الصفحات

ملف الأدب الفلسطيني ...12 ــ النقد الأدبي الفلسطيني


من يتتبع حركة النقد الأدبي الفلسطيني الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يكاد لايظفر بشيء ذي بال، فقد كانت هذه المرحلة مرحلة تقاريظ ساذجة، ومن أمثلة ذلك ماعمد إليه عباس الخماش من نابلس من تقريظ مجلة "الجنان" للمعلم بطرس
البستاني، وما فعله أبو السعود أحد علماء القدس الشريف بكتاب "سر الليال" لأحمد فارس الشدياق، وما فعله ياسين النابلسي بصحيفة الشدياق "الجوائب"، وما فعله يوسف أسعد نجل مفتي السادات بالقدس الشريف "بالجوائب" أيضاً، ومافعله كذلك يوسف النبهاني "بالجوائب" و"سر الليال".

وينقضي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويجيء القرن العشرون، فيحدث مايشبه القفزة في حركة النقد الأدبي في فلسطين، وذلك بظهور كتاب روحي الخالدي المقدسي "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو". فقد كان هذا الكتاب سبقاً في عالم النقد الأدبي العربي الحديث، وكان تأثره بالغرب أعمق من تأثر المهجرين الذين كانوا في وقته (بدأت طباعة هذا الكتاب وظهوره للجمهور مابين سنة 1902و1904). وفي حين كان النقد الأدبي العربي الحديث في مطالع القرن العشرين الأولى يكتفي بالمطالبة بالجديد دون أن يبين عن أفكار أدبية متبلورة، جاء كتاب الخالدي يحمل بعض هذه الأفكار.

أما حركة النقد الأدبي الفلسطيني في الرقعة الزمنية التي امتدت قرابة أربعة عقود انتهت بنكبة فلسطين سنة 1948؛ فتكاد تكون أشدَ فترات الحياة الفلسطينية النقدية حرارة وامتلاء بالعافية التي لا تقل في مستواها عمَا في الحياة النقدية والأدبية والفكرية في بعض البلاد العربية المتقدمة، مع الفارق في الحجم والكم وحسب. إن هذه العقود الأربعة تكاد تكون الرقعة الزمنية المهمة التي تركت أبرز السمات في شخصية فلسطين الثقافية والسياسية والاجتماعية.

وقد ارتاد النقد الأدبي الفلسطيني بعد كتاب الخالدي آفاقاً واسعة تضاهي آفاق النقد الأدبي في البلاد العربية الأخرى المتقدمة، فقد برز نشاط الأستاذ خليل بيدس في مجلته "النفائس العصرية" منذ سنة 1908. وقد ظهرت بوادر النقد الأدبي الفلسطيني في هذه المرحلة في الصحف أكثر من ظهورها في كتب نقدية.

وقد أدت المآسي التي عاناها المجتمع العربي الفلسطيني جراء تآلب الاستعمار العالمي والصهيوني على فلسطين أثناء هذه المرحلة إلى تجنب النقد الأدبي الإعلاء من ظاهرة المدرسة الرمزية التي تستعمل الإيعاز والتلميح في التعبير عن الحالات النفسية بدلاً من الأسلوب التقريري المباشر، وتحلَ الخيال محل الواقع والحقيقة، وناهض هذا النقد الفكرة الجمالية "الفن للفن".

وربما كان لهذا كله أثر في توجيه حركة النقد الأدبي الفلسطيني في هذه المرحلة الزمنية نحو تيارين بارزين، هما تيار المدرسة الرومانسية الذي غلبت فيه الاتجاهات الإيجابية، وقلَت السلبية، وتيار المدرسة الواقعية الجديدة.

وقد ظهرت وجوه غير قليلة في مضمار النقد الأدبي في هذه الفترة؛ فكتب في النقد الذي يمكن أن ينضوي تحت لواء المدرسة الرومانسية كوكبة، منهم: خليل بيدس، وتوفيق زيبق، ومحمد اسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني، وأحمد شاكر الكرمي، واسحاق موسى الحسيني، وعادل جبر، وداود حمدان، ويوسف سلوم، وعلي كمال، وعبد الكريم الكرمي، ومحمد العدناني، ورائدة جار الله، وإبراهيم عبد الستار، وجبرا إبراهيم جبرا، وخيري حماد وغيرهم.

وكتب في النقد الذي يمكن أن ينضوي تحت لواء المدرسة الواقعية الجديدة، أو ما يقرب منها قرباً إيجابياً، مغلباً عوامل الجماعة على العوامل الفردية كوكبة: منهم: عبد الله مخلص، ونجاتي صدقي، وعارف العزوني، ورجا الحوران، وعبد الله بندك، ومخلص عمرو، ومحمود سيف الدين الإيراني، ويوسف خوري.

وقد تناولت المدرسة الرومانسية قضايا أدبية هامة أبرزها: أهمية الروايات (أي القصص الروائي) في بناء الحضارة، والثقافة. وحين يبين خليل بيدس، العلاقة بين الكاتب ومجتمعه يقول: "الروائي يكتب للعامة، وهم السواد الأعظم من كل أمة، يكتب للنفوس الحائرة، والقلوب المتألمة، يكتب للنفوس الجائعة والقلوب الظمأى". ولخليل بيدس آراء فطنة في الرواية وعلاقاتها بالناس، وبالشرق والغرب، وآراء في الروائي العبقري.

أما محمد اسعاف النشاشيبي؛ فقد تناول قضية اللغة وصلتها بأهلها وبعمرانهم وحضارتهم، وقضية اللفظ والمعنى، وقضية التجديد والتقليد وغيرها.

وكان خليل السكاكيني من الشخصيات النقدية التي أثارت قضايا نقدية بجد وإخلاص وأصالة؛ فهو الذي أثار قضايا تحديد طبيعة الأديب، والكاتب، والشاعر.

وهو الذي أثار قضية الشعر وأنواعه، والكلام وأنواعه، والأسلوب، والصلة بين المذهب في الكتابة والفئة الاجتماعية، والتطور في الأساليب، وكذلك قضية القديم والجديد.

وأسهم أحمد شاكر الكرمي في الحركة النقدية؛ فنقد كتاب "الشاعر" أو "سيرانو دي برجراك" لمؤلفه الشاعر الفرنسي إدمون روستان، وهو تمثيلية شعرية في الأصل نقلها المنفلوطي إلى قصة عربية.

وقد أثار أحمد شاكر الكرمي، فيما أثار من قضايا نقدية، قضية "الشخصية في الأدب" ورأى أن النقد الموضوعي أوسع مجالاً من النقد الذاتي، وقسم النقد إلى: نقد بياني يقتصر على الألفاظ، ونقد تحليلي يتناول الآراء والأفكار. ومن آراء الكرمي النقدية قوله: "لا جدال في أن اللغة هي مادة الأدب، ولكن امتلاك تلك المادة وحدها من غير إلمام بفنون التصرف فيها لا يصيَر المرء كاتباً ولا شاعراً، كما أن امتلاك الذهب مثلاً، وهو المادة التي تصنع منها الحلي، لا يصيَر مالكه صائغاً".

ويرى الكرمي ثلاثة واجبات ينبغي للناقد التقيد بها: العدالة نحو القارئ، والعدالة نحو المؤلف، والعدالة نحو الناشر، وهو يرى أن الكتَاب فريقان: فريق المتحررين، وفريق المقيدين .
أما عادل جبر، فقد كتب في "الأدب والأطفال".

وأسهم جبرا إبراهيم جبرا في هذه الفترة بجهد مبكر في النقد، فكان من ذلك كلامه حول الفن والفنان بشيء من الرومانسية والميتافيزيقية.

هذا جانب من نشاط النقاد الرومانسيين الفلسطينيين في هذه المرحلة.

أما الواقعية الجديدة فقد عالجها أعلام كان لهم دور كبير في الثقافة الفلسطينية، منهم عبد الله مخلص، الذي ثقف طبيعة المجتمعات، وحلل بصورة خاصة تركيبها الاقتصادي، وسخر من الأدباء المغرضين من نظريتين مضحكتين: أما الأولى، فهي "الفن للفن". وأما النظرية الثانية، فهي أن الفن موهبة فطرية لا تكتسب بالمران والاجتهاد ولا يمكن للمرء أن يتعلمها أو يتلقاها.

ومن كتاب الواقعية الجديدة، نجاتي صدقي، الذي سلط الأضواء على فلسفة ابن خلدون وقربها الشديد من فلسفة هيغل في الجانب الجدلي منها، ومن فلسفة كارل ماركس من الناحية المادية وصراع الطبقات فيها. وقد سلط نجاتي صدقي كذلك الأضواء على منهج بيتهوفن ومنهج داروين، ومنهج ديكارت والمادية الميكانيكية، وحاول تفسير هذه المناهج بطريقة النشاط الفكري والثقافي، والفن المتصل بالتركيب الاجتماعي المتأثر بالعلاقات الإنتاجية والاقتصادية.

أما حركة النقد الأدبي في فلسطين المحتلة بعد نكبة سنة 1948، فقد التصقت التصاقاً حميماً بالشعر والأدب في فلسطين المحتلة. وتظهر سمات المدرسة الواقعية الجديدة في النقد الأدبي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة بعد نكبة سنة 1948، وخاصة عند الشعراء النقاد الثلاثة البارزين: محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد. وكان نقداً ذا مذاق خاص، بالإضافة إلى نضجه وعمقه وسعة آفاقه، له أيضاً مذاق النقد التطبيقي الذي يتحسس ما يقوله الواحد منهم في شعره هو نفسه، ويتحسسه في شعر الآخرين وأدبهم.
ولكن هذا لا يعني أن هؤلاء الثلاثة هم الذين يقفون وحدهم في ساحة النقد الأدبي في هذه المرحلة، أي مرحلة ما بعد نكبة 1948 في الأرض المحتلة، بل يقف معهم زملاء لهم منهم: سالم جبران الشاعر المعروف، وطارق عبد الله، وعلي عاشور، ومحمد خاص، وعفيف سالم .
ومن القضايا التي عالجها هؤلاء الشعراء، دور شعر الأرض المحتلة في الشعر العربي المعاصر الثوري. ويبين محمود درويش كيف يصبَ هذا الشعر في نهر الشعر العربي بتياره الخصب الملتحم بالأرض والإنسان، وما يعترضهما من اضطهاد وعذاب وعدوان، وكيف يندغم هذا التيار بذلك النهر، وبحركة التقدم الإنساني في العالم. يقول محمود درويش عن شخصية الشعر الفلسطيني وأبعاده: "شعر المقاومة، كما أفهمه، تعبير عن رفض الواقع، معبأ بإحساس ووعي عميقين بلا معقولية استمرار هذا الواقع، وبضرورة تغييره والإيمان بإمكانية التغير. قد يبدأ هذا الشعر غالباً بالتعبير عن الألم، والظلم، ثم الاحتجاج والغضب والرفض".

أما سميح القاسم فقد عالج فيما كتب قضايا نقدية من بينها: الموقف والفن، والشكل الحديث للشعر، وضرورة مواجهة الجماهير، وتأثير الأساطير الشعبية والحكايات في شعره وشعر زملائه والمدرسة الشعرية التي ينتمي إليها.
ومن القضايا النقدية التي تناولها توفيق زيَاد: قضية الأدب الشعبي، واهتمامه بهذه القضية ضارب في أعماق واقعيته الجديدة وأيديولوجيته العامة، وقضية اللغة العربية السليمة، وملامح الشعر الثوري في فلسطين المحتلة. ولتوفيق زياد ثلاث دراسات لثلاثة دواوين شعرية: الأولى حول مجموعة شعرية مخطوطة لشاعر آثر توفيق زياد أن يذكر اسمه المستعار، وهو عبد المنعم، والثانية ديوان "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش، والثالثة ديوان "موعد مع المطر" لفوزي عبد الله.
وإذا انصب الحديث على حركة النقد الأدبي في داخل فلسطين، فإن هذا لايعني أن النقد لم تمتد حركته الفلسطينية خارج فلسطين، فقد ظهر نقاد فلسطينيون في البلاد العربية، وغير العربية، ومن هؤلاء: إحسان عباس، وجبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، ومحمد يوسف نجم، ومحمود السمرة، وعبد الرحمن ياغي، وهاشم ياغي، واسحاق موسى الحسيني وغيرهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.