عاش بدر شاكر السياب سبعا وثلاثين سنة فقط لا غير، وقد تأخرت لأعرف تلك المعلومة مقارنة مع اكتشافي له حين قرأته خلال سنتي الجامعية الأولى، حين اعتقدت أنه شاعر عاش طويلا، إثر وصف أستاذي له بالشاعر الكبير، لعدة سنوات ظننت آنذاك أنه لا
يزال حيا، ثم عرفت أنه مات، وأيضا ظننت أنه مات عجوزا، ثم اقتنيت له كتابا بالصدفة، بعد تأثري بإحدى قصائده، يومها كانت صدمتي الأولى، فالرجل مات في ريعان شبابه فمن أين أتى بذلك الكم الهائل من الأسى في شعره ؟
يومها أيضا عرفت أن كل ما نتعلمه في المدارس والجامعات ناقص، وأنه ليس أكثر من لمس طفيف لمفاتيح الأدب، على الطالب أن يعرف كيف يميز بينها ويستعملها لفتح الأبواب الكثيرة التي تفتح على فضاءات الأدب الفسيح.
وأدركت أن الرّجل لم يكن شاعرا فقط، كان مترجما ذا حاسة قوية لانتقاء النصوص التي قدمها للقارئ العربي، حتى إن كانت ترجماته ضعيفة كما يقول البعض، فقد بدا لي وأنا أقرأ ما تركه من نتاج منشور أنّه كان قارئا جيدا، واشتغل بالترجمة كونه كان أيضا ماكنة عمل لا تهدأ، وقد استغلّ كل لحظة عاشها في الانشغال بعالمه الشعري الواسع بين قراءات شملت شعراء العالم، وبين التأليف.
لا مجال للحديث عن سرقات له من شعراء أجانب، إلا إذا جلسنا حول مائدة تفكك شعره وتدعم التهمة بالأدلة. فقد كانت شهرته غير مقبولة عند البعض لهضمها، حتى وهو عالق في بؤسه وبأسه الخاصين به. الذين دققوا من جهة أخرى في وصفه لم ينتبهوا إلى أن السياب عاش صراعا كبيرا بينه وبين نفسه، كانت روحه المقبلة من عوالم الشعر والمثاليات لا تناسب جسده الصغير، ولا الكائنات الأرضية المتصارعة على السلطة، والثروات المادية وما شابه. مشكلة الشاعر أيضا ظلّت حبيسة نظرة الكُتاب والشعراء وأهل الثقافة، لهذا لم نعرف طبيعة مرضه، الذي قد يكون اكتئابا حادًّا انعكس على سلوكه المدمر لذاته، قد نفهم نوع الضغط الذي عاشه ونوع اللامبالاة التي قوبل بها.. أراهن على أننا لو فعلنا لاكتشفنا شخصا آخر غير الذي حنّطناه حسب معلوماتنا القليلة وأودعناه قبره الأبدي.
لم نألف أن نجتمع بأهل العلم، ونفتح سجالات تخص الأدب والشعر وأنواع الفنون، عشنا وما زلنا نعيش مثل السلاحف، كل يحمل قوقعته ويختبئ في داخلها. عشنا منفصلين أيضا عن كل ما يمكنه أن يضيء مواقعنا المعتمة بنظرتنا السوداوية لما حولنا. حتى في قراءاتنا، نعتقد دوما أن الكتاب الذي ننتهي من قراءته يجب أن نغلقه للأبد، فيما الكتاب وجد ليفتح في كل الأوقات، ومن حين لآخر يجب أن يفتح لإعادة اكتشافه، إذ تبين لي وأنا أعيد قراءة السياب هذه الأيام خلال تحضيراتي لأمسية شعرية غنائية مكللة بشعره، أنني لم أقرأه جيدا حتى في قمة انبهاري به، وهذه صدمة جديدة ترميها «القراءة» في وجهي للنصوص نفسها، بل إني شعرت بأني أقرأه لأول مرة، بمذاق شعري انسجم تماما مع مزاجي ومواجعي الشخصية.
في السنة الثالثة والخمسين من غيابه، أتعرّف على السياب مجددا، في محاولة ثالثة لفهمه، وفهم عبقريته، مع أن ما يرن في أذني من آراء بشأنه لا يشجع على قراءته، آراء تتوقف عند شكله الخارجي، وعند خيباته العاطفية، وعند بعض زلاّته كأي بشري آخر فوق هذه المعمورة. آراء لطالما كانت مدمرة لسقف القراءة بالنسبة لشعوبنا، وقد استعملها أنصاف الإعلاميين كمادة إعلامية لهم للفت النظر إليهم لا للإضاءة عنه، كما استعملها معارفه لأسباب نجهلها فأساؤوا له أكثر مما خدموه، واستعملها شعراء وكتاب عاصروه في حوارات أجريت معهم فيها من الأحقاد جرّاء دوافع شخصية ما حوّل السياب عند البعض إلى شخص سيئ، لن أذكر من تلك الآراء شيئا سوى أنها ترمي بالنص – الذي هو أثر أدبي – على عجالة قاتلة في أقرب مزبلة ، هكذا بدون أي تمحيص أو تأمل.
أقرأ أوجاع السياب مجدّدًا، ثم أصغي إليها وهي تنبعث من حناجر جميلة تؤديها، فيهطل الدمع في داخلي، لا لأن شعره حزين، بل لأني تمكنت من رؤيته أخيرا بكل مواجعه، هو بدر شاكر السياب الإنسان، وعرفت أن استمراره في كتابة نزيفه الشخصي ونزيف من حوله، يعود للبيئة القاسية التي أحاطت به وعاش فيها، لقد كان أقرب رفيق له المطر، والنخيل، والليل، وكل مكونات الطبيعة التي تناسبت مع داخله، لا أحد في الحقيقة أصغى لمواجعه، أو قَبِل أن يتقاسم معه انشغالاته العظيمة بشأن الفقراء والمرضى والمهمشين.
في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات كان الإنسان العربي متشابها في العراق وسواها، كان يعيش سكرة غريبة تحت تأثير الخطابات السياسية التي أخذته يمنة ويسرة، وفي تلك الحقبة التي اعتبرها القاصي والداني فترة ذهبية عاشها العراق، لم تكن الأمور واضحة في الحقيقة بشأن الإنسان العراقي، خاصة للمثقف الذي كان ضحية لرجل السياسة، لم تكن معارضته معارضة نابعة من معطيات صحيحة، ولا كانت موالاته كذلك. وأنا أعيد قراءته تأكدت أن ألمه وقصائده الجريحة التي كانت تخرج من مسامات جسده زاحفة، كانت أكثر صدقا في تصوير ما عاشه العراقيون خلال تلك الفترة الهادئة التي سبقت سلسلة من العواصف التي لم تنته إلى اليوم.
ترى هل يجب أن نعود لنصوصه ونصوص من عايشوه لنفهم تلك الحقبة جيدا؟ أم نكتفي بتلك التقسيمات المُمَوِّهة للتاريخ وقراءته بمعزل عن الشعر والأدب؟ بالنسبة لي نص السياب كان يمضي في طريق مختلف تماما عمّا ترويه كتب التاريخ. كان بوصلة ترصد توجهات المجتمع العراقي، وما يترصده من أخطار، ولعلي لا أبالغ إن قلت إنه متنبي عصره، ولم يكتف بقلب موازين الشعر، بل رسم بدقة واقعا عاشه العراق بعد وفاته. الآن سواء كان مترجما ضعيفا، أو مترجما جيدا ناسب تلك الحقبة، وسواء كان غير وسيم وعقدته نبعت من هنا لأن النساء اللواتي أحبهن نفرن منه، ثم سواء كان شاعرا مجددا وذهب نحو التجديد بكل نواياه، أم أنه جنون الشعر قاده لتلك الطريق الصعبة، فهو بالتأكيد ترك بصمة واضحة وكبيرة أكثر من غيره، بصمة تعتبر الأقوى لرصد حركة المجتمع العراقي الثقافية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية. بدون أدنى شك قراءة الشعر لفهم المجتمعات واستخلاص طبيعتها تبدو فكرة لا تناسبنا، هناك من يعتبر عبقرية السياب نوعا من البطولة الأدبية والتفرد الشعري ودراسة شعره منصبة حول المادة الشعرية وجمالياتها، بدون الذهاب بعيدا عن الإسقاطات الشخصية التي طالت ظروف حياته وسلوكه كشخص شره للتدخين وتناول الكحول.
ترى هل يختلف السياب أو أي شاعر كتب بكل جوارحه عن نفسه وعن الناس الذين عايشهم عن أدق الأجهزة التي اخترعها العقل البشري لرصد الزلازل وحركة طبقات الأرض، وأشياء أخرى فاقت قدراتنا البسيطة لرصدها؟ ما زلت في صف النبوءة الشعرية والفنية التي سبقت اختراع تلك الأجهزة الدقيقة.
*بروين حبيب - شاعرة وإعلامية من البحرين
*عن موقع جريدة القدس العربي
بدر شاكر السياب
تسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الانسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه يثقافته الإنجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة.وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السيات موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي" . سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى البصرة و دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.