّا اليوم، فيتّسم المشهد الثقافيّ، على نحو بارز، بالتعدّديّة، والتنوّع، والانفتاح، بل وبالإصرار على رفض المركزيّة ونقدها، وهي حالة أدّى إليها مسار طويل ومعقّد منذ تسعينات القرن الماضي حتّى اليوم، ساهمت فيه مجموعة من العوامل، مثل: تصاعد دور مؤسّسات المجتمع المدنيّ؛ وازدياد التنوّع في أحزاب وقوى المجتمع السياسيّ، ولا سيّما في أراضي 48؛ وتعدّد مصادر التمويل والفرص المتاحة، فلسطينيًّا، وعربيًّا، ودوليًّا؛ وتنامي أعداد الأكاديميّين والمهنيّين على نحو ملحوظ؛ واستثمار القطاع الخاصّ في القطاع الثقافيّ؛ والثورة التكنولوجيّة الّتي خلخلت ضوابط التواصل وشروطه تمامًا، ومن ضمنها مناليّة الوصول إلى المعلومات ونشرها؛ وأيضًا، للمفارقة، واقع "المعازل" الاستعماريّ، الّذي لا يسمح لجهة سياسيّة أو أيديولوجيّة معيّنة أن تحكم/ تسيطر على... / تضبط سوى قطاع محدود من الشعب الفلسطينيّ.
كما أنّ تبنّي خطاب الهامش ونقد المركز، أداةً للتحليل والفعل، لدى شريحة واسعة من المشتغلين في الحقل الثقافيّ، مثلما يُلحظ من مدوّنة الصحافة الثقافيّة الفلسطينيّة النشطة خلال العقد الأخير، وكذلك البحثيّة، ساهم على نحو كبير في الوصول إلى هذه الحالة.
ولعلّ واقع "انهيار النظام" الفلسطينيّ،[19] ومسار هذا الانهيار، ولّدا نسقًا جديدًا، يستفيد من الشبكيّة والتعاونيّة والتبادليّة والتكامليّة، بصفتها ثقافةً وأدوات للفعل، على حساب الهرميّة وما قد يرشح عنها من ثقافة وأدوات عمل احتكاريّة وتسلّطيّة محتملة، لتغدو المؤسّسة الرسميّة الفلسطينيّة، في مختلف المعازل، وعلى الرغم من كلّ الأدوات والإمكانيّات المتاحة لها، شريكًا على أحسن حال، لا مركزًا مسيطرًا، كما كانت على مدار عقود. وهذا في رأيي، وإن اكتنف على جوانب إيجابيّة عديدة، لكنّه، في الوقت نفسه، يعبّر عن قصور في دور المؤسّسة الرسميّة، إذ المتوقّع والمطلوب منها أن تكون الداعم المركزيّ للمشهد الثقافيّ ومجتمعه، وضامنة لحرّيّة تنظيمه وتعبيره.
وعلى الرغم من خطاب وممارسة "الخروج على المركزيّة" الموصوف أعلاه، إلّا أنّ المشهد الثقافيّ ما زال يعاني من فعل مؤسّساتيّ مدينيّ يحصر نفسه في مراكز محدّدة، كما بيّنّا أعلاه، وليس من أولويّاته، غالبًا، ما هو خارج هذه المراكز، إن كان مدينة أخرى، أو ضاحية، أو مخيّمًا، أو ريفًا، أو بادية، أو غيرها، لنكون أمام حالة جديدة من المركز/ الهامش. وإن كان ثمّة توجّه لدى مؤسّسات عديدة، ومجموعات، وأفراد، يزداد باطّراد، نحو معالجة هذه المسألة والإقلال من أثرها، إلّا أنّه لم يَرْقَ بعد، كمًّا وكيفًا، لمستوى اقتراح حلول جوهريّة لها على المدى البعيد. لا يعني هذا أنّ ما يحيط بالحيّز المدينيّ أو يقع خارجه لا يشهد فعلًا ثقافيًّا، لكنّه قليل نسبيًّا وفق اعتبارات ديموغرافيّة، ويفتقد لمجموعة من الخصائص الضروريّة في أيّ مشهد ثقافيّ حيويّ، في نظري: الاستدامة، والإنتاجيّة، والوفرة، والتعدّديّة، والنقديّة، وبالتالي التأثير في الحيّز العامّ. إذ ليس يُنتظر من الفعل الثقافيّ، مثلًا، أن يقتصر دوره على الاستهلاك والإمتاع والترفيه، في سياق استعماريّ ومجتمعيّ مليء بالتحدّيات.
هذا الكتاب
يُعَدّ هذا الكتاب، بمقالاته وشهاداته التسع، اجتهادًا نوعيًّا ومساهمة ضروريّة في تأريخ الثقافة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، ورصد أهمّ ملامحها، وتوثيقها، والبحث في بِناها ومضامينها وقيمها، وتشخيص تحدّياتها المركزيّة، واقتراح حلول ونماذج عمليّة لتجاوزها، وبيان مكامن قوّتها وضعفها، واستشراف مستقبل فعلها وأثره، وكلّ ذلك من خلال موضعتها في سياقها الجمعيّ الفلسطينيّ المحكوم بظروف الحالة الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة.
كما أنّ تبنّي خطاب الهامش ونقد المركز، أداةً للتحليل والفعل، لدى شريحة واسعة من المشتغلين في الحقل الثقافيّ، مثلما يُلحظ من مدوّنة الصحافة الثقافيّة الفلسطينيّة النشطة خلال العقد الأخير، وكذلك البحثيّة، ساهم على نحو كبير في الوصول إلى هذه الحالة.
ولعلّ واقع "انهيار النظام" الفلسطينيّ،[19] ومسار هذا الانهيار، ولّدا نسقًا جديدًا، يستفيد من الشبكيّة والتعاونيّة والتبادليّة والتكامليّة، بصفتها ثقافةً وأدوات للفعل، على حساب الهرميّة وما قد يرشح عنها من ثقافة وأدوات عمل احتكاريّة وتسلّطيّة محتملة، لتغدو المؤسّسة الرسميّة الفلسطينيّة، في مختلف المعازل، وعلى الرغم من كلّ الأدوات والإمكانيّات المتاحة لها، شريكًا على أحسن حال، لا مركزًا مسيطرًا، كما كانت على مدار عقود. وهذا في رأيي، وإن اكتنف على جوانب إيجابيّة عديدة، لكنّه، في الوقت نفسه، يعبّر عن قصور في دور المؤسّسة الرسميّة، إذ المتوقّع والمطلوب منها أن تكون الداعم المركزيّ للمشهد الثقافيّ ومجتمعه، وضامنة لحرّيّة تنظيمه وتعبيره.
وعلى الرغم من خطاب وممارسة "الخروج على المركزيّة" الموصوف أعلاه، إلّا أنّ المشهد الثقافيّ ما زال يعاني من فعل مؤسّساتيّ مدينيّ يحصر نفسه في مراكز محدّدة، كما بيّنّا أعلاه، وليس من أولويّاته، غالبًا، ما هو خارج هذه المراكز، إن كان مدينة أخرى، أو ضاحية، أو مخيّمًا، أو ريفًا، أو بادية، أو غيرها، لنكون أمام حالة جديدة من المركز/ الهامش. وإن كان ثمّة توجّه لدى مؤسّسات عديدة، ومجموعات، وأفراد، يزداد باطّراد، نحو معالجة هذه المسألة والإقلال من أثرها، إلّا أنّه لم يَرْقَ بعد، كمًّا وكيفًا، لمستوى اقتراح حلول جوهريّة لها على المدى البعيد. لا يعني هذا أنّ ما يحيط بالحيّز المدينيّ أو يقع خارجه لا يشهد فعلًا ثقافيًّا، لكنّه قليل نسبيًّا وفق اعتبارات ديموغرافيّة، ويفتقد لمجموعة من الخصائص الضروريّة في أيّ مشهد ثقافيّ حيويّ، في نظري: الاستدامة، والإنتاجيّة، والوفرة، والتعدّديّة، والنقديّة، وبالتالي التأثير في الحيّز العامّ. إذ ليس يُنتظر من الفعل الثقافيّ، مثلًا، أن يقتصر دوره على الاستهلاك والإمتاع والترفيه، في سياق استعماريّ ومجتمعيّ مليء بالتحدّيات.
هذا الكتاب
يُعَدّ هذا الكتاب، بمقالاته وشهاداته التسع، اجتهادًا نوعيًّا ومساهمة ضروريّة في تأريخ الثقافة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، ورصد أهمّ ملامحها، وتوثيقها، والبحث في بِناها ومضامينها وقيمها، وتشخيص تحدّياتها المركزيّة، واقتراح حلول ونماذج عمليّة لتجاوزها، وبيان مكامن قوّتها وضعفها، واستشراف مستقبل فعلها وأثره، وكلّ ذلك من خلال موضعتها في سياقها الجمعيّ الفلسطينيّ المحكوم بظروف الحالة الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة.
*علي مواسي
شاعر وباحث ومدرّس. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط ثقافيًّا وسياسيًّا في عدد من الأطر والمبادرات. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (2016)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع - عمّان.
عرب 48
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.