الصفحات

قراءة نقدية لنص ” لستُ ظلالا” لفوزية أوزدمير ...** بقلم الناقد: فتحي حمزاوي

* النص

لست ظلالا فريدة تتدلّى من الزجاج البالي
رأيت طيفاً عارياً في أعلى الشاهقة
ولست المرأة التي حمّمت جدائلها في هذا الماء خطيئة جمالها
يتنفس فيها عبير عطر مسكوب على لوحات بوشيه الشاحبة
تشتاقني روحي حين البعد
حين أستعيد خدر الساعات الطويلة الماضية
عندما تهجع الشمس قبل أن تغيب ،
مصحوبة بأشعة أرجوانيّة..
مائلة للأصفرار على الحيطان الرماديّة

وأنا مُعلّقة على عنق الظلام
كأنّ نهر ثدييّ لفظ شعشعاني
يفك القيد من فم النهار
ولا يزال الصمت أثقل من قدميّ
و فمي خلاء من كلّ ريقة
من صلصة مسقوقة في الدمع ،
وهذا النهر يتسع في المجهول
كنهرٍ بين جنازتين
على جفنين ظمآنين
جاش البرق بالومض ،
وصبّ الظلّ في الأكمام حلة من التبر
أبتلع بعض الدمع
و ليس بأمكاني ابتلاع سراب خيالي
أجد صوتي المكتوم في همس الأشباح ، يرقص مع ظلالي
بنظرات مُرّة
وقبل حارة
تملئني قطرات من الضوء ، بشيء دافئ
أشبه بكأس خمر
لثم شفاه تشبث بالفراغ ، وكثيراً ما انزلق دون أن يسقط
كأغنية مبلّلة بالرعشات
تحمل نعش لحن المآتم
تنتابني الحيرة من الستائر الثقيلة
وأخاف أن يسرقني الخيال من الأحلام
التي تسحبها يد خفية ، ليبدو لي
وكأنّ الغسق أحد تلك الأثواب الغريبة
المزركشة للراقصات
في عتمة وهج الليل
ليتني لم أولد بعد .. !
ما أبعدني .. !!!!!!!!

*الدراسة 

ــ الجزء الأوّل:
” السّتائر الثقيلة تسحبها يد خفية”. حين نقف أمام تلك السّتائر معنى ذلك أنّنا نقف في الجسر المرهف بين عالمين ولا نعرف من يمسك بتلك الستائر غير أننا نحس أنّها يد خفية.
ماذا هناك خلف تلك السّتائر؟ بكثير من الوجل والخوف والرعب نقف أمامها، نحبّ أن نغامر ونجازف بإزالتها ولدينا إحساس بوجود سرداب مظلم بل أقبية كثيرة نجهل ما فيها أو كأننا نتصوّر أنّ في كل قبو سرّا من أسرار الوجود… ويذهب بنا الخيال بعيدا فنتخيّل أرواحنا الشّفافة تطير هناك بقداسة وبشقاء كبير أيضا، فنتمنى ” أنّنا لم نولد بعد”، نرى أصولنا العارية تتمتم في براءة الأطفال وبساطة السّلاحف، فنرتّل ” مأبعدنا”، نرى أحلامنا الموؤودة سبقتنا إلى هناك، كل ذلك والستائر مغلقة بعدُ. نرى القصيدة التي نحن بصدد كتابتها تنزف دما من فرط رحلتها الطويلة في جداول فارغة ما قبل السّتائر…
هناك أيضا، ما بعد الستائر، ترى الشاعرة فوزية صوتها المكتوم بين معشر الأشباح وتظل تسيح. وتظلّ الأشباح تغمزها أنْ تعاليْ، وهي ب” نظرات مرّة” تظل تتأمّل في الستارة وما بعد الستارة تماما كما كان مشهد العبد الأسود في مسرحية ” شهرزاد” للحكيم، ولئن كان ذلك العبد لا يرى في الستارة وما بعدها إلا موته وموت الغريزة فيه، فإنّ الشاعرة ترى ميلادها من خلال ” قطرات الضوء” ومن خلال ذلك الشيئ الدافئ الأشبه بكأس الخمر.
كأننا أمام نصّ ماريخانيّ، تشرّب الحشيش فبدا قطعا من التداعيات التلقائية المهمومة بقصة الكائن البشري وهو يشقى بعالمه المسيّج بالموت، ولكنه يتهيّأ لما وراء السّتائر، حيث الميلاد الحقيقيّ. فالستائر تعيدنا إلى فلسفة الثنائيات الحاكمة في لحظات التأمل عند الشاعرة والمتسببة في العمل الفني عندها، فها هي تتحرك في هذه المنطقة المستعصية غير المفهومة “عندما تهجع الشمس قبل المغيب”، وعندما يضعنا التشبيه في هذا البرزخ الفاصل والواصل ” كنهر بين جنازتين” “على جفنين ظمآنين”، كأنّ كلا العالمين معبّآن بالنهايات، فلفظ الجنازة متّحد مع الظّمأ ولا تزال الستائر محلّ خيفة وتوجّس

ــ الجزء الثاني:
إنّ العوالم السيميولوحية التي تتأسس على أركانها هذه القصيدة هي عوالم وجودية يتناغم فيها السيكولوجي الذاتي مع التأمل الجماعي المؤمن الذي يستمد انطباعاته من تراث ديني عميق انبنى على التشبّع برائحة الرقص من أجل انتظار الالتحام بالذات الكلّية، وفي نفس الوقت أخذ من ألبير كامي وسارتر نزعة القلق، ولكنه هنا قلق إيجابي لا عدميّ حتى وإن تمنّت الشاعرة أنها لم تولد، لقد أردفتْ هذا التمني بظرف زماني” بعدُ” يؤكد عقيدتها المؤمنة بوجود عالم أكثر دفئا وصفاء.
إنّ هذا الفضاء الشعري التأمّلي لا يمكن أن يتشكّل فنّيا إلا وفق تكنيك يناسبهُ ولذلك كانت ” الرّؤيا” التقنية الفنية الملائمة في القصيدة إذ بدأت الشاعرة النقل الفوري لما يتحرك في دواخلها من تساؤلات وتأملات بفعل ” رأيتُ” منذ بداية السطر الثاني.
إذن فالرّؤيا من التقنيات الفنية المتحكّمة في ابتداع العوالم الشخصية عند فوزية أوزدمير وفيها تؤثث مواقفها واهتماماتها بعناصر من جنس هذا الكون السيميولوجي فتصنع أطيافا وظلالا وتختار ألوانا (اصفرار/أشعة أرجوانية)، وأشكالا يجمع بينها الروح الواحدة وهي حالة الحيرة الوجودية وما يتولّد عنها من شعور بالاغتراب تارة والكآبة تارة ثانية… ويزداد هذا التردّد ويقوى كلّما نظرنا في تراكيب اللغة في النص وفي البناء التشبيهي والتعبيري. فالشاعرة ” تبتلع/وليس بإمكانها ابتلاع”،” بنظرات مرة/وقبل حارة” ” صوت مكتوم/يرقص مع الظلال “، وكذا الوضع إذا تأملنا في التشبيهات، فالشاعرة تشبّهُ حينا ب” كأس الخمر” وحينا ب” نهر بين جنازتين”. إنها حالة قصوى من التوتر والحيرة وهي واقفة عند الستائر الفاصلة بين عالمين أحدهما معلوم مملول والثاني مجهول غير مدرك، لذلك كانت ” معلقة على عنق الظلام”، في موضع الرقبة من الموت، و” كثيرا ما انزلق ريقها قبل ان يسقط” و” تظل كأغنية مبللة بالرعشات” تخاف أن يسرقها الخيال من الأحلام.
وتتخلل الرّؤيا رغم هدوئها وصمتها جلبة وحركة كثيرة تتجلى في الأفعال الجارية على نسق السرعة، ولكن اغلبها يحكي تلك الحالة الحائرة المتوجسة “ينتابني/أخاف….”.
ولكن الخوف في النص وإن كان حالة نفسية فإنه يصبح وضعا طبيعيا يجب أن يكون حالة دائمة مادمنا على قيد الحياة حتى نصيح مع الشاعرة ” ما أبعدنا”.

إذن يتحوّل الخوف في النص الى نعمة نثبت من خلاله أننا بشر، وأننا بشر نفكّر بوجودنا. لذلك أعتبر أننا أمام نصّ مليئ بالغياب رغم حضوره لأنه يدفعنا لملئ تلك الفراغات الوجودية في الوقت المخصص للحياة.
دمتِ أستاذة فوزية بهذه اليقظة الحافزة المحفزة لكل من اضطرّه الوقوف هنا في هذه الواحة من الأسئلة الوافرة بحالات الحيرة الموجبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.