الصفحات

تجلّيات الأزمة السُّورية في المنجز الإبداعي الشّعري


قصيدة : (سوريَّتي ) للّواء الشَّاعر : محمّد حسن العلي أنموذجاً

*د . وليد العرفي

تعكس الكتابة الإبداعية همّ الشاعر الوجودي في الحياة ، كما تُعبّر عن قلقه المستمر بما يمتلكه من رهافة حسٍّ ، وإدراك للواقع تجعله
في حالة لا تعرف السكينة ، كأنما قدر الشاعر أن يكون كما وصفه الشاعر المتنبي :
على قلقٍ كأنَّ الرّيح تحتي
،وقد تبدّى هذا القلق ، وتلك الحالة المتحفّزة في منتج شعري تمثّله القصيدة التي وسمها الشاعر : محمَّد حسن العلي بـ : ( سوريَّتي) يُشكِّلُ العنوان في النصّ الإبداعيّ العتبة النصية الاستهلالية التي تكون مفتاح الولوج إلى معبد القصيدة التي يُهندس الشاعر بناءها بمداد الدم ، ويبني لبناتها من نفحات الروح ، وهو ما يكشف عنه هذا التّجغرف الذي يُعمّد الشاعر نفسه فيه مؤكّداً تعلَّقه بالوطن سوريّة من خلال ياء النسبة التي تفيد عمق الانتماء والترابط بين الذات الشاعرة ، والوطن الذي يتماهى الشاعر فيه من خلال إلغاء ذاته في حدود جغرافية المكان الذي يُمثّل للشاعر الأرض التي يعشق ، والحبَّ الذي يعيش والحالة الوجوديَّة التي يتحرّك فيها ، ومن خلالها ، فالعنوان ذو مقصدية ومغزى قد يكون ظاهراً ، وربّما جاء عفوياً ، بيد أنه في حيز التحليل النفسي لا يأتي عبثاً ، وإنما هو توجيه مقصود ، ويأتي (بو صفه فعلاً من أفعال الكتابة ، ينتج تحت قوة الإرادة من حيث هي مشيئة وعزم ، وما يخالج هذه المشيئة من معاناة في إخراج العلامة التي تتحرّك وفق قصدية من المُرسِل إلى المُرسَل إليه ، لتبليغ مقصديات متنوعة ).
وهذا ما نجده في قصيدة الشاعر : محمّد حسن العلي التي يستهلها بإجلال مقام الموصوفة سوريّة ، إنه راهب في دير العشق الذي يبدو فيه الشاعر صوفيّاً يعيش الوله بمن يصف ، فهو يحاول أن يرتقي بحروفه سدرة الموصوفة سوريّة ، فيستهلُّ باسم : ( شرف ) الذي جاء نكرة ليفيد دلالة التعميم والشمول الذي سيفيض على لغة الشاعر التي تتحدث عن وطنه سوريّة ، وقديماً قالت العرب : ( لكلّ مقامٍ مقال ) يقول في المطلع :
شرفٌ لحرفي أن يكونَ جوانحاً لخيالِ أمس ٍ لذَّ فيهِ هيامُ
وتتقاطر في حضرة عظمة المشهد الذي يصبح الشاعر فيه مُريد جمال ، ومفتون ماض ذكريات الأمس على شريط الذاكرة التي تفيض بألف صورة جمالية من ذلك الإرث الإنساني الذي كانت تعبق فيه سوريّة حيث ليالي الأنس ، وجلسات المودّة التي كانت تجمع الشاعر بالأصدقاء ، فيخاطب أولئك الأصدقاء ، وقد أصبح السؤال بوابة عبور إلى تلك الأجواء التي يفتقدها الشاعر ، إنها عالم الطبيعة البكر الذي يجده الشاعر في الطبيعة مرسوماً بريف سوريّة الوادع حيث الخير العميم ، وهدوء النفس التي تستمتع بمفاتن تلك الطبيعة التي حباها الله لها ، فهاهي ترتسم الدوالي أمام عيني الشاعر صبايا تكتنز أنوثةً ، وفتنةً تسحر من يرى ويسمع :
يا صحبتي فمتى نعودُ لسهرةٍ بينَ البيادرِ والهوى أنسامُ
وإذا الدَّوالي كالعرائسِ تزدهي غنجاً يُصابُ بسحرِها الكرّامُ
هذي الحروفُ كتبْتُها بمدامعي والسَّطرُ بوحٌ والمدادُ غرامُ
غير أنَّ التّخييلَ الشاعريَّ شيءٌ ، وما يتراءى أمام بصر الشاعر شيء آخر ، وهو ما يبعث في نفس الشاعر على الأسى ، ويُمسك عليه نشوة الماضي ، ويُنغص عليه سعادة ذلك الأمس المستحضر المتخيّل الجميل ، ليكون الواقع الصخرة التي تتحطَّم عليها جمالية تلك المرايا بإشراقاتها النفسية ، لتتشظّى في انكسار اللحظة ، ومعاناة الحقيقة الصادمة ، فتتحوَّل الدموع إلى قلم يسطّر تلك الحالة الفجائعية ، وتنطق الأشطر الشعرية بالتعبير الوجداني الذي يبثُّ الشاعر من خلاله ذلك الوجع الداخلي ، وقد سارت الرياح بعكس مشيئة الوطنَّ ، وقد أحالت تلك المخالفة على تواقع نصيّ مع بيت المتنبي المشهور :
ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يدركُهُ تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السُّفنُ
يقول شاعرنا : محمّد حسن العلي :
ورسمْتُ من وطني الجريحِ حكايةً إذْ عاندتْهُ الرّيحُ والأيَّامُ
وعلى الرغم من كل ذلك الألم الذي يعتصر قلب الشاعر ، ويتملَّك مشاعره ، إلّا أنَّ التفاؤل بالنصر هو الإيمان الراسخ ، لأنَّه مؤمن بحقيقة المحبة والسلام التي جُبلتْ عليها طبيعة السوريّ ، وستبقى .
وفي إطار تأكيد القوّة على الانبعاث والنهوض من جديد يستخدم الشاعر رمزية طائر : ( الفينيق ) ليؤكّد قدرة الشعب السوري على تجاوز الحرب ، وتخطّي تبعاتها التي طالت البشر والحجر ، كما ينبعث طائر الفينيق من الرماد إلى الحياة من جديد ، وهو ما يتمنّى الشاعر تحقيقة ، ذلك النهوض الذي يُجدّد الحياة ، ويدفع بحركتها إلى مسارها الطبيعي الذي حاولت أيدي أعداء الحق والسلام أن توقفها ، وتغيّر سمت شآميتها وهاهو الشاعر : العلي يؤكّد تلك الحقائق المُسلّم بها التي اتّصفت بها سوريّة عبر تاريخها الطّويل ، فهي بلد السَّلام و الأمان والحريّة ، كما أنَّ علاقات أهلها قائمة على أواصر المحبة والتلاحم والتعاضد ، وقد لجأ الشاعر إلى تكرار سوريّتي في استهلال أبيات القصيدة ، وهذا النوع من التكرار الاستهلالي التعاقبي إنما جاء ليعزّز الفكرة ، ويؤكّد تجذّرها في ذاته : ( فالشاعر لا يُكرّر لفظاً إلّا إذا قصد من تكراره معنىً أو إيحاءً أو شعوراً خاصّاً )
كما أعاد التركيب الإنشائي بصيغة الاستفهام : (متى نعود ) ؟ وهي صيغة استفهام جاءت بعرفيتها النحوية ، لتنهض بالسؤال عن الزمن ، إلّا أنَّ الشاعر أخرجها إلى حمولات دلالية إضافية عبَّرتْ عن معنى الرغبة والتوق لاستعجال ذلك المُتمنّى الذي أتبع به تساؤله الزمني من خلال : ( متى ) وقد تكرَّر هذا التساؤل في وسط الأبيات ، وفي ختامها ، ولهذا التكرار دلالته النفسية واللغوية على حدٍّ سواء ، فالتساؤل الأول جاء ليفيد حالة الضيق التي يجد الشاعر نفسه فيها بعد مقارنة بين صورة أمس مؤطر بجمال الطبيعة ، وحياة الاستقرار والدعة ، ومشهد حاضر يتَّشح بظلمة الليل ، ويلفُّه سواد العتمة ، فيما جاء التساؤل في ختام القصيدة ليؤكد رغبة الشاعر وإرادته التي تستعجل فعل الانبعاث والتجدد لعودة سوريّة كما يريد لها الشاعر( قصّة عاشق والورد فوق سطورها أكمام ):
سوريَّتي الفينيقُ قصَّة عاشقٍ والوردُ فوقَ سطورِها أكمامُ
لمْ تعرفِ الأضغانَ عاشَتْ حُرَّةً والنَّاسُ يغمرهُمْ هناكَ سلامُ
سوريَّتي غنَّى الخلودُ لأهلِها والحبُّ فوقَ قلوبِهم أنغامُ
فمتى يعودُ الأمنُ بينَ ربوعِها ويطيبُ بينَ السَّاكنين وئامُ
وأخيراً فإنَّ قصيدة : ( سوريَّتي ) للشاعر : محمَّد حسن العلي تعكس عمق المعاناة التي يعيشها كلّ سوريّ حريص على عودة سوريّته إلى سابق عهدها ، وهي تُعبِّر عن تطلَّعات غالبيّة الشعب السوري الذي آمن بوحدة سوريَّة شعباً وأرضاً ، وقدَّم التضحيات في سبيل تأكيد عزَّة الوطن وسيادته واستقلاله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.