1
"يوميات أستاذ من درجة ضابط" ترتبط من حيث المجال، بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالجديدة، ومن حيث الزمن، تعود فصولها إلى الموسم التكويني 2013/2014، شعبة التاريخ والجغرافيا، مسلك التأهيلي (فوج 2014)، يوميات لم تنحصر عند رحاب هذا الإطار "الزمكاني" بل امتدت مساحاتها لتحتضن أمكنة وأزمة أخرى وجدانيـــــة، توقفت حركاتها وسكناتها بشكل لارجعة فيه
أواسط شهر دجنبر من سنة 2013، بعد أن توصل "الضابط" السليم بقرار "الاستقالة" من صفوف الأمن، لكنها ظلت حاضرة في الوجدان، محركة روافد الإبداع كما تحرك نسائم العشق أوراق القلوب العاشقة، مصممة أن تواكب "سليم/الضابط" وهو يخطو الخطوات الأولى في مسار المهنة الجديدة (التدريس) .. يوميات خرجت من عنق الزجاجة بعد سنوات من الركود والرتابة تجاوزت عتبة "13"سنة، حضرت فيها"الأصفاد" و"الأبحاث" و"التحريات" و"الإجرام" وغاب فيها "القلم" و"الإبداع" و"الكلمات الراقية" المنسابة بأناقة عبر شلالات الخيال الواسع..
يوميات أبت إلا أن تكون "شاهد عيان" على مرحلة مفصلية من حياة "سليم" تربط كرابطة عنق، بين مسارين متباينين : مسار أول تهاوى فيه "سليم/الضابط" كما تتهاوى أكوام الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة، ومسار ثان رسم معالم صورة "سليم/الأستاذ"، وبين المسارين، ولدت هذه اليوميات بعد أن فكت عقدة القلم وحررت الكلمات من طوق الأصفاد، راسمة معالم محاولة إبداعية، تحكمت فيها الرغبة الجامحة في التأريخ لجانب من يوميات "سليم" وهو يشق كالمحراث الخشبي جانبا من مرحلة التدريب في مركز الجديدة، متوقفا كالبراق، عند عدد من المحطات البارزة، التي بصمت مسار موسم تكويني طغـا عليه طابع "الاستثناء" بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وانتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 ...
إهداء خــاص إلى رفيقة الدرب ...
إلى إبني الغاليين "سهى" و "هيثم" حفظهما الله ، أهدي ثمرة هذا العمل المتواضع ،
عسى أن يكون خطوة أولى في مضمار الخلق والتميز والإبداع إنشاء الله تعالى ...
إلى رجال الشرطة الشرفاء الذين يضحون بالغالي والنفيس ضمانا لأمن الوطن وسلامة المواطنين ..
إلى زملاء الأمس ...
إلى رجال التربية والتكوين النزهاء الذين يحترقون في سبيل نشر المعرفة وصناعة الإنســــان ..
إلى كل الأصدقاء والزملاء والأحبة ..
عبدالعزيز معناني، أحمد أمهيدرة ، خالد ناموسي ، محمد بوصبع ، حميد دمشقي ، محمد وعيد ، نسيمة عطيفي، سميرة تعباني ، مينة لمغاري ، ليلى أمزوقة ،عبدالله المجيد ،
بوعمرو المجيد ، محمد الحراق ، محمد رياض ...
إلى زملاء شاركتهم لحظات التكوين بالمركز الجهوي لمهن التربية و التكوين بالجديدة
شعبة التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي – فوج 2014
إلى الأطر الإدارية و التربوية بالمركز وأخص بالذكر الأساتذة المكونين :
ابراهيم تركي، عبدالحميد يونسي، نباري التباري، مصطفى العناوي ، جواد ارويحن ...
سياق اليوميــات
ما أن نال " سليم " شهادة الإجازة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (جامعة محمد الخامس ) صيف 2000 ، حتى انضم إلى سلك الأمن في وقت مبكر، قبل أن تتسلل طلائع البطالة الى قلعة أحلامه الكاسحة ،نجاحه في أول مباراة .. كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أوقفت عنوة مساره الجامعي بعد مرحلة الإجازة، وخطوة غير محسوبة سرعـــان ما أجهزت على كل ما كان يحمل من أهداف وأمنيات رغم صعاب المضمار.. وقبل الإنخراط في الحياة المهنية الجديدة، قضى تدريبا أساسيا بالأكاديمية، مر فيـــه بيوميات حبلى بالأحداث والمواقف المتناسلة،في فضاء مغلق لا مكان فيه إلا للإنضبــاط والطاعة والإمتثال لأوامر وتعليمات الرؤساء والمؤطرين من أعلى رتبــة إلى أقلها، فضاء تحف بـه الأسوار من كل صوب وإتجاه وسط جحافل متراصة من أشجار البلوط الفليني، تضفي على المكان نوعا من السحر والرهبة، فضاء لا مجال فيه للتهــور والخروج عن التقاليد والأعــراف الأمنية، وأي تهور أو إنزلاق كان يعرض صاحبه إلى الإدانة والعقوبة التي كانت تتأرجح بين القيام ب"التراكسيون" أو "مشية الكنار"، أو قضاء نوبة حراسة ليلية في "الميرادور" أو حلبة الرماية أو حلبة المحارب أو غيرها من نقط الحراسة، أو الحرمان من عطلة نهاية الأسبـــوع ..
لكن بعيدا عن العقوبات التي كانت تتربص بكل متدرب في كل لحظة تهور أو تراخي أو لامبالاة .. كانت اليوميات غارقة في أوحال الرتابة القاتلة وكل يوم يكاد يتشابه مع اليوم الآخر باستثناء بعض الاختلافات البسيطة .. استيقاظ عنوة مع صياح الديكة والمنبهات وصراخ المؤطرين .. رياضة صباحية .. مراسيم تحية العلم بساحة الشرف .. أشغال الكورفي .. حصص دراسية .. مشي عسكري .. دفاع ذاتي .. نوبات حراسة .. وبين كل هذه الأعمال وغيرها، كانت تتقاطع العشرات من الأحداث والمواقف داخل الغرف و"الدورطوارات" ، في المطبخ .. خلال فترات المشي العسكري .. في الملاعب .. في حلبة الرماية .. في حلبة المحارب .. في السينما أو قاعات الدروس وكذا في كل الممرات ... كان "سليم" يتعايش عنوة مع الرتابة القاتلة، أدرك مبكرا وهو يقضي فترة التدريب الأولى "البيوطاج" التي امتدت لمدة شهركامل داخل الأسوار المغلقة بعيدا عن العالم، أدرك معنى "الحرية" التي كانت تبدو كقطرة مـاء في صحراء قاحلة ... كمـا أدرك وقتها أنـه خطـا الخطوة الأولى نحو المجهول في مضمار محفوف بالآهات والمخاطر والمطبات والكوابيس المزعجـــة..
بعد أن اصطدم بصخرة الواقع، أخدت تتراكم عليه خيبات الأمل تباعا ... إلى حد بدأت تراوده - في لحظات التذمر- فكرة الانسحاب في صمت من تشكيلات الأرقام .. لكن لم يكن له من خيار سوى الصبر والتحمل والتأقلم مع يوميات الآهات والشكوى التي لا تنتهي .. كان كغيره من المتدربين مجرد رقم في طابور قد يكون له معنى وقد لا يكون .. كان حينما تؤرقه الرتابة وتجتاحه رياح الرفض والتمرد من كل صوب واتجاه .. كان يجنح إلى الصمت الموجع .. ويركن إلى ربوة الشرود ..بعيدا عن الآهات والضجر.. لكن بين الصمت والشرود .. كان يجد ملاده الآمن في الصبر وقوة التحمل .. كان هاجسه الوحيد ألا ينحني .. ألا يخضع .. ألا يستهويه بريق الأرقام .. ألا تخدعه البذلة الخضراء ..ألا يتنازل عن شبر من شخصيته بكل شعابها ومروجها وأوديتها .. ألا يرفع الراية البيضاء مهما الصوت الجائر علا .. ورغم زخم الأحداث وما حملته في مساراته من حمى وأوجــاع .. من آهات وانفعالات .. من مواقف وردات أفعال .. لم يقو"سليم" وقتهــا على مسك القرطاس والقلم للتأريخ لتلك المرحلة المفصلية في حياته المهنية والشخصية، كان يدرك أن فترة التدريب انعكست يومياتها و إيقاعاتها على نفسيته الثائرة .. وأن طاقة إبداعه ورومانسيته قد نزلت إلى مستوياتها الدنيــا بفعل الضغط اليومي .. وسط مجال لا مكــان فيـه إلا للصرامـة والطاعة والانضباط والخضوع والانصياع ...بعيدا كل البعــد عن عوالم الرومانسية والشاعرية والإبــداع ...
لكن وبعد مرور زهـــاء "13" سنة من العمل، يشاء القدر أن يغادر "سليم" الصفوف قبل متم سنة 2013 ، تاركا خلف ظهره المحاضر والتقارير والشكايات والأصفاد .. وسنوات كانت تبدو مدارة تتقاطع فيها كل سبل الآهات والانفعالات ...و كان ذلك إيذانا بنهايـة شخص "سليم الضابط "وبدايــة تشكل معالم شخصيـة " سليم الأستــاذ "...وفي خضم هذه المرحلة الإنتقالية .. أبى " سليم" إلا أن يخلد ليومياتــه وهو يخطــو أولى خطواته في مجال التدريـس كأستاذ متدرب داخل فضاءات " المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين" بمازاغان .. فكانت هذه اليوميات .. يوميات أستاذ من درجة ضابط .. ثمرة مخاض وبدرة معاناة مــع عصيان الكلمات وتمرد العبارات .. يوميـات حاول من خلالهـا النهوض من تحت أنقاض السنوات العجاف وإعادة تشكيل الصور المحطمة وترميم ما تكسر بسبب رياح الأرقام الراحلة .. من خــلال رصــد سيرورة موسم تكويني طغـا عليه طابع "الإستثنـــاء" بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وإنتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 .. أما مجال الأحداث فقد كان " المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين " بجهة دكالة عبـدة .. مع امتدادات مكانية شملت أيضا مؤسسات التطبيق وما أفرزته من لحظات استحقت أن تترجم إلى يوميات ...وسوق السعادة والكورنيش والحي البرتغالي وغيرها ... هذه اليوميات إذن .. ما هي إلا محاولة متواضعة لرصد جانب من موسم تكويني في سنة إستثنائية وفي مركز إستثنائي .. عسى أن ينوب "الجزء" عن "الكل" وما النجاح والتوفيق إلا من عند الله عز وجــل ...
نهاية مسـار ...
تعود كل عطلة نهاية أسبـوع أن يغادر أجواء مازغان بكل من تحمله من عبق التاريخ وأريـج ثقافـة بلاد دكالة الممتدة الأطـراف .. من نسائم صباحية عليلــة تفـوح من سواحلها الفاتنـة التي ترسم على اليابسـة أجمل اللوحـات .. ويشد الرحال إلى مدينة "فضالة " .. أيقونة الزهـور الفيحاء والأشجار الباسقة والنخيل الشامـخ .. وبين كل رحلة قطار من وإلى مازاغــان .. تنتهي حكايـات وتبدأ أخرى .. قد تطول الحكايات وقــد تقصــر ..لكن الأكيد أن لكل لحظـة منعطفها الحاسم وحدثها البـارز.. و اللحظات جميعها تتأرجح بيـن العابرة عبـور سحاب أغسطــس .. واللحظات الراسخة المؤثرة التي تغيـر الإيقاعات وتقلب كل التوقعات كالعواصف الغاضبـة رأسـا على عقــب ..
لحظة الضابط "سليم" الراسخــة تبلورت معالمها الأولى غضون سنة 2013 .. خطـا الخطوة الأولــى نحو مصير لم يكـن وقتها يعــــرف تفاصيله ولا حيثياتـه.. اجتـاز مبــاراة الولوج إلى "المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين"... بعد ليلــة مارطونيـة قضاهــا على رأس الديمومـة لم يغمـض له وقتـها جفــن طوال لـيل المرسى القــارس .. غادر مقر الديمومة صباحا قبل أن تدق ساعة نهايتها (08و30د).. وهو يخــرج عبر البــاب رقم 3 متأبطا محفظتــه الســوداء .. كان هاجســه الوحيـد ألا يتم الإتصــال به من طــرف غرفـة العمليــات وإشعــاره بقضيـة مستجدة تستدعي حضــوره المستعجل للمصلحـة من أجل مبــاشرة الإجراءات المسطريـة الأوليـة .. مر كما تعود على ذلك عبر خطوط السكة الحديدية المفضيـة إلى محطة البيضاء المينــاء القريبــة على بعد خطوات .. كان المكان باردا خاليا إلا من بعض المياومين وبعض الكلاب المتسكعة التي قادها قدرها لتتعايش وسط صخب الشاحنات والمقطورات والحاويات .. اتجه نحو مدارة الزلاقــة على مقربة من مقر شركـة "كومناف" ومنها قطــع شارع باستـور وتوقف لحظات بمحطة الحافلات بمحاداة محكمة الإستئناف ..
وبعد انتظار قصير،استقـل الحافلـة رقم 900 في إتجاه مدينـة فضالـة عبر الطريق الساحلي .. في حــدود الساعة السابعة والربــع وصلت الحافلة إلىى خط النهايــة على مستوى شـارع المقاومـة .. نزل و ترجل مسافة على الأقــدام إلى أن وصل إلى مقهـى رياض سوس على مستوى شارع الريــاض .. حيث تناول وجبــة الفطـور في انتظار اقتراب الساعة الثامنة موعد الإمتحـــان .. وهو يقبـل فنجان القهـوة من حيــن لآخر .. كان شغله الشاغل هو هاتفـه الخلــوي .. مرة مرة كان ينتبــه إليه وكأنه متيــم بـه .. هاجسه الوحيد والأوحـد ألا يتم الإتصال بــه من طرف غرفة العمليات قبل الساعة الثامنة والنصف موعد انتهاء نوبــة عملـه .. موازاة مع ذلك كان بين الفينة والأخرى يلقي آخر النظرات على ما يتحوز به من وثائق ودروس قبل الولوج إلى قاعة الامتحان .. وكأنه فارس متيم يلقي آخر النظرات على معشوقته قبل الرحيل في اتجاه ساحة الوغـى ...
في حدود الساعة السابعة وخمسين دقيقة .. غادر المقهى وترجل بخطوات متثاقلة في اتجــاه مركز الإمتحان المتواجد بنفس الشارع "ثانوية العاليا".. وهو يقـــف أمام الثانوية إلى جانب مجموعة من المترشحيــن .. كان يــراوده شعــور غريب يتقاطــع فيه الممكــن باللاممكــن .. الحقيقــة بالسراب ..كانت آثار العياء والإرهــاق بادية على محيـاه جراء ليالي الديمومة المتناثرة كأوراق الخريـــف... ومـع ذلك فقـد كان مؤمنـا بإمكانيـة تحقيــق الحلـم المرابط في قلعة أفكـاره منـذ سنــوات .. في تمام الساعــة الثامنة صباحا ولج إلى المؤسســة رفقة المترشحين .. كانوا أعــــدادا هائلـة .. كل واحد أتــى ليدافـع عن أمل يبدو كسراب في صحراء قاحلة .. عرج أول الأمر على سبورة وضعت عند مدخل الثانوية، سجل رقمه ورقم القاعة وغادر .. تساءل وقتها وهو يلج إلى قاعة الإمتحان بخطوات متثاقلة : كيف له أن يجتاز مباراة بعد ليلة بيضاء لم يغمض له فيها جفن ؟ وأي أمل سيكون له في مباراة تقدم إليها عشرات الآلاف من المترشحين من كل صوب وإتجاه ؟ وإلى أي حد لا زال يحتفظ بإمكانياته وقدراته المعرفية بعد أكثر من عقـد من الزمن في صفوف الشرطة ؟ كانت الأسئلة تتساقط عليه تباعا كما تتساقط زخــات المطر على الأراضي العطشى .. أسئلة و أخرى كانت تبدو كالسنابل العطشى تنحني تواضعا أمام قوة مشتعلة ورغبة جامحـة تغديها آمال عريضـة في كسر شوكة الآهات وكبح جماح الضجر وفك القيود والأغـــلال ...
إجتاز المباراة صباح مساء .. من سخرية القــدر أن موعـدها تزامـن مع فتــرة راحتـه لكونه قضى الليلــة السابقــة في الديمومـة ..المباراة مــرت في ظــروف عاديــة وقد حرص كل الحــرص أن يكون دقيقـا ومركزا في إجاباته خصوصا تلك التي ترتبط بعلوم التربية .. كانت بالنسبة إليه لحظة مفصليــة ، ولم يكن حينهــا يـدرك .. أنه يخطــو الخطوة الأولـى التي ستغيــر المسار رأسا على عقــب ...
بعد عبــور سحابة المبــاراة عاد الضابط "سليم" إلى إيقاعات العمل بكل ما تحمله من رتابـــة وآهــات.. كان كل يوم وكل ليلة بل وكل لحظة .. يبحث في شبكة الأنترنيت مترقبا نتائج المباراة الكتابية بين كل لحظة وحين .. كانت صفحة المراكز الجهوية ملاذه الآمن .. كا يتردد عليها مناصفة بينها وبين البوابة الرسمية للمباراة بما في ذلك موقع الوزارة الوصية .. كان لا يبارح الشبكة بحثا عن خبر أو مستجد أو معلومة حول تاريخ إعلان النتائج .. وفي إحدى الأمسيات وهو ينقب في الشبكة .. أمكن له الولوج بشكل فجائي إلى البوابة الإلكترونية بعد أن أدخل البيانات الخاصة بــه .. فوجئ برسالة تشير إلى نجاحه في الكتابي وتدعوه إلى استكمال وإيداع ملف الترشيح بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمدينة طنجة .. لم يصدق وقتها حقيقة ما لاحظ .. ظن منذ الوهلة الأولى أن الأمر ربما يكون خطأ ما أو أن البوابــة في طور التجريب .. حتى يتأكد من الوضع ، فقد خرج من البوابة وحاول الولوج إليها مجـددا .. لكنه لم يفلح في اقتحامها بسبب الضغط المفرط عليها من طرف آلاف المرشحين الذين كانوا يترقبون أن يتوصلوا بخبر سـار .. لكنه لم يستسلم ولم يزده بطء الحاسوب إلا إصرارا وعنادا في الوصول إلى الخبر اليقيــن ..
وبعد عدة محاولات، رضخت له البوابة وفتحت له أحضانها .. لتزف له "رسالة نجاح" تطلب منه استكمال الملف وإيداعه بمركز طنجة الذي سيكون في ذات الآن مركزا للإمتحان الشفوي .. حينها أحس بإحساس لا يوازيه إحســاس وشعور لا يقو عليه وصف ولا تقدير .. أيقن حينها بما لايدع مجالا للشك أن الفرصة المتاحة تبقى من ذهب وربما لن تجود بها الحيــاة مرة أخرى .. أدرك وقتها أن حلم التغيير الراقد في متحف ذاته منذ سنوات، أضحى أقرب إلى التحقيق على أرضية الواقـع بعد سنوات الضجر.. حينها وحتى يتمكن من إيداع ملف الترشيح وإجتياز المباراة، كان عليه أن يعد العدة للإمتحان الشفوي بعيدا عن آهات ورتابة العمل، وقد أمكن له المغادرة إلى طنجة ذات صباح وأودع هناك ملف الترشيح المطلوب .. وعقبها كان عليه أن يضع مخطط عمل يتناسب مع قصر المدة .. حيث ركز الإهتمام على برنامج التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي والبحث عبر الشبكة العنكبوتية عن بعض المواضيــع ذات الصلة بعلوم التربيــة ..
ظل الأمر كذلك إلى أن حل موعد الإمتحان الشفوي، حيث غادر إلى عروس الشمال ذات صباح (29/11/2013) في أول قطار قادم من مراكش عبر المحمدية .. على طول الرحلة كان بين الفينة والأخرى يقرأ الوثائق التي يتحوز بها من أجل تثبيت المعلومات إلى أن وصل محطة القطار طنجة المدينة في حدود الساعة العاشرة والنصف صباحا، وهناك أخذ سيارة طاكسي من الحجم الصغير قادته إلى المركز الجهوي، وبما أن الموعد المخصص له كان على الساعة الثالثة بعد الزوال، فقد إنزوى بإحدى المقاهي المجاورة من أجل تناول وجبة الفطور .. أخذ كأس شاي منعنع من الحجم الكبيــر و"كيكة" إقتناها من "كلاي" مجــاور .. وتناول وجبة فطوره .. كانت وقتها أجواء الخريف في طنجة "عروس الشمال" جد قارسة تتخللها ريــاح ساكنة تارة ومتمردة تارة أخــرى ..في حدود الساعة 13و50د غادر المقهى بخطوات متثاقلة، كانت نفسيته وقتها مضطربة وكأنه مغن يتأهب من أجل الصعود إلى الخشبة لإحياء حفل أمام جمهور عريض.. أو شاب يافع يجري أول مباراة توظيف مصيرية في حياته .. حتى أنه أجل وجبة الغداء إلى ما بعد إجتياز الإمتحان الشفوي.. وما أن وصل إلى باب المركز حتى إستفسر الحارس وأرشده إلى مكان الإمتحان ..
ترجل خطوات إلى أن توقف عند سبورة علقت عليها لوائح المرشحين .. بعد أن تبين له أنه سيجتاز الإمتحان لدى اللجنة الأولى على مستوى المطبخ رقم 1، غادر متجها إلى المكان بدلالة وإرشاد من أحد الأعــوان .. وهناك انتظر أقل من ساعة من الزمن، إلى أن خرج المرشح الأول من قاعة الإمتحان، حينها لم يجد بدا من التخلص من حالة التوتر التي كانت تتسكع في زقاقات نفسه بكل طلاقة وأريحية .. وولج إلى القاعة لمقابلة اللجنة الثلاثية .. كان يعي كل الوعي أن الهندام له حيز ضمن شبكة التنقيط ، لذلك كان أشد حرصا في أن يكون في مظهر لائــق .. ألقى التحية على اللجنة بلباقة وثقة في النفس، وتسلم ورقة عليها أسئلة خاصة بالجغرافيا وثلاتة نصوص خاصة بالتاريخ يدور موضوعها حول الحماية والمقاومة، وطلب منه أن يجلس بمكتب عند مدخل القاعة من أجل التفكير وتهيئة الأجوبة المناسبة .. كان يدرك وقتها أن اللحظة مصيرية وتاريخية وربما لن تجود بها الحياة إلى الأبد، لذلك كان لا بد من أن يتحلى بالثقة وضبط النفس حتى يقطع مطبة الشفوي في ظروف آمنـة ..
حوالي خمسة دقائق تمت المناداة عليه من طرف اللجنة وما أن جلس أمامها حتى طلب منه أن يقدم نفسه .. وبعدها طلب منه الإجابة على أسئلة الجغرافيا .. والتي تبابنت بين "الكويسطا"و"البراكين'' و''دوارن الكرة الأرضية"، بعد إجابته ، طلب منه قراءة نصوص التاريخ المسلمة إليه .. كان يدرك أن اللجنة تهدف من وراء ذلك إلى إختبار قدراته الصوتية ومدى سلامة قراءته .. لذلك حرص أن يقرأ النصوص بصوت مرتفع وبنطـق سليم، بعد أن أنهى القراءة طلب منه مناقشة مضمون الوثائـق، وبين الفينة والأخرى كانت توجه إليه أسئلة توجيهية حول المقاومة وأبطالها وأمكنتها .. لكن السؤال الذي أربك بعض حساباته جاء من أستاذ يجلس من جهة اليسار يبدو بشعره الكثيف الذي اكتسحه الشيب ك "بيتهوفن" أو"بيكاسو" .. قال له بكل أريحية : ما دمت تدرس القانون ما هو الظهير ؟ وما هو السند القانوني لعقد الحماية ؟ طبعا لم يجد الضابط "سليم" صعوبة في وضع تعريف للظهير، لكن الجواب عن السؤال الثاني ، تطلب منه بذل بعض المجهود، ليس لأن السؤال صعب، ولكن لأنه غير متوقع ، وكذا لأن دارسي التاريخ عادة لا ينتبهون إلى عمق وأبعاد القانون في الظاهرة التاريخية، وهي أمور لا يمكن أن يعي بها إلا دارسي القانون ، لذلك فإفصاحه للجنة من كونه طالب بشعبة القانون، جلب إليه هذا السؤال الإستثنائي والمشروع في نفس الآن، ومــع ذلك فقد أشار إلى "مؤتمر الجزيرة الخضراء" وهو ما أكده الأستاذ صاحب السؤال وقدم شروحات مقتضبة حول الموضوع ، ومع ذلك لم يقو " سليم " على مجادلة الأستاذ واكتفى بالاستماع إيمانا منه أنه يفتقد وقتها إلى التفاصيل والجزئيات بعد سنوات من القطيعة، وبعيدا عن الظهير والقانون، وجه إليه سؤال عن نشاطه المهني وحياته الشخصية .. واكتفى بالإشارة إلى أنه يشتغل كمسؤول في الأمـن بإحدى الشركات الخاصة، إستفسر عن راتبه ونوعية وطبيعة عمله .. لم يقو حينها على الإفصاح عن المهنة ، تفاديا لأية ردات أفعال من اللجنة من شأنها التأثير السلبي على وضعيته وحظوظه .. عقب ذلك تم الإنتقال به إلى علوم التربية ووجهت إليه أسئلة مختلفة حول مهامه كمدرس، قبل أن يتم الختم معه بإختبار بعض قدراته في اللغة الفرنسية.. لتطلب منه اللجنة المغادرة بعد أن تمنت له التوفيق ..
غادرالضابط "سليم" للتو قاعة الإمتحان بعد أن شكر أعضاء اللجنة الذين تحلوا بجانب كبير من الجدية والمسؤولية واللباقة والمهنية، واستقل سيارة أجرة صغيرة أخذته إلى محطة القطار من أجل العودة .. كان يحس وقتها وهو في الطريق إلى المحطة أنه تخلص من جبل من الضغط والتوتر .. واكتسحه انطباع ايجابي جدا من أن النتيجة ستكون موفقة بإذن الله بعد أن مر الامتحان الشفوي بشكل جيد ...كان يحس أنه على وشك أن يطلق السلاح الناري والأصفاد والمحاضر طلاقا لارجعة فيه ...وبعد أيام قليلة سرعـان ما تم الإعلان عن النتائج النهائية عبر البوابة .. كانت النتيجة سارة للغاية .. وكانت تلك إيذانــا بنهاية مسار وبداية مســار آخر..
مباشرة بعد ذلك،بادر الضابط "سليم" للتو إلى وضع طلب إستقالة من مهامه .. خبر الإستقالة نزل على زملائه بردا وسلامـا .. إلى حد أن البعض أحـس بالصدمة .. وكان السؤال العريض الذي يطارده كالطيف هو كيف ؟ ولماذ؟ كان يجيب بنــوع من الإقتضاب والديبلوماسية دون أن يقدم التفاصيـل .. حينها إنتهى بالنسبة إليه العمـل بسلك الشرطــة وكان وجوده بهذا السلك يبدو كوقت بدل الضائع في مباراة صعبة استنفذت وقتها القانوني، .. كان رهانه الأول أن يوقع الطلب من طرف رئيس المنطقــة ويحال على مقر الولاية الأمنية من أجل التأشير عليه في انتظار إحالته على الإدارة المركزية لتنظر فيــه .. كان الطلب وكلما وصل إلى رئيــس تتم المناداة عليـه .. كان يحرك الإستدعاء الرغبة في معرفة أسباب وبواعث الإستقالة .. من بين ما سجلته ذاكرة "سليم" خلال تلك اللحظات العابرة، هو لقاؤه بمسؤول عن المصلحة الإدارية الولائيــة، فاجأ "سليم" بموقفه بعد أن علم أنه حصل على مهنة جديدة في قطاع التعليم ، قال له : "على سلامتك الله يسر ليك .. المهنة ليست هي المهنة وظروف العمل ليست هي ظروف العمل" ، لكن هذا الإنطبــاع الإيجابي للغاية سرعان مازال عشية نفس اليــوم ، بعدما إلتقى الضابط "سليم" بالمسؤول الثاني...، وبعد أن حملق هذا الأخير في طلب الإستقالة، وبدل أن يستفسر "سليم" عن حيثيات وبواعث الطلب، خاطبه بكلمات متقاطعة تحمل بين طياتها أكثر من دلالة : "فكرتي فهاد الشي " قاطعه "سليم" بسرعة فائقة : "فكرت جيدا " قبل أن يقاطع كلماته قائلا: "دابا تنــدم " ، قال له "سليم" بكل ثقة :"لن أنــدم أبدا " ، قبل أن يغادر المكتب بعد أن تمتم ذات المسؤول بكلمات مفادها أنه سوف يعمل على توقيع الطلب ..
تأســف "سليم" وقتها لأنه لم يسلـــم من هكذا عراقيل ومطبات ، حتى وهو في لحظة المغادرة النهائية للصفـــوف، ومع ذلك، فقد تحمل هـذه المطبات العابرة .. إلى أن إطمئن أن الطلب قد تمت إحالته على المديرية العامة لتنظر فيه .. كانت تحدوه وقتها ، رغبة وحيدة في أن يتم النظر في الطلب في أقصر مدة ممكنة .. حتى يلتحق بالتكوين بدون أدنى مشاكل وكذا حتى تكون الإستقالة سابقة لتاريخ توقيع محضر الإلتحاق بالتكوين .. تعقب الطلب في المديرية العامة ذات خميس، وربط الإتصال بمكتب الضبط المركزي، وتأكد له فعلا خبر وصول الطلب في إنتظار إحالته على المصلحة المعنية ... خلال اليوم الموالي وقد كان يوم جمعة، وبينما كان الضابط "سليم" بصدد التفكير في وضع رخصة مرضية أخرى أمام المصلحة لتدبير هذه الظرفية وحتى يتسنى له تتبع مجريات الطلب بالمديرية العامة، تلقى اتصــــالا هاتفيا من العمل، أشعر بخبر وصول برقية استقالتـه من العمل كما أشعر بضــرورة الإتيان بمختلف اللوازم صبيحة الإثنين القادم، هـذا الخبـر المفاجئ نزل على الضابط "سليم" كقطعة ثلج بــاردة .. إلى درجة أنه لم يصـدق السرعة القياسية التي تمت خلالها الإستجابة والموافقة على طلب إستقالته .. شكر الله عزوجل بعدما تيسرت له الأمور ونال ما أراد .. كانت تلك اللحظة إيذانا بنهاية الضابط سليم وبدايــة سليم الأستـــاذ ...
صعوبات تلوح في الأفــف ..
الرغبة الجامحة للضابط "سليم" في التغيير المنشود وتطليق الأصفاد والخراطيش طلاقا لارجعة فيه ، أنســاه وقتها فكرة توقع كيفية تدبير الظرفية الجديدة في حالة ما إذا حالفه الحظ في النجاح، شغله الشاغل كان هو الإنعتاق والتحرر من أغلال الآهات، لكن نجاحه النهائي في المبـاراة وتوصله بقرار الإستقالة، كان إيذانا بنهاية مسار وبداية مسار آخــر، وهذا التحرر الذي كان يبدو إلى وقت قريب أقرب إلى المحـال، جعل "سليم" وجها لوجــه أمـام "حقيقة" أضحت تلوح في الأفق وتلقي بسؤالها العريض عليه، كيف سيدبر هذه الوضعية الجديدة والإنتقالية من الناحية المادية بعد أن تم إيقاف راتبــه الشهري مباشرة عقب توصله بقرار الإستقالة من الوظيفة الشرطية، كان يمني النفـس حينها لو تم الإحتفاظ له براتبه الشهـري وأن يلحق بالوظيفة الجديدة بأريحية حتى لا يعاني من التداعيات المادية للوضع الجديد، لكن ذلك لم يكــن ممكنـا لأنه إجتــاز المبــاراة بـدون ترخيـص من الإدارة المشغلـة، ولم تكن إمكانيـة الحصول على "الترخيص" متاحة تمامــا، ممــا فرض عليه أن يجتـاز المباراة بصفـة "المرشح الحر" وليس بصفة "الموظــف"..
وقـد كان يدرك أنه وحتى في حالة ما إذا تم تمكينـه من "ترخيــص" لاجتياز المباراة، فـإن إمكانية إلحاقـه بالوظيفة الجديــدة لن تكون ميســرة، عمومــا وفي ظـل هذا الوضــع الجديد ، فقـــد كان "سليــم " أمام جملـة من الإكراهات المادية منها إقتطاعات السكن ومصاريف تمدرس الأبنـاء و ما تبقى له من دفعات قرض الإستهلاك وكذا متطلبات السكن بالداخلية من سومة الكراء ومصاريف الأكل والشرب ومصاريف التنقل دون أن ينسى مصاريف العيش اليومي لأسرته الصغيـرة ، كل هـذه الإكراهات كانت تؤرق بال "سليم" كالكابوس المزعـــج ، صعوبـة أخــرى كانت تفرض نفسها بإلحاح وتزيد الوضــع تعقيدا ، هـي أنه كان مقررا أن يتسلم فقط "منحـة" خلال فترة التكوين تقـل عن "2500درهما" ، ستتوقف خلال نهاية فترة التكوين (غضون شهـر يوليوز) ، كما كانت تلوح في الأفق البعيـد صعوبات أخــرى أكثـر تعقيــدا ، كون عمله الرسمي بالوظيفــة الجديدة لن يبدأ إلا إنطلاقــا من شهــر شتنبـر 2014 أي بداية الموسم الدراسي المقبل ، ولن يتمكن من تسلــم راتبـه الشهري الجديـد إلا بعد مضي مدة قـد تصل في أقصـى الحالات إلى نهاية الموســم ، علما أن الراتب الشهري المنتظر سيكون أقل من الراتب الأول، لم يكــن له من خيــار ســوى أن يتكيـف مع الوضع وأن يتعامـل مع كل مرحلـة بما يلزمهــا من تدابيــر، كان عليه الصبر والتحمـل، بعــد أن حــقق حلمــا كان يبــدو إلى وقت قريب مستحيــلا، كان يدرك أن " الأزمة " العابرة ستمضي في جميــع الحالات، وأن المستقبـل القادم سيكــون أفضـل بمشيئـة الله عز وجــل...
انطباعات أسبوع الإستقبال..
دشن أسبوع الإستقبال بمركز"مازغان".. بعقد لقــاء تواصلي بالمـدرج بين الطاقم الإداري والتربــوي والأسـاتذة المتدربين من مختلف المسالك والشعـب.. كانت وقتهــا المقاعد ملئـى بالمتدربين، وحتـى الممــرات الوسطى والجانبيــة والخلفيـة اكتسحتها الكراسي والأقــدام الواقفـة المنتصبــة كأعمدة ضوء .. كل الممــرات كانت مغلقــة تمامــا .. حتى بوابـة المدرج كانت حبلـى بالأقــدام الآتية في آخــر لحظـة .. كان المشهــد يوحي أن الأمر يتعلــق بـعرض آخر ما جادت بـه سينمـا هوليــود .. أو بجحافل من المريدين يترقبــون بلهفة إطلالـة شيخهـم بين كل لحظـة وحيــن ..كانت الوجـوه أشكال وألــوان .. شباب لا يزال في ضفاف العشرينات من العمر وآخـرون يسبحون في شطئــان الثلاثينات وحتى الأربعينات .. في المنصـة اصطف مجموعة من الأساتذة المكونين يتوسطهم مدير المركز ..كان يبدو جليا حالة الإرتباك التي طالت عملية الإعداد لهذا اليوم الإفتتاحي ، حتى أن بعض الطاولات والمقاعد المكسرة تم إخراجها من المدرج في آخر لحظة من أجل إعداد المنصة .. في الواجهة الأخرى ، فقد إختلفت تقاسيــم وتجاعيـد المتدربين .. نظراتهـم كانت مــرآة تعكــس خلفها مغربـا يبـدو كمـدارة ممتـدة الأطراف تتقاطـع فيها سبـل التنـوع وطرق الإختــلاف .. لكن جمعتهـم بذلة موحـدة زرقــاء داكنة وأقمصة زرقاء مفتوحة وربطات عنــق كما جمعتهم رايــة الوطن ..
كان اللون الأزرق سيـد الزمان والمكان .. وكانت الصــورة المتلاعبـة كأمواج شاطئ مازغان .. توحـــي أنك أمــــام فــوج جديد من مفتشي أو ضباط الشرطـة .. كان " سليم" جــزءا من هـذه الزحمـة الخانقـة .. كان يقــف في الخلف كالصنـم .. لم يكن له مجال حتى لتغييــر حركة قدميه أو حتى الجلـوس وسط غابة من الأقــدام تحاصره من كل صـوب أو اتجـاه .. كــان غريبــا وهو يقــف كغيــره وعينــاه مشدودتان إلى ما سينبعـث من المنصة من أصــوات .. كــان يحملــق بعينيـه يمينا وشمالا .. وكأنــه سمكـة سلمـون تسبح بأريحية وسط بحيــرات من الهيـام ..
راودتــه وقتها "نوستالجيا" الزمن الراحل، واستحضر يوميات التدريب الأساسي برحاب الأكاديمية، في مشهد بـــدا له كمرآة عاكسة لفضاءين متباينين ..فضاء "الأستاذ(ة) المتدرب(ة)" و فضاء" الشرطي(ة) المتدرب(ة)".. فضاء أول يعيش على وقع الارتباك والإهمال وقلة العناية و الاهتمام .. وفضاء ثان تتوافر فيه شروط التدريب من بنيات محترمة وتجهيزات لائقة ونظام وانضباط واهتمام وماء وخضرة وجمال ...كان وقتها بين صورتين اثنتين .. صــورة الضابط التـي تلاشت في غفلـة من الزمـن كما يتلاشى جبل الجليد تحت لهب الشمس الحارقة ... وصــورة الأستـاذ التي ما فتئــت تتكون معالمها الأولـى وكأنها جنين في طـور التشكـل بعد عقـم طويــل .. لم يصـدق وقتهـا مـاذا حدث ؟ وكيف حدث ؟
لـم يكن ملزما بالنبــش في الحفريـات بحثا عن جواب قد يــجدي و قد لا يجـدي .. بعـد أن قضـت أحلامه الكاسحة أيـاما وليالي أمام محــراب التوسل والمناجــاة .. متسلحة بحسام إرادة جارفة آمنـت بإمكانية الانعتــاق والتحرر من طـوق الأصفـاد .. ملاده الوحيــد والأوحد .. كان الأستاذ المتدرب " رامـي" الشقيق الأصغر لصديقه " شادي" أستاذ الاجتماعيات.. سخرية القدر جمعته برامي في هذا المركز بعد أن جمعهما مركز عروس الشمال "طنجـة" في الإختبـــارات الشفوية .. بل وستجمعهما معا نفس الغرفـة داخل رحاب الداخليـة التي نخرتها فيروسات الرتابة والاكتئـاب .. بين سريريـن متهالكين هاجمتهما الشيخوخة مبكــرا لا يفصل بينهما ســـوى ممر صغيـر لا يتعدى النصف متـر وكأنك في زقاق من زقاقات فـاس البالية ..
وهو في مؤخرة المدرج ووسط زحمة من الأصوات المتناثرة .. إلتقط سليم بعض الكلمات المنبعثة من المنصـة .. في مقدمتها " البراديغم أو الأنمـوذج عملي نظري عملي"، "الوضعيات المهنية "،"الوضعيات الممهننـة"، " البورط فوليو" أو "الملف الشخصي .. وهي كلمات لم يسبق له أن سمع بها أو صادفها طوال مساره الدراسي وحتى المهني ..لذلك فقد أحدثت زوبعـة ذهنيـة في فكره .. تعمقـت حدتهـا من خلال بعض العروض المقتضبة التي عرضت عبر "الداتاشاو" والتي تميزت في شموليتهـا بخطـاب عال سيطــر عليه طابــع التنظيــر، ولم يــراع لا المقام ولا ظرفية الإستقبــال ولا الفوارق ولا النفسيــات .. إلى درجـة أن بعض المتدربيــن دخلوا في مرحلة من الشك والنفور .. وقد وصل إلى علم سليم لاحقا أن بعض الأساتذة المتدربين من الإعدادي انتابته وقتها فكــرة التراجـع عن التكوين بالمــرة لولا أحد المكونيين الذي هـدأ من روعـه وطلب منـه الصبر والتحمل .. وفي ظل هذا اللقاء الإفتتاحي .. بدا جيــدا وبالملموس غيــاب التنسيــق والارتجال والعشوائيــة بين صفوف الطاقم الإداري والتربـــوي .. كما سجل تنــافر بين المكونيــن الذين أبــى البعض منهــم إلا أن يفــرض سيطرتـه المطلقة على المبــاراة بشكل جنوني، فيما البعــض الآخــر كان حضوره شكليـــا ليس إلا ...
وبين الفينــة والأخرى كان يغادر بعض المكونين المدرج تحت ذريعــة الرد على الهاتــف .. وقد كان ذلك دليلا على عدم الرضى والقبــول بسياسة الأمر الواقـع التي فرضها " المهاجمون الكبــار" .. نقطة أخــرى تم تسجيلها من لدن عدد من المتدربيــن .. هي أن برنامج أسبـوع الإستقبال خصص له حيز للقيــام بجولات تفقدية واستطلاعية لمختلــف مرافـق المركز .. لكن تم تجــاوز هذه النقطـــة الأساسية التي كان من شأنها أن تعــرف المتدربين على مرافق المركز الذي سيقضــون فيه موسما من التكوين .. وربمــا أن هذا التجاوز كان له ما يبــرره من الناحية الواقعية.. على اعتبار أن وضعية المركز مزرية للغاية ولا يشتمل على أية مرافق لائقة تستحق أن تكون موضوع زيارة وتفقـد ...وحتى المرافق المتواجدة به على قلتها من داخلية وقاعة مطالعة وملاعب رياضية ..تعاني من الإهمال الملفت للنظــر ..
وفي ظل هذه العشوائية والرتابــة .. ستتعمق الأزمــة ببــروز مشكل "الوضعيات المهنية " الــذي أضحى يلوح في الأفــق .. والذي كان من أولى نتائجــه تكسير ما سموه ب "البراديغم أو الأنمــوذج عملي نظري عملي" ...لكن مفاجئة "سليم" خلال اليوم الأول على ما يتذكر، كانت تعرفه على الأستاذ المكون " عماد" الذي درس معه بنفس القسم نهاية تسعينيات القرن الماضي بشعبة التاريخ والجغرافيا برحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، تبين له أن "عماد"بعد هذه السنوات، اشتغل كمدرس للتاريخ والجغرافيا في الثانوي التأهيلي، وتابع دراسته العليا إلى أن حصل على شهادة "الدكتوراه" في الجغرافيا، مما أهله للإلتحاق بالمركز كأستاذ مكون .. هذا اللقاء المفاجئ، ذكر "سليم" بلقائه السابق بالأستاذة " منال" التي إلتقى بها صدفة بكلية الحقوق بالمحمدية بعد أن درسته مادة اللغة والتواصل غضون موسم 2012-2013 ، بعدما كانت زميلة له بثانوية الغزالي بتمارة أواسط تسعينيات القرن الماضي، وكذا كزميلة بكلية الآداب بالرباط بشعبة الأدب الفرنسي .. لقاء "سليم" على التوالي بالأستاذة "منال " والأستاذ" عماد" ، جعله يدرك بما لا يدع مجالا للشك، أن الحيـــاة رغم كبرها وصخبها ،فهي تبقى "قرية صغيـرة " .. كما أدرك وقتها عمق مقولة "الصدفة خير من ألف ميعـاد " ..لكن قبل هذا وذاك ، أيقـن أن "الدراسة" هي قنطرة حاسمة تفضي إلى الإرتقاء في السلم الإجتماعي ...وأن الإنسان كلما درس .. كلما انفتحت أمامه الأبواب الموصدة ...
الأستاذ "رامي" وحكاية "السلطان سليمان"..
كان "رامي" بقامته المتوسطة ولون بشرته الذي يميل بأريحية إلى الحمرة كما تميل أشرعــة العشق نحو القلوب المتيمة .. مزهوا داخل المدرج وكأنه طاووس قادم من براري الشـوق .. كان يبدو وسط بذلته الزرقــاء كحارس أمن لا يعــرف في قاموسه سوى الطاعة والانضبــاط .. بين الفينة والأخـرى كان يمتطـي على صهـوة أشعاره الدفينــة ويصول ويجول بنظراته الساكنة سكون ليل سيدي بوزيد ومولاي عبدالله ..في تلك اللحظـة التاريخية كان رامي نكـرة .. ولا أحد من أصحاب البــذل الزرقاء كان يـدرك أنه سيكتسـح الحجر والشجر .. سيصبح "متيم" و"سليمان" القاعة الزرقـاء التي كانت في تلك اللحظات المبكرة نكــرة كرامي ..
رامي .. مسك "حد لبراشـوة " أيقونـة منطقة "زعيــر" الممتدة الأطـراف التي تحـرس الرباط كالعساكر المرابطة .. وأريــج فردوس مدينة تمـارة الخضراء .. مـدارة تتقاطع فيهـا كل سبل وطـرق الخيـر والمحبـة .. البساطة والتواضع .. الشوق الكاسح والهيـام الجارف .. مثقــلا بنياشين كل هذه الألــوان .. كان رامـي واقفا كالصنم على مقربة من الباب الخلفي للمدرج .. ملتصقا بسليم كالطيــف وكأنه حارسه الخاص .. وبين الفينــة والأخرى كان يسافر بعينيــه عبر رحلات مكوكيـة بين المقاعد والصفــوف وكأنه يبحــث عن سر دفين أو كنـز مفقــود .. لكن نظراتـه الولهانة تعثــرت
بشكل غير متوقع وغير منتظـر بصخـرة الهيــام .. وسط زحمة البذل الزرقاء .. انجذب نورس عينيـه نحو حمامة حطت الرحال بالمركز قادمة إليه من سهل الشاوية ، وهي تطرح سـؤالا على الأساتذة المكونين .. لم ينتبـه "سليم" وقتهــا لا إلى الحمامة التي بسطت السؤال ولا حتى موضوع السؤال لحالة الازدحــام التي كان عليها المـدرج .. لكن "رامي" وبعد مـرور شهـور لا يزال يتذكر الحمامة وحتى موضوع السـؤال ..
كانت هذه الأخيرة كما يحكي رامي .. ترتــدي بذلة موحدة زرقـــاء زرقــة البحر بقميص أزرق سمــاوي ورابطة عنـق .. بـدت له وهو واقف كالعسكري كنحلة نشيطة تتنقل بأريحية وتبختر بين حقول الياسمين وشقائق النعمان ... لم يكن "سليم" لحظتها يدرك حركات وسكنات رامي وما يـروج في أروقته الداخلية من همســات .. كما أنه لم يكن ليهتـم بمثل هكــذا أشيــاء وهو لم يتخلــص بعـد من أصفاد أمسه القريب .. يحكي له "رامـي" بأشواق تكــاد تنفجـر من عينيـه كالصهيــر المتدفــق بانسيــاب من فوهة البراكين الثائـرة .. أنه كان يتلــصص وقتها كالمخبر على حركاتها وخطواتها وهـي تتنقـل كالفراشة الوديعـة بيـن الصفوف والمقاعـد .. كانت تبــدو له كطــاووس عاشق قادم من بــراري العشق أو كفارسة ولهــانة قادمـة لتوهـا من انتصــار كاسـح أتى على الأخضر واليــابس .. نظرات المهــد كانت كافيـة لتربــك حسابات "رامـي" وأن تمــرر إلى قلعتـه الصامـدة نسائم متناثــرة من الإعجــاب الجارف ..
انتهــت أيام الإستقبــال بما لها وما عليهـا .. وامتطت على صهــوة الرحيل كما ترحل الطيـور المهاجرة هروبا من قســاوة شتاء الشمال .. تاركــة خلفهــا حكاية "رامي" الذي داعبـه شـيب الهيام فـي هـذه اللحظات المبكــرة .. وفي ظل صعوبة امتطاء صهوة "الوضعيات المهنيـــة " بعدما أشهر "الأساتذة المرشدون" سيوفهم وصعدوا الجبل وأغلقــوا الأبواب والنوافــذ .. انهـد بنيـــان "البراديغم عملي نظري عملي" .. وصاحت ديكـة المجزوءات مبكـرا .. إذ لم يكن من خيــار سوى بداية الدروس والتركيـز على الشـق النظري في انتظار أن تهب رياح مرسلـة تبشـر بزخات "وضعيات مهنيــة" قد تأتـي و قد لا تأتـي ..وانطلقـت ناعورة الدروس في الـدوران صباح مساء بإيقاعات سريعـة داخل مضمار القاعـة الزرقــاء .. وقد شاءت الصدف أن يكون نورس رامي وجها لوجه أمام حمامة الشاوية التي داعبت مرايا عواطفه المحنطة في يوم الإستقبــال .. وكأن الشوق يتعقبه "زنقة زنقة ".." بيت بيت" .."دار دار" ..
يوميات رامي داخل المركز أبانت أنه مدارة ممتدة الأطراف تتقاطع فيها كل طرق الشاعرية والشوق والخلق والإبداع .. وكل سبل الحكمة والوقار والثبات .. وكل مسالك العفوية والتواصل والجرأة الكاسحة ..من عالم الصمت أبى إلا أن يزحف بخطوات جريئة نحو التألق والتميز .. لقد سرق الضوء ولفت الأنظار داخل القاعة الزرقاء بعفوية وجـرأة فاقت وتجاوزت الحدود .. في إحدى عروض مادة "دعم التكوين الأساس تاريخ" ، لم يتردد سليم وهو يتناول الكلمة من تقديم "رامي " أمام المجموعة باسم "الشاعر المبجل" وكان ذلك إعترافا منه بشخصية رامي وما تزخر به من شاعرية وتلقائية ليس لها حد ولا نظيــر...لكن هذا "الشاعر المبجل" أبى إلا أن يتحول إلى "السلطان سليمان " .. وحكاية هذا اللقب جاءت في إحدى عروض نفس المادة، لما طلب من "رامي" قــراءة نص تاريخي عبارة عن مقتطف رسالة لأحد السلاطين العثمانيين .. لم يتردد "رامي" في استغلال هـذه الفرصة السانحة .. وقام بقــراءة النص .. بصوت شاعــري جميل أثار انتباه وإعجاب الجميــــع بدون استثناء .. ومن يومهــا .. أصبح "رامي " يحمل لقب "السلطان" .. السلطان سليمــان .. ورغم هذا التحول، لم تتغيــر أحاسيســه الدفينة نحو"حمامة الشاوية " القادمة من إحدى البلدات الراقدة في صمت بين بيــــادر سهل الشاوية حيث يتقاطـــع عبـق التاريــخ بأريــج الجغرافيــا .. إنهــا الأستاذة المتدربة "رانيــا" .. شابــة دخلت في عقدها الثالــت .. بلون بشرتها البيضـــاء وقامتها الطويلة وبنيتهـا القويــة توحي أنهــا شاويـة حتــى النخاع .. ابتسامتها التي لا تفــــارق شفتيهــا ونظراتهـــــا العميقــــة وتقاسيم وجههـا الصارمــة ..تعكس بين ثنايــاها شخصيــة متفــردة مهووسة بالإثارة ميالة إلى حب الظهــور .. إلى درجة تعطي انطباعا للناظر أنها أقرب للخشونة من الليونــة وللصلابــة من الرقــــة .. لكنها بالنسبة لسليمان ،فقد كانت بمثابة قصيدة شوق تحمل بين طياتها كل أبيات الجاذبية وكل قوافي الإعجــاب .. كلما نظرت إليهــا داخل الفصل إلا ورأيتهـا غارقة في واد من الضحـك بطريقــة لم يكن "سليم" يجد لها وصفا ولا تفسيـرا .. لكنها سرعان ما تتخلص من مخالب الضحـك بطريقة انسيابيــة كلما نظر إليها الأستاذ المكـون فتبـدو أكثر ثباتا وانضباطــا وإصغــاء ..
وفي إحدى المجموعات الخلفيـة كان يجلس سليم محفوفا بالسلطان سليمان .. حافظا على نفس المجموعة التي لم تستقرعلى حال وكأنهـا مـزار كل من حل فيه إلا وارتحـل دون سابــق إعلان .. كان رامي يبــدو دوما غارقا في صمـت وكأنه شيـخ قبيلـة .. وبيـن الفينة والأخرى يسافر بنظراته نحو ضفاف "رانيــا" .. وكلما التقــت العين بالعيـن .. إلا ويبادلها التحيـة عن بعـد بابتسامة عريضـة تخفي وراءها أكثر من علامة استفهـام .. ولا تتـردد هي الأخرى في مبادلته بنفس التحيــة وربما بأحسن منهــا .. يومـا بعد يوم وحصة بعد حصـة .. تغير حال "رامـي" كما تتغيـر ألـوان السمـاء بعــد أن صـار "السلطان سليمان " و" الشاعر المبجـل " .. فعلت فيه خمـرة العشـق فعلتهـا .. وأضحـى كمجنــون ليلى .. يتسكـع كل ليلـة بين الأروقة والممـرات .. يتغـزل في النافورة المهجورة .. يخاطب شجرتي التوت الباسقتين .. يطلب ود النخلة الصامدة وشجـرة الزيتــون المحتشمـة ..
لا يزال يتذكر " سليم " في إحدى حصــص دعم التكوين الأساس في مادة الجغرافيا، لمـا أصابت نوبـة " الشـوق " السلطان سليمان داخل القبــة الزرقــاء .. أخد يوجـه رسائل "سلطانية " إلى "رانيـا" عبر وساطة "الدفتردار" الأستاذ "أحمد" .. كان منتشيـا ومزهوا وهـو يكتب بأناملـه "كلمات مودة " إلى رانيـا .. ملفوفـة برسائل مشفــرة دفينـة وحده يفهـم عمقهـا وفحواهــا .. وكانت "رانيـا" تـرد على كلماته بمــداد من الرقـة والنشـوة والحبـور والبسمة لا تفــارق محياهـا .. فجــأة انصــاع " سليمان " إلى سلطة الشــوق وانحنى أمام سحـر "العشــق" .. ونهض كالبطل الهمام إلى السبــورة نــزولا عند طلبات الزمـلاء من أجل البوح ببعــض الكلمات الشعربـة .. وقد كان "سليـــم" واحـدا من الذين أججـوا قريحة " سليمان " ودفعوه إلى النهوض إلى السبــورة والوقوف أمام الجميــع .. خيمت وقتهــا على "سليمان " شجاعـة لا توازيها شجاعـة وعفويـة لا تضاهيها عفويــة .. لم يفــوت " تلك الفرصــة التي قلما تجود بهـا يوميات الهــوى ..كان يبدو كشاعر تأخر به الزمان .."كعنترة بن شداد" في أيامه أو "امرؤ القيس" في زمانه ...وخاطب "رانيــا" أمام المــلأ بكلمات انحنى أمامها الجميــع ضحكا وبهجـة وحبــورا ..
" كفاك صمتــا ..
إن صمتك يحيرنـي ..
يرعبني ..
يطرح أكثر من تساؤل في ثنايا نفسي ..
بل صمتك يعذبنـي ..
يقلقني ..
وأكــاد أنغمـس في بحر هيامـك ..
كفاك صمتا ..
إن صمتك يجعلني تائهــا ..
كفاك صمتــا أي رانيا ..
كفاكم صمتا جميعــا .."
كفاك صمتـا .. أخرجت أشواق " سليمان" إلى العلـن .. حاملـة أكثر من رسالة إلى " رانيـا" التي تحولت منذ تلك اللحظــة إلى "هيـام" كما تحول "رامي" إلى "سليمــان" .. ومن يومهــا .. أضحى "سليمان" رجلا آخـر .. يتنفــس تحت الماء .. عشقـا وشوقا وهيـامـا .. وأصبحـت "رانيـا" أو "هيــام" ذاك الطيــف الذي يلازمـه في كل لحظـة وحيــن .. يتذكرها كلما مر أمام النافورة الزرقــاء .. كلما توقــف لحظات أمام شجرتي التوت الباسقتيـن .. أصبحت صورتها تطارده كالأحــلام الكاسحة .. كالهواجــس .. كلما تحـدث عنهــا وهو يقبل كأس شــاي منعــنع داخل الغرفـة .. كلما كان مبتهجا مســرورا مفتخرا بهـا .. بعد أن هاجرتهــا الحمائــم والنسائــم .. خاصة بعد أن جمعهمـا لــواء "البحــث الإجرائي" في غفلــة من الجميـع .. حينهــا كانت حكاية "سليمان '' و"هيام'' موضوع الساعة .. تتــردد في السر والعلن .. يحركها ســؤال دفيــن يفرض نفســه بكل إلحــاح .. "سليمان" و"هيــام" .. أية تقاطعات بينهما ؟ هـل هو عشــق وهيــام ؟ أم هـو حلــم عابــر عبــور السحــاب ؟ أم هــي حكايـة للنسيــان ؟
مشكلة الوضعيات المهنيـة ..
مع إنطلاقة موسم التكوين، ومع أول وضعية مهنية في إطار أسبوع الإستقبال بالثانوية التأهيلية ''ابن خلدون'' وغيرها من مؤسسات التطبيق، لاحت في الأفق ملامح أزمة لم يكن "سليم" يعرف وقتها كواليسها وجزئياتها ولا حتى تطوراتها وانعكاساتها على مسار التكوين .. أزمة من جهة بين الأساتذة المرشدين الذين يفترض أن يستقبلوا ويؤطروا المتدربين داخل الفضاءات الفصلية في إطار الوضعيات المهنية، والوزارة الوصيــة من جهة أخرى.. أولى المعطيات التي وصلت إلى مسامع الأساتذة المتدربين سواء عن طريق المؤطرين أو مدراء المؤسسات، أن الأساتذة المرشدين هم بصدد مقاطعة عملية الإنخــراط في مسار التكوين في شقه العملي، في محاولة منهم لي ذراع الجهــاز الوصي وإرغامه على الجلوس على مائدة الحوار والتفاوض من أجل نيل مطالبهم المشروعــة والتي كانت في مجملها ذات طابع مادي صــرف (تعويضات مالية ) لما يقومون به من مهــام إضافيــة في تأطير المتدربيــن داخل الفضاءات الفصليــة ..في تلك اللحظات الأولى كان الأساتذة المتدربون لا يملكون ســـوى بذلات زرقــاء اللون وربطات عنــق عوضت الوزرات البيضـــاء .. يتحركون كالقطيـــع من المركز إلى المؤسسات التطبيقية وفق الإعلانات والتوجيهات .. ولما يحلون ضيوفا على المؤسسات يتم لفظهم بسلاسة كما يلفظ البحر المتوسط جثث الحالمين بأضواء الشمال .. ويعودون أدراجهم إلى المركــز بخفي حنين .. كان "سليم" يدرك أن المتدربين هم خارج الأزمــة وبعيدون عن لعبة شد الحبل فوق بساط يتقاسمه الأساتذة المرشدون والنيابة والأكاديمية والوزارة الوصيـــة .. وكان في نفــس الآن يتأســف من مشاهد مسرحية مخجلة تحول فيها المتدرب إلى ورقة ضغط أو "جوكيــر" يحاول كل طرف اسغلالهــا لكسر شوكة الطرف الآخــر .. كان الوضع مخجلا ومقلقا في نفس الآن .. لكنه عكس بما لا يدع مجالا للشك "واقع" منظومة يشهد الجميع بفشلها الذريــع .. أسئلة متناسلة تجتر بعضها بعضا كانت تطــارد "سليم " كالشبح .. كان -مرة أخرى- بين صورتين متناقضتين تماما .. مجال "الشرطة " حيث لا مكان إلا للنظام والانضباط وتنفيذ التعليمات .. ومجال "التعليم" حيث العشوائية واللخبطة وعدم وضوح الرؤيــة ولغة الحسابات والأنانية المفرطـة .. تساءل حينها .. كيف تعجز وزارة عن ضبط عمل مصالحها الخارجيـة (أكاديميات ، نيابات ، مراكز ، مؤسسات ) .. وكيف لا تقو على الاستماع إلى الأساتذة المرشدين وتلبية طلباتهم المشروعــة باعتبارهم قناة أساسية لا محيدة عنهــا في عملية تكوين الأساتذة الجـدد ..
أسئلة كثيرة أثقلت كاهل "سليم" في تلك اللحظــات المبكرة .. لم يقو على فهم حيثياهــا وكواليسهــا .. لكن الخلاصة التي كانت بادية للعيــان .. هي أن "الأستاذ(ة) المتدرب" هو آخر من يفكر فيـه وسط "حلبة" يتصارع فيها الكبـار ولا صوت فيها إلا صوت المصالح .. وفي ظل هذه الأزمة الكاسحة .. كان لا مفر من تطبيق المخطط "باء" الذي كان يعني تعويض الوضعيات المهنية بالدروس النظرية .. إلى أجل غير مسمى .. في انتظار أن تضع "الحرب" أوزارهـا ...
تبني المخـــطط " بـــــاء "..
بعد أن تبين أن أزمة الوضعيات المهنية عميقة ومستعصيـة الحلول .. نفذت الإدارة المخطط "باء" أي "الدروس النظرية " كبديل مؤقت في انتظار أن تلوح في الأفق ملامح حل قد يكون وقد لا يكون ... تكسر "الأنموذج عملي نظري عملي" على عتبــة الواقــع، وتحول عنوة إلى "أنموذج نظري نظري نظري" .. وانطلقت ناعورة "الدروس النظرية " في الدوران وسط حقل "القاعة الزرقاء" من الإثنين صباحا إلى الجمعة مساء .. بمعدل ثمان ساعات في اليوم لايفصل بينها سوى ساعتين من أجل التقـاط الأنفاس وأداء صلاة الظهر وتنــاول وجبة الغداء ..وكأن الأمر يتعلــق بصراع شرس حول من سيكسب المليون .. ولم تكن الحكاية تنتهي عند هذا الحـد .. بل عادة ما كانت تستمر ناعورة المعاناة في الدوران داخل الغرف حتى ساعات متأخرة من الليل .. من أجل إعداد جــذاذة أو البحث عن "مورد رقمي" في الشبكة العنكبوتية أو إعداد عروض .. وما تكاد العيون تغمد حتى تستيقض صباحـا تحت صيحات بعض القطط المتسكعة بين جنبات الداخلية .. لتبدأ يوميات هتشكوكيـة جديدة داخل رحاب القاعة الزرقـــاء ..
كانت عطلة نهاية الأسبوع بمثابة استراحة محارب وأخذ الأنفـــاس قبل استئناف العدو في مضمار أرضيته ملئى بالمطبات .. أيام الاثنين كانت تعني .. بدايــة أسبوع جديد من العدو والركض .. بل أسبوعا جديدا من الآهات والمعاناة وسهر الليالي الطوال .. كانت الرحلة تبدأ بحصة رباعية في مادة التخطيط تليها رباعية أخرى في مادة التدبير وتنتهي الجولة الأولى بحصة " تيس" (تكنولوجيا الإعلام والإتصال) .. ليتواصل مسلسل الرعب مع حصص "علوم التربية " حيث لا مكان إلا لجهاز"الدتاشاو" .. مرورا بحصص دعم التكوين الأساس تاريخ وجغرفيا ، لتنتهي الحكاية مع حصص البحث التدخلي الإجرائي ..وفي كل رحلة أسبوعية تتساقط على الرؤوس زخات قوية من الوثائــق الورقيــــة ناهيك عن عشرات من الوثائق الرقمية .. وإذا كانت هذه الأخيـــــرة تجد ملاذها الآمــن في الحواسيب، فإن الوثائــق الأولى كانت تمر عـــادة عبر النسخ بمكتبة محفوظ المجاورة، قبـــل أن تجد طريقهــا نحــو الملفات الشخصية (البورط فوليو) الراقدة تحت أسرة الألم .. وسط هذا المضمار .. الكل كان يجــري .. الكل كان يلهث وراء الوثائق المتراكمة .. وفي عز الدروس النظرية بكل ما حملته من رتابة قاتلة .. كانت تتقوى يوما بعد يوم الرغبة في خوض غمار الوضعيات المهنية .. على الأقل لكسر شوكة الدروس النظرية .. وتجاوز مطبات الرتابة المدمرة ...
ســـلام الشجعـان ..
في إحدى الصباحيات، وتحديدا في المراحل النهائية للأسدوس الأول، تغــيب الأستــاذ المكون " ميمـون" دون سابق إعـــــلان ولا إشعار، وقد تم الولوج إلى داخل "القاعة الزرقــاء" ترقبا لحضوره بين كل لحظة وحين .. تحين الفرصة الأستاذ المتدرب " عسو" باعتباره ممثل القسم، ونهض من مقعده مخاطبا الحاضرين بكلمات متقاطعة أفاد من خلالها أن بعض المتدربين من شعبة "الإيس في تي"(علوم الحياة والأرض) يتأهبون من أجل القيام بوقفة أمام مقر الأكاديمية تنديدا بغياب الوضعيات المهنية .. واقترح "عسو" فكرة فتح نقاش حول المشكل القائم وتحديد مدى إمكانية أو عدم إمكانية الإنخراط في هذه الوقفة الإحتجاجيــة ..وبعـد أن تم قبول المقتـرح، فتح وقتها باب المداخلات بعدما تكلف "عسو" بنفســه بعملية تسيير النقاش ..
الأستاذ المتدرب " آيت بويه " كان أول المتدخلين ..وقد بدا من خلال كلماته أنه ميــال بشغف إلى فكرة التصعيد والإحتجاج لإرغـام الجهات المعنية على إيجاد حل مستعجل للمشكل القائم بشأن الوضعيات المهنية ..التي انخرط فيها جميع الأفواج باستثناء "الايس في تي" و"الأدب العربي" و"التاريخ والجغرافيا" .. عقبها لم يجد "سليم" بــدا من التدخل في هذه اللحظة الحرجة.. تناول كعادته كلمة مقتضبة .. كان ينظر إلى الأشياء بنوع من الحكمة .. أكد أن الجهات المعنية بما فيها الوزارة الوصية لم تقو على إيجـاد حـل مناسب لهذه المشكلة المعقدة للغايــة، وأثار انتباه الحاضرين إلى ضرورة التعامل مع الوضع بنظرة متعددة الجوانب تستند إلى الحكمة والمسؤولية، وحـذر من إمكانية خوض أية حماقة إحتجاجية معالم فشلها واضحة للعيـــان، مؤكدا في ذات الآن أن المتدربين هم بعيدون عن اللعبة التي لا يعرفون كواليسها وظروفها وملابساتها، والإنخــراط في دائرة الإحتجاج غير الواعي من شأنه أن يخــدم عن وعي أو بــدون وعي مصالح هذا الطرف أو ذاك ...
أعقبت "سليم" تدخلات كل من " أرسلان" و" الهواري " والتي ساندت بشكل أو بآخر وجهة نظر "سليم" .. قبل أن يتنـاول الكلمـة الأستاذ المتدرب " أبو العز"، وما أن شرع في إبداء وجهة نظره وتأكيده أن خطوة "الإحتجاج" المزمع القيام بهـا هي خطـوة متأخرة كان ينبغي القيام بها في أول الموسم الذي لاحت معالم نهايته في الأفــق ..حتى ثارت ثائـرة "آيت بويه " الذي احتج بقوة على ما قاله " أبو العز" مشيرا أنه سبـق وأن أبدى فكرة الإحتجاج في بدايــة الموسم .. وبسرعة فائقة حتى ثارت ثائرة الإثنيــن، وتعالت الصراخات بينهمــا وإنقلبت بعض الطاولات والكراسي وحاول الطرفان الإشتباك بالأيــادي .. ولولا تدخل بعض الزملاء لتهدئة الوضع لوقع ما لا تحمد عقبــاه ..
عموما فقد تم إخماد نيران الغضب في مهدها وغادر الجميع إلى حال سبيلـه .. كانت تحدو سليم وقتها رغبة وحيدة، ألا يصل ما وقع إلى الخارج حتى لا تخدش سمعة الفوج سواء أمام الإدارة أو المكونين أو باقي الشعب .. لكن التطورات اللاحقة ، أبانت أن "الصبيانية" و"عدم المسؤولية" أوصلتا "الخبر" إلى خارج القاعة الزرقــاء ... وقد كانت تلك، أول وآخر مــرة تهتز فيها تلك القاعة على وقع النزاع والصراع والمواجهة .. وفي إطار تحديد المسؤوليات عما وقع ، فقد كانت مسؤولية الأستاذ المكون "ميمون" واضحة، على اعتبار أنه تغيب دون سابق انذار، وقد كان عليه على الأقل أن يشعر أحد المتدربين هاتفيا بموضوع عدم حضوره،كما أن المتدربـبين جميعهم ، تحملوا أيضا قسطا من المسؤولية، لأنه وفي كل الحالات ، ما كان عليهم أن يلجوا إلىى القاعة الزرقاء في غياب الأستاذ المكــون، علما أن المسؤولية المباشرة ، يتحملها المتدربــان "أبو العز" و"آيـت بويه" ...
و فقد استغل "سليم" و"سليمان" الفرصة ، وغادرا إلى الغرفة رقم "10" من أجل أخد قسط من الراحة .. وبعد مضي حوالي ساعة من الزمن، بينما "سليم" يتصفح صفحة المجموعة على "الفيسبوك" حتى تفاجــأ بنشر صور لبعض الزملاء من الفصل مزهوين ومبتهجين يجلسون بإحدى المقاهي بمركز المدينة، كان من ضمن الحاضرين " أيت بويه" و"أبو العز" .. بسرعة كبيرة ذاب جليد الخلاف بين الطرفين وعادا إلى رشدهما .. كانت تلك لحظة تاريخيــة معبــرة ..لم يجد لها "سليم " من تعليق سوى .. سلام الشجعـــان ... وبقدر ما ثمن هذا "السلام" ، بقدر ما تأسف على تلك الواقعـة المؤسفة التي طغت عليها الصبيانية وعدم المسؤولية وعدم الإحترام وكذا عدم قبول الرأي والرأي الآخر، تبين بما لا يدع مجالا للشك ، أن مثل هكذا تصرفات أو سلوكات، لا يمكن أن يكون لها مكان في شخصية "المدرس" الذي يجب أو على الأقل يفترض أن يكون "نموذجا" يحتدى به بالنسبة للمتعلمين والمتعلمات على مستوى السلوك والقيم والأخــلاق ...وبما أن كل واقعة لها دروس وعبر ، فقد استخلص الأستاذ "سليم" أن المدرس(ة) لا يمكنه أن يترك المتعلمين بمفردهــم داخل الفصل، تفاديـا لأي سلوكات أو تصرفات غير واعية وغير مسؤولـة قد تصدر عنهــم .
الغرفــــة رقــــــم 10 ..
لتلج إليها، لابد وأن تقتحم بقدميك بابا حديديا (باب الداخلية) يعطي منذ اللحظة الأولى نطباعا أنك أمام باب زنزانة أو معقل .. لكن الإنطباع يزول نسبيا بمجرد ما تلتقط عيناك الشاردة نافورة زرقاء بدون ماء رسم الإهمال واللامبالاة تجاعيد على وجهها الشاحب .. تبدو كعروس هجرها عريسها المتيم ليلة زفافهـــا بدون رجعة ..لكنها لا زالت مصرة على الحياة مهما دقت طبول الإهمال القاتل ..مع ذلك فهي تبقى "أيقونة" المكان بإمتياز .. أول ما يثير الإنتباه .. بنايات إسمنتية تبدو كالقلاع والرباطات اكتسحها اللون الأحمر من كل صوب وإتجاه كما تكتسح رياح الخريف أوراق الشجر ...إلى درجة تحس فيها أنك بين أحضان حي من أحياء مدينة مراكش الحمراء ... لكن المكان تغيب فيه بهجة جامع الفنا وصخب باب دكالة وعنفوان الكتبية وسحرالمنارة وعنفوان قصر البديع ..
كل شيء هنا يوحي بالكآبة والرتابة القاتلة .. شجيرات نخل وزيتون وتوت لم تسلم بدورها من حمى الإهمال والنسيان.. وأعشاب وحشائش متناثــرة ..كراسي إسمنتية متراصة على طول الممر ... نخلة محطمة لم يتبق منها سوى جـدع صلب لم يتجرأ أحد على إزالته ... قطط متسكعة صارت جزءا من مورفولوجية المكان ... وسط هذه الرتابة القاتلة ..تترك الجناح المخصص للأستاذات من جهة اليسار .. وتقطع الممر المؤدي إلى جناح الأساتذة بخطوات متتثاقلة تحرسك الحشائش المتناثرة كحبات القمح في البيادر .. إلى أن تصل إلى مدخل الجناح .. يصادفك سرير مهمل متهالك منتصب كحارس عمارة .. يسارا يوجد ممر مؤدي إلى الجناح السفلي وبمحاذاته يوجد درج يفضي إلى الطابق العلوي حيث يقطن إبن الشاوية "سعدان " ، يمينا يوجد الجناح الثاني .. تعرج يمينا فتستوقفك من الجهة اليسرى مراحيض لم تسلم بدورها من الإهمال .. بمحاداتها يوجد مطبــخ تتقاطع فيه عادة روائــح الأطباق المتواضعة بروائح الأزبال المنبعثة من القمامة المركونة عند الباب .. تعرج يمينا وتستوقفك الغرفة رقــم 10 التي قدر لها أن تتعايش مع الروائح المنبعثة من المطبخ والمرحاض وكذا خطوات وأصوات وقهقهات الأساتذة المقيمين في الغرف المتواجدة وسط وعمق الجناح ..غرفة متواضعة إلى أبعد مدى .. لم تسلم بدورهــا من الإهمال والنسيان ..ما أن تلج إليها حتــى تستقبلك الكآبة وتفتح لك الرتابـــة أحضانها ..
عند الباب من جهة اليمين ، يستوقفك "دولابان" يفصل بينهما جدار اسمنتي، وفي الركن الأيســـر، انتصب سريــر متهالك كان يرقـــد فيـــه الأستاذ المتدرب " حمــدي" من السلك الإبتدائي، وفي الركن المعاكس من الجهة اليمنــى، ينتصب سريران لم يسلما بدورهمــا من عـــدوى الإهمال والنسيان تفصل بينهما مسافــة صغيـــرة عبــــارة عن زقاق لا يتجـــاوز عرضه المتــر .. السرير الموجود على اليمين كان للأستاذ "سليمان" فيما السريــر الثاني كان يرقد فيــه "سليــم" ، الجدار الأمامي تتوسطة نافذتان متهالكتان تشرفان على الممر الخارجــي ..
بين أحضان هذه الرتابة القاتلــة .. تعايش "سليم"و"سليمان" جنبــا إلى جنــب .. سهرا الليالي الطوال أمام شاشــة الحاسوب بحثا عن وثائق أومــورد رقمي أو انجــاز جذاذة أو إعداد عرض من العـــــروض.. كانا عادة ما يخترقـــــان جدار هذه الرتابــة وما تحمله من صمـــــت وآهات ومعانـــاة، باعـــداد " بـــراد" شاي منعنعنـــع يتفنــن "سليمان" في تحضيــره بكل نخوة وأريحيـــة .. كؤوس الشــــاي كانت أنيسهمــا المخلص في غرفة تبــدو أقرب إلى الزنزانـــة منها الى الغرفــــة ... وعلى إيقاعات نشوتها كانا يتبــادلان أطراف الحديث وكل واحد منهما يحتضن حاسوبه الصغير ..كانت للحاسوب مكانة خاصة في يوميات الغرفة .. وفضلا على أهميته القصوى في الإشتغال والبحث .. فقد كان وسيلة ترفيــه في مجال لا مكان فيه لجهاز التلفـــاز .. إلى درجــة كانت هناك قطيعة عن العالم الخارجي ولم تكن هناك أية متابعة للأخبــار لا الوطنية ولا الدولية ولا مستجدات كرة القدم .. كان الأمر يبدو صعبــا للغاية .. لذلك كان للحاسوب مكانة قصوى .. ولا يمكن تصور حياة داخل المركز ككل بدونــه ...كان التواصل بين "سليم"و"سليمان" يتم بشكل سلس وبكل أريحيــة في غياب الأستــاذ الثالت ، لكن وأثناء حضوره خاصة خلال فترات الليــل .. كانت درجة تواصل "سليم "و"سليمان" تنزل إلى مستوياتها الدنيا .. لأن قنوات التواصل مع الطرف الثالت لم تكن متيسرة .. وكان فيها نوع من التحفظ ،وربما هذا التحفظ كان له ما يبرره من الناحية الواقعية ، في ظل وجود أستاذ متدرب ينتمي إلى السلك الإبتدائي وأستاذين آخرين ينتميان إلى السلك الثانوي التأهيلي بل وإلى نفس الشعبــة، وهذا مــا وسع الهـــوة بين "سليم" و"سليمان" من جهة ،والأستاذ الثالت من جهــة ثانية ، وفي ظل هــذا الوضع ، يكون كل طــرف مرتبطا بحاسوبه الخاص .. بخصوص "سليم "و"سليمان" فعادة ما كانا يلتزمـــان الصمت .. ولم يكونا يتكلمان إلا باقتضــاب .. إلى درجة أنه وفي بعض الحالات كانا يتبادلان بعض الرسائل عبر"الفيسبوك" على مسافة تقل عن المتريـــن ..
بالنسة للأكـل .. فباستثــاء إعداد الشاي داخل الغرفة .. تعود "سليم" و"سليمان" ومنذ بدايـــة الموسم أن يتناولا وجبـــات الغداء والعشاء خارج الغرفة ، وتحديدا بمحلات الوجبات الخفيفة بحي السعـــادة ..كانا يحجان إلى الحي المذكور كل زوال وكل مساء ..ثم يعودا إلى الغرفة .. لا يمنعهما لا برد ولا حر ولا شتـــاء ..لكن كانت للشاي حكاية خاصة في يوميات سليم وسليمان، حيث وفي غياب قنينة الغـاز ، فقد كانا يسخران سخانا كهربائيا في إعداد هـذا الشاي كل صباح ومساء ، صحيح أن ذاك الشاي لم يكن "مشحـرا" .. لكنـه كان كافيـا لإضفـاء كل معاني "النشوة " و"البهجة" في يوميات الرتابة داخل الغرفة رقم 10 .
وقفة مع سليم وسليمــان..
سماء مازاغان تبدو ساكنة .. وطلائع الحرارة أضحت تلوح في الأفق بعد قساوة برد الشتاء .. تغير كل شئ بين الأمس القريب واليوم .. بين المقدمات وبين الخواتم التي أخذت تلوح في أفق القاعة الزرقاء والأشجار الباسقة والأعشاب المتناثرة والحجرات الساكنة .. والنافورة المهجورة التي أضحت طللا صامدا .. وحدها العيون والخطوات والقهقهات .. تبت فيها الحياة وتضفي على وجنتيها ألوان الحب والأشواق .. تعود "سليم" كل عطلة نهاية أسبــوع ، أن يغادر "مازغان" ويشد الرحال إلى " المحمدية" مدينة الزهور ، ما أن يحل يوم الجمعة وينهي آخر حصة مبرمجة ، حتى يهرول إلى الغرفة رقم "10" ويجمع أغراضه الخاصة ، ويستقل أول سيارة أجرة صغيرة تارة في اتجاه محطة القطار ، وتارة أخرى في اتجاه محطة الحافلات بمركز المدينة إذا كان أمامه وقت كاف .. عطلة نهاية الأسبوع والعطل المدرسية ، كانت بالنسبة إليه ، فرصة للتخلص من رتابة الحياة بالداخلية ، ومن آهات أسبوع شاق بامتياز .. أما "سليمان" فقـد تعود كل عطلة نهاية أسبوع ألا يبارح الغرفة (رقم 10) نسج بينه وبينها أواصر حب جارف ليس له حد ولا آخـر ..لايغادر الغرفة إلا مرغما أيام العطل المدرسية والأعيـاد ... وقد كان "سليم" يمزح معه دوما قائلا : "ستكون أنت يا سلطان سليمان آخـر من يغادر أبواب المركز في آخر الموسم التكويني " ، وكان "سليمان" يبدو مزهوا منتعشا كلما سمع هذا الكلام ..
كل زوال و كل مساء ، كان "سليمان" يغادر المركز بخطوات متثاقلة وكأنه قديس يوزع صكوك الشوق على مريديه ، كان "سليم" يرافقه كالظل .. كانا يبدوان كالعود والوثــر .. كالشتاء والمطر .. وجهتهما المعتادة كانت "سوق السعادة" حيث لا صوت يعلو على أصوات باعة الخضر والفواكه والخبــز الساخن ، تارة كانا يستسلمان لنكهة الطاجين ، وتارة أخــرى تسرقهما رائحة الدجاج المحمـر ، وتارة ثالثــة يتسللان كما يتسلل العشق إلى الوجدان إلى محل خاص بالمسمن والحرشة والحريــرة الساخنـة .. عقب كل وجبــة غداء أو عشاء ، كانا يقومان بجولات بين الحوانيت المتراصة .. ويقتنيان ما يلزمهما من خبز و نعنــاع ، ثم يغادران و يعودان على عجـل إلى الغرفة رقم 10 كما لو كان كل واحد منهما متعطشا لاحتضان حبيبته بعد طول انتظـار .. كان "سليمان" كلما وطأت قدماه المركز .. إلا وهاجمته نسائم الشوق من كل صوب واتجاه ، ترغمه أن يخطو خطوات متثاقلة متبخترا كالطاووس الهائــم .. ينظر يمينا وشمالا كما لو كان يبحث عن طريدة أو فريسـة وسط غابة هائمة ..مزهوا يلقي ابتساماته العريضة على بعض الوجــوه .. تحس أنه راع يتفقد الرعية بعنفوان .. يتسلل إلى الغرفة خلسة كما يتسلل الهيام إلى دهاليز الشوق .. ويتربع على الأرض تاركا دفء السرير وكأنه يتأهب لتناول الكسكس .. بعد أن يكون قد هيأ براد شاي منعنع ساخن .. يبدو كشيخ وسط خيمة صامتة في قلب صحراء قاحلة .. لا ماء فيها ولا هــواء ..وحدها شاعريته الحبلى برياح الهيام .. تضفي على الغرفة هالة من البهجة والحبور والسرور رغم سكون اللحظة .. هكذا تعود "سليمان" أن يعيش اللحظة مرفوقا برفيق دربه" سليم" ، لكنه تعود كل عطلة نهاية أسبوع ، أن يعيش نفس اللحظة بمفرده في غياب "سليم" .. أن يخرج ويعود للتو .. ألا يبارح المكان .. خلال كل هذه المدة .. ربط مشاعر حب مع الحجر والشجر .. مع النخل والزيتون .. مع النافورة .. مع الأشجار الباسقة .. تعود كلما مر بمحاداة النافورة .. أن يردد ترنيمة مطلعها .. من هنا .. من النافورة الزرقاء .. من أمام هذه النخلة والزيتونة .. بدأت الحكاية .. حكاية بطلها .. شاعر مبجل هائم .. إسمه .. السلطان سليمان زمانو...
تمثــــــــــــــــلات أستاذ متدرب..
التاريخ 24 يناير 2014، والمكان "القاعة الزرقــاء" والحصة حصة "علوم التربية "(مجزوءة التدبير) وجماعة القسم تكونت من أستاذ مكون وأساتذة متدربين... تمحورت الحصة الإفتتاحية حول موضوع "التمثل" كعملية ذهنية يتولى من خلالهــا الأساتذة المتدربين رصد تمثلاهم بخصوص تجاربهم السابقــة كتلاميذ ونوعيــة علاقاتهم مع أساتذتهـــم الذين تركوا بصمات إيجابيــة أو سلبيــة في مسارهم الدراسي، بهـدف " التموقـع في التدبيــر" عبـر تجـــاوز مواطن ومكامن الضعف والقصــور في التجارب السلبيــة في أفق وضع تصورات عن "الأستاذ/النموذج"، وهكذا واشتغــالا على الموضوع، طلب الأستاذ المكون من الأساتذة المتدربين رصد تجاربهم السابقة كتلاميذ في علاقاتهم مع مدرسيهم، وقد تقرر في هذا الإطار الإشتغال على الموضوع في شكل مجموعات ،بأن يقوم كل أستاذ(ة) متـدرب(ة) بتدوين تجربـته الخاصة على أساس أن يعرض عضو من كل مجموعة تجربته نيابــة عن المجموعة التي ينتمي إليهــا، و بعد مضي حوالي نصف ساعة من الزمن، قدمت التجارب تباعا في أجواء تقاطعت فيها الحماسة وحسن التتبع و الإصغاء، وبخصوص تجربـة "سليم" - كما دونهــا في حينــــــه - فقد كانت على النحو التالــي :
" يصعب علي اللحظة وأنا في موقــع الأستاذ المتدرب أن ألبس وزرة التلميذ .. أن أختزل الزمن وأعود كما كنت .. تلميذا في الإبتدائي والإعدادي والثانوي وحتى الجامعي .. يصعب علي اللحظة وأنا في موقع الأستاذ المتدرب .. أن أنبــــــش في ذاكرتي الدراسية التي تمتد لسنوات طوال .. ورصد جزئيات وتفاصيــل أساتذة حظيت بشرف التتلمــذ على أيديهم .. يصعــب علي اليوم .. الحكم على أساتذة علمونــي .. وغدا سيصبحـون زملاء لي .. إذا كان لا بد من الحكم .. إذا كان لا بد من التقييــم .. فأنا أقـــول أن كل هؤلاء الأساتذة والأستاذات .. أثروا في شخصي وفي مساري وتوجهاتي .. منهم من أثار إنتباهي من حيث الهنــدام .. منهم من نال إعجابي من حيث الطريقــة والأداء .. منهــم من كسب ثقتي بالجديـــة والإنضباط .. ومنهم أيضـــا من ترك بصمات وإنطباعات سلبيــة .. وهنا أستحضر صورة الأستاذ "العنيف" ، "السلطوي" ، " الإنتهازي" ، "النمطي" ... إلخ، وأمام هاتين الصورتين الإيجابيـــة والسلبية .. ومادام الوقت لا يسمح برصد كل التمثلات .. فأنا أكتفي برصد نموذجين وصورتين : الصورة الأولى لأستاذ التعليم الإبتدائي الذي كان يفرض علينا كتلاميذ صغـار أن نحضر له وجبة الفطور بالتناوب كل صبــاح ، كما كان يفرض علينا أن نأتيه من حين لآخــر بكمية من الخضر، إلى درجة أنه كان يحمل معه في نهاية الحصة كيسا من سعة "مائة كيلوغرام" مشحونا بالخضر والفواكه، وتارة أخرى كان يطالبنا بإحضار "بيضتان" لكل تلميذ، وكان يدرس وقتها "فوجان"، ويمكن أن نتصور كم بيضة يمكن أن يحصل عليها ( 160 بيضة على الأقل ) ولنتصور أيضــا .. كم بيضة سيحصل عليها في الموسم الدراسي .. أما التجربة الثانية ، فقد كانت أستـــــــــــــاذة مــــادة " الآثــار" بالكلية (شعبة التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط).. وهي أستاذة متواصلة جدا ..كانت مندمجة مع الطلبة إلى أقصى حد .. وأعطت بطريقتها الخاصة نكهة خاصة للمــــادة ..ولعل من ثمار عملها أن ساندت وشجعت طلبة الفصل على تنظيم معرض للصور الأثريـــة برحاب الكلية .. وقد تحققت هذه المبادرة على أرض الواقع، وكان لها صدى واسع بين أوساط الطلبة والأساتذة على حد سواء ..".
وعلى ضوء التجارب المعروضة ، فقد تمكن سليم من رصد الملاحظات التاليــة :
- أن التجارب رصدت الأستاذ '' الإيجابي" مقابل الأستاذ " السلبي " ، فالإيجابي هو أستاذ محفز ، ودود ، محتــرم واسع المعرفة، متواصل، منهجي، أما "السلبــي" فهو أستــاذ مفلــس ذو أخلاق رديئــــــة، محتقر، عنيف، غير ديمقراطي، لايملك آليــات التدبير والتخطيط، متواضع الهندام، عديم القدرة على ضبط القسم ..
- أن التجارب المعروضة موقعت المدرس في زاويتين اثنتين متقابلتين : الزاوية الأولى تحيل على الأستاذ" الإيجابي والثانية يتموقع فيها الأستاد "السلبي" ، وهذا ما سمـــح بطرح الأسئلة التاليــة :
-ما المقصود ب"الايجابي" و"السلبي" ؟وماهي الحدود الفاصلة بينهما ؟
-ما هي مؤشرات ومعايير "الأستاذ الايجابي" و"الأستاذ السلبي" ؟
-لماذا صار " الأستاذ إيجابيا" ولماذا تحول الآخر إلى نموذج "سلبي" ؟
-هل الإيجابي السلبي" مرتبط بانطبــاع "شخصي" أم هو موقف جماعي ؟
-هل تمت محاكمة الأستاذ بعقلية التلميذ المتعلم ؟ أم بعقلية الأستاذ المتدرب بكل ما يحمله من مستوى إدراكي ؟
- الملاحظ أن كل التجارب المعروضة، موقعت الأستاذ إنطلاقا من مستوى إدراك الأستاذ المتدرب وليس بعقلية التلميذ المتعلم، بدليل إسقـــاط مجموعة من المفاهيم التي لا يمكن للتلميذ المتعلم أن يستحضر كنهها بل والوعي بها، من قبيــل " التخطيط " ، "التدبير"، "التواصل" ... إلخ ، كما أن التجارب لامست مواضيع كبـرى من قبيل الأستاذ المتخلق والمتسلط والمحتقر وغير الديمقراطي والعنيــف ... الخ ، وهذا يحيل على تساؤلات كبـــرى تلامس مفاهيم " الأخلاق" و"التسلط"و"الاحتقار"و"الديمقراطية"والعنف وغيرهــا .
- على المستوى الإدراكي، لا يمكن لتلميذ في الإبتدائي أو الإعدادي أو حتى الثانوي، أن يصدر أحكاما من هذا القبيل عن وعي وإدراك، وبالتالي فإن سؤال "الأستاذ الإيجابي و"الأستاذ السلبي" لم يكن سؤالا خالصا نابعا من ذهنية التلميذ المتعلم، بل تحكمت فيه عقلية الأستاذ المتدرب بكل ما تحمله من مستويات إدراكية معرفيــة وسلوكية وغيرهـــا .
- من الناحية الواقعية يصعب النفــاذ إلى "تمثـــــل" التلميذ دون حضور عقلية "الأستاذ المتدرب"، ويصعب بل ويستحيل إيجاد حدود فاصلة بين " عقلية التلميذ المتعلم" و"عقلية الأستاذ المتدرب"، بل لا مناص من القول بأن هذا الأستاذ المتدرب ما هو إلا "إبن" لذلك التلميذ المتعلم " بكل سيروراتــه، وعليه وتأسيسا على ما سلف ، يبقى السؤال العريـــض على النحو التالي : ما مصداقية الشهادات التي عبر عنها الأساتذة المتدربـــون ؟ هل يمكن إقصاؤها وتجاوزهـا ؟ هل يمكن القبول بهــا رغم إنطباعيتها والتأسيس عليها ؟
-الواقع أن صورة "التلميذ" حاضرة بقوة في ذاكرة وذهنية "الأستاذ المتدرب وهدا الأخيــر ما هو إلا نتاج لسيرورة تلك الصــورة بكل ما حملته من معارف ومكتسبات ، من نجاحات وإخفاقات ، من إنفعالات وتأثيرات وغيرها ، وإذا كانت التمثلات المعروضة تبقى حاضرة ولا يمكن تجاوزها أو نسيانها رغم طابعها النسبي والإنطباعي ، فكيف يمكن للأستاذ المتدرب إستثمار تجاربه السابقــة كتلميــذ ، من أجــل رسم صورة " الأستاذ النموذج" أو على الأقل "الأستاذ الإيجابي" ؟ فإدانة التلاميذ " شر لا مفر منــه " إن جاز القول ، لذلك فإن كل أستاذ متدرب ، مدعــو إلى الإجتهـاد والإنفتاح على المقاربات وطرق التنشيط الحديثة والتسلح بالتكوين الذاتي ، ومدعــو أيضــا للتحلي بقيمــة " العدل" والإنصاف بين التلاميذ .. من أجل تموقــع أفضل ورسم معالم صورة أستاذ" أرقى" بأسلوب جديد ومتجدد ، مهما كانت الإكراهات والمعوقــات .
- من جهة أخرى ، الملاحظ من خلال التجارب التي تفضــل الزمــــــلاء الأساتذة المتدربيــن بعرضها ، وإن اختلفــت تقاطعاتهـا واتجاهاتهـا ، فإنها تمركزت جميعها حول " الأستاذ " ووضعته على كرسي الإذانة ، بينما غاب أو تم تغييــب صورة التلميذ ، وفي ظل هذا الوضع غابت بعض ملامح الحقيقــة الضائعـــة ، فقد كان من الإنصاف أن ترصد الشهادات المعروضـــة معطيات عن هذا التلميذ الذي يبقــى طرفــا أساسيــــا في العملية التعليمية التعلمية، فمثابرتـــه وإجتهاده ، إنضباطه وتخلقــــه ، لامبـــالاته وتهـوره ، شغبه وإنحرافاتـه ، كلهــا مؤثـرات تتحكم في أداء وسلـــوك وردود أفعـــــال الأستاذ إيجابـا وسلبا ، فالأستاذ قبل أن يكون كذلك ، فهو كائن إنساني سيكولوجي وسوسيولوجـي ينفعل ويتفاعل ، يؤثــر ويتأثـــر ، والمفترض بل والمطلوب في هذا الأستاذ أن يكون إيجابيا آداءا وسلوكــا ، لكن هذه الإيجابية لا بد لها من مجال إيجابي (جماعة القسم ) لتنمــو وترقى وتتطــــور وتتجــدد ، وهنــا يتدخل التلميذ أو التلاميذ لصون إيجابيـــــة الأستاذ وتجويدهــا ، أو على الأقل الحفاظ على توازنهــا وإستقــرارها ، بــل بإمكان هؤلاء التلاميذ أن يكسروا طوق "السلبي" في الأستاذ ، ويحولوه إلى أستاذ إيجابي مجدد ومتجـدد ، ويمكن أن نتصور صورة " أستاذ إيجابي وســــط تلاميذ " أشقيــاء" سلبييــن ، ويمكن أيضــا أن نستحضر الصورة في بعدها السلبي ، أي صورة " أستاذ سلبـي" مقابل تلاميذ "إيجابيين" ، بين الصورتيــن قد تتناسل مجموعــــة من التساؤلات والمعطيات ، لكن الأكيــــد أن نجاح أو إخفاق الأستاذ ، يبقــى من جهــة رهينـا بمدى قدرته على التجديد والتجدد والإنفتـــاح على المقاربات وطرق التنشيط الحديثـة ، ومن جهـــة ثانيـة رهيـن بنوعيـة أداء وتأثيـــر التلاميذ ، فالعلاقــــــة إذن هي علاقـــة تأثيــر وتأثــر ، فكما أن الأستـاذ يؤثر في التلميذ إيجابا وسلبـــا ، فإن هذا الأخيــر بدوره يؤثـــر على الأستاذ سواء من خلال سلوكاته الإيجابيــــة أو من خــلال إنحرافاتـــه وشقــاوتــه داخل فضاء القسـم ، فإذا كانت المقاربة بالكفايات وغيرها من البيداغوجيات وطرائق التدريس الحديثــــــة، تتــمركـز جميعها حول شخصية "المتعلم "، فأي حضور للمــدرس في ظل هده المقاربــة وتلك الطرائق ؟
قدوم قطار الوضعيات المهنية..
قطــار الوضعيات المهنيـة ..قـدم غضون شهر أبريل بعـد طول انتظـار .. حضــوره في اللحظات الأخيــرة جاء لإنقــاذ موسم إستثنائي بامتيــاز.. كان بمثابـة جــرس الإنــذار الذي أوقــف عنــوة مارطون الرمال الذي طالمـا دارت أطواره كل يــوم في مضمــار القاعة الزرقــاء .. تم إيجاد الحل أو المخرج في حي مولاي عبدالله بعيدا عن المؤسسات التطبيقية بالجديدة ، وهذا، كان يعني أن المشكل لم يحل مع الأساتذة المرشدين .. وأن الهروب إلى جماعة مولاي عبدالله كان من أجل حفظا لماء وجه الشعبــة التي تعتبر شعبة رائدة بمركز الجديدة ، ولإنقاذ موسم تكويني من الفشل الذريـــع خاصة وأن جميع الشعب انخرطت في الوضعيات المهنية إلا شعبة التاريخ والجغرافيا بمسلك الثانوي التأهيلي .. وقد كان يبدو أن الحل لم يكن حلا رسميا، بقـدر ما كان حلا وديـا لعبت فيه العلاقات الخاصة دورا كبيرا ..
المهم أنه وبعيدا عن ظروف وكواليس الحل المتوصل إليه بحي مولاي عبدالله مع بعض الأساتذة الذين لبسوا ثوب الإرشاد لأول مـرة في مسارهم المهني .. فقد توقف كل شـئ في لمحـة بصــر .. بعدما جاء الغيث من "مولاي عبدالله" ضواحي الجديــدة وكان ذلك غضون شهــر أبريل في وقت إنتهت فيـــه دروس المجزوءة الأولى ..كان الأستاذ المكون " حربي " في أحلى أيامه وعلامــات الرضى والإرتياح بادية على محياه وكأنه حــقق نصرا كاسحا بعد طــول انتظــار .. قــدم عبر جهاز "الدتاشاو" كـل الشروحات المتعلقة بالوضعيــــات وما يتعيـــن على الأستاذ المتــدرب القيام بـــه في كل محطــة من المحطات ، كانت بالنسبة لسليم لحظة مفصلية ، ليس فقط لأنها كانت إيذانا بالإنخراط في الوضعيات المهنية التي كانت تبدو إلى وقت قريب دربا من دروب المحال ، ولكن أيضا من أجل الإبتعاد عن رثابة القاعة الزرقاء ، والإستئناس بواقع الممارسة الفصلية بعيدا عن يوميات "الداتاشاو" داخل القاعة الزرقاء ، والأهم من هذا وذاك فك "عقدة" هذه الوضعيات المهنية التي لازمت الجميع على إمتداد موسم إستثنائي ..والتي صورت من طرف المكونين بالمسبح (لابيسين) الذي يحمل بين ثناياه مشاكل وصعوبات جمة ..
الأستاذ "حربي" في ظل تلك اللحظة الاستثنائية، حرص على كل التفاصيل والجزئيات ولم يترك أي شي للصدفـة ..قسم بشكل مسبق مجموعة "الأربعة والخمسين" إلى مجموعات صغرى توزعت على التوالي بين "ثانوية الإمام مسلم الإعدادية" و"ثانوية مولاي عبدالله التأهيلية"، مما كان يعني أن بعض المجموعات ستباشر تداريبها التطبيقية بالسلك الاعدادي والأخرى بالسلك الثانوي التأهيلي، في الوقت الذي كانت تتواجد فيه ثانوية أخرى بحي مولاي عبدالله لم ينخرط أساتذتها(أساتذة التاريخ والجغرافيا) في هذه العملية، ويتعلق الأمر بثانوية "شوقي" التأهيلية .. وعموما ومهما يكن من أمر، فقد انتهت الحصة الصباحية في حدود منتصف النهار، بعدما قدم الأستاذ "حربي" باسهاب كل ما يتعلق بهذه التداريب الميدانية التي تقرر أن تكون بشكل مغلق (سطاج بلوكي) لمدة أربعة أسابيع حتى يستفيذ المتدربون أقصى ما يمكن ، وقد طلب وقتها من كل مجموعة أن تربط الاتصال بمؤسسة التطبيق الخاصة بها في حدود الساعة الثانية والنصف بعد الزوال ..
وربحا للوقت فقد هرول "سليم" و"سليمان" كعادتهما الى حي السعادة ، حيث تناولا وجبة الغداء ، وعادا للتو إلى الغرفة حيث أعدا العـدة وغادرا المركز نحو طريق سيدي بوزيد ، وهناك غادرا على متن سيارة طاكسي أجــرة كبيرة في اتجاه مولاي عبدالله ، وجهتهما كانت نحو الثانوية الإعــدادية الإمام مسلم ، وهناك التقيا بباقي أعضاء المجموعة كل من الأساتذة المتدربين "حلمي"، "سعدان"،" توفيق" ، "خديجة" ، كما تم اللقاء بزملاء المجموعتين الثانية والثالثة، خيم على "سليم" وقتها وهو محفوف بالسلطان "سليمان" إحساس خاص، جعله يدرك أن المجال الحيوي للأستاذ هو "المؤسسة " وبتحديد أدق هو "القسم"، في تلك الأثنــاء تــم ربط الاتصـــال المباشر أول الأمر بالسيد مدير المؤسسة الذي رحـب بالأساتذة المتدربين بقاعة الأساتذة ، كان إنسانا لطيفا ومتواضعا للغاية يبدو من خلال لكنته أنه ينحدر من الجنوب ، طبعــا فقد بــدا من خلال تبـادل أطراف الحديث معـه أنه لم تكن لـديه أية فكـرة واضحة المعالم بخصوص موضوع الأساتذة المتدربين ، وقد كان لذلك ما يبــرره في غياب الطابع الرسمي للعملية ككل ، كنـا ننتظر قـدوم الأستاذ المكون "حربي" حتى يوضـح الرؤيـة، لكن وبعد مضــي حوالي ربع ساعة تم تلقي إتصالات هاتفية من بعض الزملاء المعينين بثانوية مولاي عبدالله التأهيلية، تفيذ بضــرورة الإنتقال أولا إلى مقر الثانويـــة من أجل حضور إجتماع في الموضوع .
أمام هذا الإرتباك لم يجد "سليم" وزملاؤه بـدا من مغادرة قاعة الأساتذة في أفق الإنتقال إلى مقر الثانوية التي تبعد بحوالي نصف ساعة مشيا على الأقدام ، ما أن تم الخروج الى الىباب ،حتى قــدم الأستاذ المكون " حربي" على مثن سيارة للنقل المدرسي ، كان يبدو كالبطل المغوار العائد من إنتصار كاسـح ..كان متحمسا كعادته وكأنه عريس يحضر بدقة وثبات لحفلة زفافـــه، ركـب الجميع متن السيارة وتمت المغادرة إلى ثانوية مولاي عبدالله ، كان "حربي" مرفوقا بشخص، تبين فيما بعـد أنه ناظر الثانوية المعنيــة ..، بعـد مضي حوالي عشر دقائق تم الوصول إلى مقر المؤسسة ، حيث تم تخصيص إستقبال رسمي للمتدربين بالمقصف حضره كل من مدير المركز بالنيابة والأستاذين المكونيــن "رمزي " و"حربــي" ومدير الثانوية والحارس العـــام وبعض الأساتذة .. وبعد كلمات شكر وترحاب ، خصصت جلسة شــاي احتفاء بالحاضرين ، وعقبها ، ربطت كل مجموعــة الإتصال المباشر بالأستاذ المرشد الذي ستشتغل معــه من أجل التعارف الأولي والإطلاع على إستعمال الزمن الخاص به وأخذ فكرة على المستويات التي يدرسهـا .. وبذلك إنتهى اليـوم ، على أساس أن تلتحــق كل مجموعـــة بمؤسسة التطبيق الخاصة بهــا خلال اليوم الموالي ... لكن ومن ضمن ما احتفظ به "سليم" في سياق ذاك الاجتماع هو كلمة غير رسمية لناظر المؤسسة وجهها للمتدربين استعراضا للتجربة التي راكمها في مجال التدريس، من ضمن ما أشار إليه هو أن نسبة كبيرة من التلاميذ ينحدرون من أوساط فقيرة ، وأن نسبة منهم من آباء مجهولين، كما أشار إلى أن المنطقة التي تشتهر بموسم "مولاي عبدالله أمغار" معروفة بالدعارة ..لم يدع"سليم" الفرصة تمر دون أن يتناقش و"سليمان" في الموضوع ، خرجا معا بخلاصة مفادها أن المدرس لابد أن يكون ملما بجزئيات وتفاصيل الوسط الذي يشتغل به على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والجغرافية وغيرهــا ، وأن يسخر كل هذه المعطيات في فهم "المتعلمين" وما قد يصدر عنهم من سلوكات ، كما أن الإلمام بهكذا معطيات من شأنه أن يساعد المدرس على تشخيص مظاهر التعثر لذى هؤلاء المتعلمين وتفعيل مبدأ "الفارقية" وفق رؤية واضحة وواعية ودقيقة ، وكل هذا من أجل عملية تعليمية تعلمية فاعلة وناجعة ...
مؤسسة التطبيق .. "الإمام مسلـم"
انهالت أخيرا زخات الوضعيات المهنيــة بعد طول مخــاض وأنقـدت موسمـا استثنــائيا من موجات جفــاف قاتل .. هبوب الرياح المرسلة لهـذه الوضعية ..كان فرصة سانحة لهجر القاعة الزرقـاء كما تهجـر الطيور أوكارهـا الدافئة ..ما بين رحلـة الشتاء القــارس والصيــف العازف على كمـان الحــر الموجــع .. تفرقت المجموعة الكبرى إلى مجموعات صغرى من خمسة إلى ستة أساتذة في كل مجموعة، مؤسسة تدريب "سليم " كانت .. ثانوية الإمام مسلم الإعدادية.. القاعة رقم 7 .. وزملاؤه في مجموعة الأمل .. سعدان .. خديجة .. توفيق .. حلمي .. سليمان .. تقع هذه المؤسسة بحي مولاي عبدالله الذي يتواجد في المحور الطرقي الرابط بين الجديدة والجرف الأصفر ، قريب من شاطئ سيدي بوزيد ولا يبعد عن الجديدة إلا بمسافة تقل عن عشرين دقيقة مثن سيارة أجرة من الصنف الكبير، بين حقول الذرة المتناثرة كحبات القمح في البيـــادر ...
بين ساحل مولاي عبدالله الذي تعترضك نسائمه العليلة بمجرد ما تنزل من طاكسي أجرة كبيرة قادمة من مازاغان .. تتربع الثانوية الإعدادية "الإمام مسلم "كما يتربع العشق على هودج الهيام الكاسح .. قبالة مجموعة من المنازل والبيوتات العشوائيـة التي زخرفت الإسمنت تجاعيدها من كل صوب واتجاه .. تحفها شمالا ثانوية "شوقي" التأهيلية التي تقف بعنفــوان كأقحوانة فيحاء وسط مشارات الذرة الممتدة كبســاط أخضر .. فضاء غارق في إيقاعات الصمت والرتابة .. إلا من خطوات وحركات التلاميذ والتلميذات الذين يشقون كل يـوم الممرات المؤدية إلى المؤسستين المتعايشتين ..فضاء سكاني كبير يبدو كقرية كبيرة تسيطر عليها كل مظاهر الرتابة والتهميش ، تتعايش فيها المنازل وحقول القمح والذرة المتناثرة، مما يجعل المنطقة مجالا قرويا بامتياز رغم أنها لاتبعد عن مازاغان إلا بكيلومترات قليلة، لكن المجال اكتسب شهرته من موسم "مولاي عبدالله أمغار" الراقد في صمت غير بعيد من الساحل الأطلنتي، ولعل هذا الموسم السنوي هو الذي يقتل الرتابة المتعششة كالعناكب في كل الأمكنة، ويعطي للمنطقة فرصا لكسر شوكة الفقر والركود ولو إلى حيـــن ...
وللوصول إلى حي مولاي عبدالله، لابد من أخذ طاكسي كبير من مستوى طريق سيدي بوزيد ، وبعد مضي نحو أقل من عشرين دقيقة من الرحلة ، وما أن يصل الطاكسي إلى مستوى مدخل الحي، يتم النزول والترجل يمينا مشيا على الأقدام لمسافة قصيرة على مستوى طريق معبـد يفضي إلى الطريق الساحلية، قبل الإنحراف يمينا وسلك طريق رملي وسط مشارات الذرة المتناثرة ..وسط هذه الأجواء الساكنة التي تخترقها النسائم العليلة المنبعثة بإنسياب من الساحل .. تتواجد مؤسسة التطبيق "الإمام مسلم" التي تبـدو من الداخل لائقــة وفضاؤها رحب كما يبدو أنها لا تعاني من الإكتظاظ، تلاميذها بسطاء جدا يعكسون طبيعة وخصوصيات المجال القروي الذي ينتمون اليــه ..
تتكون "المؤسسة" من إدارة وجناح خاص بالعلوم وملاعب رياضية وجناح آخر من طابق سفلي وعلوي خاص بتدريس باقي المواد يتواجد قبالة الباب الرئيسي ..يتكون من مجموعة من القاعات من ضمنها القاعة رقم 7 التي تتوسط الطابق العلوي، والتي شيء لها أن تحتضن الأستاذ "سليم" ومجموعته (مجموعة الأمل) في إطار التداريب الميدانية ... وهو يلج بمعية زملائـه إلى هذه المؤسـسـة، انتابــه إحساس عصي على الوصف والتفسيـر بعد سنوات طوال قضاهــا جنبا إلى جنب مع المحاضر والتقارير والأبحاث والتحريات التي لا تنتهي .. أدرك حينها أن زمنا تلاشى تحت أقدامه وأن زمنـا آخــر تتشكل معالمـه في صمـت .. أحس بمعاني الإنتمــاء إلى أسرة التعليم .. إحساس وازاه شعــور بقيمــة المدرس كقناة لا محيــدة عنهـا في صناعــة الإنســـان ..
مجموعة الأمــل..
- "سعدان".. ابن الشاوية .. متوسط القامة والبنية أشقر البشـرة .. إذا رأيته حسبته من بولندا أو من رومانيا .. تجاوز عقده الرابع بأربع سنـوات .. شخصيته المرحة تتقاطع فيها الجديــة والصفاء والبسـاطة .. شخصية مفعمة بالخيــر والعطاء .. رسم مسافة واضحة مــع الرومانسية .. لا يعرف شيئـا اسمه الهيــام .. بل يخــاف أن تلعب بـه خمـرة الهــوى وتفعـل فيــه مـا يشــاء في هـذه السن المتأخــرة .. وحــده الكتكــوت "حسنيــن " فتى عين أسـردون .. أيقونة الأطلــس .. يرافقــه كطيـف العشـق ونسائم الهيــام .. رغم فارق السـن بينهما .. يبــدوان منسجميـن الى أبعـد مــدى .. تعودا أن يقضيـا كل أوقاتهما بمقهى "دوزيم" بطريــق سيدي بوزيــد .. بعيــدا عن غرف العبـث وأسـرة الآهـات ..
إسم "سعدان " نقش في ذاكرة"سليم" خـلال أول حصة لمجزوءة "دعم التكوين الأساس تاريخ" .. لما وقــف أمام المجموعة وقدم نفسـه .. إلتقطـ عبارة " ماستر في القانون" ..إلى جانب إجازة في التاريخ " وقال في نفسه ..وأخيرا هنـاك أستاذ متـدرب يتقاسم معـي .. حقل القانــون بعيدا عن عبق التاريخ وأريـج الجغرافيـا .. القاعدة القانونية أبت إلا أن تقرب "سليم" بهذا الأستاذ المتـدرب القادم من بيــادر الشاويـة .. وبين الفينـة والأخرى .. كانا يدردشان في بعـض القضايا القانونيـة .. كان كل واحـد منهما مزهـوا بالقانـون ..لم يتــردد "سعدان" بين الفينة والأخرى، في تمكين "سليم" من بعـض المراجع في القانـون .. وبهذا السلوك الراقي .. كسب تقته وتقديــره .. وأنساه بعــض السلوكات والنظرات الشادة .. يوما بعد يـوم ترسخـت أواصر التقارب والانسجــام بينهما.. بعــد أن شاء القدر أن يكونا جنبا الى جنــب في مجموعـة واحدة في إطار الوضعيات المهنية .. مجموعـة نموذجيـة أضفى عليها الشيـخ "سليمــان" من البركـات .. ما جعلها مجموعـة أمل بإمتيــاز .. سحر الشيخ" سليمان" وطلاقة "حسنيــن" .. جعلت "سعــدان" يغــادر قوقعته باحتشــام .. أصبح مزهــوا بعد أن تخلـص من هاجس "البورط فوليو" .. وأضحـى لا يبــارح "الفيس بوك " .. تماما كما يفعل " سليمــان " ...
- " خديجة " .. شابة يافعة في عنفــوان الشباب .. تبـدو كسنبلـة تنحنـي تواضعـا واحترامـا وسط بيــادر الرحامنة .. بيضـاء البشرة متوسطة القامة .. اشتعل وميض حياتهــا غير بعيد من إبن جريــر بين عبــق الرحامنة وأريــج القلعة الحمراء .. شخصية منضبطـة تبــدو كمـدارة طرقيـة تتقاطع فيها طــرق الخجل والصرامة .. وبين هذا وذاك صمـت ساكن سكون ربيــع مازاغان .. تقاسيم وجههـا تجمــع بين الوضوح والغمــوض .. بين الرقـة والصلابـة .. قليلــة الكلام .. وإذا اقتربت منهـا وأصغيـت إلى كلماتهــا .. يخالجــك انطبــاع وحيد وأوحـد .. أن صمتهـا الكاسـح .. يخفي بيـن ثنايــاه ..كل معاني النضج والرقة والمــروءة والصفاء .. شابة جغرافيــة التخصص .. تبـدو طموحـة ومتفائلـة وكل أبـواب الأمل مفتوحـة أمامها بسخــاء .. حصلت على الإجازة في الجغرافية من جامعة القاضي عيـاض بمراكش ومباشرة إنخرطـت في " ماستر" بكلية بن مسيك بالدارالبيضــاء .. قبل أن تتخلى عن هـذه التجربـة بعدما انفتحت أمامهــا مهنة التدريس من بابها الواســع .. تذكر "سليم" وهي تقدم نفسها للمجموعـة في مجزوءة "دعم التكوين الأساس تخصص تاريخ" .. إنخراطها السابـق في مشروع تنمـوي خاص بتربيـة الأرانـب ..ومن عالم الأرانب مرت إلى عالم التدريس .. وبين العالمين .. تتقاطع مجموعـة من التجارب والمواقف والحكايات في شخصيـة طموحة ترقص على إيقاعات من الأمل والتفـاؤل ...
-"توفيـــق" ..شاب في عنفوان الشباب .. طويل القامة متوسط البنيـة .. لون بشرته يميل الى الحمـرة .. تقاسيم وجهـه تختـزل بين ضفافهـا كل معاني الجديــة والصرامة .. عينــاه الراقدتان خلف نظارته الطبية تعكسان نظــرات عميقــة عمـق الأحاسيـس الكاسحـة .. اذا رأيته مـارا أمام النافـورة الزرقــاء أو شجرتي التـوت الباسقتين أو يلقـي درسا بالقسم رقم 7 .. حسبتـه عسكريـا مثقلا بالأوسمـة والنياشيـن .. منضبطــا صارمـا .. ولد" توفيــق" بمدينـة ابن جريـر عــروس الرحامنــة ضواحي مراكش الحمــراء ..تربى وترعـرع داخل أســوار لا مكان فيها الا للطاعـة والانضبــاط .. بعيدا كل البعــد عن كل أشكــال التهــور والتسيــب .. لذلك صــارت شخصيتـه صارمـة وجديـة إلى أبعــد مــدى .. ولوجه إلى مهنـة التدريــس .. جاء بعـد سنــوات من الغربـة بالأنـدلس .. حيث عبــق التاريخ وأريــج تألــق وسمـو الحضــارة المغربيـة خاصة على عهـد المرابطين والموحديـن .. توفيق .. حائزعلى إجازة بنفحات جغرافية تخصص "التنميــة " .. مهنة التدريس أكيد لن تنسيــه إسبانيا .. وإسبانيا لن تنسيــه مهنة التدريـس .. جديتــه ستساعـده ولا شك في إيــجاد تخرجـة مناسبـة بين الإثنيــن ...
-"حلمي" .. شاب تجاوز عقده الثالـت .. لون بشرتـه ولكنته توحيــان منذ الوهلة الأولـى بأنه صحــراوي حتى النخــاع ..ينحـدر من مدينـة "طاطــا" دلوعة " الصحــراء .. لم يخرج عن دائــرة أخـلاق ومكـارم أهل الجنـوب .. لكنـه تمــرس بأمور الحيــاة وإمتهــن أكثر من مهنـة ونشــاط .. حتى صــار كوكتيـــلا من التجارب والخبــرات التي صقلت شخصيتـه وأضافت قيمـة مضافة لحياتـه .. ابن طاطــا الصـارم .. ورغم ضيــق الحيــاة وصعوبات المسيــر.. قـاده طموحـه الجارف الى بــلاد الكنانة – مصـر – وهنــــاك حصل على شهــادة الماستـر في التاريـخ .. تقــدم إلى مباراة المراكز الجهوية لمهن التربيـــة والتكوين بتشجيــع من أحد أصهــاره .. فانفتحت لـه مهنــة التدريــس من بوابتها الواسعـة ، كما إنفتحت أمامـه أبواب بــلاد الكنانــة .. داخل القسم رقــم 7 .. يبــدو" حلمي" أستــاذا متمرسـا قويــا صارمـا.. لا يقبـل بأي خــروج عن النــص .. كان يؤمن أن الصرامـة هي السبيل الوحيــد لتطويــع التلاميذ وفـرض النظام داخل القســم .. حلمي عاش لسنـوات بالدارالبيضــاء في صـراع مرير من أجـل لقمـة العيـش .. وتشبــع بإيقاعات وثقافـة هذه المدينــة العملاقـة .. ومــع ذلك .. فهــو شبيـه بواحة من واحات وادي درعـة .. حيث لا مجال ســوى للقيـم والأعـراف والتقاليــد ...
-"سليمــان " .. ابن تمارة المدلل .. وخريــج جامعة محمد الخامس بالرباط تخصص تاريخ .. ينحدر من "حد لبراشوة" حيث تتعالى نفحــات قبائل زعيـر .. تجرع لسنـوات مرارة العطالة .. لكنه ظل وفيا لحبيبتـه "أمل" طوال سنوات القهـر .. وآمن بحقـه في الركوب على صهوة التدريس إلى آخر رمـق .. فنـال ما أراد وما تمنى .. " سليمـان " اليوم .. نسي كل سنوات الآهـات وطوى أيام الضيــاع في أتــون النسيــان .. سطع نجمه وسـط القاعة الزرقــاء.. أثـار انتبــاه المحبين والنقـاد بصوتـه الشاعـري .. الذي ينفـذ بسلاسـة الى الأعماق كما ينفـذ النــدى الى أفئـدة النرجـس والأقحــوان .. بين سحر هذا الصوت .. ولد " سليمــان" وسطع نجمـه عاليـا في سمـاء القاعة الزرقــاء .. صار ذاك النسيم العليل الذي يداعــب كل لحظة .. الأشجار الباسقة والنافورة الزرقــاء .. اقتحـم بعفويته المعهــودة رحاب " الاجتماعيات " و"الرياضيات"و"الأدب العربي" و"الايس في تي " .. صـار شاعر المجموعة بامتيــاز .. شاعريته اللامحـــدودة .. جعلته يختــرق صمت القاعة الزرقــاء ويخرج عن المألــوف .. ويعلن أمام العالم " كفــاك صمتـا ..." تحت أنظـار " المتيم 2" .. في تلك اللحظـة التاريخية .. ولد "الهيــام" كما ولد" سليمـان" .. فأصبح الهيام مقترنـا بسليمان .. وأضحى سليمان رمزا للهيــام .. هيــام طالما جلب عليــه الإنتقــادات والويــلات .. ومـع ذلك .. أصر سليمان ويصـر .. أن يبقى هو والهـيام "سيــان" .. ولا أحد يستطيـع أن يزيحـه من عرش الهــوى .. وسحـر الهيــام ..
سليمان يتخلص من "البورط فوليو"..
استيقظ سليمان باكرا على غير عادته بعد أن قضى ليلة مطولة ليست على صفحات الفيسبوك، ولكن بين أحضان عشيقته العابرة "البورط فوليو" .. أحاطها بكل ما يتمتع به من مشاعر جياشة وأحاسيس كاسحة .. منحها كل وقته وإهتمامه حتى بـدت كعروس في ليلة زفافهـا، كان معجبا بها غاية الإعجــاب وكانت هي الأخرى تبــادله في صمت وسكون كل معاني الشوق والهيــام، منحها كل وقته وكل عطفــه وأضفى عليها لمسات سليمانيـة لا أجد لها وصفا ولا تقديــرا، كان ليلتها يتمشى مزهـوا منتشيا داخل بلاط مكتبة "محفــوظ" منتصبـا كالعاشـق الولهان أمام جهـاز الحاسـوب، من أجل نسخ كل ما يراه مناسبا حتى تبـدو مجنونته (البورط فوليو) في أبهى الحـلل، كان حريصا أشد الحرص أن يضع كل وثيقة في مكانها .. جذاذات .. تقارير .. صور .. بل حتى ألوان الكتابة كــان ينتقيها بدقة ، وكأنه "بيكاسو" أو "مهنـدس "الجوكندا " أو ساحر "الموناليزا " .. كان ليلتها متربعا على الأرض كعادته وشاشة الحاسوب منتصبة كشجرة الأرز الباسقة تراقب حركاته وسكناته بل وحتى آهاتــه .. وكأنه فقيـه يتأهب من أجل اعداد صكوك الهوى للقلوب العطشى .. كان صامتا على غير عادته وسط كوم من الوثائق والجدادات والتقارير ، وكأنه مقبل على تقديم مشروع دكترواه .. كان مركزا وكأنه "ميسي" يتأهب من أجل تنفيذ ضربــة جزاء حاسمة لنيل "الليغــا" .. غادر الغرفة (رقم 10) متسللا وكأنه "المجنون" يتسلل إلى ديار ليلى ، قبل أن تشرق شمس "مازاغان" .. مزهوا بمحبوبته العابرة " البورط فوليو" التي كان يحتضنها بعناية ، وكأنه يخاف أن يسرقها منه عاشق طائـش أو مجنون "هاتـر" ... مر أمام النافورة المهجورة ، فتوقف عندها ونظراليها نظرة أعجــاب ، وكأنه يتأهب لمغادرتها دون رجعة ، ألقى عليها التحيـة وغادر عين المكان بخطوات متثاقلــة ، قبل أن يهم بمغادرة مدخل الداخية، توقف لحظات والتفت يمينا إلى النخلـة وإلى الزيتونــة ، والتفت خلفــا إلى شجـرتي التوت الباسقـتين ، فبادلهن التحية بالتحية والإعجاب بالإعجـاب .. قبل أن يواصل المسير في الممر المؤدي الى الباب الرئيسـي .. تاركا وراء ظهره "هيام" و"المتيم" و"القاعة الزرقاء" و" النافورة" و" الأشجار الباسقـة" ..
كانت وجهته جماعة "مولاي عبدالله" وتحديدا الثانوية الاعدادية الإمام مسلم، التي تعود أن يقصدها رفقة مجموعة الأمل (مونير، عزيز، نادية،سعيد،وليد) كل صباح في إطار التداريب الميدانيــة، لكن هده المـرة اللحظة ليست كسابقاتها .. لحظة حبلـى بالضغط والتوثــر والسؤال والآهات .. سيكون عليه تقديم درس في القسم أمام لجنة في اطارالامتحان الوطني في شقه العملـي .. لقد سبقـه "سعيد" ابن الشاويـة عشية البارحـة .. إجتاز سعيد الإمتحـان في أجواء إيجابيـة .. بعد طول مخــاض .. كان وقتها "إبن الشاوية "مزهوا منتشيا وكأنه أحرز نصرا ما بعده نصـر .. أو تخلص من كابوس مزعـج ما بعده كابوس ..
عدوى "البورط فوليــــو" تنتقــل إلى سليـــم..
صورة سليمان وهو محاصر بين أكوام التقارير والجذاذات والوثائـق .. إنتقلت عنوة إلى سريــر "سليم" كما تنتقل ألسنة النيران بين الحصائد العطشى .. وأصرت نسائم "البورط فوليو"إلا أن تداعب جسده المرهـق .. بل وأن تتسلل بأريحية وعنفــوان إلى غرفة صمته دون استئــذان .. وتتسرب كالنسائم العليلة إلى عوالمه .. بعد أن رسمت قبلة على وجنتيه، نزلت علـيه كما لو كانت قطعة ثلج باردة .. فأحدثت في بـــلاط نفسه .. حالة أشبه ما يكون بمحمية يتعايش فيها الإرتبــاك والترقــب والإنتظار جنبا إلى جنب مع الهوى الكاسح والأمل الجـارف .. تخلص سليمان من الأكــوام .. ونهض من تحت أنقــاض الشرود والتيهــــان .. تخلص من " البورط فوليو" بل وطلقة طلاقــا لا رجعة فيــه ودفنه في أتون النسيان ولو الى حيـــن .. لكــن "الأكوام " أبت إلا أن تتحــرش بسليم في ليلــــة مازاغان .. وتفصح له دون تــردد وخجـل " أنا متيمة بــك " .. كلامها خلف في نفسه حالــة إرتباك قصــوى كادت تعصــف بل عصفت بأفكــاره .. أبت الا أن تحتضنه كما يحتضن الهــــوى القلوب العاشقــة .. لم يجـد بدا من الإنصيـاع والقبول بالأمر الواقـع .. قضـى برفقتهــا ليلـة حمراء .. حرص أن يبادلها الحب بالحــب والوفــاء بالوفـــاء .. حتى تبــدو فاتنـة .. أنيقــة .. متألقــة .. قبل أن يخلـد للنــوم وهي قريبــــة منه .. تملك فكره وبالـه .. تسكنه كالهواجــس .. تلاحقه كالكوابيس المزعجـــة ..
استيقظ قبل أن تستيقظ الحمائم وقبل أن تتحرك أولى فيالــق النسائم .. ألقى تحية الصباح عليها (البورط فوليو) قبل أن ترتمي عليه وتحتضنه بلهفة وسخــاء .. وكأنها تعبر عن تضامنها اللامشــروط معه .. كانت تؤمن أن الفراق أمر لا مفـر منه .. ومع ذلك كانــت متماسكة ولم يبد عليها أي قلـق أو إنزعاج .. حدث هذا و السلطان سليمان .. غارقا في نومه كما لو كان غارقا في بحـر من الهيـــام .. غادر الغرفة للتو دون أن يتمكن من تناول وجبــة الفطور .. إلتقى الأستاذ المتدرب "مولاي رشيد" إبن مراكش وهو يحمل كيسا به خبزتيـن وألقى عليه تحية الصباح وغادره بعد أن تمنى له التوفيـق .. على مستوى مدخل الداخلية .. إلتقى بالأستاذة "خديجة " وغادرا معا مشيا على الأقــدام في إتجاه محطة الطاكسيات .. والوجهة كانت الثانوية الإعدادية الإمـام مسلم بجماعة مولاي عبدالله .. كان تنتظرهما معـا بالقسم رقم 7 نفس المهمـة .. تقديم درس في إطار الإمتحان الوطني في شقه العملي أمام لجنـة .. المصادفة كانت أن كليهما سيقـدم نفس الدرس ونفس النشاط .. لكن القاسم المشترك كان هو "البورط فوليو" ... تلك المتيمـة التي انصاع إليها الجميع ...على مشارف مدرسة "محمدالفاسي" صادفا الأستاذ " نعيــم " الذي كان يجر قدماه بخطوات متتاقلة متأبطا محفظة سوداء اللــون .. ألقى عليهما التحية بلكنته المراكشية ، ورافقهما الى الشارع الرئيسي ، حيث كانت الرحلة المكوكية في اتجاه مولاي عبدالله متن سيارة أجرة كبيـرة ..
في الطريق خيم على الثلاتـة صمت كاسح .. صمت الوثائق والتقارير والجدادات الراقـدة بين صالونات "البورط فوليو'' .. صمت يخفي بين ثنايــاه ولا شك مجموعة من الأفكــار والهواجــس والتوقعات ... الأكيد أن مسرحية "البورط فوليو"' سينزل عليها الستـــار .. بعد طول انتظــار... وصلوا الى مولاي عبدالله مبكرا .. وترجلوا مشيا على الأقــدام .. كان الجو ساكنا .. لا يغير صفوه ســوى النسائم الصباحية العليلــة القادمة من الساحـل .. وصلوا الى المؤسسة حوالي الساعة السابعة والنصــف .. كان الباب مغلقـا .. انتظروا لحظــات قبل أن ينتبه الى دقاتهم الحارس الذي فتح الباب أمامهم .. اتجه "سليم" و"خديجة" بخطوات متتاقلـة الى القسم رقـم 7 .. عملا على تهيئة "الداتاشاو" ومسحـا السبــورة .. كان بحـق يوما غير الأيـام ولحظة غير اللحظـات .. رغم الآهات .. كان الإحساس أن اللحظة ستمـر كالنسيم العابر .. بمشيئـة الله ...
سليم والإمتحان العملــي..
ارتدت الأستاذة خديجة وزرتها البيضاء وركنت في المقعد الخلفي في انتظار دورهـا بعد أن هيأت "الدتاشاو" ووضعت آخر اللمسات عليه ..ارتدى "سليم" بدوره الوزرة البيضاء .. وزرة ليست ككل الوزرات .. لقد كانت وزرة الشيخ سليمان الذي تلاحقه بركاته كالطيــف .. أينما حل وارتحل .. كانت أول مرة يرتدي فيها "سليم" وزرة بيضاء .. كان يبدو وهو يتجول بين الصفوف الفارغـة كطبيب يتفقد مرضــاه بكل عناية واهتمــام .. من بعيــد كان يتــراءى له ساحـل مولاي عبداللــه .. فتح النافـذة فداعبتـه نسائم صباحية لم يجد لها وصفـا ولا تقديــرا .. انتابــه وقتها إحسـاس أن وزرة سليمان هي بمثابة جـدار عازل فاصل بيـن أمسه ويومـه وغـده .. بيـن عوالـم الأرقـام والأصفـاد والتقاريـر والآهات والشكـوى التي لا تنتهـي، وبيـن عوالم جديــدة حبلى بالآمــال والأمنيـــات والرغبــة الجامحة في تحقيــق الذات ... عوالم قديمـة إلتهمتهـا ألسنـة النسيــان وصـارت جزءا مـن الذكـرى وصفحـة عابرة من صفحــات الماضي الراحـل، وعوالــم جديـــدة تبــدو كقطـار مكوكي تحركـه طاقة هائلــة من الآمـال الكاسحة والأحــلام الجارفــة ..في تمام الساعة الثامنة صباحا .. بدأ التلاميذ يتقاطرون على القسم رقم 7 مثنى وثلاث وربـاع (الثالتة 1) .. كما تتقاطر قطرات الندى على ورقيات النرجس والريحان والأقحوان .. تلاميـذ صغــار وهو يتأمـل في عيونهم ونظراتهم وما تحمله من بــراءة وبساطـة وفقـر وعـــوز .. أحس أنه يصغـي إلى نبــض جيل صاعـد .. فأحس بقيمـة الوزرة البيضــاء وبجسامة المسؤولية في منظومة إسمها "التربيـة والتكوين " .. مسؤولية أمام الله .. أمام الضمير .. أمام المجتمــع .. أمام الإنسانيــة جمعاء .. أدرك وقتها قيمة مقولة "كاد المعلم أن يكون رسولا " ..كل شئ كان يبدو على أحسن ما يرام .. وهو يدردش الدردشات الأولى مع التلاميـذ من أجل تحفيزهـم للمشاركة الإيجابيــة في الحصـة .. حافظ على نفـس الطريقـة والأداء .. الصرامة والجديـة والإنضبــاط.. لم يختلق هذه الصفــات الكاريزميـة ..بل هي جــزء لا يتجــزأ من شخصيتـه .. لكن خلــف القسمات الصارمة والجادة .. توجد شخصيـة مرحـة مفعمـة بكل معاني الحـب والعطاء والأحاسيس الجارفــة .. بين الصورة الظاهرة والخفيــة، كـان مقتنعــا أن "الصرامـة " و "الجدية " و "الإنضبــاط" هي أفضـل السبـل الممكنـة لتدبير الفضاء الفصلي بكل ما يحملـه من تناقضات نفسية وسوسيومجاليـة .. ولتفادي الإنفلاتـات التي تحول الممارسـة اليومية إلى جحيــم ساخـن ..
دخلت اللجنة .. وبإشارة من سليم وقف التلاميذ .. وجلسوا بعد أن أخدت اللجنة مكانها في المقعـد الخلفـي .. وكانت الإنطلاقة الفعليــة للدرس .. "مصر نموذج تنمــوي عربـي" ( النشاط الأول) .. مرت أطوار الدرس بنفس طريقــة وأداء الدروس السابقـة .. وإنتهت الحصـة على الساعة التاسعة صباحا .. بعد أن قاس مدى استيعـاب التلاميذ لما قدم لهــم .. قال لهم " إنتهت الحصة .. شكرا على حسن إنتباهكم " .. بادر للتــو إلى فك حبل الـود الرابــط بين حاسوبه الصغيــر وجهاز "الداتاشاو" .. ولزم مكانه في المقعـد الخلفي جهــة اليميـن .. في وقـت ربطت فــيه الأستاذة خديجة حاسوبها الكبيـر بالدتاشاو ..ومسحــت السبــورة بممحــاة شاخت بغبــار الطباشيـر وهي في ريعـان الشبــاب ..
دخل تلاميذ جـدد (الثالثة 3) وبدأت الأستــاذة خديجة في تقديم نفــس الدرس ونفس النشـاط بطريقـة ولمسة خاصـة .. كان سليم يتتبع مجريات الدرس بتمعن .. وبين الفينــة تسرقه النظرات الخاطفـة إلى ساحل مولاي عبدالله الذي يتراءى من النوافـذ .. رن جرس الساعة العاشرة .. وانتهى الدرس .. وخرج التلاميـذ مثنى وثــلات وربـاع .. في وقــت عملت فيه الأستاذة خديجـة على فـك حاسوبهـا بالدتاشاو .. في تلك الأثنـــاء قدم الأستاذ هاشم إبن الدارالبيضــاء .. الذي تأبط بالجهاز وغادر إلى "القاعة 6 " حيــث كان هو الآخــر يتأهب من أجل تقديم درس على الساعـة العاشرة .. غادر سليم وخديجة القاعة بعد أن أحكم إغلاقها بالمفتــاح .. وقصدا قاعة الأساتـذة .. حيث وجدا أمامهما ما لذ وطاب من الحلــوى وكؤوس الشاي المنعنـع .. فكرة "جلسة الشاي" كانت بإسهام من مجموعة الأمل .. وقد أسندت مهمة الإعداد والتحضيـر إلى الأستاذ "حلمي" إبن مدينة طاطـا .. كل الزملاء كانوا حاضرين .. وحده سليمان تخلـف عن الميعــاد .. فغاب معه الشعر والنثـر والهيــام .. بعد إستراحة قصيـرة غادر سليم وخديجـة قاعة الأساتذة وإتجها مجددا بخطوات متثاقلة إلى القاعة رقم 7 ، حيث كانت لهما مع اللجنة .. حكايــة أخرى .. عنوانها "البورط فوليـو" ...
بتبع
"يوميات أستاذ من درجة ضابط" ترتبط من حيث المجال، بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالجديدة، ومن حيث الزمن، تعود فصولها إلى الموسم التكويني 2013/2014، شعبة التاريخ والجغرافيا، مسلك التأهيلي (فوج 2014)، يوميات لم تنحصر عند رحاب هذا الإطار "الزمكاني" بل امتدت مساحاتها لتحتضن أمكنة وأزمة أخرى وجدانيـــــة، توقفت حركاتها وسكناتها بشكل لارجعة فيه
أواسط شهر دجنبر من سنة 2013، بعد أن توصل "الضابط" السليم بقرار "الاستقالة" من صفوف الأمن، لكنها ظلت حاضرة في الوجدان، محركة روافد الإبداع كما تحرك نسائم العشق أوراق القلوب العاشقة، مصممة أن تواكب "سليم/الضابط" وهو يخطو الخطوات الأولى في مسار المهنة الجديدة (التدريس) .. يوميات خرجت من عنق الزجاجة بعد سنوات من الركود والرتابة تجاوزت عتبة "13"سنة، حضرت فيها"الأصفاد" و"الأبحاث" و"التحريات" و"الإجرام" وغاب فيها "القلم" و"الإبداع" و"الكلمات الراقية" المنسابة بأناقة عبر شلالات الخيال الواسع..
يوميات أبت إلا أن تكون "شاهد عيان" على مرحلة مفصلية من حياة "سليم" تربط كرابطة عنق، بين مسارين متباينين : مسار أول تهاوى فيه "سليم/الضابط" كما تتهاوى أكوام الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة، ومسار ثان رسم معالم صورة "سليم/الأستاذ"، وبين المسارين، ولدت هذه اليوميات بعد أن فكت عقدة القلم وحررت الكلمات من طوق الأصفاد، راسمة معالم محاولة إبداعية، تحكمت فيها الرغبة الجامحة في التأريخ لجانب من يوميات "سليم" وهو يشق كالمحراث الخشبي جانبا من مرحلة التدريب في مركز الجديدة، متوقفا كالبراق، عند عدد من المحطات البارزة، التي بصمت مسار موسم تكويني طغـا عليه طابع "الاستثناء" بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وانتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 ...
إهداء خــاص إلى رفيقة الدرب ...
إلى إبني الغاليين "سهى" و "هيثم" حفظهما الله ، أهدي ثمرة هذا العمل المتواضع ،
عسى أن يكون خطوة أولى في مضمار الخلق والتميز والإبداع إنشاء الله تعالى ...
إلى رجال الشرطة الشرفاء الذين يضحون بالغالي والنفيس ضمانا لأمن الوطن وسلامة المواطنين ..
إلى زملاء الأمس ...
إلى رجال التربية والتكوين النزهاء الذين يحترقون في سبيل نشر المعرفة وصناعة الإنســــان ..
إلى كل الأصدقاء والزملاء والأحبة ..
عبدالعزيز معناني، أحمد أمهيدرة ، خالد ناموسي ، محمد بوصبع ، حميد دمشقي ، محمد وعيد ، نسيمة عطيفي، سميرة تعباني ، مينة لمغاري ، ليلى أمزوقة ،عبدالله المجيد ،
بوعمرو المجيد ، محمد الحراق ، محمد رياض ...
إلى زملاء شاركتهم لحظات التكوين بالمركز الجهوي لمهن التربية و التكوين بالجديدة
شعبة التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي – فوج 2014
إلى الأطر الإدارية و التربوية بالمركز وأخص بالذكر الأساتذة المكونين :
ابراهيم تركي، عبدالحميد يونسي، نباري التباري، مصطفى العناوي ، جواد ارويحن ...
سياق اليوميــات
ما أن نال " سليم " شهادة الإجازة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (جامعة محمد الخامس ) صيف 2000 ، حتى انضم إلى سلك الأمن في وقت مبكر، قبل أن تتسلل طلائع البطالة الى قلعة أحلامه الكاسحة ،نجاحه في أول مباراة .. كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أوقفت عنوة مساره الجامعي بعد مرحلة الإجازة، وخطوة غير محسوبة سرعـــان ما أجهزت على كل ما كان يحمل من أهداف وأمنيات رغم صعاب المضمار.. وقبل الإنخراط في الحياة المهنية الجديدة، قضى تدريبا أساسيا بالأكاديمية، مر فيـــه بيوميات حبلى بالأحداث والمواقف المتناسلة،في فضاء مغلق لا مكان فيه إلا للإنضبــاط والطاعة والإمتثال لأوامر وتعليمات الرؤساء والمؤطرين من أعلى رتبــة إلى أقلها، فضاء تحف بـه الأسوار من كل صوب وإتجاه وسط جحافل متراصة من أشجار البلوط الفليني، تضفي على المكان نوعا من السحر والرهبة، فضاء لا مجال فيه للتهــور والخروج عن التقاليد والأعــراف الأمنية، وأي تهور أو إنزلاق كان يعرض صاحبه إلى الإدانة والعقوبة التي كانت تتأرجح بين القيام ب"التراكسيون" أو "مشية الكنار"، أو قضاء نوبة حراسة ليلية في "الميرادور" أو حلبة الرماية أو حلبة المحارب أو غيرها من نقط الحراسة، أو الحرمان من عطلة نهاية الأسبـــوع ..
لكن بعيدا عن العقوبات التي كانت تتربص بكل متدرب في كل لحظة تهور أو تراخي أو لامبالاة .. كانت اليوميات غارقة في أوحال الرتابة القاتلة وكل يوم يكاد يتشابه مع اليوم الآخر باستثناء بعض الاختلافات البسيطة .. استيقاظ عنوة مع صياح الديكة والمنبهات وصراخ المؤطرين .. رياضة صباحية .. مراسيم تحية العلم بساحة الشرف .. أشغال الكورفي .. حصص دراسية .. مشي عسكري .. دفاع ذاتي .. نوبات حراسة .. وبين كل هذه الأعمال وغيرها، كانت تتقاطع العشرات من الأحداث والمواقف داخل الغرف و"الدورطوارات" ، في المطبخ .. خلال فترات المشي العسكري .. في الملاعب .. في حلبة الرماية .. في حلبة المحارب .. في السينما أو قاعات الدروس وكذا في كل الممرات ... كان "سليم" يتعايش عنوة مع الرتابة القاتلة، أدرك مبكرا وهو يقضي فترة التدريب الأولى "البيوطاج" التي امتدت لمدة شهركامل داخل الأسوار المغلقة بعيدا عن العالم، أدرك معنى "الحرية" التي كانت تبدو كقطرة مـاء في صحراء قاحلة ... كمـا أدرك وقتها أنـه خطـا الخطوة الأولى نحو المجهول في مضمار محفوف بالآهات والمخاطر والمطبات والكوابيس المزعجـــة..
بعد أن اصطدم بصخرة الواقع، أخدت تتراكم عليه خيبات الأمل تباعا ... إلى حد بدأت تراوده - في لحظات التذمر- فكرة الانسحاب في صمت من تشكيلات الأرقام .. لكن لم يكن له من خيار سوى الصبر والتحمل والتأقلم مع يوميات الآهات والشكوى التي لا تنتهي .. كان كغيره من المتدربين مجرد رقم في طابور قد يكون له معنى وقد لا يكون .. كان حينما تؤرقه الرتابة وتجتاحه رياح الرفض والتمرد من كل صوب واتجاه .. كان يجنح إلى الصمت الموجع .. ويركن إلى ربوة الشرود ..بعيدا عن الآهات والضجر.. لكن بين الصمت والشرود .. كان يجد ملاده الآمن في الصبر وقوة التحمل .. كان هاجسه الوحيد ألا ينحني .. ألا يخضع .. ألا يستهويه بريق الأرقام .. ألا تخدعه البذلة الخضراء ..ألا يتنازل عن شبر من شخصيته بكل شعابها ومروجها وأوديتها .. ألا يرفع الراية البيضاء مهما الصوت الجائر علا .. ورغم زخم الأحداث وما حملته في مساراته من حمى وأوجــاع .. من آهات وانفعالات .. من مواقف وردات أفعال .. لم يقو"سليم" وقتهــا على مسك القرطاس والقلم للتأريخ لتلك المرحلة المفصلية في حياته المهنية والشخصية، كان يدرك أن فترة التدريب انعكست يومياتها و إيقاعاتها على نفسيته الثائرة .. وأن طاقة إبداعه ورومانسيته قد نزلت إلى مستوياتها الدنيــا بفعل الضغط اليومي .. وسط مجال لا مكــان فيـه إلا للصرامـة والطاعة والانضباط والخضوع والانصياع ...بعيدا كل البعــد عن عوالم الرومانسية والشاعرية والإبــداع ...
لكن وبعد مرور زهـــاء "13" سنة من العمل، يشاء القدر أن يغادر "سليم" الصفوف قبل متم سنة 2013 ، تاركا خلف ظهره المحاضر والتقارير والشكايات والأصفاد .. وسنوات كانت تبدو مدارة تتقاطع فيها كل سبل الآهات والانفعالات ...و كان ذلك إيذانا بنهايـة شخص "سليم الضابط "وبدايــة تشكل معالم شخصيـة " سليم الأستــاذ "...وفي خضم هذه المرحلة الإنتقالية .. أبى " سليم" إلا أن يخلد ليومياتــه وهو يخطــو أولى خطواته في مجال التدريـس كأستاذ متدرب داخل فضاءات " المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين" بمازاغان .. فكانت هذه اليوميات .. يوميات أستاذ من درجة ضابط .. ثمرة مخاض وبدرة معاناة مــع عصيان الكلمات وتمرد العبارات .. يوميـات حاول من خلالهـا النهوض من تحت أنقاض السنوات العجاف وإعادة تشكيل الصور المحطمة وترميم ما تكسر بسبب رياح الأرقام الراحلة .. من خــلال رصــد سيرورة موسم تكويني طغـا عليه طابع "الإستثنـــاء" بكل المقاييــس ابتدأ غضون أواسط شهر دجنبر من سنـة 2013 وإنتهى بتوقيع محضر الخروج بتاريخ 22 يوليوز من سنة 2014 .. أما مجال الأحداث فقد كان " المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين " بجهة دكالة عبـدة .. مع امتدادات مكانية شملت أيضا مؤسسات التطبيق وما أفرزته من لحظات استحقت أن تترجم إلى يوميات ...وسوق السعادة والكورنيش والحي البرتغالي وغيرها ... هذه اليوميات إذن .. ما هي إلا محاولة متواضعة لرصد جانب من موسم تكويني في سنة إستثنائية وفي مركز إستثنائي .. عسى أن ينوب "الجزء" عن "الكل" وما النجاح والتوفيق إلا من عند الله عز وجــل ...
نهاية مسـار ...
تعود كل عطلة نهاية أسبـوع أن يغادر أجواء مازغان بكل من تحمله من عبق التاريخ وأريـج ثقافـة بلاد دكالة الممتدة الأطـراف .. من نسائم صباحية عليلــة تفـوح من سواحلها الفاتنـة التي ترسم على اليابسـة أجمل اللوحـات .. ويشد الرحال إلى مدينة "فضالة " .. أيقونة الزهـور الفيحاء والأشجار الباسقة والنخيل الشامـخ .. وبين كل رحلة قطار من وإلى مازاغــان .. تنتهي حكايـات وتبدأ أخرى .. قد تطول الحكايات وقــد تقصــر ..لكن الأكيد أن لكل لحظـة منعطفها الحاسم وحدثها البـارز.. و اللحظات جميعها تتأرجح بيـن العابرة عبـور سحاب أغسطــس .. واللحظات الراسخة المؤثرة التي تغيـر الإيقاعات وتقلب كل التوقعات كالعواصف الغاضبـة رأسـا على عقــب ..
لحظة الضابط "سليم" الراسخــة تبلورت معالمها الأولى غضون سنة 2013 .. خطـا الخطوة الأولــى نحو مصير لم يكـن وقتها يعــــرف تفاصيله ولا حيثياتـه.. اجتـاز مبــاراة الولوج إلى "المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين"... بعد ليلــة مارطونيـة قضاهــا على رأس الديمومـة لم يغمـض له وقتـها جفــن طوال لـيل المرسى القــارس .. غادر مقر الديمومة صباحا قبل أن تدق ساعة نهايتها (08و30د).. وهو يخــرج عبر البــاب رقم 3 متأبطا محفظتــه الســوداء .. كان هاجســه الوحيـد ألا يتم الإتصــال به من طــرف غرفـة العمليــات وإشعــاره بقضيـة مستجدة تستدعي حضــوره المستعجل للمصلحـة من أجل مبــاشرة الإجراءات المسطريـة الأوليـة .. مر كما تعود على ذلك عبر خطوط السكة الحديدية المفضيـة إلى محطة البيضاء المينــاء القريبــة على بعد خطوات .. كان المكان باردا خاليا إلا من بعض المياومين وبعض الكلاب المتسكعة التي قادها قدرها لتتعايش وسط صخب الشاحنات والمقطورات والحاويات .. اتجه نحو مدارة الزلاقــة على مقربة من مقر شركـة "كومناف" ومنها قطــع شارع باستـور وتوقف لحظات بمحطة الحافلات بمحاداة محكمة الإستئناف ..
وبعد انتظار قصير،استقـل الحافلـة رقم 900 في إتجاه مدينـة فضالـة عبر الطريق الساحلي .. في حــدود الساعة السابعة والربــع وصلت الحافلة إلىى خط النهايــة على مستوى شـارع المقاومـة .. نزل و ترجل مسافة على الأقــدام إلى أن وصل إلى مقهـى رياض سوس على مستوى شارع الريــاض .. حيث تناول وجبــة الفطـور في انتظار اقتراب الساعة الثامنة موعد الإمتحـــان .. وهو يقبـل فنجان القهـوة من حيــن لآخر .. كان شغله الشاغل هو هاتفـه الخلــوي .. مرة مرة كان ينتبــه إليه وكأنه متيــم بـه .. هاجسه الوحيد والأوحـد ألا يتم الإتصال بــه من طرف غرفة العمليات قبل الساعة الثامنة والنصف موعد انتهاء نوبــة عملـه .. موازاة مع ذلك كان بين الفينة والأخرى يلقي آخر النظرات على ما يتحوز به من وثائق ودروس قبل الولوج إلى قاعة الامتحان .. وكأنه فارس متيم يلقي آخر النظرات على معشوقته قبل الرحيل في اتجاه ساحة الوغـى ...
في حدود الساعة السابعة وخمسين دقيقة .. غادر المقهى وترجل بخطوات متثاقلة في اتجــاه مركز الإمتحان المتواجد بنفس الشارع "ثانوية العاليا".. وهو يقـــف أمام الثانوية إلى جانب مجموعة من المترشحيــن .. كان يــراوده شعــور غريب يتقاطــع فيه الممكــن باللاممكــن .. الحقيقــة بالسراب ..كانت آثار العياء والإرهــاق بادية على محيـاه جراء ليالي الديمومة المتناثرة كأوراق الخريـــف... ومـع ذلك فقـد كان مؤمنـا بإمكانيـة تحقيــق الحلـم المرابط في قلعة أفكـاره منـذ سنــوات .. في تمام الساعــة الثامنة صباحا ولج إلى المؤسســة رفقة المترشحين .. كانوا أعــــدادا هائلـة .. كل واحد أتــى ليدافـع عن أمل يبدو كسراب في صحراء قاحلة .. عرج أول الأمر على سبورة وضعت عند مدخل الثانوية، سجل رقمه ورقم القاعة وغادر .. تساءل وقتها وهو يلج إلى قاعة الإمتحان بخطوات متثاقلة : كيف له أن يجتاز مباراة بعد ليلة بيضاء لم يغمض له فيها جفن ؟ وأي أمل سيكون له في مباراة تقدم إليها عشرات الآلاف من المترشحين من كل صوب وإتجاه ؟ وإلى أي حد لا زال يحتفظ بإمكانياته وقدراته المعرفية بعد أكثر من عقـد من الزمن في صفوف الشرطة ؟ كانت الأسئلة تتساقط عليه تباعا كما تتساقط زخــات المطر على الأراضي العطشى .. أسئلة و أخرى كانت تبدو كالسنابل العطشى تنحني تواضعا أمام قوة مشتعلة ورغبة جامحـة تغديها آمال عريضـة في كسر شوكة الآهات وكبح جماح الضجر وفك القيود والأغـــلال ...
إجتاز المباراة صباح مساء .. من سخرية القــدر أن موعـدها تزامـن مع فتــرة راحتـه لكونه قضى الليلــة السابقــة في الديمومـة ..المباراة مــرت في ظــروف عاديــة وقد حرص كل الحــرص أن يكون دقيقـا ومركزا في إجاباته خصوصا تلك التي ترتبط بعلوم التربية .. كانت بالنسبة إليه لحظة مفصليــة ، ولم يكن حينهــا يـدرك .. أنه يخطــو الخطوة الأولـى التي ستغيــر المسار رأسا على عقــب ...
بعد عبــور سحابة المبــاراة عاد الضابط "سليم" إلى إيقاعات العمل بكل ما تحمله من رتابـــة وآهــات.. كان كل يوم وكل ليلة بل وكل لحظة .. يبحث في شبكة الأنترنيت مترقبا نتائج المباراة الكتابية بين كل لحظة وحين .. كانت صفحة المراكز الجهوية ملاذه الآمن .. كا يتردد عليها مناصفة بينها وبين البوابة الرسمية للمباراة بما في ذلك موقع الوزارة الوصية .. كان لا يبارح الشبكة بحثا عن خبر أو مستجد أو معلومة حول تاريخ إعلان النتائج .. وفي إحدى الأمسيات وهو ينقب في الشبكة .. أمكن له الولوج بشكل فجائي إلى البوابة الإلكترونية بعد أن أدخل البيانات الخاصة بــه .. فوجئ برسالة تشير إلى نجاحه في الكتابي وتدعوه إلى استكمال وإيداع ملف الترشيح بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمدينة طنجة .. لم يصدق وقتها حقيقة ما لاحظ .. ظن منذ الوهلة الأولى أن الأمر ربما يكون خطأ ما أو أن البوابــة في طور التجريب .. حتى يتأكد من الوضع ، فقد خرج من البوابة وحاول الولوج إليها مجـددا .. لكنه لم يفلح في اقتحامها بسبب الضغط المفرط عليها من طرف آلاف المرشحين الذين كانوا يترقبون أن يتوصلوا بخبر سـار .. لكنه لم يستسلم ولم يزده بطء الحاسوب إلا إصرارا وعنادا في الوصول إلى الخبر اليقيــن ..
وبعد عدة محاولات، رضخت له البوابة وفتحت له أحضانها .. لتزف له "رسالة نجاح" تطلب منه استكمال الملف وإيداعه بمركز طنجة الذي سيكون في ذات الآن مركزا للإمتحان الشفوي .. حينها أحس بإحساس لا يوازيه إحســاس وشعور لا يقو عليه وصف ولا تقدير .. أيقن حينها بما لايدع مجالا للشك أن الفرصة المتاحة تبقى من ذهب وربما لن تجود بها الحيــاة مرة أخرى .. أدرك وقتها أن حلم التغيير الراقد في متحف ذاته منذ سنوات، أضحى أقرب إلى التحقيق على أرضية الواقـع بعد سنوات الضجر.. حينها وحتى يتمكن من إيداع ملف الترشيح وإجتياز المباراة، كان عليه أن يعد العدة للإمتحان الشفوي بعيدا عن آهات ورتابة العمل، وقد أمكن له المغادرة إلى طنجة ذات صباح وأودع هناك ملف الترشيح المطلوب .. وعقبها كان عليه أن يضع مخطط عمل يتناسب مع قصر المدة .. حيث ركز الإهتمام على برنامج التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي والبحث عبر الشبكة العنكبوتية عن بعض المواضيــع ذات الصلة بعلوم التربيــة ..
ظل الأمر كذلك إلى أن حل موعد الإمتحان الشفوي، حيث غادر إلى عروس الشمال ذات صباح (29/11/2013) في أول قطار قادم من مراكش عبر المحمدية .. على طول الرحلة كان بين الفينة والأخرى يقرأ الوثائق التي يتحوز بها من أجل تثبيت المعلومات إلى أن وصل محطة القطار طنجة المدينة في حدود الساعة العاشرة والنصف صباحا، وهناك أخذ سيارة طاكسي من الحجم الصغير قادته إلى المركز الجهوي، وبما أن الموعد المخصص له كان على الساعة الثالثة بعد الزوال، فقد إنزوى بإحدى المقاهي المجاورة من أجل تناول وجبة الفطور .. أخذ كأس شاي منعنع من الحجم الكبيــر و"كيكة" إقتناها من "كلاي" مجــاور .. وتناول وجبة فطوره .. كانت وقتها أجواء الخريف في طنجة "عروس الشمال" جد قارسة تتخللها ريــاح ساكنة تارة ومتمردة تارة أخــرى ..في حدود الساعة 13و50د غادر المقهى بخطوات متثاقلة، كانت نفسيته وقتها مضطربة وكأنه مغن يتأهب من أجل الصعود إلى الخشبة لإحياء حفل أمام جمهور عريض.. أو شاب يافع يجري أول مباراة توظيف مصيرية في حياته .. حتى أنه أجل وجبة الغداء إلى ما بعد إجتياز الإمتحان الشفوي.. وما أن وصل إلى باب المركز حتى إستفسر الحارس وأرشده إلى مكان الإمتحان ..
ترجل خطوات إلى أن توقف عند سبورة علقت عليها لوائح المرشحين .. بعد أن تبين له أنه سيجتاز الإمتحان لدى اللجنة الأولى على مستوى المطبخ رقم 1، غادر متجها إلى المكان بدلالة وإرشاد من أحد الأعــوان .. وهناك انتظر أقل من ساعة من الزمن، إلى أن خرج المرشح الأول من قاعة الإمتحان، حينها لم يجد بدا من التخلص من حالة التوتر التي كانت تتسكع في زقاقات نفسه بكل طلاقة وأريحية .. وولج إلى القاعة لمقابلة اللجنة الثلاثية .. كان يعي كل الوعي أن الهندام له حيز ضمن شبكة التنقيط ، لذلك كان أشد حرصا في أن يكون في مظهر لائــق .. ألقى التحية على اللجنة بلباقة وثقة في النفس، وتسلم ورقة عليها أسئلة خاصة بالجغرافيا وثلاتة نصوص خاصة بالتاريخ يدور موضوعها حول الحماية والمقاومة، وطلب منه أن يجلس بمكتب عند مدخل القاعة من أجل التفكير وتهيئة الأجوبة المناسبة .. كان يدرك وقتها أن اللحظة مصيرية وتاريخية وربما لن تجود بها الحياة إلى الأبد، لذلك كان لا بد من أن يتحلى بالثقة وضبط النفس حتى يقطع مطبة الشفوي في ظروف آمنـة ..
حوالي خمسة دقائق تمت المناداة عليه من طرف اللجنة وما أن جلس أمامها حتى طلب منه أن يقدم نفسه .. وبعدها طلب منه الإجابة على أسئلة الجغرافيا .. والتي تبابنت بين "الكويسطا"و"البراكين'' و''دوارن الكرة الأرضية"، بعد إجابته ، طلب منه قراءة نصوص التاريخ المسلمة إليه .. كان يدرك أن اللجنة تهدف من وراء ذلك إلى إختبار قدراته الصوتية ومدى سلامة قراءته .. لذلك حرص أن يقرأ النصوص بصوت مرتفع وبنطـق سليم، بعد أن أنهى القراءة طلب منه مناقشة مضمون الوثائـق، وبين الفينة والأخرى كانت توجه إليه أسئلة توجيهية حول المقاومة وأبطالها وأمكنتها .. لكن السؤال الذي أربك بعض حساباته جاء من أستاذ يجلس من جهة اليسار يبدو بشعره الكثيف الذي اكتسحه الشيب ك "بيتهوفن" أو"بيكاسو" .. قال له بكل أريحية : ما دمت تدرس القانون ما هو الظهير ؟ وما هو السند القانوني لعقد الحماية ؟ طبعا لم يجد الضابط "سليم" صعوبة في وضع تعريف للظهير، لكن الجواب عن السؤال الثاني ، تطلب منه بذل بعض المجهود، ليس لأن السؤال صعب، ولكن لأنه غير متوقع ، وكذا لأن دارسي التاريخ عادة لا ينتبهون إلى عمق وأبعاد القانون في الظاهرة التاريخية، وهي أمور لا يمكن أن يعي بها إلا دارسي القانون ، لذلك فإفصاحه للجنة من كونه طالب بشعبة القانون، جلب إليه هذا السؤال الإستثنائي والمشروع في نفس الآن، ومــع ذلك فقد أشار إلى "مؤتمر الجزيرة الخضراء" وهو ما أكده الأستاذ صاحب السؤال وقدم شروحات مقتضبة حول الموضوع ، ومع ذلك لم يقو " سليم " على مجادلة الأستاذ واكتفى بالاستماع إيمانا منه أنه يفتقد وقتها إلى التفاصيل والجزئيات بعد سنوات من القطيعة، وبعيدا عن الظهير والقانون، وجه إليه سؤال عن نشاطه المهني وحياته الشخصية .. واكتفى بالإشارة إلى أنه يشتغل كمسؤول في الأمـن بإحدى الشركات الخاصة، إستفسر عن راتبه ونوعية وطبيعة عمله .. لم يقو حينها على الإفصاح عن المهنة ، تفاديا لأية ردات أفعال من اللجنة من شأنها التأثير السلبي على وضعيته وحظوظه .. عقب ذلك تم الإنتقال به إلى علوم التربية ووجهت إليه أسئلة مختلفة حول مهامه كمدرس، قبل أن يتم الختم معه بإختبار بعض قدراته في اللغة الفرنسية.. لتطلب منه اللجنة المغادرة بعد أن تمنت له التوفيق ..
غادرالضابط "سليم" للتو قاعة الإمتحان بعد أن شكر أعضاء اللجنة الذين تحلوا بجانب كبير من الجدية والمسؤولية واللباقة والمهنية، واستقل سيارة أجرة صغيرة أخذته إلى محطة القطار من أجل العودة .. كان يحس وقتها وهو في الطريق إلى المحطة أنه تخلص من جبل من الضغط والتوتر .. واكتسحه انطباع ايجابي جدا من أن النتيجة ستكون موفقة بإذن الله بعد أن مر الامتحان الشفوي بشكل جيد ...كان يحس أنه على وشك أن يطلق السلاح الناري والأصفاد والمحاضر طلاقا لارجعة فيه ...وبعد أيام قليلة سرعـان ما تم الإعلان عن النتائج النهائية عبر البوابة .. كانت النتيجة سارة للغاية .. وكانت تلك إيذانــا بنهاية مسار وبداية مســار آخر..
مباشرة بعد ذلك،بادر الضابط "سليم" للتو إلى وضع طلب إستقالة من مهامه .. خبر الإستقالة نزل على زملائه بردا وسلامـا .. إلى حد أن البعض أحـس بالصدمة .. وكان السؤال العريض الذي يطارده كالطيف هو كيف ؟ ولماذ؟ كان يجيب بنــوع من الإقتضاب والديبلوماسية دون أن يقدم التفاصيـل .. حينها إنتهى بالنسبة إليه العمـل بسلك الشرطــة وكان وجوده بهذا السلك يبدو كوقت بدل الضائع في مباراة صعبة استنفذت وقتها القانوني، .. كان رهانه الأول أن يوقع الطلب من طرف رئيس المنطقــة ويحال على مقر الولاية الأمنية من أجل التأشير عليه في انتظار إحالته على الإدارة المركزية لتنظر فيــه .. كان الطلب وكلما وصل إلى رئيــس تتم المناداة عليـه .. كان يحرك الإستدعاء الرغبة في معرفة أسباب وبواعث الإستقالة .. من بين ما سجلته ذاكرة "سليم" خلال تلك اللحظات العابرة، هو لقاؤه بمسؤول عن المصلحة الإدارية الولائيــة، فاجأ "سليم" بموقفه بعد أن علم أنه حصل على مهنة جديدة في قطاع التعليم ، قال له : "على سلامتك الله يسر ليك .. المهنة ليست هي المهنة وظروف العمل ليست هي ظروف العمل" ، لكن هذا الإنطبــاع الإيجابي للغاية سرعان مازال عشية نفس اليــوم ، بعدما إلتقى الضابط "سليم" بالمسؤول الثاني...، وبعد أن حملق هذا الأخير في طلب الإستقالة، وبدل أن يستفسر "سليم" عن حيثيات وبواعث الطلب، خاطبه بكلمات متقاطعة تحمل بين طياتها أكثر من دلالة : "فكرتي فهاد الشي " قاطعه "سليم" بسرعة فائقة : "فكرت جيدا " قبل أن يقاطع كلماته قائلا: "دابا تنــدم " ، قال له "سليم" بكل ثقة :"لن أنــدم أبدا " ، قبل أن يغادر المكتب بعد أن تمتم ذات المسؤول بكلمات مفادها أنه سوف يعمل على توقيع الطلب ..
تأســف "سليم" وقتها لأنه لم يسلـــم من هكذا عراقيل ومطبات ، حتى وهو في لحظة المغادرة النهائية للصفـــوف، ومع ذلك، فقد تحمل هـذه المطبات العابرة .. إلى أن إطمئن أن الطلب قد تمت إحالته على المديرية العامة لتنظر فيه .. كانت تحدوه وقتها ، رغبة وحيدة في أن يتم النظر في الطلب في أقصر مدة ممكنة .. حتى يلتحق بالتكوين بدون أدنى مشاكل وكذا حتى تكون الإستقالة سابقة لتاريخ توقيع محضر الإلتحاق بالتكوين .. تعقب الطلب في المديرية العامة ذات خميس، وربط الإتصال بمكتب الضبط المركزي، وتأكد له فعلا خبر وصول الطلب في إنتظار إحالته على المصلحة المعنية ... خلال اليوم الموالي وقد كان يوم جمعة، وبينما كان الضابط "سليم" بصدد التفكير في وضع رخصة مرضية أخرى أمام المصلحة لتدبير هذه الظرفية وحتى يتسنى له تتبع مجريات الطلب بالمديرية العامة، تلقى اتصــــالا هاتفيا من العمل، أشعر بخبر وصول برقية استقالتـه من العمل كما أشعر بضــرورة الإتيان بمختلف اللوازم صبيحة الإثنين القادم، هـذا الخبـر المفاجئ نزل على الضابط "سليم" كقطعة ثلج بــاردة .. إلى درجة أنه لم يصـدق السرعة القياسية التي تمت خلالها الإستجابة والموافقة على طلب إستقالته .. شكر الله عزوجل بعدما تيسرت له الأمور ونال ما أراد .. كانت تلك اللحظة إيذانا بنهاية الضابط سليم وبدايــة سليم الأستـــاذ ...
صعوبات تلوح في الأفــف ..
الرغبة الجامحة للضابط "سليم" في التغيير المنشود وتطليق الأصفاد والخراطيش طلاقا لارجعة فيه ، أنســاه وقتها فكرة توقع كيفية تدبير الظرفية الجديدة في حالة ما إذا حالفه الحظ في النجاح، شغله الشاغل كان هو الإنعتاق والتحرر من أغلال الآهات، لكن نجاحه النهائي في المبـاراة وتوصله بقرار الإستقالة، كان إيذانا بنهاية مسار وبداية مسار آخــر، وهذا التحرر الذي كان يبدو إلى وقت قريب أقرب إلى المحـال، جعل "سليم" وجها لوجــه أمـام "حقيقة" أضحت تلوح في الأفق وتلقي بسؤالها العريض عليه، كيف سيدبر هذه الوضعية الجديدة والإنتقالية من الناحية المادية بعد أن تم إيقاف راتبــه الشهري مباشرة عقب توصله بقرار الإستقالة من الوظيفة الشرطية، كان يمني النفـس حينها لو تم الإحتفاظ له براتبه الشهـري وأن يلحق بالوظيفة الجديدة بأريحية حتى لا يعاني من التداعيات المادية للوضع الجديد، لكن ذلك لم يكــن ممكنـا لأنه إجتــاز المبــاراة بـدون ترخيـص من الإدارة المشغلـة، ولم تكن إمكانيـة الحصول على "الترخيص" متاحة تمامــا، ممــا فرض عليه أن يجتـاز المباراة بصفـة "المرشح الحر" وليس بصفة "الموظــف"..
وقـد كان يدرك أنه وحتى في حالة ما إذا تم تمكينـه من "ترخيــص" لاجتياز المباراة، فـإن إمكانية إلحاقـه بالوظيفة الجديــدة لن تكون ميســرة، عمومــا وفي ظـل هذا الوضــع الجديد ، فقـــد كان "سليــم " أمام جملـة من الإكراهات المادية منها إقتطاعات السكن ومصاريف تمدرس الأبنـاء و ما تبقى له من دفعات قرض الإستهلاك وكذا متطلبات السكن بالداخلية من سومة الكراء ومصاريف الأكل والشرب ومصاريف التنقل دون أن ينسى مصاريف العيش اليومي لأسرته الصغيـرة ، كل هـذه الإكراهات كانت تؤرق بال "سليم" كالكابوس المزعـــج ، صعوبـة أخــرى كانت تفرض نفسها بإلحاح وتزيد الوضــع تعقيدا ، هـي أنه كان مقررا أن يتسلم فقط "منحـة" خلال فترة التكوين تقـل عن "2500درهما" ، ستتوقف خلال نهاية فترة التكوين (غضون شهـر يوليوز) ، كما كانت تلوح في الأفق البعيـد صعوبات أخــرى أكثـر تعقيــدا ، كون عمله الرسمي بالوظيفــة الجديدة لن يبدأ إلا إنطلاقــا من شهــر شتنبـر 2014 أي بداية الموسم الدراسي المقبل ، ولن يتمكن من تسلــم راتبـه الشهري الجديـد إلا بعد مضي مدة قـد تصل في أقصـى الحالات إلى نهاية الموســم ، علما أن الراتب الشهري المنتظر سيكون أقل من الراتب الأول، لم يكــن له من خيــار ســوى أن يتكيـف مع الوضع وأن يتعامـل مع كل مرحلـة بما يلزمهــا من تدابيــر، كان عليه الصبر والتحمـل، بعــد أن حــقق حلمــا كان يبــدو إلى وقت قريب مستحيــلا، كان يدرك أن " الأزمة " العابرة ستمضي في جميــع الحالات، وأن المستقبـل القادم سيكــون أفضـل بمشيئـة الله عز وجــل...
انطباعات أسبوع الإستقبال..
دشن أسبوع الإستقبال بمركز"مازغان".. بعقد لقــاء تواصلي بالمـدرج بين الطاقم الإداري والتربــوي والأسـاتذة المتدربين من مختلف المسالك والشعـب.. كانت وقتهــا المقاعد ملئـى بالمتدربين، وحتـى الممــرات الوسطى والجانبيــة والخلفيـة اكتسحتها الكراسي والأقــدام الواقفـة المنتصبــة كأعمدة ضوء .. كل الممــرات كانت مغلقــة تمامــا .. حتى بوابـة المدرج كانت حبلـى بالأقــدام الآتية في آخــر لحظـة .. كان المشهــد يوحي أن الأمر يتعلــق بـعرض آخر ما جادت بـه سينمـا هوليــود .. أو بجحافل من المريدين يترقبــون بلهفة إطلالـة شيخهـم بين كل لحظـة وحيــن ..كانت الوجـوه أشكال وألــوان .. شباب لا يزال في ضفاف العشرينات من العمر وآخـرون يسبحون في شطئــان الثلاثينات وحتى الأربعينات .. في المنصـة اصطف مجموعة من الأساتذة المكونين يتوسطهم مدير المركز ..كان يبدو جليا حالة الإرتباك التي طالت عملية الإعداد لهذا اليوم الإفتتاحي ، حتى أن بعض الطاولات والمقاعد المكسرة تم إخراجها من المدرج في آخر لحظة من أجل إعداد المنصة .. في الواجهة الأخرى ، فقد إختلفت تقاسيــم وتجاعيـد المتدربين .. نظراتهـم كانت مــرآة تعكــس خلفها مغربـا يبـدو كمـدارة ممتـدة الأطراف تتقاطـع فيها سبـل التنـوع وطرق الإختــلاف .. لكن جمعتهـم بذلة موحـدة زرقــاء داكنة وأقمصة زرقاء مفتوحة وربطات عنــق كما جمعتهم رايــة الوطن ..
كان اللون الأزرق سيـد الزمان والمكان .. وكانت الصــورة المتلاعبـة كأمواج شاطئ مازغان .. توحـــي أنك أمــــام فــوج جديد من مفتشي أو ضباط الشرطـة .. كان " سليم" جــزءا من هـذه الزحمـة الخانقـة .. كان يقــف في الخلف كالصنـم .. لم يكن له مجال حتى لتغييــر حركة قدميه أو حتى الجلـوس وسط غابة من الأقــدام تحاصره من كل صـوب أو اتجـاه .. كــان غريبــا وهو يقــف كغيــره وعينــاه مشدودتان إلى ما سينبعـث من المنصة من أصــوات .. كــان يحملــق بعينيـه يمينا وشمالا .. وكأنــه سمكـة سلمـون تسبح بأريحية وسط بحيــرات من الهيـام ..
راودتــه وقتها "نوستالجيا" الزمن الراحل، واستحضر يوميات التدريب الأساسي برحاب الأكاديمية، في مشهد بـــدا له كمرآة عاكسة لفضاءين متباينين ..فضاء "الأستاذ(ة) المتدرب(ة)" و فضاء" الشرطي(ة) المتدرب(ة)".. فضاء أول يعيش على وقع الارتباك والإهمال وقلة العناية و الاهتمام .. وفضاء ثان تتوافر فيه شروط التدريب من بنيات محترمة وتجهيزات لائقة ونظام وانضباط واهتمام وماء وخضرة وجمال ...كان وقتها بين صورتين اثنتين .. صــورة الضابط التـي تلاشت في غفلـة من الزمـن كما يتلاشى جبل الجليد تحت لهب الشمس الحارقة ... وصــورة الأستـاذ التي ما فتئــت تتكون معالمها الأولـى وكأنها جنين في طـور التشكـل بعد عقـم طويــل .. لم يصـدق وقتهـا مـاذا حدث ؟ وكيف حدث ؟
لـم يكن ملزما بالنبــش في الحفريـات بحثا عن جواب قد يــجدي و قد لا يجـدي .. بعـد أن قضـت أحلامه الكاسحة أيـاما وليالي أمام محــراب التوسل والمناجــاة .. متسلحة بحسام إرادة جارفة آمنـت بإمكانية الانعتــاق والتحرر من طـوق الأصفـاد .. ملاده الوحيــد والأوحد .. كان الأستاذ المتدرب " رامـي" الشقيق الأصغر لصديقه " شادي" أستاذ الاجتماعيات.. سخرية القدر جمعته برامي في هذا المركز بعد أن جمعهما مركز عروس الشمال "طنجـة" في الإختبـــارات الشفوية .. بل وستجمعهما معا نفس الغرفـة داخل رحاب الداخليـة التي نخرتها فيروسات الرتابة والاكتئـاب .. بين سريريـن متهالكين هاجمتهما الشيخوخة مبكــرا لا يفصل بينهما ســـوى ممر صغيـر لا يتعدى النصف متـر وكأنك في زقاق من زقاقات فـاس البالية ..
وهو في مؤخرة المدرج ووسط زحمة من الأصوات المتناثرة .. إلتقط سليم بعض الكلمات المنبعثة من المنصـة .. في مقدمتها " البراديغم أو الأنمـوذج عملي نظري عملي"، "الوضعيات المهنية "،"الوضعيات الممهننـة"، " البورط فوليو" أو "الملف الشخصي .. وهي كلمات لم يسبق له أن سمع بها أو صادفها طوال مساره الدراسي وحتى المهني ..لذلك فقد أحدثت زوبعـة ذهنيـة في فكره .. تعمقـت حدتهـا من خلال بعض العروض المقتضبة التي عرضت عبر "الداتاشاو" والتي تميزت في شموليتهـا بخطـاب عال سيطــر عليه طابــع التنظيــر، ولم يــراع لا المقام ولا ظرفية الإستقبــال ولا الفوارق ولا النفسيــات .. إلى درجـة أن بعض المتدربيــن دخلوا في مرحلة من الشك والنفور .. وقد وصل إلى علم سليم لاحقا أن بعض الأساتذة المتدربين من الإعدادي انتابته وقتها فكــرة التراجـع عن التكوين بالمــرة لولا أحد المكونيين الذي هـدأ من روعـه وطلب منـه الصبر والتحمل .. وفي ظل هذا اللقاء الإفتتاحي .. بدا جيــدا وبالملموس غيــاب التنسيــق والارتجال والعشوائيــة بين صفوف الطاقم الإداري والتربـــوي .. كما سجل تنــافر بين المكونيــن الذين أبــى البعض منهــم إلا أن يفــرض سيطرتـه المطلقة على المبــاراة بشكل جنوني، فيما البعــض الآخــر كان حضوره شكليـــا ليس إلا ...
وبين الفينــة والأخرى كان يغادر بعض المكونين المدرج تحت ذريعــة الرد على الهاتــف .. وقد كان ذلك دليلا على عدم الرضى والقبــول بسياسة الأمر الواقـع التي فرضها " المهاجمون الكبــار" .. نقطة أخــرى تم تسجيلها من لدن عدد من المتدربيــن .. هي أن برنامج أسبـوع الإستقبال خصص له حيز للقيــام بجولات تفقدية واستطلاعية لمختلــف مرافـق المركز .. لكن تم تجــاوز هذه النقطـــة الأساسية التي كان من شأنها أن تعــرف المتدربين على مرافق المركز الذي سيقضــون فيه موسما من التكوين .. وربمــا أن هذا التجاوز كان له ما يبــرره من الناحية الواقعية.. على اعتبار أن وضعية المركز مزرية للغاية ولا يشتمل على أية مرافق لائقة تستحق أن تكون موضوع زيارة وتفقـد ...وحتى المرافق المتواجدة به على قلتها من داخلية وقاعة مطالعة وملاعب رياضية ..تعاني من الإهمال الملفت للنظــر ..
وفي ظل هذه العشوائية والرتابــة .. ستتعمق الأزمــة ببــروز مشكل "الوضعيات المهنية " الــذي أضحى يلوح في الأفــق .. والذي كان من أولى نتائجــه تكسير ما سموه ب "البراديغم أو الأنمــوذج عملي نظري عملي" ...لكن مفاجئة "سليم" خلال اليوم الأول على ما يتذكر، كانت تعرفه على الأستاذ المكون " عماد" الذي درس معه بنفس القسم نهاية تسعينيات القرن الماضي بشعبة التاريخ والجغرافيا برحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، تبين له أن "عماد"بعد هذه السنوات، اشتغل كمدرس للتاريخ والجغرافيا في الثانوي التأهيلي، وتابع دراسته العليا إلى أن حصل على شهادة "الدكتوراه" في الجغرافيا، مما أهله للإلتحاق بالمركز كأستاذ مكون .. هذا اللقاء المفاجئ، ذكر "سليم" بلقائه السابق بالأستاذة " منال" التي إلتقى بها صدفة بكلية الحقوق بالمحمدية بعد أن درسته مادة اللغة والتواصل غضون موسم 2012-2013 ، بعدما كانت زميلة له بثانوية الغزالي بتمارة أواسط تسعينيات القرن الماضي، وكذا كزميلة بكلية الآداب بالرباط بشعبة الأدب الفرنسي .. لقاء "سليم" على التوالي بالأستاذة "منال " والأستاذ" عماد" ، جعله يدرك بما لا يدع مجالا للشك، أن الحيـــاة رغم كبرها وصخبها ،فهي تبقى "قرية صغيـرة " .. كما أدرك وقتها عمق مقولة "الصدفة خير من ألف ميعـاد " ..لكن قبل هذا وذاك ، أيقـن أن "الدراسة" هي قنطرة حاسمة تفضي إلى الإرتقاء في السلم الإجتماعي ...وأن الإنسان كلما درس .. كلما انفتحت أمامه الأبواب الموصدة ...
الأستاذ "رامي" وحكاية "السلطان سليمان"..
كان "رامي" بقامته المتوسطة ولون بشرته الذي يميل بأريحية إلى الحمرة كما تميل أشرعــة العشق نحو القلوب المتيمة .. مزهوا داخل المدرج وكأنه طاووس قادم من براري الشـوق .. كان يبدو وسط بذلته الزرقــاء كحارس أمن لا يعــرف في قاموسه سوى الطاعة والانضبــاط .. بين الفينة والأخـرى كان يمتطـي على صهـوة أشعاره الدفينــة ويصول ويجول بنظراته الساكنة سكون ليل سيدي بوزيد ومولاي عبدالله ..في تلك اللحظـة التاريخية كان رامي نكـرة .. ولا أحد من أصحاب البــذل الزرقاء كان يـدرك أنه سيكتسـح الحجر والشجر .. سيصبح "متيم" و"سليمان" القاعة الزرقـاء التي كانت في تلك اللحظات المبكرة نكــرة كرامي ..
رامي .. مسك "حد لبراشـوة " أيقونـة منطقة "زعيــر" الممتدة الأطـراف التي تحـرس الرباط كالعساكر المرابطة .. وأريــج فردوس مدينة تمـارة الخضراء .. مـدارة تتقاطع فيهـا كل سبل وطـرق الخيـر والمحبـة .. البساطة والتواضع .. الشوق الكاسح والهيـام الجارف .. مثقــلا بنياشين كل هذه الألــوان .. كان رامـي واقفا كالصنم على مقربة من الباب الخلفي للمدرج .. ملتصقا بسليم كالطيــف وكأنه حارسه الخاص .. وبين الفينــة والأخرى كان يسافر بعينيــه عبر رحلات مكوكيـة بين المقاعد والصفــوف وكأنه يبحــث عن سر دفين أو كنـز مفقــود .. لكن نظراتـه الولهانة تعثــرت
بشكل غير متوقع وغير منتظـر بصخـرة الهيــام .. وسط زحمة البذل الزرقاء .. انجذب نورس عينيـه نحو حمامة حطت الرحال بالمركز قادمة إليه من سهل الشاوية ، وهي تطرح سـؤالا على الأساتذة المكونين .. لم ينتبـه "سليم" وقتهــا لا إلى الحمامة التي بسطت السؤال ولا حتى موضوع السؤال لحالة الازدحــام التي كان عليها المـدرج .. لكن "رامي" وبعد مـرور شهـور لا يزال يتذكر الحمامة وحتى موضوع السـؤال ..
كانت هذه الأخيرة كما يحكي رامي .. ترتــدي بذلة موحدة زرقـــاء زرقــة البحر بقميص أزرق سمــاوي ورابطة عنـق .. بـدت له وهو واقف كالعسكري كنحلة نشيطة تتنقل بأريحية وتبختر بين حقول الياسمين وشقائق النعمان ... لم يكن "سليم" لحظتها يدرك حركات وسكنات رامي وما يـروج في أروقته الداخلية من همســات .. كما أنه لم يكن ليهتـم بمثل هكــذا أشيــاء وهو لم يتخلــص بعـد من أصفاد أمسه القريب .. يحكي له "رامـي" بأشواق تكــاد تنفجـر من عينيـه كالصهيــر المتدفــق بانسيــاب من فوهة البراكين الثائـرة .. أنه كان يتلــصص وقتها كالمخبر على حركاتها وخطواتها وهـي تتنقـل كالفراشة الوديعـة بيـن الصفوف والمقاعـد .. كانت تبــدو له كطــاووس عاشق قادم من بــراري العشق أو كفارسة ولهــانة قادمـة لتوهـا من انتصــار كاسـح أتى على الأخضر واليــابس .. نظرات المهــد كانت كافيـة لتربــك حسابات "رامـي" وأن تمــرر إلى قلعتـه الصامـدة نسائم متناثــرة من الإعجــاب الجارف ..
انتهــت أيام الإستقبــال بما لها وما عليهـا .. وامتطت على صهــوة الرحيل كما ترحل الطيـور المهاجرة هروبا من قســاوة شتاء الشمال .. تاركــة خلفهــا حكاية "رامي" الذي داعبـه شـيب الهيام فـي هـذه اللحظات المبكــرة .. وفي ظل صعوبة امتطاء صهوة "الوضعيات المهنيـــة " بعدما أشهر "الأساتذة المرشدون" سيوفهم وصعدوا الجبل وأغلقــوا الأبواب والنوافــذ .. انهـد بنيـــان "البراديغم عملي نظري عملي" .. وصاحت ديكـة المجزوءات مبكـرا .. إذ لم يكن من خيــار سوى بداية الدروس والتركيـز على الشـق النظري في انتظار أن تهب رياح مرسلـة تبشـر بزخات "وضعيات مهنيــة" قد تأتـي و قد لا تأتـي ..وانطلقـت ناعورة الدروس في الـدوران صباح مساء بإيقاعات سريعـة داخل مضمار القاعـة الزرقــاء .. وقد شاءت الصدف أن يكون نورس رامي وجها لوجه أمام حمامة الشاوية التي داعبت مرايا عواطفه المحنطة في يوم الإستقبــال .. وكأن الشوق يتعقبه "زنقة زنقة ".." بيت بيت" .."دار دار" ..
يوميات رامي داخل المركز أبانت أنه مدارة ممتدة الأطراف تتقاطع فيها كل طرق الشاعرية والشوق والخلق والإبداع .. وكل سبل الحكمة والوقار والثبات .. وكل مسالك العفوية والتواصل والجرأة الكاسحة ..من عالم الصمت أبى إلا أن يزحف بخطوات جريئة نحو التألق والتميز .. لقد سرق الضوء ولفت الأنظار داخل القاعة الزرقاء بعفوية وجـرأة فاقت وتجاوزت الحدود .. في إحدى عروض مادة "دعم التكوين الأساس تاريخ" ، لم يتردد سليم وهو يتناول الكلمة من تقديم "رامي " أمام المجموعة باسم "الشاعر المبجل" وكان ذلك إعترافا منه بشخصية رامي وما تزخر به من شاعرية وتلقائية ليس لها حد ولا نظيــر...لكن هذا "الشاعر المبجل" أبى إلا أن يتحول إلى "السلطان سليمان " .. وحكاية هذا اللقب جاءت في إحدى عروض نفس المادة، لما طلب من "رامي" قــراءة نص تاريخي عبارة عن مقتطف رسالة لأحد السلاطين العثمانيين .. لم يتردد "رامي" في استغلال هـذه الفرصة السانحة .. وقام بقــراءة النص .. بصوت شاعــري جميل أثار انتباه وإعجاب الجميــــع بدون استثناء .. ومن يومهــا .. أصبح "رامي " يحمل لقب "السلطان" .. السلطان سليمــان .. ورغم هذا التحول، لم تتغيــر أحاسيســه الدفينة نحو"حمامة الشاوية " القادمة من إحدى البلدات الراقدة في صمت بين بيــــادر سهل الشاوية حيث يتقاطـــع عبـق التاريــخ بأريــج الجغرافيــا .. إنهــا الأستاذة المتدربة "رانيــا" .. شابــة دخلت في عقدها الثالــت .. بلون بشرتها البيضـــاء وقامتها الطويلة وبنيتهـا القويــة توحي أنهــا شاويـة حتــى النخاع .. ابتسامتها التي لا تفــــارق شفتيهــا ونظراتهـــــا العميقــــة وتقاسيم وجههـا الصارمــة ..تعكس بين ثنايــاها شخصيــة متفــردة مهووسة بالإثارة ميالة إلى حب الظهــور .. إلى درجة تعطي انطباعا للناظر أنها أقرب للخشونة من الليونــة وللصلابــة من الرقــــة .. لكنها بالنسبة لسليمان ،فقد كانت بمثابة قصيدة شوق تحمل بين طياتها كل أبيات الجاذبية وكل قوافي الإعجــاب .. كلما نظرت إليهــا داخل الفصل إلا ورأيتهـا غارقة في واد من الضحـك بطريقــة لم يكن "سليم" يجد لها وصفا ولا تفسيـرا .. لكنها سرعان ما تتخلص من مخالب الضحـك بطريقة انسيابيــة كلما نظر إليها الأستاذ المكـون فتبـدو أكثر ثباتا وانضباطــا وإصغــاء ..
وفي إحدى المجموعات الخلفيـة كان يجلس سليم محفوفا بالسلطان سليمان .. حافظا على نفس المجموعة التي لم تستقرعلى حال وكأنهـا مـزار كل من حل فيه إلا وارتحـل دون سابــق إعلان .. كان رامي يبــدو دوما غارقا في صمـت وكأنه شيـخ قبيلـة .. وبيـن الفينة والأخرى يسافر بنظراته نحو ضفاف "رانيــا" .. وكلما التقــت العين بالعيـن .. إلا ويبادلها التحيـة عن بعـد بابتسامة عريضـة تخفي وراءها أكثر من علامة استفهـام .. ولا تتـردد هي الأخرى في مبادلته بنفس التحيــة وربما بأحسن منهــا .. يومـا بعد يوم وحصة بعد حصـة .. تغير حال "رامـي" كما تتغيـر ألـوان السمـاء بعــد أن صـار "السلطان سليمان " و" الشاعر المبجـل " .. فعلت فيه خمـرة العشـق فعلتهـا .. وأضحـى كمجنــون ليلى .. يتسكـع كل ليلـة بين الأروقة والممـرات .. يتغـزل في النافورة المهجورة .. يخاطب شجرتي التوت الباسقتين .. يطلب ود النخلة الصامدة وشجـرة الزيتــون المحتشمـة ..
لا يزال يتذكر " سليم " في إحدى حصــص دعم التكوين الأساس في مادة الجغرافيا، لمـا أصابت نوبـة " الشـوق " السلطان سليمان داخل القبــة الزرقــاء .. أخد يوجـه رسائل "سلطانية " إلى "رانيـا" عبر وساطة "الدفتردار" الأستاذ "أحمد" .. كان منتشيـا ومزهوا وهـو يكتب بأناملـه "كلمات مودة " إلى رانيـا .. ملفوفـة برسائل مشفــرة دفينـة وحده يفهـم عمقهـا وفحواهــا .. وكانت "رانيـا" تـرد على كلماته بمــداد من الرقـة والنشـوة والحبـور والبسمة لا تفــارق محياهـا .. فجــأة انصــاع " سليمان " إلى سلطة الشــوق وانحنى أمام سحـر "العشــق" .. ونهض كالبطل الهمام إلى السبــورة نــزولا عند طلبات الزمـلاء من أجل البوح ببعــض الكلمات الشعربـة .. وقد كان "سليـــم" واحـدا من الذين أججـوا قريحة " سليمان " ودفعوه إلى النهوض إلى السبــورة والوقوف أمام الجميــع .. خيمت وقتهــا على "سليمان " شجاعـة لا توازيها شجاعـة وعفويـة لا تضاهيها عفويــة .. لم يفــوت " تلك الفرصــة التي قلما تجود بهـا يوميات الهــوى ..كان يبدو كشاعر تأخر به الزمان .."كعنترة بن شداد" في أيامه أو "امرؤ القيس" في زمانه ...وخاطب "رانيــا" أمام المــلأ بكلمات انحنى أمامها الجميــع ضحكا وبهجـة وحبــورا ..
" كفاك صمتــا ..
إن صمتك يحيرنـي ..
يرعبني ..
يطرح أكثر من تساؤل في ثنايا نفسي ..
بل صمتك يعذبنـي ..
يقلقني ..
وأكــاد أنغمـس في بحر هيامـك ..
كفاك صمتا ..
إن صمتك يجعلني تائهــا ..
كفاك صمتــا أي رانيا ..
كفاكم صمتا جميعــا .."
كفاك صمتـا .. أخرجت أشواق " سليمان" إلى العلـن .. حاملـة أكثر من رسالة إلى " رانيـا" التي تحولت منذ تلك اللحظــة إلى "هيـام" كما تحول "رامي" إلى "سليمــان" .. ومن يومهــا .. أضحى "سليمان" رجلا آخـر .. يتنفــس تحت الماء .. عشقـا وشوقا وهيـامـا .. وأصبحـت "رانيـا" أو "هيــام" ذاك الطيــف الذي يلازمـه في كل لحظـة وحيــن .. يتذكرها كلما مر أمام النافورة الزرقــاء .. كلما توقــف لحظات أمام شجرتي التوت الباسقتيـن .. أصبحت صورتها تطارده كالأحــلام الكاسحة .. كالهواجــس .. كلما تحـدث عنهــا وهو يقبل كأس شــاي منعــنع داخل الغرفـة .. كلما كان مبتهجا مســرورا مفتخرا بهـا .. بعد أن هاجرتهــا الحمائــم والنسائــم .. خاصة بعد أن جمعهمـا لــواء "البحــث الإجرائي" في غفلــة من الجميـع .. حينهــا كانت حكاية "سليمان '' و"هيام'' موضوع الساعة .. تتــردد في السر والعلن .. يحركها ســؤال دفيــن يفرض نفســه بكل إلحــاح .. "سليمان" و"هيــام" .. أية تقاطعات بينهما ؟ هـل هو عشــق وهيــام ؟ أم هـو حلــم عابــر عبــور السحــاب ؟ أم هــي حكايـة للنسيــان ؟
مشكلة الوضعيات المهنيـة ..
مع إنطلاقة موسم التكوين، ومع أول وضعية مهنية في إطار أسبوع الإستقبال بالثانوية التأهيلية ''ابن خلدون'' وغيرها من مؤسسات التطبيق، لاحت في الأفق ملامح أزمة لم يكن "سليم" يعرف وقتها كواليسها وجزئياتها ولا حتى تطوراتها وانعكاساتها على مسار التكوين .. أزمة من جهة بين الأساتذة المرشدين الذين يفترض أن يستقبلوا ويؤطروا المتدربين داخل الفضاءات الفصلية في إطار الوضعيات المهنية، والوزارة الوصيــة من جهة أخرى.. أولى المعطيات التي وصلت إلى مسامع الأساتذة المتدربين سواء عن طريق المؤطرين أو مدراء المؤسسات، أن الأساتذة المرشدين هم بصدد مقاطعة عملية الإنخــراط في مسار التكوين في شقه العملي، في محاولة منهم لي ذراع الجهــاز الوصي وإرغامه على الجلوس على مائدة الحوار والتفاوض من أجل نيل مطالبهم المشروعــة والتي كانت في مجملها ذات طابع مادي صــرف (تعويضات مالية ) لما يقومون به من مهــام إضافيــة في تأطير المتدربيــن داخل الفضاءات الفصليــة ..في تلك اللحظات الأولى كان الأساتذة المتدربون لا يملكون ســـوى بذلات زرقــاء اللون وربطات عنــق عوضت الوزرات البيضـــاء .. يتحركون كالقطيـــع من المركز إلى المؤسسات التطبيقية وفق الإعلانات والتوجيهات .. ولما يحلون ضيوفا على المؤسسات يتم لفظهم بسلاسة كما يلفظ البحر المتوسط جثث الحالمين بأضواء الشمال .. ويعودون أدراجهم إلى المركــز بخفي حنين .. كان "سليم" يدرك أن المتدربين هم خارج الأزمــة وبعيدون عن لعبة شد الحبل فوق بساط يتقاسمه الأساتذة المرشدون والنيابة والأكاديمية والوزارة الوصيـــة .. وكان في نفــس الآن يتأســف من مشاهد مسرحية مخجلة تحول فيها المتدرب إلى ورقة ضغط أو "جوكيــر" يحاول كل طرف اسغلالهــا لكسر شوكة الطرف الآخــر .. كان الوضع مخجلا ومقلقا في نفس الآن .. لكنه عكس بما لا يدع مجالا للشك "واقع" منظومة يشهد الجميع بفشلها الذريــع .. أسئلة متناسلة تجتر بعضها بعضا كانت تطــارد "سليم " كالشبح .. كان -مرة أخرى- بين صورتين متناقضتين تماما .. مجال "الشرطة " حيث لا مكان إلا للنظام والانضباط وتنفيذ التعليمات .. ومجال "التعليم" حيث العشوائية واللخبطة وعدم وضوح الرؤيــة ولغة الحسابات والأنانية المفرطـة .. تساءل حينها .. كيف تعجز وزارة عن ضبط عمل مصالحها الخارجيـة (أكاديميات ، نيابات ، مراكز ، مؤسسات ) .. وكيف لا تقو على الاستماع إلى الأساتذة المرشدين وتلبية طلباتهم المشروعــة باعتبارهم قناة أساسية لا محيدة عنهــا في عملية تكوين الأساتذة الجـدد ..
أسئلة كثيرة أثقلت كاهل "سليم" في تلك اللحظــات المبكرة .. لم يقو على فهم حيثياهــا وكواليسهــا .. لكن الخلاصة التي كانت بادية للعيــان .. هي أن "الأستاذ(ة) المتدرب" هو آخر من يفكر فيـه وسط "حلبة" يتصارع فيها الكبـار ولا صوت فيها إلا صوت المصالح .. وفي ظل هذه الأزمة الكاسحة .. كان لا مفر من تطبيق المخطط "باء" الذي كان يعني تعويض الوضعيات المهنية بالدروس النظرية .. إلى أجل غير مسمى .. في انتظار أن تضع "الحرب" أوزارهـا ...
تبني المخـــطط " بـــــاء "..
بعد أن تبين أن أزمة الوضعيات المهنية عميقة ومستعصيـة الحلول .. نفذت الإدارة المخطط "باء" أي "الدروس النظرية " كبديل مؤقت في انتظار أن تلوح في الأفق ملامح حل قد يكون وقد لا يكون ... تكسر "الأنموذج عملي نظري عملي" على عتبــة الواقــع، وتحول عنوة إلى "أنموذج نظري نظري نظري" .. وانطلقت ناعورة "الدروس النظرية " في الدوران وسط حقل "القاعة الزرقاء" من الإثنين صباحا إلى الجمعة مساء .. بمعدل ثمان ساعات في اليوم لايفصل بينها سوى ساعتين من أجل التقـاط الأنفاس وأداء صلاة الظهر وتنــاول وجبة الغداء ..وكأن الأمر يتعلــق بصراع شرس حول من سيكسب المليون .. ولم تكن الحكاية تنتهي عند هذا الحـد .. بل عادة ما كانت تستمر ناعورة المعاناة في الدوران داخل الغرف حتى ساعات متأخرة من الليل .. من أجل إعداد جــذاذة أو البحث عن "مورد رقمي" في الشبكة العنكبوتية أو إعداد عروض .. وما تكاد العيون تغمد حتى تستيقض صباحـا تحت صيحات بعض القطط المتسكعة بين جنبات الداخلية .. لتبدأ يوميات هتشكوكيـة جديدة داخل رحاب القاعة الزرقـــاء ..
كانت عطلة نهاية الأسبوع بمثابة استراحة محارب وأخذ الأنفـــاس قبل استئناف العدو في مضمار أرضيته ملئى بالمطبات .. أيام الاثنين كانت تعني .. بدايــة أسبوع جديد من العدو والركض .. بل أسبوعا جديدا من الآهات والمعاناة وسهر الليالي الطوال .. كانت الرحلة تبدأ بحصة رباعية في مادة التخطيط تليها رباعية أخرى في مادة التدبير وتنتهي الجولة الأولى بحصة " تيس" (تكنولوجيا الإعلام والإتصال) .. ليتواصل مسلسل الرعب مع حصص "علوم التربية " حيث لا مكان إلا لجهاز"الدتاشاو" .. مرورا بحصص دعم التكوين الأساس تاريخ وجغرفيا ، لتنتهي الحكاية مع حصص البحث التدخلي الإجرائي ..وفي كل رحلة أسبوعية تتساقط على الرؤوس زخات قوية من الوثائــق الورقيــــة ناهيك عن عشرات من الوثائق الرقمية .. وإذا كانت هذه الأخيـــــرة تجد ملاذها الآمــن في الحواسيب، فإن الوثائــق الأولى كانت تمر عـــادة عبر النسخ بمكتبة محفوظ المجاورة، قبـــل أن تجد طريقهــا نحــو الملفات الشخصية (البورط فوليو) الراقدة تحت أسرة الألم .. وسط هذا المضمار .. الكل كان يجــري .. الكل كان يلهث وراء الوثائق المتراكمة .. وفي عز الدروس النظرية بكل ما حملته من رتابة قاتلة .. كانت تتقوى يوما بعد يوم الرغبة في خوض غمار الوضعيات المهنية .. على الأقل لكسر شوكة الدروس النظرية .. وتجاوز مطبات الرتابة المدمرة ...
ســـلام الشجعـان ..
في إحدى الصباحيات، وتحديدا في المراحل النهائية للأسدوس الأول، تغــيب الأستــاذ المكون " ميمـون" دون سابق إعـــــلان ولا إشعار، وقد تم الولوج إلى داخل "القاعة الزرقــاء" ترقبا لحضوره بين كل لحظة وحين .. تحين الفرصة الأستاذ المتدرب " عسو" باعتباره ممثل القسم، ونهض من مقعده مخاطبا الحاضرين بكلمات متقاطعة أفاد من خلالها أن بعض المتدربين من شعبة "الإيس في تي"(علوم الحياة والأرض) يتأهبون من أجل القيام بوقفة أمام مقر الأكاديمية تنديدا بغياب الوضعيات المهنية .. واقترح "عسو" فكرة فتح نقاش حول المشكل القائم وتحديد مدى إمكانية أو عدم إمكانية الإنخراط في هذه الوقفة الإحتجاجيــة ..وبعـد أن تم قبول المقتـرح، فتح وقتها باب المداخلات بعدما تكلف "عسو" بنفســه بعملية تسيير النقاش ..
الأستاذ المتدرب " آيت بويه " كان أول المتدخلين ..وقد بدا من خلال كلماته أنه ميــال بشغف إلى فكرة التصعيد والإحتجاج لإرغـام الجهات المعنية على إيجاد حل مستعجل للمشكل القائم بشأن الوضعيات المهنية ..التي انخرط فيها جميع الأفواج باستثناء "الايس في تي" و"الأدب العربي" و"التاريخ والجغرافيا" .. عقبها لم يجد "سليم" بــدا من التدخل في هذه اللحظة الحرجة.. تناول كعادته كلمة مقتضبة .. كان ينظر إلى الأشياء بنوع من الحكمة .. أكد أن الجهات المعنية بما فيها الوزارة الوصية لم تقو على إيجـاد حـل مناسب لهذه المشكلة المعقدة للغايــة، وأثار انتباه الحاضرين إلى ضرورة التعامل مع الوضع بنظرة متعددة الجوانب تستند إلى الحكمة والمسؤولية، وحـذر من إمكانية خوض أية حماقة إحتجاجية معالم فشلها واضحة للعيـــان، مؤكدا في ذات الآن أن المتدربين هم بعيدون عن اللعبة التي لا يعرفون كواليسها وظروفها وملابساتها، والإنخــراط في دائرة الإحتجاج غير الواعي من شأنه أن يخــدم عن وعي أو بــدون وعي مصالح هذا الطرف أو ذاك ...
أعقبت "سليم" تدخلات كل من " أرسلان" و" الهواري " والتي ساندت بشكل أو بآخر وجهة نظر "سليم" .. قبل أن يتنـاول الكلمـة الأستاذ المتدرب " أبو العز"، وما أن شرع في إبداء وجهة نظره وتأكيده أن خطوة "الإحتجاج" المزمع القيام بهـا هي خطـوة متأخرة كان ينبغي القيام بها في أول الموسم الذي لاحت معالم نهايته في الأفــق ..حتى ثارت ثائـرة "آيت بويه " الذي احتج بقوة على ما قاله " أبو العز" مشيرا أنه سبـق وأن أبدى فكرة الإحتجاج في بدايــة الموسم .. وبسرعة فائقة حتى ثارت ثائرة الإثنيــن، وتعالت الصراخات بينهمــا وإنقلبت بعض الطاولات والكراسي وحاول الطرفان الإشتباك بالأيــادي .. ولولا تدخل بعض الزملاء لتهدئة الوضع لوقع ما لا تحمد عقبــاه ..
عموما فقد تم إخماد نيران الغضب في مهدها وغادر الجميع إلى حال سبيلـه .. كانت تحدو سليم وقتها رغبة وحيدة، ألا يصل ما وقع إلى الخارج حتى لا تخدش سمعة الفوج سواء أمام الإدارة أو المكونين أو باقي الشعب .. لكن التطورات اللاحقة ، أبانت أن "الصبيانية" و"عدم المسؤولية" أوصلتا "الخبر" إلى خارج القاعة الزرقــاء ... وقد كانت تلك، أول وآخر مــرة تهتز فيها تلك القاعة على وقع النزاع والصراع والمواجهة .. وفي إطار تحديد المسؤوليات عما وقع ، فقد كانت مسؤولية الأستاذ المكون "ميمون" واضحة، على اعتبار أنه تغيب دون سابق انذار، وقد كان عليه على الأقل أن يشعر أحد المتدربين هاتفيا بموضوع عدم حضوره،كما أن المتدربـبين جميعهم ، تحملوا أيضا قسطا من المسؤولية، لأنه وفي كل الحالات ، ما كان عليهم أن يلجوا إلىى القاعة الزرقاء في غياب الأستاذ المكــون، علما أن المسؤولية المباشرة ، يتحملها المتدربــان "أبو العز" و"آيـت بويه" ...
و فقد استغل "سليم" و"سليمان" الفرصة ، وغادرا إلى الغرفة رقم "10" من أجل أخد قسط من الراحة .. وبعد مضي حوالي ساعة من الزمن، بينما "سليم" يتصفح صفحة المجموعة على "الفيسبوك" حتى تفاجــأ بنشر صور لبعض الزملاء من الفصل مزهوين ومبتهجين يجلسون بإحدى المقاهي بمركز المدينة، كان من ضمن الحاضرين " أيت بويه" و"أبو العز" .. بسرعة كبيرة ذاب جليد الخلاف بين الطرفين وعادا إلى رشدهما .. كانت تلك لحظة تاريخيــة معبــرة ..لم يجد لها "سليم " من تعليق سوى .. سلام الشجعـــان ... وبقدر ما ثمن هذا "السلام" ، بقدر ما تأسف على تلك الواقعـة المؤسفة التي طغت عليها الصبيانية وعدم المسؤولية وعدم الإحترام وكذا عدم قبول الرأي والرأي الآخر، تبين بما لا يدع مجالا للشك ، أن مثل هكذا تصرفات أو سلوكات، لا يمكن أن يكون لها مكان في شخصية "المدرس" الذي يجب أو على الأقل يفترض أن يكون "نموذجا" يحتدى به بالنسبة للمتعلمين والمتعلمات على مستوى السلوك والقيم والأخــلاق ...وبما أن كل واقعة لها دروس وعبر ، فقد استخلص الأستاذ "سليم" أن المدرس(ة) لا يمكنه أن يترك المتعلمين بمفردهــم داخل الفصل، تفاديـا لأي سلوكات أو تصرفات غير واعية وغير مسؤولـة قد تصدر عنهــم .
الغرفــــة رقــــــم 10 ..
لتلج إليها، لابد وأن تقتحم بقدميك بابا حديديا (باب الداخلية) يعطي منذ اللحظة الأولى نطباعا أنك أمام باب زنزانة أو معقل .. لكن الإنطباع يزول نسبيا بمجرد ما تلتقط عيناك الشاردة نافورة زرقاء بدون ماء رسم الإهمال واللامبالاة تجاعيد على وجهها الشاحب .. تبدو كعروس هجرها عريسها المتيم ليلة زفافهـــا بدون رجعة ..لكنها لا زالت مصرة على الحياة مهما دقت طبول الإهمال القاتل ..مع ذلك فهي تبقى "أيقونة" المكان بإمتياز .. أول ما يثير الإنتباه .. بنايات إسمنتية تبدو كالقلاع والرباطات اكتسحها اللون الأحمر من كل صوب وإتجاه كما تكتسح رياح الخريف أوراق الشجر ...إلى درجة تحس فيها أنك بين أحضان حي من أحياء مدينة مراكش الحمراء ... لكن المكان تغيب فيه بهجة جامع الفنا وصخب باب دكالة وعنفوان الكتبية وسحرالمنارة وعنفوان قصر البديع ..
كل شيء هنا يوحي بالكآبة والرتابة القاتلة .. شجيرات نخل وزيتون وتوت لم تسلم بدورها من حمى الإهمال والنسيان.. وأعشاب وحشائش متناثــرة ..كراسي إسمنتية متراصة على طول الممر ... نخلة محطمة لم يتبق منها سوى جـدع صلب لم يتجرأ أحد على إزالته ... قطط متسكعة صارت جزءا من مورفولوجية المكان ... وسط هذه الرتابة القاتلة ..تترك الجناح المخصص للأستاذات من جهة اليسار .. وتقطع الممر المؤدي إلى جناح الأساتذة بخطوات متتثاقلة تحرسك الحشائش المتناثرة كحبات القمح في البيادر .. إلى أن تصل إلى مدخل الجناح .. يصادفك سرير مهمل متهالك منتصب كحارس عمارة .. يسارا يوجد ممر مؤدي إلى الجناح السفلي وبمحاذاته يوجد درج يفضي إلى الطابق العلوي حيث يقطن إبن الشاوية "سعدان " ، يمينا يوجد الجناح الثاني .. تعرج يمينا فتستوقفك من الجهة اليسرى مراحيض لم تسلم بدورها من الإهمال .. بمحاداتها يوجد مطبــخ تتقاطع فيه عادة روائــح الأطباق المتواضعة بروائح الأزبال المنبعثة من القمامة المركونة عند الباب .. تعرج يمينا وتستوقفك الغرفة رقــم 10 التي قدر لها أن تتعايش مع الروائح المنبعثة من المطبخ والمرحاض وكذا خطوات وأصوات وقهقهات الأساتذة المقيمين في الغرف المتواجدة وسط وعمق الجناح ..غرفة متواضعة إلى أبعد مدى .. لم تسلم بدورهــا من الإهمال والنسيان ..ما أن تلج إليها حتــى تستقبلك الكآبة وتفتح لك الرتابـــة أحضانها ..
عند الباب من جهة اليمين ، يستوقفك "دولابان" يفصل بينهما جدار اسمنتي، وفي الركن الأيســـر، انتصب سريــر متهالك كان يرقـــد فيـــه الأستاذ المتدرب " حمــدي" من السلك الإبتدائي، وفي الركن المعاكس من الجهة اليمنــى، ينتصب سريران لم يسلما بدورهمــا من عـــدوى الإهمال والنسيان تفصل بينهما مسافــة صغيـــرة عبــــارة عن زقاق لا يتجـــاوز عرضه المتــر .. السرير الموجود على اليمين كان للأستاذ "سليمان" فيما السريــر الثاني كان يرقد فيــه "سليــم" ، الجدار الأمامي تتوسطة نافذتان متهالكتان تشرفان على الممر الخارجــي ..
بين أحضان هذه الرتابة القاتلــة .. تعايش "سليم"و"سليمان" جنبــا إلى جنــب .. سهرا الليالي الطوال أمام شاشــة الحاسوب بحثا عن وثائق أومــورد رقمي أو انجــاز جذاذة أو إعداد عرض من العـــــروض.. كانا عادة ما يخترقـــــان جدار هذه الرتابــة وما تحمله من صمـــــت وآهات ومعانـــاة، باعـــداد " بـــراد" شاي منعنعنـــع يتفنــن "سليمان" في تحضيــره بكل نخوة وأريحيـــة .. كؤوس الشــــاي كانت أنيسهمــا المخلص في غرفة تبــدو أقرب إلى الزنزانـــة منها الى الغرفــــة ... وعلى إيقاعات نشوتها كانا يتبــادلان أطراف الحديث وكل واحد منهما يحتضن حاسوبه الصغير ..كانت للحاسوب مكانة خاصة في يوميات الغرفة .. وفضلا على أهميته القصوى في الإشتغال والبحث .. فقد كان وسيلة ترفيــه في مجال لا مكان فيه لجهاز التلفـــاز .. إلى درجــة كانت هناك قطيعة عن العالم الخارجي ولم تكن هناك أية متابعة للأخبــار لا الوطنية ولا الدولية ولا مستجدات كرة القدم .. كان الأمر يبدو صعبــا للغاية .. لذلك كان للحاسوب مكانة قصوى .. ولا يمكن تصور حياة داخل المركز ككل بدونــه ...كان التواصل بين "سليم"و"سليمان" يتم بشكل سلس وبكل أريحيــة في غياب الأستــاذ الثالت ، لكن وأثناء حضوره خاصة خلال فترات الليــل .. كانت درجة تواصل "سليم "و"سليمان" تنزل إلى مستوياتها الدنيا .. لأن قنوات التواصل مع الطرف الثالت لم تكن متيسرة .. وكان فيها نوع من التحفظ ،وربما هذا التحفظ كان له ما يبرره من الناحية الواقعية ، في ظل وجود أستاذ متدرب ينتمي إلى السلك الإبتدائي وأستاذين آخرين ينتميان إلى السلك الثانوي التأهيلي بل وإلى نفس الشعبــة، وهذا مــا وسع الهـــوة بين "سليم" و"سليمان" من جهة ،والأستاذ الثالت من جهــة ثانية ، وفي ظل هــذا الوضع ، يكون كل طــرف مرتبطا بحاسوبه الخاص .. بخصوص "سليم "و"سليمان" فعادة ما كانا يلتزمـــان الصمت .. ولم يكونا يتكلمان إلا باقتضــاب .. إلى درجة أنه وفي بعض الحالات كانا يتبادلان بعض الرسائل عبر"الفيسبوك" على مسافة تقل عن المتريـــن ..
بالنسة للأكـل .. فباستثــاء إعداد الشاي داخل الغرفة .. تعود "سليم" و"سليمان" ومنذ بدايـــة الموسم أن يتناولا وجبـــات الغداء والعشاء خارج الغرفة ، وتحديدا بمحلات الوجبات الخفيفة بحي السعـــادة ..كانا يحجان إلى الحي المذكور كل زوال وكل مساء ..ثم يعودا إلى الغرفة .. لا يمنعهما لا برد ولا حر ولا شتـــاء ..لكن كانت للشاي حكاية خاصة في يوميات سليم وسليمان، حيث وفي غياب قنينة الغـاز ، فقد كانا يسخران سخانا كهربائيا في إعداد هـذا الشاي كل صباح ومساء ، صحيح أن ذاك الشاي لم يكن "مشحـرا" .. لكنـه كان كافيـا لإضفـاء كل معاني "النشوة " و"البهجة" في يوميات الرتابة داخل الغرفة رقم 10 .
وقفة مع سليم وسليمــان..
سماء مازاغان تبدو ساكنة .. وطلائع الحرارة أضحت تلوح في الأفق بعد قساوة برد الشتاء .. تغير كل شئ بين الأمس القريب واليوم .. بين المقدمات وبين الخواتم التي أخذت تلوح في أفق القاعة الزرقاء والأشجار الباسقة والأعشاب المتناثرة والحجرات الساكنة .. والنافورة المهجورة التي أضحت طللا صامدا .. وحدها العيون والخطوات والقهقهات .. تبت فيها الحياة وتضفي على وجنتيها ألوان الحب والأشواق .. تعود "سليم" كل عطلة نهاية أسبــوع ، أن يغادر "مازغان" ويشد الرحال إلى " المحمدية" مدينة الزهور ، ما أن يحل يوم الجمعة وينهي آخر حصة مبرمجة ، حتى يهرول إلى الغرفة رقم "10" ويجمع أغراضه الخاصة ، ويستقل أول سيارة أجرة صغيرة تارة في اتجاه محطة القطار ، وتارة أخرى في اتجاه محطة الحافلات بمركز المدينة إذا كان أمامه وقت كاف .. عطلة نهاية الأسبوع والعطل المدرسية ، كانت بالنسبة إليه ، فرصة للتخلص من رتابة الحياة بالداخلية ، ومن آهات أسبوع شاق بامتياز .. أما "سليمان" فقـد تعود كل عطلة نهاية أسبوع ألا يبارح الغرفة (رقم 10) نسج بينه وبينها أواصر حب جارف ليس له حد ولا آخـر ..لايغادر الغرفة إلا مرغما أيام العطل المدرسية والأعيـاد ... وقد كان "سليم" يمزح معه دوما قائلا : "ستكون أنت يا سلطان سليمان آخـر من يغادر أبواب المركز في آخر الموسم التكويني " ، وكان "سليمان" يبدو مزهوا منتعشا كلما سمع هذا الكلام ..
كل زوال و كل مساء ، كان "سليمان" يغادر المركز بخطوات متثاقلة وكأنه قديس يوزع صكوك الشوق على مريديه ، كان "سليم" يرافقه كالظل .. كانا يبدوان كالعود والوثــر .. كالشتاء والمطر .. وجهتهما المعتادة كانت "سوق السعادة" حيث لا صوت يعلو على أصوات باعة الخضر والفواكه والخبــز الساخن ، تارة كانا يستسلمان لنكهة الطاجين ، وتارة أخــرى تسرقهما رائحة الدجاج المحمـر ، وتارة ثالثــة يتسللان كما يتسلل العشق إلى الوجدان إلى محل خاص بالمسمن والحرشة والحريــرة الساخنـة .. عقب كل وجبــة غداء أو عشاء ، كانا يقومان بجولات بين الحوانيت المتراصة .. ويقتنيان ما يلزمهما من خبز و نعنــاع ، ثم يغادران و يعودان على عجـل إلى الغرفة رقم 10 كما لو كان كل واحد منهما متعطشا لاحتضان حبيبته بعد طول انتظـار .. كان "سليمان" كلما وطأت قدماه المركز .. إلا وهاجمته نسائم الشوق من كل صوب واتجاه ، ترغمه أن يخطو خطوات متثاقلة متبخترا كالطاووس الهائــم .. ينظر يمينا وشمالا كما لو كان يبحث عن طريدة أو فريسـة وسط غابة هائمة ..مزهوا يلقي ابتساماته العريضة على بعض الوجــوه .. تحس أنه راع يتفقد الرعية بعنفوان .. يتسلل إلى الغرفة خلسة كما يتسلل الهيام إلى دهاليز الشوق .. ويتربع على الأرض تاركا دفء السرير وكأنه يتأهب لتناول الكسكس .. بعد أن يكون قد هيأ براد شاي منعنع ساخن .. يبدو كشيخ وسط خيمة صامتة في قلب صحراء قاحلة .. لا ماء فيها ولا هــواء ..وحدها شاعريته الحبلى برياح الهيام .. تضفي على الغرفة هالة من البهجة والحبور والسرور رغم سكون اللحظة .. هكذا تعود "سليمان" أن يعيش اللحظة مرفوقا برفيق دربه" سليم" ، لكنه تعود كل عطلة نهاية أسبوع ، أن يعيش نفس اللحظة بمفرده في غياب "سليم" .. أن يخرج ويعود للتو .. ألا يبارح المكان .. خلال كل هذه المدة .. ربط مشاعر حب مع الحجر والشجر .. مع النخل والزيتون .. مع النافورة .. مع الأشجار الباسقة .. تعود كلما مر بمحاداة النافورة .. أن يردد ترنيمة مطلعها .. من هنا .. من النافورة الزرقاء .. من أمام هذه النخلة والزيتونة .. بدأت الحكاية .. حكاية بطلها .. شاعر مبجل هائم .. إسمه .. السلطان سليمان زمانو...
تمثــــــــــــــــلات أستاذ متدرب..
التاريخ 24 يناير 2014، والمكان "القاعة الزرقــاء" والحصة حصة "علوم التربية "(مجزوءة التدبير) وجماعة القسم تكونت من أستاذ مكون وأساتذة متدربين... تمحورت الحصة الإفتتاحية حول موضوع "التمثل" كعملية ذهنية يتولى من خلالهــا الأساتذة المتدربين رصد تمثلاهم بخصوص تجاربهم السابقــة كتلاميذ ونوعيــة علاقاتهم مع أساتذتهـــم الذين تركوا بصمات إيجابيــة أو سلبيــة في مسارهم الدراسي، بهـدف " التموقـع في التدبيــر" عبـر تجـــاوز مواطن ومكامن الضعف والقصــور في التجارب السلبيــة في أفق وضع تصورات عن "الأستاذ/النموذج"، وهكذا واشتغــالا على الموضوع، طلب الأستاذ المكون من الأساتذة المتدربين رصد تجاربهم السابقة كتلاميذ في علاقاتهم مع مدرسيهم، وقد تقرر في هذا الإطار الإشتغال على الموضوع في شكل مجموعات ،بأن يقوم كل أستاذ(ة) متـدرب(ة) بتدوين تجربـته الخاصة على أساس أن يعرض عضو من كل مجموعة تجربته نيابــة عن المجموعة التي ينتمي إليهــا، و بعد مضي حوالي نصف ساعة من الزمن، قدمت التجارب تباعا في أجواء تقاطعت فيها الحماسة وحسن التتبع و الإصغاء، وبخصوص تجربـة "سليم" - كما دونهــا في حينــــــه - فقد كانت على النحو التالــي :
" يصعب علي اللحظة وأنا في موقــع الأستاذ المتدرب أن ألبس وزرة التلميذ .. أن أختزل الزمن وأعود كما كنت .. تلميذا في الإبتدائي والإعدادي والثانوي وحتى الجامعي .. يصعب علي اللحظة وأنا في موقع الأستاذ المتدرب .. أن أنبــــــش في ذاكرتي الدراسية التي تمتد لسنوات طوال .. ورصد جزئيات وتفاصيــل أساتذة حظيت بشرف التتلمــذ على أيديهم .. يصعــب علي اليوم .. الحكم على أساتذة علمونــي .. وغدا سيصبحـون زملاء لي .. إذا كان لا بد من الحكم .. إذا كان لا بد من التقييــم .. فأنا أقـــول أن كل هؤلاء الأساتذة والأستاذات .. أثروا في شخصي وفي مساري وتوجهاتي .. منهم من أثار إنتباهي من حيث الهنــدام .. منهم من نال إعجابي من حيث الطريقــة والأداء .. منهــم من كسب ثقتي بالجديـــة والإنضباط .. ومنهم أيضـــا من ترك بصمات وإنطباعات سلبيــة .. وهنا أستحضر صورة الأستاذ "العنيف" ، "السلطوي" ، " الإنتهازي" ، "النمطي" ... إلخ، وأمام هاتين الصورتين الإيجابيـــة والسلبية .. ومادام الوقت لا يسمح برصد كل التمثلات .. فأنا أكتفي برصد نموذجين وصورتين : الصورة الأولى لأستاذ التعليم الإبتدائي الذي كان يفرض علينا كتلاميذ صغـار أن نحضر له وجبة الفطور بالتناوب كل صبــاح ، كما كان يفرض علينا أن نأتيه من حين لآخــر بكمية من الخضر، إلى درجة أنه كان يحمل معه في نهاية الحصة كيسا من سعة "مائة كيلوغرام" مشحونا بالخضر والفواكه، وتارة أخرى كان يطالبنا بإحضار "بيضتان" لكل تلميذ، وكان يدرس وقتها "فوجان"، ويمكن أن نتصور كم بيضة يمكن أن يحصل عليها ( 160 بيضة على الأقل ) ولنتصور أيضــا .. كم بيضة سيحصل عليها في الموسم الدراسي .. أما التجربة الثانية ، فقد كانت أستـــــــــــــاذة مــــادة " الآثــار" بالكلية (شعبة التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط).. وهي أستاذة متواصلة جدا ..كانت مندمجة مع الطلبة إلى أقصى حد .. وأعطت بطريقتها الخاصة نكهة خاصة للمــــادة ..ولعل من ثمار عملها أن ساندت وشجعت طلبة الفصل على تنظيم معرض للصور الأثريـــة برحاب الكلية .. وقد تحققت هذه المبادرة على أرض الواقع، وكان لها صدى واسع بين أوساط الطلبة والأساتذة على حد سواء ..".
وعلى ضوء التجارب المعروضة ، فقد تمكن سليم من رصد الملاحظات التاليــة :
- أن التجارب رصدت الأستاذ '' الإيجابي" مقابل الأستاذ " السلبي " ، فالإيجابي هو أستاذ محفز ، ودود ، محتــرم واسع المعرفة، متواصل، منهجي، أما "السلبــي" فهو أستــاذ مفلــس ذو أخلاق رديئــــــة، محتقر، عنيف، غير ديمقراطي، لايملك آليــات التدبير والتخطيط، متواضع الهندام، عديم القدرة على ضبط القسم ..
- أن التجارب المعروضة موقعت المدرس في زاويتين اثنتين متقابلتين : الزاوية الأولى تحيل على الأستاذ" الإيجابي والثانية يتموقع فيها الأستاد "السلبي" ، وهذا ما سمـــح بطرح الأسئلة التاليــة :
-ما المقصود ب"الايجابي" و"السلبي" ؟وماهي الحدود الفاصلة بينهما ؟
-ما هي مؤشرات ومعايير "الأستاذ الايجابي" و"الأستاذ السلبي" ؟
-لماذا صار " الأستاذ إيجابيا" ولماذا تحول الآخر إلى نموذج "سلبي" ؟
-هل الإيجابي السلبي" مرتبط بانطبــاع "شخصي" أم هو موقف جماعي ؟
-هل تمت محاكمة الأستاذ بعقلية التلميذ المتعلم ؟ أم بعقلية الأستاذ المتدرب بكل ما يحمله من مستوى إدراكي ؟
- الملاحظ أن كل التجارب المعروضة، موقعت الأستاذ إنطلاقا من مستوى إدراك الأستاذ المتدرب وليس بعقلية التلميذ المتعلم، بدليل إسقـــاط مجموعة من المفاهيم التي لا يمكن للتلميذ المتعلم أن يستحضر كنهها بل والوعي بها، من قبيــل " التخطيط " ، "التدبير"، "التواصل" ... إلخ ، كما أن التجارب لامست مواضيع كبـرى من قبيل الأستاذ المتخلق والمتسلط والمحتقر وغير الديمقراطي والعنيــف ... الخ ، وهذا يحيل على تساؤلات كبـــرى تلامس مفاهيم " الأخلاق" و"التسلط"و"الاحتقار"و"الديمقراطية"والعنف وغيرهــا .
- على المستوى الإدراكي، لا يمكن لتلميذ في الإبتدائي أو الإعدادي أو حتى الثانوي، أن يصدر أحكاما من هذا القبيل عن وعي وإدراك، وبالتالي فإن سؤال "الأستاذ الإيجابي و"الأستاذ السلبي" لم يكن سؤالا خالصا نابعا من ذهنية التلميذ المتعلم، بل تحكمت فيه عقلية الأستاذ المتدرب بكل ما تحمله من مستويات إدراكية معرفيــة وسلوكية وغيرهـــا .
- من الناحية الواقعية يصعب النفــاذ إلى "تمثـــــل" التلميذ دون حضور عقلية "الأستاذ المتدرب"، ويصعب بل ويستحيل إيجاد حدود فاصلة بين " عقلية التلميذ المتعلم" و"عقلية الأستاذ المتدرب"، بل لا مناص من القول بأن هذا الأستاذ المتدرب ما هو إلا "إبن" لذلك التلميذ المتعلم " بكل سيروراتــه، وعليه وتأسيسا على ما سلف ، يبقى السؤال العريـــض على النحو التالي : ما مصداقية الشهادات التي عبر عنها الأساتذة المتدربـــون ؟ هل يمكن إقصاؤها وتجاوزهـا ؟ هل يمكن القبول بهــا رغم إنطباعيتها والتأسيس عليها ؟
-الواقع أن صورة "التلميذ" حاضرة بقوة في ذاكرة وذهنية "الأستاذ المتدرب وهدا الأخيــر ما هو إلا نتاج لسيرورة تلك الصــورة بكل ما حملته من معارف ومكتسبات ، من نجاحات وإخفاقات ، من إنفعالات وتأثيرات وغيرها ، وإذا كانت التمثلات المعروضة تبقى حاضرة ولا يمكن تجاوزها أو نسيانها رغم طابعها النسبي والإنطباعي ، فكيف يمكن للأستاذ المتدرب إستثمار تجاربه السابقــة كتلميــذ ، من أجــل رسم صورة " الأستاذ النموذج" أو على الأقل "الأستاذ الإيجابي" ؟ فإدانة التلاميذ " شر لا مفر منــه " إن جاز القول ، لذلك فإن كل أستاذ متدرب ، مدعــو إلى الإجتهـاد والإنفتاح على المقاربات وطرق التنشيط الحديثة والتسلح بالتكوين الذاتي ، ومدعــو أيضــا للتحلي بقيمــة " العدل" والإنصاف بين التلاميذ .. من أجل تموقــع أفضل ورسم معالم صورة أستاذ" أرقى" بأسلوب جديد ومتجدد ، مهما كانت الإكراهات والمعوقــات .
- من جهة أخرى ، الملاحظ من خلال التجارب التي تفضــل الزمــــــلاء الأساتذة المتدربيــن بعرضها ، وإن اختلفــت تقاطعاتهـا واتجاهاتهـا ، فإنها تمركزت جميعها حول " الأستاذ " ووضعته على كرسي الإذانة ، بينما غاب أو تم تغييــب صورة التلميذ ، وفي ظل هذا الوضع غابت بعض ملامح الحقيقــة الضائعـــة ، فقد كان من الإنصاف أن ترصد الشهادات المعروضـــة معطيات عن هذا التلميذ الذي يبقــى طرفــا أساسيــــا في العملية التعليمية التعلمية، فمثابرتـــه وإجتهاده ، إنضباطه وتخلقــــه ، لامبـــالاته وتهـوره ، شغبه وإنحرافاتـه ، كلهــا مؤثـرات تتحكم في أداء وسلـــوك وردود أفعـــــال الأستاذ إيجابـا وسلبا ، فالأستاذ قبل أن يكون كذلك ، فهو كائن إنساني سيكولوجي وسوسيولوجـي ينفعل ويتفاعل ، يؤثــر ويتأثـــر ، والمفترض بل والمطلوب في هذا الأستاذ أن يكون إيجابيا آداءا وسلوكــا ، لكن هذه الإيجابية لا بد لها من مجال إيجابي (جماعة القسم ) لتنمــو وترقى وتتطــــور وتتجــدد ، وهنــا يتدخل التلميذ أو التلاميذ لصون إيجابيـــــة الأستاذ وتجويدهــا ، أو على الأقل الحفاظ على توازنهــا وإستقــرارها ، بــل بإمكان هؤلاء التلاميذ أن يكسروا طوق "السلبي" في الأستاذ ، ويحولوه إلى أستاذ إيجابي مجدد ومتجـدد ، ويمكن أن نتصور صورة " أستاذ إيجابي وســــط تلاميذ " أشقيــاء" سلبييــن ، ويمكن أيضــا أن نستحضر الصورة في بعدها السلبي ، أي صورة " أستاذ سلبـي" مقابل تلاميذ "إيجابيين" ، بين الصورتيــن قد تتناسل مجموعــــة من التساؤلات والمعطيات ، لكن الأكيــــد أن نجاح أو إخفاق الأستاذ ، يبقــى من جهــة رهينـا بمدى قدرته على التجديد والتجدد والإنفتـــاح على المقاربات وطرق التنشيط الحديثـة ، ومن جهـــة ثانيـة رهيـن بنوعيـة أداء وتأثيـــر التلاميذ ، فالعلاقــــــة إذن هي علاقـــة تأثيــر وتأثــر ، فكما أن الأستـاذ يؤثر في التلميذ إيجابا وسلبـــا ، فإن هذا الأخيــر بدوره يؤثـــر على الأستاذ سواء من خلال سلوكاته الإيجابيــــة أو من خــلال إنحرافاتـــه وشقــاوتــه داخل فضاء القسـم ، فإذا كانت المقاربة بالكفايات وغيرها من البيداغوجيات وطرائق التدريس الحديثــــــة، تتــمركـز جميعها حول شخصية "المتعلم "، فأي حضور للمــدرس في ظل هده المقاربــة وتلك الطرائق ؟
قدوم قطار الوضعيات المهنية..
قطــار الوضعيات المهنيـة ..قـدم غضون شهر أبريل بعـد طول انتظـار .. حضــوره في اللحظات الأخيــرة جاء لإنقــاذ موسم إستثنائي بامتيــاز.. كان بمثابـة جــرس الإنــذار الذي أوقــف عنــوة مارطون الرمال الذي طالمـا دارت أطواره كل يــوم في مضمــار القاعة الزرقــاء .. تم إيجاد الحل أو المخرج في حي مولاي عبدالله بعيدا عن المؤسسات التطبيقية بالجديدة ، وهذا، كان يعني أن المشكل لم يحل مع الأساتذة المرشدين .. وأن الهروب إلى جماعة مولاي عبدالله كان من أجل حفظا لماء وجه الشعبــة التي تعتبر شعبة رائدة بمركز الجديدة ، ولإنقاذ موسم تكويني من الفشل الذريـــع خاصة وأن جميع الشعب انخرطت في الوضعيات المهنية إلا شعبة التاريخ والجغرافيا بمسلك الثانوي التأهيلي .. وقد كان يبدو أن الحل لم يكن حلا رسميا، بقـدر ما كان حلا وديـا لعبت فيه العلاقات الخاصة دورا كبيرا ..
المهم أنه وبعيدا عن ظروف وكواليس الحل المتوصل إليه بحي مولاي عبدالله مع بعض الأساتذة الذين لبسوا ثوب الإرشاد لأول مـرة في مسارهم المهني .. فقد توقف كل شـئ في لمحـة بصــر .. بعدما جاء الغيث من "مولاي عبدالله" ضواحي الجديــدة وكان ذلك غضون شهــر أبريل في وقت إنتهت فيـــه دروس المجزوءة الأولى ..كان الأستاذ المكون " حربي " في أحلى أيامه وعلامــات الرضى والإرتياح بادية على محياه وكأنه حــقق نصرا كاسحا بعد طــول انتظــار .. قــدم عبر جهاز "الدتاشاو" كـل الشروحات المتعلقة بالوضعيــــات وما يتعيـــن على الأستاذ المتــدرب القيام بـــه في كل محطــة من المحطات ، كانت بالنسبة لسليم لحظة مفصلية ، ليس فقط لأنها كانت إيذانا بالإنخراط في الوضعيات المهنية التي كانت تبدو إلى وقت قريب دربا من دروب المحال ، ولكن أيضا من أجل الإبتعاد عن رثابة القاعة الزرقاء ، والإستئناس بواقع الممارسة الفصلية بعيدا عن يوميات "الداتاشاو" داخل القاعة الزرقاء ، والأهم من هذا وذاك فك "عقدة" هذه الوضعيات المهنية التي لازمت الجميع على إمتداد موسم إستثنائي ..والتي صورت من طرف المكونين بالمسبح (لابيسين) الذي يحمل بين ثناياه مشاكل وصعوبات جمة ..
الأستاذ "حربي" في ظل تلك اللحظة الاستثنائية، حرص على كل التفاصيل والجزئيات ولم يترك أي شي للصدفـة ..قسم بشكل مسبق مجموعة "الأربعة والخمسين" إلى مجموعات صغرى توزعت على التوالي بين "ثانوية الإمام مسلم الإعدادية" و"ثانوية مولاي عبدالله التأهيلية"، مما كان يعني أن بعض المجموعات ستباشر تداريبها التطبيقية بالسلك الاعدادي والأخرى بالسلك الثانوي التأهيلي، في الوقت الذي كانت تتواجد فيه ثانوية أخرى بحي مولاي عبدالله لم ينخرط أساتذتها(أساتذة التاريخ والجغرافيا) في هذه العملية، ويتعلق الأمر بثانوية "شوقي" التأهيلية .. وعموما ومهما يكن من أمر، فقد انتهت الحصة الصباحية في حدود منتصف النهار، بعدما قدم الأستاذ "حربي" باسهاب كل ما يتعلق بهذه التداريب الميدانية التي تقرر أن تكون بشكل مغلق (سطاج بلوكي) لمدة أربعة أسابيع حتى يستفيذ المتدربون أقصى ما يمكن ، وقد طلب وقتها من كل مجموعة أن تربط الاتصال بمؤسسة التطبيق الخاصة بها في حدود الساعة الثانية والنصف بعد الزوال ..
وربحا للوقت فقد هرول "سليم" و"سليمان" كعادتهما الى حي السعادة ، حيث تناولا وجبة الغداء ، وعادا للتو إلى الغرفة حيث أعدا العـدة وغادرا المركز نحو طريق سيدي بوزيد ، وهناك غادرا على متن سيارة طاكسي أجــرة كبيرة في اتجاه مولاي عبدالله ، وجهتهما كانت نحو الثانوية الإعــدادية الإمام مسلم ، وهناك التقيا بباقي أعضاء المجموعة كل من الأساتذة المتدربين "حلمي"، "سعدان"،" توفيق" ، "خديجة" ، كما تم اللقاء بزملاء المجموعتين الثانية والثالثة، خيم على "سليم" وقتها وهو محفوف بالسلطان "سليمان" إحساس خاص، جعله يدرك أن المجال الحيوي للأستاذ هو "المؤسسة " وبتحديد أدق هو "القسم"، في تلك الأثنــاء تــم ربط الاتصـــال المباشر أول الأمر بالسيد مدير المؤسسة الذي رحـب بالأساتذة المتدربين بقاعة الأساتذة ، كان إنسانا لطيفا ومتواضعا للغاية يبدو من خلال لكنته أنه ينحدر من الجنوب ، طبعــا فقد بــدا من خلال تبـادل أطراف الحديث معـه أنه لم تكن لـديه أية فكـرة واضحة المعالم بخصوص موضوع الأساتذة المتدربين ، وقد كان لذلك ما يبــرره في غياب الطابع الرسمي للعملية ككل ، كنـا ننتظر قـدوم الأستاذ المكون "حربي" حتى يوضـح الرؤيـة، لكن وبعد مضــي حوالي ربع ساعة تم تلقي إتصالات هاتفية من بعض الزملاء المعينين بثانوية مولاي عبدالله التأهيلية، تفيذ بضــرورة الإنتقال أولا إلى مقر الثانويـــة من أجل حضور إجتماع في الموضوع .
أمام هذا الإرتباك لم يجد "سليم" وزملاؤه بـدا من مغادرة قاعة الأساتذة في أفق الإنتقال إلى مقر الثانوية التي تبعد بحوالي نصف ساعة مشيا على الأقدام ، ما أن تم الخروج الى الىباب ،حتى قــدم الأستاذ المكون " حربي" على مثن سيارة للنقل المدرسي ، كان يبدو كالبطل المغوار العائد من إنتصار كاسـح ..كان متحمسا كعادته وكأنه عريس يحضر بدقة وثبات لحفلة زفافـــه، ركـب الجميع متن السيارة وتمت المغادرة إلى ثانوية مولاي عبدالله ، كان "حربي" مرفوقا بشخص، تبين فيما بعـد أنه ناظر الثانوية المعنيــة ..، بعـد مضي حوالي عشر دقائق تم الوصول إلى مقر المؤسسة ، حيث تم تخصيص إستقبال رسمي للمتدربين بالمقصف حضره كل من مدير المركز بالنيابة والأستاذين المكونيــن "رمزي " و"حربــي" ومدير الثانوية والحارس العـــام وبعض الأساتذة .. وبعد كلمات شكر وترحاب ، خصصت جلسة شــاي احتفاء بالحاضرين ، وعقبها ، ربطت كل مجموعــة الإتصال المباشر بالأستاذ المرشد الذي ستشتغل معــه من أجل التعارف الأولي والإطلاع على إستعمال الزمن الخاص به وأخذ فكرة على المستويات التي يدرسهـا .. وبذلك إنتهى اليـوم ، على أساس أن تلتحــق كل مجموعـــة بمؤسسة التطبيق الخاصة بهــا خلال اليوم الموالي ... لكن ومن ضمن ما احتفظ به "سليم" في سياق ذاك الاجتماع هو كلمة غير رسمية لناظر المؤسسة وجهها للمتدربين استعراضا للتجربة التي راكمها في مجال التدريس، من ضمن ما أشار إليه هو أن نسبة كبيرة من التلاميذ ينحدرون من أوساط فقيرة ، وأن نسبة منهم من آباء مجهولين، كما أشار إلى أن المنطقة التي تشتهر بموسم "مولاي عبدالله أمغار" معروفة بالدعارة ..لم يدع"سليم" الفرصة تمر دون أن يتناقش و"سليمان" في الموضوع ، خرجا معا بخلاصة مفادها أن المدرس لابد أن يكون ملما بجزئيات وتفاصيل الوسط الذي يشتغل به على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والجغرافية وغيرهــا ، وأن يسخر كل هذه المعطيات في فهم "المتعلمين" وما قد يصدر عنهم من سلوكات ، كما أن الإلمام بهكذا معطيات من شأنه أن يساعد المدرس على تشخيص مظاهر التعثر لذى هؤلاء المتعلمين وتفعيل مبدأ "الفارقية" وفق رؤية واضحة وواعية ودقيقة ، وكل هذا من أجل عملية تعليمية تعلمية فاعلة وناجعة ...
مؤسسة التطبيق .. "الإمام مسلـم"
انهالت أخيرا زخات الوضعيات المهنيــة بعد طول مخــاض وأنقـدت موسمـا استثنــائيا من موجات جفــاف قاتل .. هبوب الرياح المرسلة لهـذه الوضعية ..كان فرصة سانحة لهجر القاعة الزرقـاء كما تهجـر الطيور أوكارهـا الدافئة ..ما بين رحلـة الشتاء القــارس والصيــف العازف على كمـان الحــر الموجــع .. تفرقت المجموعة الكبرى إلى مجموعات صغرى من خمسة إلى ستة أساتذة في كل مجموعة، مؤسسة تدريب "سليم " كانت .. ثانوية الإمام مسلم الإعدادية.. القاعة رقم 7 .. وزملاؤه في مجموعة الأمل .. سعدان .. خديجة .. توفيق .. حلمي .. سليمان .. تقع هذه المؤسسة بحي مولاي عبدالله الذي يتواجد في المحور الطرقي الرابط بين الجديدة والجرف الأصفر ، قريب من شاطئ سيدي بوزيد ولا يبعد عن الجديدة إلا بمسافة تقل عن عشرين دقيقة مثن سيارة أجرة من الصنف الكبير، بين حقول الذرة المتناثرة كحبات القمح في البيـــادر ...
بين ساحل مولاي عبدالله الذي تعترضك نسائمه العليلة بمجرد ما تنزل من طاكسي أجرة كبيرة قادمة من مازاغان .. تتربع الثانوية الإعدادية "الإمام مسلم "كما يتربع العشق على هودج الهيام الكاسح .. قبالة مجموعة من المنازل والبيوتات العشوائيـة التي زخرفت الإسمنت تجاعيدها من كل صوب واتجاه .. تحفها شمالا ثانوية "شوقي" التأهيلية التي تقف بعنفــوان كأقحوانة فيحاء وسط مشارات الذرة الممتدة كبســاط أخضر .. فضاء غارق في إيقاعات الصمت والرتابة .. إلا من خطوات وحركات التلاميذ والتلميذات الذين يشقون كل يـوم الممرات المؤدية إلى المؤسستين المتعايشتين ..فضاء سكاني كبير يبدو كقرية كبيرة تسيطر عليها كل مظاهر الرتابة والتهميش ، تتعايش فيها المنازل وحقول القمح والذرة المتناثرة، مما يجعل المنطقة مجالا قرويا بامتياز رغم أنها لاتبعد عن مازاغان إلا بكيلومترات قليلة، لكن المجال اكتسب شهرته من موسم "مولاي عبدالله أمغار" الراقد في صمت غير بعيد من الساحل الأطلنتي، ولعل هذا الموسم السنوي هو الذي يقتل الرتابة المتعششة كالعناكب في كل الأمكنة، ويعطي للمنطقة فرصا لكسر شوكة الفقر والركود ولو إلى حيـــن ...
وللوصول إلى حي مولاي عبدالله، لابد من أخذ طاكسي كبير من مستوى طريق سيدي بوزيد ، وبعد مضي نحو أقل من عشرين دقيقة من الرحلة ، وما أن يصل الطاكسي إلى مستوى مدخل الحي، يتم النزول والترجل يمينا مشيا على الأقدام لمسافة قصيرة على مستوى طريق معبـد يفضي إلى الطريق الساحلية، قبل الإنحراف يمينا وسلك طريق رملي وسط مشارات الذرة المتناثرة ..وسط هذه الأجواء الساكنة التي تخترقها النسائم العليلة المنبعثة بإنسياب من الساحل .. تتواجد مؤسسة التطبيق "الإمام مسلم" التي تبـدو من الداخل لائقــة وفضاؤها رحب كما يبدو أنها لا تعاني من الإكتظاظ، تلاميذها بسطاء جدا يعكسون طبيعة وخصوصيات المجال القروي الذي ينتمون اليــه ..
تتكون "المؤسسة" من إدارة وجناح خاص بالعلوم وملاعب رياضية وجناح آخر من طابق سفلي وعلوي خاص بتدريس باقي المواد يتواجد قبالة الباب الرئيسي ..يتكون من مجموعة من القاعات من ضمنها القاعة رقم 7 التي تتوسط الطابق العلوي، والتي شيء لها أن تحتضن الأستاذ "سليم" ومجموعته (مجموعة الأمل) في إطار التداريب الميدانية ... وهو يلج بمعية زملائـه إلى هذه المؤسـسـة، انتابــه إحساس عصي على الوصف والتفسيـر بعد سنوات طوال قضاهــا جنبا إلى جنب مع المحاضر والتقارير والأبحاث والتحريات التي لا تنتهي .. أدرك حينها أن زمنا تلاشى تحت أقدامه وأن زمنـا آخــر تتشكل معالمـه في صمـت .. أحس بمعاني الإنتمــاء إلى أسرة التعليم .. إحساس وازاه شعــور بقيمــة المدرس كقناة لا محيــدة عنهـا في صناعــة الإنســـان ..
مجموعة الأمــل..
- "سعدان".. ابن الشاوية .. متوسط القامة والبنية أشقر البشـرة .. إذا رأيته حسبته من بولندا أو من رومانيا .. تجاوز عقده الرابع بأربع سنـوات .. شخصيته المرحة تتقاطع فيها الجديــة والصفاء والبسـاطة .. شخصية مفعمة بالخيــر والعطاء .. رسم مسافة واضحة مــع الرومانسية .. لا يعرف شيئـا اسمه الهيــام .. بل يخــاف أن تلعب بـه خمـرة الهــوى وتفعـل فيــه مـا يشــاء في هـذه السن المتأخــرة .. وحــده الكتكــوت "حسنيــن " فتى عين أسـردون .. أيقونة الأطلــس .. يرافقــه كطيـف العشـق ونسائم الهيــام .. رغم فارق السـن بينهما .. يبــدوان منسجميـن الى أبعـد مــدى .. تعودا أن يقضيـا كل أوقاتهما بمقهى "دوزيم" بطريــق سيدي بوزيــد .. بعيــدا عن غرف العبـث وأسـرة الآهـات ..
إسم "سعدان " نقش في ذاكرة"سليم" خـلال أول حصة لمجزوءة "دعم التكوين الأساس تاريخ" .. لما وقــف أمام المجموعة وقدم نفسـه .. إلتقطـ عبارة " ماستر في القانون" ..إلى جانب إجازة في التاريخ " وقال في نفسه ..وأخيرا هنـاك أستاذ متـدرب يتقاسم معـي .. حقل القانــون بعيدا عن عبق التاريخ وأريـج الجغرافيـا .. القاعدة القانونية أبت إلا أن تقرب "سليم" بهذا الأستاذ المتـدرب القادم من بيــادر الشاويـة .. وبين الفينـة والأخرى .. كانا يدردشان في بعـض القضايا القانونيـة .. كان كل واحـد منهما مزهـوا بالقانـون ..لم يتــردد "سعدان" بين الفينة والأخرى، في تمكين "سليم" من بعـض المراجع في القانـون .. وبهذا السلوك الراقي .. كسب تقته وتقديــره .. وأنساه بعــض السلوكات والنظرات الشادة .. يوما بعد يـوم ترسخـت أواصر التقارب والانسجــام بينهما.. بعــد أن شاء القدر أن يكونا جنبا الى جنــب في مجموعـة واحدة في إطار الوضعيات المهنية .. مجموعـة نموذجيـة أضفى عليها الشيـخ "سليمــان" من البركـات .. ما جعلها مجموعـة أمل بإمتيــاز .. سحر الشيخ" سليمان" وطلاقة "حسنيــن" .. جعلت "سعــدان" يغــادر قوقعته باحتشــام .. أصبح مزهــوا بعد أن تخلـص من هاجس "البورط فوليو" .. وأضحـى لا يبــارح "الفيس بوك " .. تماما كما يفعل " سليمــان " ...
- " خديجة " .. شابة يافعة في عنفــوان الشباب .. تبـدو كسنبلـة تنحنـي تواضعـا واحترامـا وسط بيــادر الرحامنة .. بيضـاء البشرة متوسطة القامة .. اشتعل وميض حياتهــا غير بعيد من إبن جريــر بين عبــق الرحامنة وأريــج القلعة الحمراء .. شخصية منضبطـة تبــدو كمـدارة طرقيـة تتقاطع فيها طــرق الخجل والصرامة .. وبين هذا وذاك صمـت ساكن سكون ربيــع مازاغان .. تقاسيم وجههـا تجمــع بين الوضوح والغمــوض .. بين الرقـة والصلابـة .. قليلــة الكلام .. وإذا اقتربت منهـا وأصغيـت إلى كلماتهــا .. يخالجــك انطبــاع وحيد وأوحـد .. أن صمتهـا الكاسـح .. يخفي بيـن ثنايــاه ..كل معاني النضج والرقة والمــروءة والصفاء .. شابة جغرافيــة التخصص .. تبـدو طموحـة ومتفائلـة وكل أبـواب الأمل مفتوحـة أمامها بسخــاء .. حصلت على الإجازة في الجغرافية من جامعة القاضي عيـاض بمراكش ومباشرة إنخرطـت في " ماستر" بكلية بن مسيك بالدارالبيضــاء .. قبل أن تتخلى عن هـذه التجربـة بعدما انفتحت أمامهــا مهنة التدريس من بابها الواســع .. تذكر "سليم" وهي تقدم نفسها للمجموعـة في مجزوءة "دعم التكوين الأساس تخصص تاريخ" .. إنخراطها السابـق في مشروع تنمـوي خاص بتربيـة الأرانـب ..ومن عالم الأرانب مرت إلى عالم التدريس .. وبين العالمين .. تتقاطع مجموعـة من التجارب والمواقف والحكايات في شخصيـة طموحة ترقص على إيقاعات من الأمل والتفـاؤل ...
-"توفيـــق" ..شاب في عنفوان الشباب .. طويل القامة متوسط البنيـة .. لون بشرته يميل الى الحمـرة .. تقاسيم وجهـه تختـزل بين ضفافهـا كل معاني الجديــة والصرامة .. عينــاه الراقدتان خلف نظارته الطبية تعكسان نظــرات عميقــة عمـق الأحاسيـس الكاسحـة .. اذا رأيته مـارا أمام النافـورة الزرقــاء أو شجرتي التـوت الباسقتين أو يلقـي درسا بالقسم رقم 7 .. حسبتـه عسكريـا مثقلا بالأوسمـة والنياشيـن .. منضبطــا صارمـا .. ولد" توفيــق" بمدينـة ابن جريـر عــروس الرحامنــة ضواحي مراكش الحمــراء ..تربى وترعـرع داخل أســوار لا مكان فيها الا للطاعـة والانضبــاط .. بعيدا كل البعــد عن كل أشكــال التهــور والتسيــب .. لذلك صــارت شخصيتـه صارمـة وجديـة إلى أبعــد مــدى .. ولوجه إلى مهنـة التدريــس .. جاء بعـد سنــوات من الغربـة بالأنـدلس .. حيث عبــق التاريخ وأريــج تألــق وسمـو الحضــارة المغربيـة خاصة على عهـد المرابطين والموحديـن .. توفيق .. حائزعلى إجازة بنفحات جغرافية تخصص "التنميــة " .. مهنة التدريس أكيد لن تنسيــه إسبانيا .. وإسبانيا لن تنسيــه مهنة التدريـس .. جديتــه ستساعـده ولا شك في إيــجاد تخرجـة مناسبـة بين الإثنيــن ...
-"حلمي" .. شاب تجاوز عقده الثالـت .. لون بشرتـه ولكنته توحيــان منذ الوهلة الأولـى بأنه صحــراوي حتى النخــاع ..ينحـدر من مدينـة "طاطــا" دلوعة " الصحــراء .. لم يخرج عن دائــرة أخـلاق ومكـارم أهل الجنـوب .. لكنـه تمــرس بأمور الحيــاة وإمتهــن أكثر من مهنـة ونشــاط .. حتى صــار كوكتيـــلا من التجارب والخبــرات التي صقلت شخصيتـه وأضافت قيمـة مضافة لحياتـه .. ابن طاطــا الصـارم .. ورغم ضيــق الحيــاة وصعوبات المسيــر.. قـاده طموحـه الجارف الى بــلاد الكنانة – مصـر – وهنــــاك حصل على شهــادة الماستـر في التاريـخ .. تقــدم إلى مباراة المراكز الجهوية لمهن التربيـــة والتكوين بتشجيــع من أحد أصهــاره .. فانفتحت لـه مهنــة التدريــس من بوابتها الواسعـة ، كما إنفتحت أمامـه أبواب بــلاد الكنانــة .. داخل القسم رقــم 7 .. يبــدو" حلمي" أستــاذا متمرسـا قويــا صارمـا.. لا يقبـل بأي خــروج عن النــص .. كان يؤمن أن الصرامـة هي السبيل الوحيــد لتطويــع التلاميذ وفـرض النظام داخل القســم .. حلمي عاش لسنـوات بالدارالبيضــاء في صـراع مرير من أجـل لقمـة العيـش .. وتشبــع بإيقاعات وثقافـة هذه المدينــة العملاقـة .. ومــع ذلك .. فهــو شبيـه بواحة من واحات وادي درعـة .. حيث لا مجال ســوى للقيـم والأعـراف والتقاليــد ...
-"سليمــان " .. ابن تمارة المدلل .. وخريــج جامعة محمد الخامس بالرباط تخصص تاريخ .. ينحدر من "حد لبراشوة" حيث تتعالى نفحــات قبائل زعيـر .. تجرع لسنـوات مرارة العطالة .. لكنه ظل وفيا لحبيبتـه "أمل" طوال سنوات القهـر .. وآمن بحقـه في الركوب على صهوة التدريس إلى آخر رمـق .. فنـال ما أراد وما تمنى .. " سليمـان " اليوم .. نسي كل سنوات الآهـات وطوى أيام الضيــاع في أتــون النسيــان .. سطع نجمه وسـط القاعة الزرقــاء.. أثـار انتبــاه المحبين والنقـاد بصوتـه الشاعـري .. الذي ينفـذ بسلاسـة الى الأعماق كما ينفـذ النــدى الى أفئـدة النرجـس والأقحــوان .. بين سحر هذا الصوت .. ولد " سليمــان" وسطع نجمـه عاليـا في سمـاء القاعة الزرقــاء .. صار ذاك النسيم العليل الذي يداعــب كل لحظة .. الأشجار الباسقة والنافورة الزرقــاء .. اقتحـم بعفويته المعهــودة رحاب " الاجتماعيات " و"الرياضيات"و"الأدب العربي" و"الايس في تي " .. صـار شاعر المجموعة بامتيــاز .. شاعريته اللامحـــدودة .. جعلته يختــرق صمت القاعة الزرقــاء ويخرج عن المألــوف .. ويعلن أمام العالم " كفــاك صمتـا ..." تحت أنظـار " المتيم 2" .. في تلك اللحظـة التاريخية .. ولد "الهيــام" كما ولد" سليمـان" .. فأصبح الهيام مقترنـا بسليمان .. وأضحى سليمان رمزا للهيــام .. هيــام طالما جلب عليــه الإنتقــادات والويــلات .. ومـع ذلك .. أصر سليمان ويصـر .. أن يبقى هو والهـيام "سيــان" .. ولا أحد يستطيـع أن يزيحـه من عرش الهــوى .. وسحـر الهيــام ..
سليمان يتخلص من "البورط فوليو"..
استيقظ سليمان باكرا على غير عادته بعد أن قضى ليلة مطولة ليست على صفحات الفيسبوك، ولكن بين أحضان عشيقته العابرة "البورط فوليو" .. أحاطها بكل ما يتمتع به من مشاعر جياشة وأحاسيس كاسحة .. منحها كل وقته وإهتمامه حتى بـدت كعروس في ليلة زفافهـا، كان معجبا بها غاية الإعجــاب وكانت هي الأخرى تبــادله في صمت وسكون كل معاني الشوق والهيــام، منحها كل وقته وكل عطفــه وأضفى عليها لمسات سليمانيـة لا أجد لها وصفا ولا تقديــرا، كان ليلتها يتمشى مزهـوا منتشيا داخل بلاط مكتبة "محفــوظ" منتصبـا كالعاشـق الولهان أمام جهـاز الحاسـوب، من أجل نسخ كل ما يراه مناسبا حتى تبـدو مجنونته (البورط فوليو) في أبهى الحـلل، كان حريصا أشد الحرص أن يضع كل وثيقة في مكانها .. جذاذات .. تقارير .. صور .. بل حتى ألوان الكتابة كــان ينتقيها بدقة ، وكأنه "بيكاسو" أو "مهنـدس "الجوكندا " أو ساحر "الموناليزا " .. كان ليلتها متربعا على الأرض كعادته وشاشة الحاسوب منتصبة كشجرة الأرز الباسقة تراقب حركاته وسكناته بل وحتى آهاتــه .. وكأنه فقيـه يتأهب من أجل اعداد صكوك الهوى للقلوب العطشى .. كان صامتا على غير عادته وسط كوم من الوثائق والجدادات والتقارير ، وكأنه مقبل على تقديم مشروع دكترواه .. كان مركزا وكأنه "ميسي" يتأهب من أجل تنفيذ ضربــة جزاء حاسمة لنيل "الليغــا" .. غادر الغرفة (رقم 10) متسللا وكأنه "المجنون" يتسلل إلى ديار ليلى ، قبل أن تشرق شمس "مازاغان" .. مزهوا بمحبوبته العابرة " البورط فوليو" التي كان يحتضنها بعناية ، وكأنه يخاف أن يسرقها منه عاشق طائـش أو مجنون "هاتـر" ... مر أمام النافورة المهجورة ، فتوقف عندها ونظراليها نظرة أعجــاب ، وكأنه يتأهب لمغادرتها دون رجعة ، ألقى عليها التحيـة وغادر عين المكان بخطوات متثاقلــة ، قبل أن يهم بمغادرة مدخل الداخية، توقف لحظات والتفت يمينا إلى النخلـة وإلى الزيتونــة ، والتفت خلفــا إلى شجـرتي التوت الباسقـتين ، فبادلهن التحية بالتحية والإعجاب بالإعجـاب .. قبل أن يواصل المسير في الممر المؤدي الى الباب الرئيسـي .. تاركا وراء ظهره "هيام" و"المتيم" و"القاعة الزرقاء" و" النافورة" و" الأشجار الباسقـة" ..
كانت وجهته جماعة "مولاي عبدالله" وتحديدا الثانوية الاعدادية الإمام مسلم، التي تعود أن يقصدها رفقة مجموعة الأمل (مونير، عزيز، نادية،سعيد،وليد) كل صباح في إطار التداريب الميدانيــة، لكن هده المـرة اللحظة ليست كسابقاتها .. لحظة حبلـى بالضغط والتوثــر والسؤال والآهات .. سيكون عليه تقديم درس في القسم أمام لجنة في اطارالامتحان الوطني في شقه العملـي .. لقد سبقـه "سعيد" ابن الشاويـة عشية البارحـة .. إجتاز سعيد الإمتحـان في أجواء إيجابيـة .. بعد طول مخــاض .. كان وقتها "إبن الشاوية "مزهوا منتشيا وكأنه أحرز نصرا ما بعده نصـر .. أو تخلص من كابوس مزعـج ما بعده كابوس ..
عدوى "البورط فوليــــو" تنتقــل إلى سليـــم..
صورة سليمان وهو محاصر بين أكوام التقارير والجذاذات والوثائـق .. إنتقلت عنوة إلى سريــر "سليم" كما تنتقل ألسنة النيران بين الحصائد العطشى .. وأصرت نسائم "البورط فوليو"إلا أن تداعب جسده المرهـق .. بل وأن تتسلل بأريحية وعنفــوان إلى غرفة صمته دون استئــذان .. وتتسرب كالنسائم العليلة إلى عوالمه .. بعد أن رسمت قبلة على وجنتيه، نزلت علـيه كما لو كانت قطعة ثلج باردة .. فأحدثت في بـــلاط نفسه .. حالة أشبه ما يكون بمحمية يتعايش فيها الإرتبــاك والترقــب والإنتظار جنبا إلى جنب مع الهوى الكاسح والأمل الجـارف .. تخلص سليمان من الأكــوام .. ونهض من تحت أنقــاض الشرود والتيهــــان .. تخلص من " البورط فوليو" بل وطلقة طلاقــا لا رجعة فيــه ودفنه في أتون النسيان ولو الى حيـــن .. لكــن "الأكوام " أبت إلا أن تتحــرش بسليم في ليلــــة مازاغان .. وتفصح له دون تــردد وخجـل " أنا متيمة بــك " .. كلامها خلف في نفسه حالــة إرتباك قصــوى كادت تعصــف بل عصفت بأفكــاره .. أبت الا أن تحتضنه كما يحتضن الهــــوى القلوب العاشقــة .. لم يجـد بدا من الإنصيـاع والقبول بالأمر الواقـع .. قضـى برفقتهــا ليلـة حمراء .. حرص أن يبادلها الحب بالحــب والوفــاء بالوفـــاء .. حتى تبــدو فاتنـة .. أنيقــة .. متألقــة .. قبل أن يخلـد للنــوم وهي قريبــــة منه .. تملك فكره وبالـه .. تسكنه كالهواجــس .. تلاحقه كالكوابيس المزعجـــة ..
استيقظ قبل أن تستيقظ الحمائم وقبل أن تتحرك أولى فيالــق النسائم .. ألقى تحية الصباح عليها (البورط فوليو) قبل أن ترتمي عليه وتحتضنه بلهفة وسخــاء .. وكأنها تعبر عن تضامنها اللامشــروط معه .. كانت تؤمن أن الفراق أمر لا مفـر منه .. ومع ذلك كانــت متماسكة ولم يبد عليها أي قلـق أو إنزعاج .. حدث هذا و السلطان سليمان .. غارقا في نومه كما لو كان غارقا في بحـر من الهيـــام .. غادر الغرفة للتو دون أن يتمكن من تناول وجبــة الفطور .. إلتقى الأستاذ المتدرب "مولاي رشيد" إبن مراكش وهو يحمل كيسا به خبزتيـن وألقى عليه تحية الصباح وغادره بعد أن تمنى له التوفيـق .. على مستوى مدخل الداخلية .. إلتقى بالأستاذة "خديجة " وغادرا معا مشيا على الأقــدام في إتجاه محطة الطاكسيات .. والوجهة كانت الثانوية الإعدادية الإمـام مسلم بجماعة مولاي عبدالله .. كان تنتظرهما معـا بالقسم رقم 7 نفس المهمـة .. تقديم درس في إطار الإمتحان الوطني في شقه العملي أمام لجنـة .. المصادفة كانت أن كليهما سيقـدم نفس الدرس ونفس النشاط .. لكن القاسم المشترك كان هو "البورط فوليو" ... تلك المتيمـة التي انصاع إليها الجميع ...على مشارف مدرسة "محمدالفاسي" صادفا الأستاذ " نعيــم " الذي كان يجر قدماه بخطوات متتاقلة متأبطا محفظة سوداء اللــون .. ألقى عليهما التحية بلكنته المراكشية ، ورافقهما الى الشارع الرئيسي ، حيث كانت الرحلة المكوكية في اتجاه مولاي عبدالله متن سيارة أجرة كبيـرة ..
في الطريق خيم على الثلاتـة صمت كاسح .. صمت الوثائق والتقارير والجدادات الراقـدة بين صالونات "البورط فوليو'' .. صمت يخفي بين ثنايــاه ولا شك مجموعة من الأفكــار والهواجــس والتوقعات ... الأكيد أن مسرحية "البورط فوليو"' سينزل عليها الستـــار .. بعد طول انتظــار... وصلوا الى مولاي عبدالله مبكرا .. وترجلوا مشيا على الأقــدام .. كان الجو ساكنا .. لا يغير صفوه ســوى النسائم الصباحية العليلــة القادمة من الساحـل .. وصلوا الى المؤسسة حوالي الساعة السابعة والنصــف .. كان الباب مغلقـا .. انتظروا لحظــات قبل أن ينتبه الى دقاتهم الحارس الذي فتح الباب أمامهم .. اتجه "سليم" و"خديجة" بخطوات متتاقلـة الى القسم رقـم 7 .. عملا على تهيئة "الداتاشاو" ومسحـا السبــورة .. كان بحـق يوما غير الأيـام ولحظة غير اللحظـات .. رغم الآهات .. كان الإحساس أن اللحظة ستمـر كالنسيم العابر .. بمشيئـة الله ...
سليم والإمتحان العملــي..
ارتدت الأستاذة خديجة وزرتها البيضاء وركنت في المقعد الخلفي في انتظار دورهـا بعد أن هيأت "الدتاشاو" ووضعت آخر اللمسات عليه ..ارتدى "سليم" بدوره الوزرة البيضاء .. وزرة ليست ككل الوزرات .. لقد كانت وزرة الشيخ سليمان الذي تلاحقه بركاته كالطيــف .. أينما حل وارتحل .. كانت أول مرة يرتدي فيها "سليم" وزرة بيضاء .. كان يبدو وهو يتجول بين الصفوف الفارغـة كطبيب يتفقد مرضــاه بكل عناية واهتمــام .. من بعيــد كان يتــراءى له ساحـل مولاي عبداللــه .. فتح النافـذة فداعبتـه نسائم صباحية لم يجد لها وصفـا ولا تقديــرا .. انتابــه وقتها إحسـاس أن وزرة سليمان هي بمثابة جـدار عازل فاصل بيـن أمسه ويومـه وغـده .. بيـن عوالـم الأرقـام والأصفـاد والتقاريـر والآهات والشكـوى التي لا تنتهـي، وبيـن عوالم جديــدة حبلى بالآمــال والأمنيـــات والرغبــة الجامحة في تحقيــق الذات ... عوالم قديمـة إلتهمتهـا ألسنـة النسيــان وصـارت جزءا مـن الذكـرى وصفحـة عابرة من صفحــات الماضي الراحـل، وعوالــم جديـــدة تبــدو كقطـار مكوكي تحركـه طاقة هائلــة من الآمـال الكاسحة والأحــلام الجارفــة ..في تمام الساعة الثامنة صباحا .. بدأ التلاميذ يتقاطرون على القسم رقم 7 مثنى وثلاث وربـاع (الثالتة 1) .. كما تتقاطر قطرات الندى على ورقيات النرجس والريحان والأقحوان .. تلاميـذ صغــار وهو يتأمـل في عيونهم ونظراتهم وما تحمله من بــراءة وبساطـة وفقـر وعـــوز .. أحس أنه يصغـي إلى نبــض جيل صاعـد .. فأحس بقيمـة الوزرة البيضــاء وبجسامة المسؤولية في منظومة إسمها "التربيـة والتكوين " .. مسؤولية أمام الله .. أمام الضمير .. أمام المجتمــع .. أمام الإنسانيــة جمعاء .. أدرك وقتها قيمة مقولة "كاد المعلم أن يكون رسولا " ..كل شئ كان يبدو على أحسن ما يرام .. وهو يدردش الدردشات الأولى مع التلاميـذ من أجل تحفيزهـم للمشاركة الإيجابيــة في الحصـة .. حافظ على نفـس الطريقـة والأداء .. الصرامة والجديـة والإنضبــاط.. لم يختلق هذه الصفــات الكاريزميـة ..بل هي جــزء لا يتجــزأ من شخصيتـه .. لكن خلــف القسمات الصارمة والجادة .. توجد شخصيـة مرحـة مفعمـة بكل معاني الحـب والعطاء والأحاسيس الجارفــة .. بين الصورة الظاهرة والخفيــة، كـان مقتنعــا أن "الصرامـة " و "الجدية " و "الإنضبــاط" هي أفضـل السبـل الممكنـة لتدبير الفضاء الفصلي بكل ما يحملـه من تناقضات نفسية وسوسيومجاليـة .. ولتفادي الإنفلاتـات التي تحول الممارسـة اليومية إلى جحيــم ساخـن ..
دخلت اللجنة .. وبإشارة من سليم وقف التلاميذ .. وجلسوا بعد أن أخدت اللجنة مكانها في المقعـد الخلفـي .. وكانت الإنطلاقة الفعليــة للدرس .. "مصر نموذج تنمــوي عربـي" ( النشاط الأول) .. مرت أطوار الدرس بنفس طريقــة وأداء الدروس السابقـة .. وإنتهت الحصـة على الساعة التاسعة صباحا .. بعد أن قاس مدى استيعـاب التلاميذ لما قدم لهــم .. قال لهم " إنتهت الحصة .. شكرا على حسن إنتباهكم " .. بادر للتــو إلى فك حبل الـود الرابــط بين حاسوبه الصغيــر وجهاز "الداتاشاو" .. ولزم مكانه في المقعـد الخلفي جهــة اليميـن .. في وقـت ربطت فــيه الأستاذة خديجة حاسوبها الكبيـر بالدتاشاو ..ومسحــت السبــورة بممحــاة شاخت بغبــار الطباشيـر وهي في ريعـان الشبــاب ..
دخل تلاميذ جـدد (الثالثة 3) وبدأت الأستــاذة خديجة في تقديم نفــس الدرس ونفس النشـاط بطريقـة ولمسة خاصـة .. كان سليم يتتبع مجريات الدرس بتمعن .. وبين الفينــة تسرقه النظرات الخاطفـة إلى ساحل مولاي عبدالله الذي يتراءى من النوافـذ .. رن جرس الساعة العاشرة .. وانتهى الدرس .. وخرج التلاميـذ مثنى وثــلات وربـاع .. في وقــت عملت فيه الأستاذة خديجـة على فـك حاسوبهـا بالدتاشاو .. في تلك الأثنـــاء قدم الأستاذ هاشم إبن الدارالبيضــاء .. الذي تأبط بالجهاز وغادر إلى "القاعة 6 " حيــث كان هو الآخــر يتأهب من أجل تقديم درس على الساعـة العاشرة .. غادر سليم وخديجة القاعة بعد أن أحكم إغلاقها بالمفتــاح .. وقصدا قاعة الأساتـذة .. حيث وجدا أمامهما ما لذ وطاب من الحلــوى وكؤوس الشاي المنعنـع .. فكرة "جلسة الشاي" كانت بإسهام من مجموعة الأمل .. وقد أسندت مهمة الإعداد والتحضيـر إلى الأستاذ "حلمي" إبن مدينة طاطـا .. كل الزملاء كانوا حاضرين .. وحده سليمان تخلـف عن الميعــاد .. فغاب معه الشعر والنثـر والهيــام .. بعد إستراحة قصيـرة غادر سليم وخديجـة قاعة الأساتذة وإتجها مجددا بخطوات متثاقلة إلى القاعة رقم 7 ، حيث كانت لهما مع اللجنة .. حكايــة أخرى .. عنوانها "البورط فوليـو" ...
بتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.