الصفحات

أمكنة فاسدة ...**احماد بوتالوحت

إشرب !!...إشرب !...لتنتسب أكثر إلى شيء ما في هذا الوطن :
شجرة ؛ طائر او بركة ؛ باقة ورد؛ اضواء ؛ سماء ؛ سحابة ؛ سنبلة . إشرب !لا يمكن ان تصالح الحاضر ، ردم بينك و بينه ، أنت مغترب مستلب ، لا وطن لك إلا الارصفة والشوارع تذرعها ،لاشيء تنتمي إليه أو ينتمي إليك ، إنهم يفرغون فيك آخر رصاصة إسمها الحرمان من الإنتماء للوطن . في الأسر كنت "الهيدرة " الأفعوان ذو التسعة رؤوس وكلما قطع الحجاج رأسا من رؤوسك نبتت لك راس اخرى . والآن تركوا لك الفراغ ، تركوا لك حانة ومبغى ، هل هذا هو الوطن ؟ !هذه امكنة فاسدة
ياصديقي ، لا تحوي إلا معطوبين مثلك وحالمين بسفن من الورق تحملهم إلى مدن الشمال ، هناك ! حيث يتحررون على الاقل من أسئلة تؤرقهم ،هنا: قف ! من أنت !؟ من اين أتيت !؟ ما هي وجهتك !؟ ماذا تحمل !؟ أناس مهووسون بالاسئلة ومعبأون "بديناميت" اسمه الخوف المرضي (الفوبيا (.
لما خرجت من السجن وضعوا عليك عيونا تتعقبك ( حتى " حزقاتك" يحصونها على أطراف أصابعهم (من مكان إلى آخر وحين ايقنوا ان كسرك قد تم نهائيا ، تركوك للحانات والمباغى ، بورك فيك ايها الطائر المكسور الاجنحة ، هكذا يريدونك ! تحصي جراحاتك على اطراف اصابعك وتلعقها كقط خرج من معركة خاسرة .
إشرب !..إشرب !..يا حبيبي حتى تنسى ما اقترفت يد الجلاد في حقك من التذمير، تعج ذاكرتك الآن بمعاملات رهيبة تأبى ان تفكر فيها وتعتبر مجرد ذكرها معاناة بدورها ، لكنها تلح عليك فتسترجع ذاكرتك وانت في ضيافة إحدى الحانات ، صباحات ديسمبر الباردة وضوء الشمس شحيح لكنه رغم ذلك فقد كان يغشى أعينكم و يلهبها ويدمعها من كثرة ما ألفتم الظلام ، وكنتم تركضون كالبغال في باحة السجن تحت لسع السياط ، وفي إحدى تلك الصباحات ، جنت السماء بوابل من المطر والبرد ،ولما
جنت السماء جن الجلادون بدورهم وكانوا يصرخون فيكم :
ـ لا تريدون ان تعيشوا في سلام ، كالآخرين يا اولاد....!؟ لماذا تتطاولون على النظام !؟
وينكأ الآخر جراحاتكم :
ـ هاهم اصدقاؤكم قد إعترفوا عليكم ،وخرجوا ، وبقيتم أنتم تتهرؤون وستفقدون رجولتكم .
لم يعترف أحد ، ولم يخرج احد ، ماتوا كلهم تحت التعذيب ، وفي الهزيع الاخير من ليل اليوم الموالي سمعتم الفؤوس تشق صدر الارض ، والرفوش تكشط التراب ، كانت الاجساد توارى التراب تباعا ،هذا ما خمنتموه ، وتاكد لكم ذلك لما خرجتم من الاسر ، أكبرتم في اصدقائكم شهاماتهم ووفاءهم للعهد الذي اخدتموه على أنفسكم ، ومن اجلهم تمسكتم بقضيتكم ، وكنتم بنيانا مرصوصا في وجوه جلاديكم . وخارج الاسوار كان اعداؤكم يسخرون - فقهاء الظلام – لتحطيم اصنامكم ( كما يقولون) جلادون من نوع آخر، ساهموا مع النظام في إعداد شعب على الفطرة ، لين العريكة ،وفرخوا غيلانا تتقاسم معهم خيرات الوطن ، وهكذا وجدتم انفسكم انتم النواتي داخل جزيرة نائية محاصرون .
˗ إشرب !..إشرب !واركض برجليك من حانة لحانة ، لتشدب اشجار احزانك ، لكن الحانات لم تفلح دائما في إخماد نار الحقد على اعدائك ، بل كانت تؤججها ، فهاهي اعناق القناني تنتصب امامك ، فتذكرك برؤوس آدمية أينعت فحان قطافها فتتذكر" ابن جلا طلاع الثنايا* " وتتذكر غلظة جلاديك فترى القناني تتطاير كأعناق الكراكي ، فتقول في نفسك : لا مكان يخلو من الجلادين .
لم يتبق إلا مزق من الليل حين غادرت إحدى الحانات بعد أن شهدت مجزرة بين حراس أمن الحانة ومجموعة من السكارى ،إحتفى بك الشارع والفراغ والبرد القارس الذي لسع اطرافك وطير الدفء منها ، ولم تكن مفاجئة ان يقع لك ما وقع ، في هذه المدينة التي إستوطنتها الغيلان والعفاريت ، مدينة تركت للنهب ، إستقر حد السيف على اسفل حنجرتك ، حكيت لقاطع الطريق عن السجن عن احزانك التي تشبه دالية معرشة، لكنه لم يأبه لك ، عبثت يداه بجيوبك .... أوراق نقدية فضلت من طوافك على الحانات ،علبة سجائر وساعة يد ، واستوطن جيوبك الفراغ ، لا شيء غير مفاتيح بيتك تركها اللص في يديك وترك لك فرصة أخرى لتشهد أحزانا أخرى في وطن لا يمث بأية صلة إليك .

*بوتالوحت احماد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.