*تأليف: عزالدّين عناية
تمهيد
حاولت في هذا الكتاب رصد بعض الإشكاليات التي تواجه المسيحية العربية ونظيرتها غير العربية. كما أشرتُ في العديد من المواضع إلى ضرورة تصويب الرؤية بشأن مسيحية الداخل ومسيحية الخارج. فلديّ حرصٌ على التفريق بينهما، لما لمسته في المسيحية الغربية من نزوع للهيمنة. فتلك المسيحية تتعامل مع “الهامش” المسيحي غير الغربي، والمسيحية العربية مصنَّفة في عداده، بمثابة المسيحية القاصرة وغير الراشدة. لذلك برغم ما يجمع المسيحية في الغرب والمسيحية في بلاد العرب من صلات قربى فإن بينهما فروقا شتى.
من جانب آخر، لا يمكن أن ندّعي المحافظة على كيان المسيحية العربية، وننشد أداءها رسالتها، وأساليب وعينا بمخزوننا الحضاري بالية. فالمسيحية إرثٌ جمعيٌّ، وقضاياها ليست حكرا على شريحة بعينها، بل تتخطى من يدينون بها. كما أن هناك خطابا كارثيا رائجا، مشبعٌ بالنحيب
عن مصائر هذه المسيحية، لا يذهب بعيدا في تلمّس الحلول وتخطّي المصاعب. لا أودّ المكوث تحت حائط مبكاه، إيمانا بضرورة تطوير أدواتنا الفكرية في التعاطي مع واقعنا الديني، كسبيل للحيلولة دون حصول الأسوأ. فهذا الظرف الصعب نقدّر أنه عائد في جانب واسع منه إلى افتقاد رؤية حديثة للمسيحية في الثقافة العربية. ذلك أن هذه الديانة، أكان أتباعها في الاجتماع العربي أم خارجه، لا يزال التعامل معهم بمنظور عقدي، يستوجب تطعيمه برؤى حديثة، بقصد الخروج من ضيقه وأسره.
المؤلّف
نبذة عن المؤلف
عزالدين عناية، أستاذ تونسي متخصص في علم الأديان يدرّس في جامعة روما (إيطاليا). نشر مجموعة من الأعمال تتناول دراسات الأديان: “الاستهواد العربي”، منشورات الجمل، ألمانيا؛ “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، توبقال، المغرب؛ “الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن”، توبقال، المغرب؛ “الدين في الغرب”، الدار العربية للعلوم، لبنان. ومن ترجماته: “علم الأديان” للفرنسي ميشال مسلان، المركز الثقافي العربي، لبنان؛ “علم الاجتماع الديني” للإيطالي إنزو باتشي، كلمة، الإمارات العربية.
المقالة 1
مجمع الفاتيكان الثاني وحصيلة نصف قرن من العلاقات مع المسلمين
مرّت الذكرى الخمسون لانعقاد مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965)، الذي تقدّر الكنيسة الكاثوليكية أنها تصالحت بمقتضاه مع العصر. تعلّقت فقرات من مداولات المجمع بالمسلمين، وقد سال حبر كثير بشأنها. وكانت الإشارة الأولى “… بيد أن تدبير الخلاص يشمل أولئك الذين يؤمنون بالخالق أيضا، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرّحمن الرّحيم، الذي يحكم بين النّاس في اليوم الآخر” قد وردت ضمن المتن المجمعي “لومن جنتيوم”، أي “نور الأمم”، وأُقرّت في نوفمبر من العام 1964 بموافقة 2151 من رجال الدين واعتراض خمسة أعضاء؛ ووردت الإشارة الثانية في فصل “نوسترا آيتات” أي “علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية”، وقد أقِرّت في أكتوبر من العام 1965 بموافقة 1763 واعتراض 242 من رجال الدين، بعد أن انتهت إلى صيغة: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين أيضا، الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحمن القدير بارئ السّماء والأرض، ومكلّم النّاس. ويسعون بقصارى ما أوتوا لمراعاة أحكام الله، وإن خفيت مقاصده، كما سلّم له إبراهيم الذي يفخر الدّين الإسلامي بالانتساب إليه. وإن كانوا لا يقرّون بيسوع إلهاً فإنهم يجلّونه نبيّاً، ويكرمون أمّه العذراء مريم، مبتهلين إليها أحيانا بإيمان. فضلا عن ترقّبهم يوم الدّين، الذي يجازي فيه الله جميع النّاس حين يبعثون. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بأداء الصّلاة والصّدقة والصّوم. ولئن نشبت عبر الزّمن كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجْمَع يحرّضهم سويا على التغاضي عن ذلك، والعمل بإخلاص وصدق لغرض التّفاهم، وأن يحموا ويعزّزوا معا العدالة الاجتماعية، والقيم الرّوحية، والسّلام والحرّية، من أجل جميع النّاس”.
عدَّ كثيرون تعاليم المجمع ثورة بالداخل وتحولا فارقا في التعامل مع الخارج. وفي ما يتعلق بالمسلمين سننظر في المسألة وفق ثلاثة مستويات متباينة: على مستوى تواجد الأرضية المشتركة من انتفائها، وعلى مستوى العلاقة المباشرة بين الدينين في بلاد الإسلام، وبما يقابل ذلك في الفضاء الاجتماعي التابع للكنيسة. ولكن قبل الخوض في مظاهر الحراك والثبات، يجدر بنا وضع الأمور في نصابها والتنبه إلى الإطار التاريخي الذي احتضن أعمال المجمع. فعشرية الستينيات من القرن الماضي هي عشرية مضطربة، لم تبق الكنيسة في منأى من تأثيراتها. حيث مثّلت الشيوعية الخصم الاستراتيجي الأكبر لها، بما اقتضى سلوك مسلك مستجَدّ، يُخرِج الكنيسة من الصراع الثنائي معها إلى تجنيد رفقاء في تلك المعركة. ومن هذا الباب، ما عبّرَ التحول في العلاقة بالإسلام عن نضج في فلسفة الحوار، أو يقين بوحدة تراث مشترك، أو إقرار بأرضية إيمانية موحَّدة، وإنما جاء بدافع كسب حليف استراتيجي جنب الكنيسة في معركة تخشى عواقبها.
– أولا على مستوى تواجد الأرضية المشتركة من انتفائها، وبناء على روح تعاليم المجمع المشار إليه، يُفترض أن تسود رابطة جامعة بين المسيحية والإسلام قوامها الملة الإبراهيمية، تشمل الذين هادوا أيضا، بيد أن مفهوم الملة الإبراهيمية الغربي، الذي أتى في صيغة “التراث اليهودي المسيحي المشترك” قصرا، شمل اليهودية والمسيحية لا غير. فاليهود هم “الإخوة الكبار”، على حد العبارة الكنسية، بعد أن أُسقِط عنهم نعت “قتلة الإله”، في حين المسلمون هم الآخرون من “الديانات غير المسيحية”، وبما أنهم من خارج “التراث اليهودي المسيحي المشترك”، فهم من “التعبيرات الثقافية والدينية” النائية.
وإن كانت تعاليم المجمع في غاية من الجرأة والشجاعة فقد أتت الترجمة اللاحقة مخيبة للآمال، بالإيغال في استبعاد المسلمين واستيعاب اليهود. وهو ما دفع لانتقاد مفهوم “التراث اليهودي المسيحي”، بصفته إقصائيا للمسلمين، ولا يترجم بحق واقع العلاقة. يقول الأمريكي ريتشارد بوليي أستاذ التاريخ الإسلامي في مؤلفه: “الحضارة الإسلامية المسيحية”، الصادر في روما 2005: “من له دراية، ولو متواضعة، بتاريخ العلاقات اليهودية المسيحية طوال الألفيتين الأخيرتين، يدرك بيسر الطابع الهزلي لمفهوم يجمع بين تقليدين دينيين، نشبت بينهما خلافات شائكة طيلة مراحل عدة”. ويتطور الانتقاد مع الكاتب اليهودي يعقوب نوزنر في مؤلفه: “اليهود والمسيحيون.. أسطورة التراث المشترك”، الصادر في ميلانو سنة 2009، إلى ما يسفه ذلك الترابط بين اليهودية والمسيحية، قائلا: “ينبغي إدراك الديانتين كمنظومتين مستقلتين كليا، وبالتالي لا يجوز الحديث عن تولّد المسيحية من رحم اليهودية، لأن كلتا المنظومتين، في مستوى المرحلة التكوينية (القرن الثاني-القرن الرابع)، كانتا مأهولتين بلفيف من البشر مختلفين وتتحدثان عن معتقدات متباينة، ويتوجّه كل منهما إلى رهط مغاير. فالطروحات التراثية التي تعتبر اليهود والمسيحيين “أقارب” من جانب ديني هي بمثابة أسطورة، لأن كليهما يقرأ العهد القديم، لكن لكل قراءته وتأويله وخلفيته.
– ثانيا وعلى مستوى العلاقة المباشرة في بلاد الإسلام، فكما هو معروف حرصت الكنيسة الكاثوليكية في أعقاب المجمع، على التقرّب من المسلمين، دون تنقية ماضيها مما شابه من شوائب. وكانت أبرز محطات التقارب زيارات الحبر الراحل كارول ووجتيلا إلى تركيا 1979، وإلى المغرب 1985، وإلى سوريا 2001، وما تخلل تلك الزيارات من لقاءات وأنشطة مشتركة، عوّلت الكنيسة فيها على الحوار مع الإسلام الرسمي ومع الإسلام المروَّض. فاقتربت من الأزهر، ومن الزيتونة، ومن وزارات الشؤون الدينية، وتبنت المواقف السلطوية نفسها من الإسلام السياسي. ولذلك بعد أن قامت الثورات العربية، وجدت حوارها مع الآفلين وكأنه قد ذهب أدراج الرياح، فطفقت ترمم ما اعتراه من خور.
كانت الكنيسة في تلك المساعي هي من تصنع فلسفة الحوار وتحدّد مساراتها، بعد تفريغها من مضامين الحوار العقدي ومناداتها بالحوار الاجتماعي. حتى ضمنت صَمْت المسلمين عن انتقادهم المعهود “للتثليث” و”التجسد” و”التأليه”، وغيرها من القضايا الشائكة؛ رغم أنها تابعت الحديث عن “راديكالية” الإسلام، وعن انغلاقه العقدي، وحؤوله دون تحول أتباعه إلى الأديان الأخرى. والحقيقة أن المسلمين في الغرب، وهم بالملايين، لم يشهدوا موجة نكوص عن دينهم، بل راعهم تحول جموع نحو دينهم ضمّ الألوف، خصوصا في حاضنة الكاثوليكية. كان عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أليافي أبرز من رصد تلك الظاهرة في كتابه: “المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام” (روما 1999).
وأما الحوار الاجتماعي الذي تحمّست له الكنيسة ودعت إليه، فقد كان مدفوعا بإيجاد موضع قدم للكنيسة الغربية في ديار الإسلام، بعد أن خرجت آثمة ومذنبة مع الآلة الاستعمارية. وفي ظل الضجيج الحواري الذي ساد طيلة الحقبة الماضية، غُيّب جوهر الحوار الحقيقي المتلخص في ألا سبيل لحصول حوار اجتماعي بدون اعتراف تاريخي، يعقبه اعتذار رسمي عما أتاه كرادلة الاستعمار، أمثال شارل لافيجري (1825-1892م) وصحبه من “آباء بيض” و”أخوات بيضاوات”، طيلة الحقبة الاستعمارية؛ ومجزرة جامع كتشاوة في الجزائر (1932)، التي حصدت أرواح ألوف ممن اعتصموا بالجامع، احتجاجا على تحويله إلى كنيسة، في ظل ترحيب من البابا غريغور السادس عشر، ما زالت صارخة.
– ثالثا وأخيرا، على مستوى العلاقة المباشرة في الفضاء الاجتماعي التابع للكنيسة، فقد تحمست الكنيسة عقب مجمع الفاتيكان الثاني، إلى محاوَرة الإسلام في دياره لكنها أضمرت رفضه على أرضها. ذلك أن الفضاء الديني في أوروبا، وفق تقديرات ما يعرف بسوسيولوجي السوق الدينية الأمريكان، ليس فضاء حرّا. فهو خاضع للاحتكار والوصاية والتوجيه من قبل متعهّد قويّ يوجه أنشطته وفق مشيئته، يتساوى فيه البروتستانت في شمال القارة مع الكاثوليك في جنوبها. ذلك ما رصدته أبحاث دارن شركات، ورودناي ستارك، ولورانس إياناكوني، وكريستوفر إليسون، وآخرين. فلو أخذنا الفضاء الإيطالي الذي يخضع لاحتكار مستثمِر وحيد، ألا وهو الكنيسة الكاثوليكية، نرى المسلمين، رغم أنهم الدين الثاني (زهاء المليونين) ما زالوا ملغيين من خارطة الاعتراف. فحين عُرِض برنامج المصادقة على القانون العام بشأن الحرية الدينية، اعترضت الكنيسة الكاثوليكية بقوة أمام مجلس النواب الإيطالي في مناسبتين: 9 جانفي و 19 جويلية من العام 2007، على لسان المونسنيور جوسيبي بيتوري، رئيس المؤتمر الأسقفي الإيطالي حينها. ما ترتب عنه حرمان المسلمين من عائدات “ثمانية بالألف” ومن كثير من الحقوق، لعل أبرزها احتكار الكنيسة “ساعة الدين” في المدرسة، وعدم القبول بتحويلها إلى “ساعة أديان”. بما يبرز أن علاقة الكنيسة بالإسلام ما فتئت علاقة عُصابية رغم دعوات النسيان التي حضّ عليها المجمع.
وتبعا لتلك الأوضاع ليس الإسلام المهاجر في حماية الكنيسة بل هو في حماية العلمانية. لذلك نجد الملاحدة والعلمانيين والغنوصيين أقربهم مودّة إلى المسلمين من رجال الدين. فلا يستعين الإسلام المهاجر بالكنيسة، التي يفترض أنها رفيقة في الإيمان، بل يستجير بالعلمانية طلبا لعبادة الواحد الأحد.
ربما تعود حالة الفتور في الحوار الإسلامي الكاثوليكي، في أحد جوانبها، إلى غياب المراجعة والنقد لما ساد في سالف الحوارات، فضلا عن هيمنة الخطاب التصالحي على حساب المعرفي والعلمي.
المقالة 2
كلّيات الشريعة والمسيحية
يتميز الإنتاج المعرفي في الكليات الدينية في البلاد العربية بسمات جامعة، تتلخص بالأساس في تخطّيه شبه التام أوضاعه الاجتماعية والاستعاضة عنها بخطاب هائم مفارق، لا غاص في الأرض ولا تشبّث بالسماء. حتى خلّف ذلك المنهج اغترابا لافتا بين المشتغلين في الحقل الديني، تجلّى أحد أوجهه في تردّي الدراسات بشأن المسيحية.
ولا نزعم أن دراسة المسيحية مفتقدة أصلا في كلية الشريعة، بل إن الظاهر أن المنهج المتّبع عقيم لا يستجيب لمستلزمات الراهن. فلم يدرك العقل الإسلامي، في ثوبه المشيخي المتدثّر بفكر الردود وبالمنظور المستند إلى مقولات أهل الذمة، أنه ما عاد قادرا على استيعاب المسيحية الراهنة، لما طرأ عليها من تحولات.
فلا أدل على وَهَن القدرة الإسلامية في مناقشة المسيحية، وتردي الإدراك في تبين مساراتها، من اختراق الوافد الديني للحصون الداخلية للإسلام المغاربي، وتهديد موعظة المبشّر فتاوى الشيخ. ولولا تجريم ما يُسمى بالتبشير المسيحي، ومحاولة سدّ منافذ تسرّباته، وإن كان بأشكال تعيسة غوغائية، لبلغ السيل الزبى.
والجلي أن الوقائع ما كانت لتؤول إلى ما آلت إليه، لولا ضعف الفكر الإسلامي في اهتماماته بالآخر، حتى بات المفكّر يخشى المبشِّر. ففي بلاد المغرب الكبير، هناك غفلة تامة عن التعامل مع التراث المسيحي السابق، رغم أن المنطقة شهدت في سابق عهدها تطورات عميقة. كان أبرز تجلياتها الفلسفية واللاهوتية في أعمال القديس أوغسطين ابن ثاغست، سوق هراس الجزائرية اليوم. فلو بحثنا عن تراث المنطقة المغاربية المسيحي لما أسعفنا في فهمه والإلمام بحيثياته إلا إنتاج العقول الغربية، وبالخصوص العقول الكنسية. يعضد تلك الغفلة غياب عن متابعة حاضر المسيحية، سواء في وجهها الأوروبي المجاور أو الغربي بشكل أعم. فهناك نفيٌ من الذات المغاربية لتاريخها، وهناك تغييب غير مبرر لاهتمامها بالآخر الديني، تتحمل فيه الوزر أن يأتيها التحدّي من حيث لا تحتسب.
لقد استغل الفكر الكنسي الغربي ذلك الإهمال في الفكر المغاربي، حتى جلب إلى حضيرته جمع من الجزائريين والمغاربة والتونسيين، الذين باتوا يتبنون الطروحات الغربية في أن المنطقة رومانية كنسية، في سابق عهدها، وغربية الطباع والهوى في حاضرها. تطوّر الأمر في السنين الأخيرة حتى بات من يروّج للمسيحية الأوروبية بحماس مفرط، معتبرا الإسلام دخيلا وغازيا، والواقع أن تلك المقاربة يعوزها ربط الحلقة الإسلامية بسابقتها المسيحية بوعي تاريخي رصين. فعادة ما متح الناكصون من غبن نفسي وما ركنوا إلى وعي فكري في انتمائهم الجديد. وقد تجلت فطنة الكنسية الغربية أساسا في تعاملها مع اللغة الأمازيغية، إذ كانت أسبق في الإلحاح على مبشّريها لتعلّم اللهجات الأمازيغية من الزيتونة والقرويين. ليس الأمر نابعا من تثمين وتقدير لتراث المنطقة لدى الكنيسة ولكنها أدركت يُسر تحوّل الهامشي إلى حجر رأس الزاوية بعد أن نبذه البناؤون.
لقد شهد العالم تغيرات هائلة في الحقبة المعاصرة، وصار من العبث، في بلدان تدعي الحداثة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، الحديث عن صدّ “التبشير” و”التنصير” و”التمسيح”، بلغ حدّ إصدار قوانين تجرّم من يروّج لغير ما هو سائد بدعوى ثلم الوئام الديني. في الحقيقة ليست تلك الأساليب منطقية، وليست عقلية، وليست إسلامية أيضا. فهناك في البلاد المغاربية قابلية للتنصّر يغذّيها بؤس الفكر الديني الإسلامي واغترابه، وضعف التكوين الأكاديمي بشأن الآخر في الجامعات الدينية بالأساس، فضلا عن عدم التنبه للتحولات العالمية وما تتطلبه من أدوات مستحدثة. من هذا الضعف يتسرب الآخر الديني ليحاصر ويهدد ويتحدى العقل الخامل.
خلال الصائفة المنقضية التقيت، أثناء إقامتي في كل من تونس والجزائر، بباحثين في الحقل الديني. حسبتُ قبل اللقاء أن الدراسات المغتربة، التي استعاذ من مثلها سيد الخلق: “أعوذ بالله من علم لا ينفع″ قد كسدت بضاعتها مع دخول الألفية الثالثة، فضلا عن الإحجام عن البحث فيها، بموجب الزلازل السياسية التي هزّت بلاد العرب وأمة الإسلام، التي يُفترض أنها نبّهت الغافل. ولكن حديثي وسؤالي بيّنا لي خلاف ذلك، فما فتئت سوق البحث في الغيبيات رائجة وبالباحثين فيها عامرة. فـ”هاجر” تعدّ “ماستر” حول إبليس، و”رقيّة” تبحث في الطمأنينة، و”عبدالباسط” يزعم فكّ ما أشكل على السابقين في مسألة “القضاء والقدر”… بالمقابل أستذكر طلابي الإيطاليين في الدراسات الشرقية، فأجدهم، باختيارهم لا بإيحاء مني أو من زملائي، يركزون في إعداد رسائلهم على ما هو معيش. “لاوْرا” تبحث في أثر العوامل الدينية في عدم ضمّ تركيا إلى المجموعة الأوروبية، و”فرانشيسكو” يتتبع برنامج “الشريعة والحياة” في قناة “الجزيرة” بالتحليل والرصد، و”كارلا” تتناول بالمقارنة سينما الثورة الجزائرية مع سينما الجزائر الفرنسية، أي سينما ما قبل الثورة. لعله لتلك الأسباب غنم الغرب دنياه وفرّطنا نحن في دنيانا وأخرانا.
المقالة 3
الكنيسة الكاثوليكية ولاهوت التحرّر
في أعقاب تواري البابا جوزيف راتسينغر، أكان ذلك جراء إقالته القسرية أو بموجب استقالته الطوعية، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية منحى مغايرا في التعاطي مع العديد من القضايا. لم تعد الصورة الإعلامية المروَّجة للبابا الجديد صورة ذلك الفيلسوف المتجهِّم الذي يقارع فطاحلة الفلسفة (حوار راتسينغر مع هابرماس)، ولا صورة ذلك المتهجِّم على الأديان الجامحة (قدح راتسينغر في الإسلام في راتيسبونا)، ولا أيضا ذلك المشهِر سيف الحرمان في وجه كل من تسوّل له نفسه بشقّ عصى الطاعة عن روما (حِرْم لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية). غدا البابا في نسخته الجديدة بشوشاً وديعاً عطوفاً، متقفّيا أثر البساطة الإنجيلية؛ لكنها بساطة تبدو رهينة الميديا ومن صنعها، ما قد يضفي على ذلك المسلك طابع الرياء، الذي طالما حذّر منه المسيح (ع) في تقريعه للمرائيين.
ولكن بعيدا عن التصنيع الحثيث للصورة الإعلامية للبابا، يدرك المتحكمون بمصير الكنيسة أن مجال البابا السابق المحبَّذ كان الصراع الدغمائي العقدي، وهو ما وزّعه بالتساوي على المسلمين والعلمانيين. ومع البابا الحالي هناك رغبة في التخلي عن ذلك التهوّر، وسعي لقلب ذلك المسار وتحويله إلى تناصت وتثاقف. ربما من يتابع غزل الحوار الجاري في إيطاليا هذه الأيام، بين أحد كبار العلمانيين اللاّأدريين، الصحفي أوجينيو سكالفاري، والبابا فرانسيس، يعي هذا التحوّل السلس في استراتيجية الكنيسة، طمعا في إصلاح ما أفسده راتسينغر.
لكن لِنسلّط الضوء على مسألة المصالحة في مجال محدد، مع لاهوت التحرر، لماذا يأتي هذا الخيار في الظرف الراهن؟ في الحقيقة ثمة تهديدٌ واضحٌ للكاثوليكية في جنوب القارة الأمريكية متأتّ من التيارات البروتستانتية الناشطة، ومن الجماعات الإنجيلية تحديدا. ما عادت الكنيسة التقليدية في نسختها الرومانية قادرة على صدّ الزحف، بعد الاكتساح الهائل لجنوب القارة من قِبل الكنائس العملاقة –megachurch- الوافدة من الشمال، من أمريكا، بكافة عتادها وتحفزها. فبعد أكثر من أربعة عقود من مناهضة روما للاهوت التحرر، واتهامه بالنزعة اليسارية والماركسية، تبين لها أنها أخلت الساحة إلى غيرها. فلاهوت التحرر لم يتنكر يوما إلى عمقه الكاثوليكي، لكنه رفض إلحاق المسيحية بالآلة الرأسمالية. كما أن لاهوت التحرر ليس بناء نظريا صيغ على الطاولة، بل هو لاهوت سِياقي وليد أوضاع أمريكا الجنوبية، وهو كذلك تقريع أخلاقي ونقدي للرأسمالية بصفتها نظام حيف وجور، وبصفتها شكلا من الخطيئة البنيوية. إغناسيو إلاّكوريا أحد منظري لاهوت التحرر يتحدث عن “شعوب بأسرها مصلوبة”. صحيح أن لاهوت التحرر لم يناصب الماركسية العداء، وإن مثلت أحرج المسائل المطروحة في القرن العشرين أمام المسيحية، ولكن الليبرالية الجديدة، بالنسبة إليه، أكبر فضائح القرن الواحد والعشرين، لأن “كل التقدم الحاصل في العالم لا يساوي آهة من آهات امرئ جائع” على حد قول ديستوفسكي.
فمن “مجلس مراقبة العقيدة” الذي تولى مهامه جوزيف راتسينغر، حين كان كردينالا وقبل اعتلائه سدة البابوية، تسلّط الحرمان على كثير من رموز لاهوت التحرر، لعل أبرزهم البرازيلي ليوناردو بوف؛ من ذلك المجلس أيضا تأتي المصالحة، بسعي من جرهارد لودفيغ مولر رئيسه الحالي. فبعد أن كان اللاهوت الثوري مُدانا بدا على لسان مولر “من أهم اللواهيت الكاثوليكية في القرن العشرين”.
خلال شهر سبتمبر المنقضي أفردت “الملاحظ الروماني”، صحيفة حاضرة الفاتيكان، صفحات عدة للحديث عن هذه المصالحة، بعد خمس وأربعين سنة من الخصومة مع روما، أي منذ انعقاد مؤتمر 1968. فمع البابا فرانسيس، ثمة نية بين صنّاع القرار في الفاتيكان لإقرار خطاب تعدّدي متنوع داخل الكنيسة، بعد التصلّب الذي ران. تم الاحتفاء بهذه المصالحة عبر مؤلف مشترك بعنوان: “في صفّ الفقراء. لاهوت التحرير، لاهوت الكنيسة” (2013) لرئيس “مجلس مراقبة العقيدة” جرهارد لودفيغ مولر واللاهوتي البيروفي غوستافو غوتيراز، أحد الآباء المؤسسين للاهوت التحرر، ليختتم الاحتفاء باستقبال غوتيراز من قبل البابا فرانسيس في الحادي عشر من سبتمبر.
ولكن لفهم الخيار الحالي للبابا، لا بد من وعي الصلة التي ربطت الرجل بلاهوت التحرر. بدءا، فهذا اللاهوت هو حركة واسعة، وهو بالفعل لواهيت شتى تتوزع على بلدان عدة، مثل الأرجنتين والبيرو والبرازيل والسلفادور والشيلي وكوستاريكا والمكسيك والأوراغواي. وما “لاهوت بويبلو”، الذي انتمى إليه برغوليو (فرانسيس) بزعامة مؤسسه لوشيو جيرا، سوى فصيل من هذه الحركة الواسعة. فقد أصرّ لاهوت بويبلو على خيار موالاة الفقراء، وإن كان على حذر من تحويل الكنيسة إلى مجرّد وكالة للخدمة الاجتماعية. وضمن ذلك التنوع الذي ميز لاهوت التحرير يندرج انضمام الكردينال برغوليو، الذي بات اليوم البابا فرانسيس؛ لكنه ينحو منحى التحليل التاريخي الثقافي، بدل التحليل النقدي البنيوي ذي النزعة الماركسية. وطبيعي أن ينزع البابا الحالي هذا المنزع، وهو المتحدر من بلد تتجاوز فيه أعداد الفقراء، أو بالأحرى المفقَّرين، 30 بالمئة.
لاهوت التحرير دعا روما، منذ أمد، إلى المصالحة مع ذاكرة جنوب أمريكا (مراجعة تاريخي الاستعباد والاستعمار وتورّط الكنيسة في الإثمين)، وإلى الخروج من معايير المسيحية الغربية المرسملة. لأنه ليس بمقدور المرء أن يكون مع الفقراء ما لم يكن مناهضا للفقر، على حد قول بول ريكور. إذ مناهضة الفقر ليست فورة حماس ديني خاطف، بل هي معرفة ببناه الاقتصادية والثقافية وبالأدوات المولدة له.
في الكتاب الذي سبق ذكره يشنّ شيخ لاهوت التحرر غوستافو غوتيراز حملة شعواء على العولمة، التي تبدو بريئة، وهي تستبعد السواد الأعظم من البشر من المنافع الحاصلة، بعد أن حوّلت الملايين إلى كائنات “جيتابل”، “استعملْ وارْمِ”. فحالة التفقير اليوم –وفق غوتيراز- بمثابة الوثنية الجديدة التي تستدعي تأملا لاهوتيا صادقا، بصفة اللاهوت هرمنوطيقيا أمل.
المقالة 4
استراتيجية الكنيسة الغربية في بلاد المغرب
تجربة الحوار الكاثوليكي مع البلدان المغاربية تجربة متفرّدة، من ناحية تعويل الكنيسة على نتائجها ومقاصدها، ما جعل تلك التجربة واعدة من طرف واحد. فالطرف المغاربي، المفتقد لاستراتيجية علمية أو دينية، قد جُرّ جرّا إلى ما يسمّى بالحوار، على مدى أربعة عقود. ولم تنبع المثاقفة من مطلب أكاديمي أو استعداد مؤسّساتي له، بل كانت استجابة للمواكبة والمجاراة. كان أوج تلك المثاقفة بتأسيس مجلة “إسلاموكريستيانا” المسماة بـ”إسلاميات مسيحيات” سنة 1975، بإشراف وتسيير لاهوتيين من الآباء البيض. حُشِدت لها طائفة من الجامعيين من تونس بالخصوص، بغرض صنع وعي ديني ليّن وطيّع. غير أن الآباء البيض، الذين ارتبط منشأهم ودورهم بالكنيسة الاستعمارية، لم يوفّقوا في تجاوز الحوار العُصابي مع الإسلام، عبر ذلك التجمّع، الذي سعوا في تشكيله.
كان الطرف المغاربي ولا يزال، يحسب الدخول في حوار مع الكنيسة “جلسة شاي”، يعرب فيها عن اعتداله وسماحته وتقبّله للآخر، يَجري فيها حديثٌ عن الأخوة الإنسانية ووحدة العائلة الإبراهيمية. ولم يُدرَك حتى الراهن أن الكنيسة الكاثوليكية، لا تزال تنظر بعين الغيرية للإسلام والمسلمين، وأن الجامع الذي يجمعها أساسا هو بأتباع التوراة، بناء على مفهوم “الإخوة الكبار”، الذي اصطنعته وأزاحت منه الطرف الإسلامي، متجاوزة في ذلك الواقع الإناسي والأصول اللاهوتية في الدينين، فضلا عن التأسيس التوراتي “لأباركنَّك –إبراهيم (ع)- وأكثرنّ ذرّيتك فتكون كنجوم السماء وكرمل شاطئ البحر، وترث ذريتك مدن أعدائها” التكوين (22: 18).
لمتسائل أن يسأل عن مغزى التقارب الكاثوليكي من الإسلام المغاربي، أو بعبارة أدق مفاوضاته، التي لا يخفى ما ترنو له من استعادة للمواقع القديمة بعد رحيل الكنيسة الاستعمارية؛ وأرض المغرب تخلو من أهالي أصليين مسيحيين، وحتى إن تواجد أنفار من الناكصين مع تحوّلات العقود الأخيرة، فإن الكنيسة لا تجرؤ على عرضهم وخوض الحوار باسمهم ولأجلهم؟ فقد سعت الكنيسة لتقريب المسيحية من الأهالي، لاستبدال وكلائها في بلاد المغرب برجال دين مسيحيين عرب، المطران مارون لحام أسقفا في تونس، خلف الأسقف فؤاد طوال، وغالب بدر أسقفا في الجزائر، بدل الفرنسي هنري تيسيي. كل ذلك لإخفاء الطابع الغربي عنها، وتيسير تمرير الحوار التفاوضي عبرهم، الذي يدور حول نقطة محورية تدعو لانفتاح الواقع المغاربي، في تشريعاته وواقعه بحسب ما ترنو له الكنيسة، لا الحوار المعرفي.
فالجانب المغارببي يرى أن حرية التديّن مصونة ومتضمَّنة في التشريعات، غير أن ذلك الاستيعاب والاحتضان، بحسب الرؤية الكنسية، غير كاف. وعادة ما يتلخص المطلب الكنسي في الدعوة إلى المناداة بحرية دينية أوسع وأبعد غورا، تبلغ أقصاها في مطلب حرية الانقلاب الديني. بعبارة جليّة، ترك الخيرة للمغاربي أن يبدّل دينه ويدخل في المسيحية بكل أريحية، هذه النواة اللاهوتية الأساسية للحوار مع الإسلام المغاربي. وفي مقابل ذلك تُنتَقَد التشريعات السائدة، والتوجهات الدينية، بأنها تتهدّد وتتربّص بمن يجرأ على تجاوز الأمر السائد. كما جرى ذلك أثناء شن حملة على الجزائر خلال العام الماضي، على إثر محاكمة شبّان جزائريين اتهموا بأنهم بدّلوا دينهم، أو لدى إصدار محكمة وهران حكما يقضي بسجن المبشر الكاثوليكي الفرنسي بيار والز، لممارسته أعمال منافية للقانون. كما تحاول الكنيسة أن تبرّر حضورها في البلدان المغاربية، من خلال التعلّل بالخدمة الاجتماعية، بين المسلمين، وهو مبرّر صادق أحيانا، في بلدان ما زالت تعاني الفقر والخصاصة، على المستويات الاجتماعية والصحية والمعرفية؛ وتتعلّل كذلك بحجّة تقديم خدمات تربوية ودينية للمسيحيين المقيمين أو العابرين، الذين لا يجدون احتضانا في أداء شعائرهم. والواقع أن المسألة أعقد مما يُتصوَّر، فحاجة المسيحيين الأجانب إلى دور عبادة، في البلدان المغاربية، هو مطلب غير واقعي، فلو أخذنا تونس مثلا، التي زارها خلال العام 2008 أكثر من سبعة ملاييين سائح، جلّهم من المسيحيين، ويقطن بها زهاء الخمسة وعشرين ألف كاثوليكي، من أصول أوروبية، فإن أماكن عبادتها الكاثوليكية، البالغ عددها 12 كنيسة، هي مزارات سياح وليست دور عبادة، ويمكن التثبت من ذلك مثلا من خلال رصد أعداد المشاركين في القدّاس في الكاتدرائية الكبرى في العاصمة. فنسبة المسيحيين الممارسين للشعائر في تونس هي نسبة متدنّية جدا، تقلّ عن اثنين بالمئة، من العدد الجملي للكاثوليك المقيمين بالبلد، ناهيك عن نسبة المحافظين على الشعائر الدينية من السياح العابرين، الذين يأتون للمتعة والاستجمام، ولا يبالون بالحفاظ على الشعائر.
ولكن المغزى الرئيسي للكنيسة يبدو متجاوزا لهذا وذاك، عمل الإحسان الموجَّه للمسلمين أو الخدمة الطقسية الموجَّهة للمسيحيين، إلى هدف استراتيجي، وهو بناء جسور تغلغل في تلك المجتمعات، تطمح إلى الإلمام بسير شؤون الحياة، ومنها الاندساس في التأثير على بعض قطاعاتها الهشة، كالادعاء تارة بخدمة القطاع النسوي، المهضوم الحقوق، أو العناية بالأقليات والشرائح المتدنّية الحظوظ، المهملة من طرف السلطة المركزية أخرى. فتحاول الكنيسة الاقتراب من الكتّاب والصحفيين المغاربة الذين يحملون رؤى مغتربة عن الإسلام، ونعني بذلك الذين لهم ميولات فرنكفونية في قراءة التاريخ والوجود الإسلاميين، أو الذين يقترحون حلولا اجتماعية وسياسية غربية للخروج من مآزق الاجتماع المغاربي، يفتقدون فيها لرؤى معايشة ونقد للغرب أو للكنيسة. فتدنو منهم الكنيسة بالقدر الذي ينتقدون به الأوضاع الدينية في المغرب العربي أو العالم الإسلامي. خصوصا إذا ما كانت تلك الانتقادات تخدم المصالح الغربية، أو تعاضد المصلحة الاستراتيجية للكنيسة. فيجدون الترحيب من المؤسسات الكنسية، ويُدعَون للمشاركة في الملتقيات في الغرب لشرح رؤاهم على منابر الجامعات والترويج لها، ويُعرَضون بوصفهم يمثلون الإسلام المعتدل والمتنوّر والديمقراطي والعلماني.
عادة ما تحوز الجزائر المثل السيء، لدى رجال الدين الكاثوليك، عند حديثهم عن أوضاع المسيحيين في بلاد المغرب، وغالبا ما يتناول الحديث أمرين: عدم توفّر أماكن عبادة بالقدر الكافي في هذه البلدان، وعدم تواجد مناخ لحرية النكوص عن الإسلام. مفّسرين الأمر بأن السلطات في تلك البلدان تخشى تعاليم الإنجيل، ولذلك لا تسمح بحضور مبشّرين بين ظهرانيها، والواقع أن الناس لا يبالون بذلك الوعظ، بل ينجذبون لسراب حياة الدعة الخادعة في الغرب. ولذلك لم نسمع عن ناكص بدّل دينه، بلغ درجة معرفية عالية في التعمّق في المسيحية، بل ما بلغ مسامعنا هو تهافت بسطاء من العامة، ممن جثّته في الشرق وروحه في الغرب.
تاريخ الكنيسة الغربية في البلاد المغاربية تاريخ إشكالي، لعل أصدق خطوات تنقيته، البدء بتلمّس الصفح عما اُرتكِب من انتهاكات في سابق عهده. لعل أبرز تلك الأحداث واقعة جامع كتشاوة بالجزائر سنة 1932م، التي ذهب ضحيتها زهاء أربعة آلاف من المعتصمين بالجامع، احتجاجا على قرار تحويله إلى كنيسة. والتي خلّدها شاعر الثورة مفدي زكريا بقوله:
وجامع كتشاوة المستعا د، ما انفك رمزا لإجلالنـا
وهل لافيجيري وطول الســنين استطاع المروق بأطفالنا؟
ومهما يقيمون فيه احتفالا فقد عاد يهفو لأكبادنا.
المقالة 5
الكنيسة و”حركة النهضة”: عفا الله عمّا سلف
تبدو الكنيسة في تونس، التي ينطبق عليها بحقّ نعت الكنيسة العابرة جراء التبدّل الدائم لرأسها ولقاعدتها، قد تخطّت مرحلة التوجّس، بعد أن مرّ زهاء العام على تسنّم “حركة النهضة” ظهر السلطة في تونس. فبعد أن أدمنت الكنيسة ريبة من بلوغ حزب إسلامي مقاليد الحكم، وعملت على إشاعة تلك الريبة في الغرب، ها هي تتخلّص من مخاوفها، وتشهد تغيرا في الخطاب يتجه نحو الرصانة، بعد تبنّيها طويلا رؤية التقتْ فيها مع مقول نظام بن علي. مع أن الكنيسة في تونس لم تشهد أي مظهر من مظاهر التلاسن أو التصادم، مع الحركة الإسلامية في تونس، أو مع رموزها، بشأن قضية مّا، منذ مطلع السبعينيات، تاريخ طفْو تلك الحركة على الساحة.
ويمكن القول إن الكنيسة في تونس، التي تأتمر بأوامر المؤسسة الأم حاضرة الفاتيكان، قد اتخذت موقفا نافرا مبكرا من الحركة الإسلامية في تونس، تجلى بالخصوص في النأي عن رموز حركة النهضة، طيلة العهد الدكتاتوري. فمثلا لم تدع أي من رجالات تلك الحركة إلى مؤسسات الكنيسة العلمية أو منابرها الأكاديمية في روما، مثل “المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية” التابع لتنظيم الآباء البيض، للحديث عن المسألة الدينية في تونس، رغم حرص الآباء البيض على تمتين صلاتهم بالأكاديميين التونسيين، أكانوا من مجموعة “إسلاموكريستيانا” البائدة أو مع مجموعة أساتذة الزيتونة النوفمبريين.
وحتى تتضح الصورة أكثر، ما هي أهم مفاصل النشاط الكنسي في تونس؟ تنتظم علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالجمهورية التونسية وفق اتفاقية “modus vivendi” التي تنظّم علاقة حاضرة الفاتيكان بتونس، في بلد يبلغ عدد الكاثوليك المقيمين فيه في الوقت الراهن 22 ألف نفر، جلّهم من الأجانب يتوزعون بين ستين جنسية. كما توجد على التراب التونسي أبرشية واحدة على رأسها أسقف وحيد، يسنده 40 قسّا، وتعضدهم أكثر من 100 راهبة. ليس هناك قساوسة من أصول تونسية ولكن هناك ثلّة من العرب، وأما باقي القسّيسين فهم أوروبيون. ويبلغ عدد الراعويات 11 راعوية، أربع منها متواجدة في العاصمة. وبشكل إجمالي تتوزع الخدمات التي تقدمها الكنيسة بين مشفى في العاصمة وعشر مدارس كاثوليكية خاصة، يؤمها ستة آلاف تلميذ مسلم من أبناء العائلات الميسورة لا من ذوي الفاقة.
في مطلع صائفة 2012، يومي 18 و 19 جوان، انعقد المؤتمر السنوي لمركز الواحة الكاثوليكي في تونس تحت شعار: “الدين والمجتمع في مرحلة انتقال، تونس تسائل الغرب”، وقد هدف المؤتمر الذي جرى في أجواء مغلَقة إلى متابعة مسارات التحول العميق في تونس. شارك فيه رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، وعن حركة النهضة كل من العجمي الوريمي ورياض الشعيبي، إلى جانب مدعويين تونسيين آخرين. أعرب المؤتمرون الكاثوليك عن انشغالهم بمجريات الأحداث في تونس وحرصهم على متابعة تطوراتها عن كثب. ولأن المؤتمر وقع في ظل حكومة يغلب عليها الطابع النهضوي، يمكن القول إن المبادرة كانت للنهضويين في احتضان الكنسيين بعد سنوات من الجفاء والقطيعة، رغم أن المؤتمر كان متواضع النتائج بما هدَفَ إليه بالأساس لتبادل الآراء، حيث تحدث فيه كل من منظوره عن مستقبل تونس.
وقد جاء مؤتمر الواحة في أعقاب انعقاد اللقاء السنوي لمجلس أساقفة شمال إفريقيا في تونس، للتباحث بشأن الأوضاع الاجتماعية والسياسية للبلدان المطلة على أوروبا. بمشاركة أساقفة من تونس والجزائر والرباط ونواكشوط والقاصدين الرسوليين بطرابلس وبنغازي، فضلا عن أسقف مازارا دِل فالّو في صقلية. ففي بلاد المغرب الكبير يعيش زهاء الخمسين ألف مسيحي، السواد الأعظم منهم من الرعايا الأجانب.
لقد ميزت سمتان بارزتان تاريخ الكنيسة في تونس في الزمن المعاصر: الصمت أمام الطغاة –كما كان الشأن مع زين العابدين بن علي- تحت مبرر التزامها بـ”دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فتغاضت بشكل مفزع عن انتهاكات النظام البائد؛ وفي الآن نفسه المساهمة الفعّالة في نشر الرعب في الغرب من الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه النهضة، إلى أن جاء الفرز من الغرب العلماني، الذي جرّ الكنيسة للتحول. ربما كانت تنقص الكنيسة شجاعة الوجود لتجاوز إرث الدهور. وحتى نيافة الأسقف الأردني مارون لحام، الذي تفاءل كثيرون بتقليده مهام الكنيسة في تونس في العام 2005، غرّته تلك الأجواء وأخطأ التقدير في قراءة مستقبل تونس. ففي مقال منشور له في مجلة “ميسيوني أوجّي” الإيطالية (التبشير اليوم) عدد فبراير 2008 ورد ضمن قوله: “لو ارتقى حزب إسلامي سدة الحكم [في تونس] فسنعود خمسين سنة إلى الخلف، لذلك نعيش بذلك الخوف حيث لا ندري ماذا سيحدث بعد”. لكن مما يلاحظ أن تصريحات غبطة المطران قد باتت أكثر اتزانا عقب الثورة، وأعلى جرأة في التصريح بمواقفه وواقع كنيسته، مثل ما ذكره عن عدد المتحولين التونسيين إلى المسيحية بين ثلاثة وأربعة أنفار من البالغين سنويا، يُعمّدون وفق الطقس الكاثوليكي.
يبدو الطريق طويلا أمام الكنيسة في تونس لتتصالح مع هوية هذا البلد، ففي القرن الحادي عشر حين هاجم النصارى النورمان تونس، قادمين من صقلية، كان الصد لهم مسيحيا ومسلما من المهدية (ما فتئ الجنوب التونسي حينها مأهولا بالمسيحيين). فهل تستطيع الكنيسة في تونس أن تبتعد قيد أنملة عن استراتيجية الكنائس الغربية وتكون كنيسة عربية؟ ربما يكون ذلك متيسرا “لو كانت الثقة في الله أكبر”، على حد قول القديس أوغسطين.
المقالة 6
سانت إيجيديو.. الذراع العلمانية للكنيسة
يوم أطلّت جماعة سانت إيجيديو الكاثوليكية في الساحة الإيطالية في السابع من فبراير 1968، كانت عبارة عن فصل جديد من فصول الأصولية المسيحية التي تمور بها الساحة الدينية في أوروبا والأمريكتين. في تلك الحقبة كان قد ألمّ بالمحرك الديني الرئيس في روما، شيء من العطل وباتت تعوزه المبادرة التاريخية، جراء غلبة الطابع التقليدي والمحافظ عليه. تلخّص ذلك العطل في عدم قدرة الكنيسة على التلاؤم مع تحولات الناس، على غرار تواصل تحريمها للطلاق، وموقفها المناهض لمساواة المرأة مع الرجل في الترقي الكهنوتي، وهو ما لا يزال جاثما على صدر الكنيسة حتى اليوم. لم تجد كنيسة روما سبيلا للخروج من مأزق التأقلم مع الحداثة سوى التعجيل بعقد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) في محاولة لمواءمة رسالة الدين مع روح العصر والبحث عن مصالحة مع الزمن، بقصد الإمساك بمجريات الواقع الديني الذي بدأ ينفرط عقده وما عاد للبابا سلطان عليه.
لم تضع تلك العملية الاستباقية حدا للأزمة الدينية المستفحلة. وجاءت أبرز الانشقاقات حينها من جنوب العالم، مع انعقاد التجمّع الأسقفي بمادلين في كولمبيا سنة 1968م، وبروز تيار لاهوت التحرر، الذي جنح نحو الانتقاد الجذري للكنيسة وإلقاء اللائمة عليها لانخراطها في لعبة الرأسمالية الجشعة، لكن روما لم تجد سبيلا سوى رفع سوط الحرمان وعقد المحاكمات لمواجهة عصاة لاهوت التحرر، أمثال غوستافو غوتيراز وليوناردو بوف. تبدو هذه المقدمة ضرورية حتى نضع جماعة سانت إيجيديو داخل إطارها التاريخي. فالجماعة اختارت منذ البدأ موالاة الكنيسة، رغم سعيها الحثيث لتأسيس حيز نشاط اجتماعي-سياسي-ديني خاص بها. فحين أقدم أندريا ريكاردي، المتحدر من عائلة بورجوازية وابن مدير البنك، سنة 1968، على بعث جماعة سانت إيجيديو رفقة ثلّة من دعاة الانبعاث الكاثوليكي، كان يحدوه أمل لتغيير المجتمع بواسطة الإنجيل. وكان قد راكم خبرة طيلة مشواره النضالي الديني تحت تنظيم “جوفنتو ستودينتيسكا” (الشبيبة الطلابية) الذي أسسه الأصولي الإيطالي لويجي جوساني. وبفطنة قيادية تنبه ريكاردي مبكرا إلى أفول عصر “الديمقراطية المسيحية”، حزب الكنيسة العتيد الذي تربع على المسرح السياسي الإيطالي على مدى عقود.
فقد بدأ يخيم تململ في أوساط النخبة الكاثوليكية على مصائر السياسة المتديّنة. وكانت الحاجة ماسة إلى تواجد هيأة مسيحية المنشأ وعلمانية المنشط، تتولى الشأن العلماني بمرجعية كنسية، وتكون واسطة مع الداخل والخارج، لكن ذلك الأمر لن يتأتى بلوغه سوى باستقطاب رموز سياسية وفكرية ودينية وحشرهم في بوتقة موحَّدة. هذا الدرس التقطه مؤسس سانت إيجيديو وحوله إلى واقع فعلي داخل أخويته، فشرع باستقطاب المتنفذين والفاعلين إلى صفّه، لعل من أبرز الوجوه وقتها -1975- الكردينال مارتيني عميد الجامعة الغريغورية الحبرية.
في الحقيقة لم يبدأ الظهور الفعلي لسانت إيجيديو في الساحة الإيطالية سوى مع حلول العام 1973، بعد أن غنمت الجماعة مقرا لها في دير تابع للرهبنة الكرملية في المدينة العتيقة في روما، وشرعت في إسداء خدماتها الاجتماعية للمهمَّشين، مع الانحياز يسارا في السياسة الإيطالية، وهو ما جعل صحيفة “الجورنالي” تتهم الجماعة بالسعي لتشكيل لوبي أحمر موظِّفة ما تسديه من خدمة للمعوزين.
لكن هذا الانفتاح الاجتماعي على الخارج لم يحُلْ دون الانغلاق الدغمائي لسانت إيجيديو، فالجماعة تنطبق عليها مواصفات النِّحْلة الباحثة عن نقاوة طوباوية، والقُدّاس الذي يُعقَد عشية السبت في كنيسة الجماعة يبقى مغلقا في وجوه الغرباء ولا يرتاده سوى الأتباع. ما دفع الكنيسة إلى التدخل ومنع ريكاردي من تقديم العظة بدل الراهب المكرَّس. وتحذيره من مغبة إلحاق تحويرات بالليتورجيا، بعد أن بدأت الجماعة تضيف من وحيها طقوسا شرقية.
لكن إلى جانب انشغال سانت إيجيديو بالمهمَّشين في الداخل، أوْلت اهتماما بالغا للوساطة “الدبلوماسية الصامتة” لحل النزاعات في بلدان العالم الثالث أيضا، بحثاً عن دور في الساحة الدولية، لا سيما وأن العصر تجاوز التبشير بالإنجيل وغدا التبشير بأدوات مستجدة فاعلة في السياسة الدولية.
صحيح أن الجماعة كانت تتدخل بين الصغار وتخشى الكبار، لكن ذلك راكم لديها خبرة عالية تطورت مع السنين. وكان لا بد في هذا المسار من مباركة علنية من الفاتيكان نالتها مع العام 1986. واستطاعت أن تحافظ على ذلك الوجه العلماني في الخارج والكاثوليكي في الداخل. باتت الجماعة تربطها علاقات وثيقة بالمتنفذين تحت قبة بطرس، وتراجعت الخشية من تشكّل كنيسة داخل الكنيسة. وأمام براعة الوساطة الدبلوماسية التي صارت بحوزة سانت إيجيديو، ولا سيما في العالم الثالث، لم تر كنيسة روما مانعا في تكليفها بتنظيم ملتقى أسيزي الشهير الذي حشدت له جملة من قادة أديان العالم، نالت على إثره الجماعة لقب “أمم المتحدة الفاتيكان”. وقد كان اللقاء فرصةً ناجحة لترويج رسالة الكنيسة وأسلوباً مستحدَثاً للتبشير بالإنجيل، في وقت كان فيه البابا الراحل كارول ووجتيلا مهووسا بالظهور الإعلامي.
توالت عمليات الوساطة للجماعة في البلقان وبوروندي وغواتيمالا وساحل العاج وليبيريا، وكان الإنجاز الكبير لسانت إيجيديو في حل مسألة الصراع الدائر في الموزمبيق وتوقيع معاهدة السلام في روما بين الأطراف المتنازعة (1992). وأبرز ما تم من الجانب العربي، ترتيب لقاءات للقيادي الإسلامي حسن الترابي مع الزعيم جون غارنغ، بقصد تسوية المسائل العالقة بشأن جنوب السودان. وتوقيع وليد جمبلاط والبطريرك الملكاني مكسيموس الخامس اتفاقا (سنة 1982) بشأن مسيحي قضاء الشوف في لبنان.
غير أن فشل مبادرة رعاية الحوار المتعلق بالجزائر، إبان العشرية السوداء، يوم قالت الجزائر كلمتها لا للتفاوض في ظل الصليب، كان ضربة موجعة لسانت إيجيديو. في وقت كانت فيه الجماعة حريصة على خلق شخصية اعتبارية تغدو بموجبها نافذة في الساحة الدولية. والحال أن القضية الجزائرية حينها ما كانت سوى درجة في السلّم تودّ سانت إيجيديو تخطّيها أو الصعود عليها إلى أعلى.
لا يزال دأب الجماعة اصطياد المتنفذين، أكانوا عاملين في المؤسسات الإعلامية، أو ناشطين في الأحزاب السياسية، أو أشخاصا مؤثرين في السياسة الدولية، وتحرص على جلبهم إلى روما وإدخالهم دير تراتستيفيري. لكن من يهوِي منهم يقلّ مجيئه، وتلك حال الشيخ حسن الترابي من الجانب العربي، ناله حظٌّ عظيم وزار قداسة الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني، غير أنه منذ أن صار من رواد السجون قلّ عبوره من روما، فالجماعة لا تحبّ الآفلين.
المقالة 7
الساحات عامرة والكنائس خاوية
بموجب سكناي في روما في حي شعبي متاخم لحاضرة الفاتيكان، اعتدت أن أتوجّه صبيحة أيام الآحاد وأيام الأعياد إلى ساحة القدّيس بطرس في روما في جولة روتينية، رفقة أفراد عائلتي أو بمفردي، فأصغي إلى ما تيسّر من عظة البابا، وأتمعّن في الحشود الآتية من كل فجّ عميق، ثم أعرّج باتجاه المسرح الروماني، لأزور موضع المعتقَل الذي هلك فيه النوميدي يوغرطة. غير أن ما يسترعى انتباهي مع كل جولة، قلّة الزوار في ساحة القدّيس بطرس، كبرى ساحات الكاثوليكية في العالم. فعادة ما يتوافد الزوار بالألوف عند أداء قداس يوم الأحد، لكن كثيرا ما صادف أن لاحظت الساحة مقفرة على غير عادتها، خالية من الوفود الحاشدة، إلا بضعة مئات من الحضور، فقد تمثّل لي البابا يعظ التماثيل والأوثان التي تزدحم بها الساحة لا المؤمنين برسالته.
والواقع أن تقلّص أعداد الوفود التي تفد على ساحة القديس بطرس، انطلق منذ اعتلاء البابا جوزيف راتسينغر كرسي الحبرية في 19 أبريل 2005. فقد قُدِّر التراجع على مدى السنة الماضية بما يربو عن نصف مليون، وهو نزيف هائل في أعداد القادمين إلى كنيسة القديس بطرس، كنيسة البابا، ذلك ما تجلّى بحسب المعلومات الرسمية الأخيرة الصادرة عن القصر الرسولي بالفاتيكان. فخلال العام 2008 توافد على اللقاءات العامة مع البابا، سواء في كنيسة القديس بطرس أو في كاستل غاندولف، مقرّ الإقامة الصيفية للبابا في ريف روما، مليونان ومئتا ألف من الزوار والأتباع والحجيج. ولتتضح الأمور بشكل أفضل، يستدعي الأمر العودة إلى أرقام السنوات الماضية. فخلال الاثني عشر شهرا الأولى من حبرية راتسينغر توافد للاستماع لعظة البابا أكثر من أربعة ملايين شخص. تراجعت أعداد الوافدين على الساحة للعام الثاني على التوالي، من مليونين وثمانمئة ألف سنة 2007 إلى مليونين ومئتي ألف خلال العام 2008، وقد كان العدد خلال العام 2006 زهاء ثلاثة ملايين ومئتي ألف.
الملاحظ أن حشود الوافدين الكاثوليك على ساحة القدّيس بطرس، تأتي أساسا بغرض زيارة ضريح البابا السابق كارول ووجتيلا، وليس انجذابا إلى عظة البابا راتسينغر. وهو ما يدعمه إقبال الزوار والسياح على اقتناء البطاقات البريدية، والروزنامات، والألبومات، التي تضمّ صور البابا السابق أكثر من اقتناء مثيلاتها التي يرد فيها البابا الحالي.
تفوق أعداد الكاثوليك المليار ومئة ألف نسمة، لكن هذا العدد الهائل ما عاد يحفزه الانجذاب الكافي إلى رأس الكنيسة في روما. لا بد من النظر إلى هذا التراجع ضمن بعدين: الأول ماكرو مسيحي، ونعني به التراجع العام للمسيحية في الغرب وتطوّرها خارج الغرب، خصوصا في إفريقيا، حيث تضاعف العدد ثلاث مرّات خلال ربع قرن، وهو الازدياد الأكثر ديناميكية في العالم الكاثوليكي. كان العدد خلال 1978 55 مليونا تقريبا، وبلغ مع حلول 2004 149 مليونا؛ والثاني ميكرو مسيحي، وهو فقدان رجل الدين الكاثوليكي لدوره الروحي في المجتمع، وتحوله إلى حرس لنظام اجتماعي ليبرالي، فما عاد المؤمن يعنيه احتكار الكنيسة للقداسة في زمن ما بعد الحداثة.
ففي قارة عتيقة، صارت حتى الكنيسة عتيقة، أو بالأحرى في قارة هرمة غدت حتى الكنيسة هرمة. فالأب المقدّس، أو الحبر المقدّس، أو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، أو خليفة المسيح، بحسب نعوت المؤمنين له هو ظلّ الربّ على أرضه، غير أن هذا التجلي ما عاد يجلب المؤمن، فأين الخلل؟ ثمة من يفسر ذلك الأمر بمحدودية كاريزما راتسينغر، وقلة شمائل جذبه، التي تمتد من لسانه الإيطالي الركيك، رغم مضي ما يناهز ثلاثة عقود على عيشه في إيطاليا، إلى ما يميزه من خجل مفرط.
قد تكون تلك من جملة العوامل التي تنفر الناس من راتسينغر، ولكن ما العوامل التي تجعل المجتمع ينأى عن الكنيسة، وبالمثل تبتعد الكنيسة عن المجتمع؛ أو بحسب القول الشائع الذي يلخص النزيف المتواصل: “الساحات عامرة والكنائس خاوية”؟ يحصل ذلك حين تتحول الأديان إلى هياكل تفتقر للروح، حين يصير المعبد أقدس من البشر، حين يتحول السدنة أنفذ سلطانا من الربوبية، وحين يصير بهرج الطقس أعلى شأنا من الشعيرة، عندها يدخل الدين حالة الموات.
لقد صارت الكنيسة مرفوضة حتى في فضاءاتها التقليدية، فأعتى الدول الكاثوليكية إيطاليا وإسبانيا، تشهدان مواسم “مقامع الصلبان”، فبعد حكم القاضي في إيطاليا بقانونية إنزال الصلبان من قاعات التدريس، في حال مطالبة أحد أولياء التلاميذ بذلك، ها هي إسبانيا في الثالث والعشرين من نوفمبر من العام الماضي، يقضي فيها القاضي أليخاندرو فالنتين بقانونية إنزال الصليب من جدران مدرسة عمومية، بعد أن كان من المقدسات، منذ أن عدّ فرانكو الكاثوليكية دين الدولة.
المقالة 8
ما بعد المسيحية
لا تزال المقولة الرائجة في أوساط علماء الإناسة، إن الإنسان مهيأ أنثروبولوجيا للاعتقاد الديني، تنطبق على الإنسان الغربي، رغم التبدل الهائل الذي ألمّ بالدين والمتديّن على حدّ سواء. وفي ظل تلك التحولات العميقة، جدير التساؤل إلى أين يسير “الكائن المتدين” في الغرب؟ ربما كانت الأحكام متسرعة وقتما شاع ان العلمانية، أو بالأحرى اللاتدين، هو قدر الإنسان؛ ولم يشهد هذا القرار الحاسم فتورا سوى مع ظهور ردات كبرى، أبرزت حضور الدين كقوة فاعلة ومصيرية في التحولات الاجتماعية (إيران -1979- وبولندا -1980- على سبيل الذكر).
ما يعنينا أساسا في حديثنا هنا وهو المصائر التي تتربص بالتدين التقليدي في الغرب، المتمثل في المسيحية، والذي يبدو سائرا نحو حقبة ما بعد المسيحية، أو إن شئنا وبشكل أدق نحو ما بعد الكاثوليكية، ونحو ما بعد الأنغليكانية، وما شابهها من الانشقاقات الأخرى. المتابعون للتحولات الدينية، من اللاهوتيين والعلمانيين، باتوا يتقاسمون الرأي حول هذا الوضع المستجد، الذي تفقد فيه مؤسسة الكنيسة ألقها ودورها وسطوتها. لم تعُد الكنيسة مظلة المجتمع، بعد أن فقدت احتكار المقدس الذي بقي طويلا رهن أمرها.
في فترة سابقة كان يُنظر إلى أشكال الجزر الديني، الحادثة مع الثورة الفرنسية، ثم لاحقا مع الثورة البلشفية، أنها أوضاع ناشئة بموجب عوامل العسف والقهر والاجتثاث التي رعتها السلطات القائمة، ولم تأت جراء تحولات عميقة مسّت وعي الإنسان بذاته وبالعالم. لكن رصد علماء الاجتماع تواصل تراجع المسيحية، وبشكل بارز في ظل الأوضاع الديمقراطية، وفي أجواء انفتاح السوق الدينية على التنافس الحر، دفع إلى البحث عن تفسيرات مقنعة لهذا “الانسلاخ المسيحي” -decristianizzazione-.
ففي أعقاب التحولات التي تلت انتفاضة 1968، كتب المؤرخ الفرنسي جون دوليمو مؤلفا بعنوان: “هل المسيحية بصدد لفظ أنفاسها الأخيرة؟” فحواه ما يشبه النُّذُر للأوساط اللاهوتية. حوصل الرجل مبررات التراجع، منطلقا من فترة “مناهضة الإكليروس” -anticlericalismo- حتى بلوغ مرحلة “الانسلاخ المسيحي”. وللذكر المؤرخ دوليمو هو امرؤ مؤمن لم يهجر الإيمان الكاثوليكي. أقرّ في حديثه عن التحولات الجارية بحقيقة تحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات لاأدرية دون لفّ أو دوران. كان الإقرار بذلك الواقع، من قبل مثقف مؤمن، شجاعةً دينيةً حينها.
ومن جانب آخر، وكسبيل للخروج من حالة “الانسلاخ المسيحي” اقترح اللاهوتي الفرنسي بول فالانديي في مؤلفه “مسيحية المستقبل” (1999) تحالفا جديدا بين العقل والإيمان، بين منطق العقل وإرشاد النقل. ففي زمن الشك والعدمية لا ينبغي التهوين من قدرات العقل، موردا في مؤلفه المذكور: “نتخبط في عالم يائس تغمره ثقافة الموت، وفي غياب للمعنى بما يماثل الوقوف على عتبات البربرية. ينبغي أن يكون ذلك حافزا لتفادي بثّ اليأس في قدرات العقل: لسنا الآن في زمن التفاؤل غير المشروط، ولكن بالعكس في زمن انقشاع الأوهام والعدمية”.
وأمّا عالم الاجتماع الألماني هانس جواس، المتابع النبيه للتحولات الدينية، فهو يقرّ في مؤلفه “الإيمان كخيار: فرصة المستقبل للمسيحية” (2012) بحقيقة تراجع أعداد المؤمنين –أي المسيحيين- في أوروبا، وبالمثل يقرّ أيضا بأن العلمانية تتراجع. سقنا هذه الإشارات بشكل مقتضب حتى نبيّن أن “الانسلاخ المسيحي” بات أمرا واقعا، وأن هناك حقبة جديدة نعيشها في الغرب تتجاوز الضوابط التقليدية للدين. ولكن إن كان الناس للكنائس يهجرون ومن العلمانية يفرون فإلى أين يذهبون؟ على ما يبدو أن الغربيَّ قد صار متدينا “مترحلا” ينشد الاعتقاد وينفر من الانتماء، يتطلع إلى المتعالي ويهجر المؤسسة الواحدة الجامدة، يصغي إلى الدالاي لاما ويتتبع خطى البابا، على حد سواء، ويهتم بالـ”نيو آيج” ويرتاد نوادي التأمل البوذي، دون أن يحس بالتناقض أو التضارب في هذا الخليط الاعتقادي.
خلف محل سكناي الواقع في حي شعبي في مدينة روما تنتصب كنيسة الحي على مرمى حجر من بيتي، لم يترك الكهنة الساهرون على شأن القداس وسيلة إلا توسلوا بها لردّ الخراف الضالة. ربما نجح الخوري في استدراج الناس للهو والحفلات والتجمعات المنعقدة في الحديقة الخلفية، لكن المصلين انفضوا إلى شأن آخر، فالمذبح خاو على عروشه.
لكن هذه المؤشرات المابعد مسيحية لو أضفنا إليها بعض الأرقام لبات الأمر أكثر جلاء، فوفق إحصاء أجرته صحيفة “لوسّرْفاتوري رومانو”، لسان حاضرة الفاتيكان، سنة 1997، بلغ عدد رجال الدين الكاثوليك الذين هجروا الكنيسة 46 ألفا من العام 1970 إلى العام 1995. وخلال شهر أبريل من العام الحالي، وصف روان وليامز رئيس أساقفة كانتربري الأسبق المملكةَ المتحدةَ، بأنها دخلت مرحلة ما بعد المسيحية، وأن نعت أنجلترا بالبلد المسيحي هو بمعنى اختزانها قيماً مسيحية وليس بمعنى أن البلد مأهول بالمؤمنين، وذلك في تعليق له على نتائج سبر للآراء أجرته صحيفة “الصانداي تليغراف” أبرزت أن 14 بالمائة فقط من الأنجليز يعرّفون أنفسهم بأنهم على شعائرهم يحافظون، وأن 38 بالمائة لا يؤدونها، وأن 41 بالمائة ممن شملهم السبر صرحوا بأنهم لا يتبعون أي دين.
ورد في إنجيل متى (21: 44): “لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره”.
المقالة 9
البابا فرانسيس والعقبات العشر
في بحث منشور في مجلة “لِيمس” الإيطالية المعنية بالتحولات السياسية، ضمن عدد أبريل من العام الماضي، أوردَ المؤرخ ألبرتو ميلّوني عشر مسائل عويصة تنتظر البابا فرانسيس: “إصلاح الكوريا رومانا (أي مراجعة الجهاز السلطوي داخل الفاتيكان)، إلغاء الإيور (والمراد به حلّ الجهاز المالي الكنسي بعد تبيّن عدم قابليته للترميم)، الإعفاء عن السلفيين (أي مصالحة المنشقين على غرار اللوفابريين)، التسيير الجماعي للكنيسة (بما يعني تجنب احتكار السلطة وتبني نهج ديمقراطي)، وحدة الكنائس (السعي للمّ شمل أتباع المسيح)، الالتزام بالإنجيل (بما مفاده العودة إلى تعاليم المسيحية السمحة بعد هجرانها)، مراجعة المهام الكنسية (لا سيما ما تعلق منها بالتكوين والأدوار)، علاقة كنيسة روما بالشرق (أي مراجعة السياسات الدينية الفاشلة على غرار الموقف من كنيسة الصين)، الهدنة مع الإسلام (بما يعني إرساء صلح فعلي، يتخطى الحوارات الموسمية)، وأخيرا عقد مجْمَع (تُطرح فيه القضايا المصيرية للكنيسة).
هذه التركة الثقيلة التي ورثها البابا فرانسيس هي علاوة على كونها مزمِنة هي منهِكة أيضا. أنطونيو سبادارو مدير مجلة “لاشيفيلتا كاتّوليكا” (الحضارة الكاثوليكية)، في معرض حديثه عن استراتيجية البابا الحالي أورد: يسألني كثيرون عن مشروع البابا، أقول يبدو الأمر بما يشبه التناقض، وأكاد أجزم أنه لا يعرفه حتى هو.
فمنذ تولي البابا فرانسيس مهامه تعددت النعوت بشأنه، بحثا عن الإلمام بشخصه. وفي الواقع ليس فرانسيس بابا ثوريا حتى يقلب الكنيسة رأسا على عقب، ولا بابا شيوعيا حتى ينادي بالعدالة، ولا أيضا “بابا رجعيا” كما عنْونت “دير شبيغل” الألمانية، بل هو في تقديرنا بابا رومانسي ينشد العودة الحالمة إلى التقليد الإنجيلي. يحاول أن يسلك على نقيض سلفه، وأن يبني هويته البابوية على خلافه. أي البابا الجريء في مقابل البابا الخجول. والبابا المنفتح في مقابل البابا المنطوي. والبابا الوديع في مقابل البابا الخصيم. والبابا العفوي في مقابل البابا المتوجس، تلك هي الدائرة السيكولوجية التي يتحرك فيها خورخي ماريو برغوليو.
فهناك سمة غالبة على الرجل وهي الاندفاع المفرط في قوله وفي فعله، ليس أقلها تصريحه بولعه برقصة التانغو لكن تلك العفوية لم تعفِ برغوليو من تهمة اللهاث وراء الشعبوية، والشعبوية والمرائية توأمان يتناقضان مع روح الدين. وفي غمرة هذا الاندفاع للرجل تبقى مجمل التحديات العويصة مؤجلة، وإن كانت من ضمنها قضايا مستعجلة وأخرى قابلة للتأجيل. وربما ما استأثر بالحديث طيلة المدة التي شغلها حتى الراهن، والتي تناهز الثلاثة عشر شهرا، أمران: الحرص على إجراء تحوير في المواقع الحساسة، بقصد إعادة توزيع السلطة داخل كنيسة روما ولا سيما في “الكوريا رومانا”، العصب الرئيس في الفاتيكان، وقد بات إصلاحها من المهام العصية، والتي تكاد تكون ميئوسة وفق تقدير الخبير بالشأن الفاتيكاني ماركو أنسالدو؛ وإيلاء الشأن المالي الكنسي، وما يستدعيه من تخل عن مظاهر البذخ، والدفع نحو خط الكنيسة الفقيرة. إدراكا من برغوليو أن الكنيسة قد أصبحت مؤسسة متخمة يلهيها المال وغافلة عن تعاليم الإنجيل. وآخر تداعيات ذلك الخط الذي انتهجه برغوليو، أن رئيس أساقفة ولاية أطلنطا في الولايات المتحدة المونسنيور ويلتون غريغوري، الذي أنفق أكثر من مليوني دولار على مقر إقامته الفخم، استحى وثاب إلى رشده، وعرَضَ القصر للبيع في مناقصة عمومية، بعد أن عاب عليه صحبه إسرافه الذي لا يليق برجل دين يردّد قول المسيح (ع): “للثعالب أوجار، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له دار”. (متى8: 20)
وما يبقى جليا مع فرانسيس (برغوليو) في فترة بابويته القصيرة، وهو هاجس الغرق المتدرج لكنيسة روما في المال الفاسد، والتآكل المتسارع لرصيدها المعنوي والخُلقي جراء التصرفات المشينة لشريحة واسعة من رجال السوء من رجال الدين. منذ إدراجها من قبل الهيئات المالية الدولية في عداد الدول التي تقترف تبييض الأموال، ومنذ اتهام لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة حاضرة الفاتيكان بالتستر على الذين يأتون الفاحشة.
وفي تشخيص لتلك الأدواء التي تفتك بالكنيسة، هناك رأي شائع أن رجال الدين الإيطاليين يتحملون الوزر الأكبر في ما آلت إليه الأمور، جراء التسيير الخاطئ واستشراء البيروقراطية واستفحالها؛ وبالمثل جراء قِصر نظر الكنيسة الأوروبية، التي تعوزها الرؤية المسكونية، في وقت يتواجد فيه 43 بالمئة من كاثوليك العالم في أمريكا الجنوبية. لذلك بدا تصعيد فرانسيس لسدة البابوية حاجة ماسة وبحثا عن خلاص عميق، ومن ناحية أخرى بمثابة مسرح عبث. إذ كيف للذين صنعوا التلوّث أن يكلّفوا شخصا جادا لتنقية ذلك التلوث؟ والحال أن المؤسسة الدينية تدافع عن مصالحها التي ترتئي أنها مرتبطة بجوهرها الإلهي، بحسب تشخيص المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
يعلق اللاهوتي هانس كونغ على المساعي الحازمة لفرانسيس للخروج من ورطة الكنيسة بقوله: البابا يريد الذهاب قدما، غير أن محافظ الكرسي الرسولي جورج غانسوين يثنيه. البابا تشغله الإنسانية الحية، في حين تشدّ غانسوين الرؤية الجامدة. البابا يريد أن يوجد سينودس الأساقفة حلاًّ فعليا للمشاكل التي تعصف بالأسرة، المزمع عقده في أكتوبر القادم، لكن غانسوين يستند على رؤى عقدية تقليدية لإبقاء الوضع على ما هو عليه.
وفي غمرة هذه التحديات التي تؤرق الكنيسة الكاثوليكية، يعوّل البابا فرانسيس في عملية الإصلاح المستعجلة على الكرادلة الثمانية، على مجلس الحكماء الذي شكله، للقيام بتشخيص الأمراض التي تفتك بالقطيع. وبالمقابل في غمرة المصاعب التي تواجه الكنيسة العربية، يعوّل شق هام من أتباع المسيح على الكنيسة الغربية المنهَكة في تجاوز المحن التي تعصف بكنائس المشرق. وبالمحصلة أن البابا فرانسيس كغيره من البابوات يلوّح بناظريه نحو الشرق، إلى كنيسة القيامة وبيت لحم والناصرة، لكن ذلك لا يعني الكثير لديه أمام ما يشغله من مشاكل بيته في روما.
المقالة 10
حاضرة الفاتيكان والإعلام الديني
اتخذت الكنيسة الكاثوليكية استراتيجيات إعلامية اختلفت باختلاف المواسم، وفي الراهن الحالي الذي يقضّ مضجع اللاهوتيين، ما عاد الإعلام الكنسي أساسه القول القائل إن قوة الحقيقة كفيل بعرضها، بل بات الأمر يتطلب مهنية وخبرة ودربة. غدت الكنيسة في عصرنا شريكا إعلاميا بارزا في الأوساط الغربية بشكل عام وفي الساحة الإيطالية بشكل خاص، حيث تعددت الوسائط الإعلامية ذات المنحى الكاثوليكي بغرض ترويج مراد الكنيسة الديني والثقافي، وكذلك موقفها السياسي أيضا من العديد من القضايا الساخنة. وقد تولدت الحاجة الماسة إلى هذا الحضور في أعقاب تقلص الحضور الفعلي للكنيسة في الواقع، حيث باتت “الكنائس خالية والساحات عامرة”، على حدّ التعبير الشائع، الأمر الذي دعاها إلى تكثيف حضورها في عدة مجالات إعلامية، وحتى الافتراضية منها، في محاولة لاستغلال القدرات التي يتيحها الإعلام البديل، كل ذلك لفائدة ترويج رسالة الكنيسة التي باتت تعتمد “التبشير بالإنجيل في عالم متغير”.
ومن الوثائق التأسيسية التي صدرت عن مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، والتي أولت الشأن الإعلامي اهتماما، جاء قرار (Inter mirifica) المتعلق بوسائل الاتصال الاجتماعي والمصادق عليه في الرابع من ديسمبر 1963، فكان من أبرز القرارات التي حثّت الكنيسة على ألا تبقى خارج الانشغال والتوظيف والاستغلال للشأن الإعلامي. ورد في نص القرار: “تقرّ الكنيسة أن الاستغلال المحكم لهذه الوسائل يمنح العائلة البشرية مغانم جمة، لأنها تسهم بشكل فعال في تسامي الروح وإغنائها، فضلا عن دعم مملكة الرب. لكنها تدرك أيضا أن الإنسان يمكن أن يوظِّف تلك الوسائل لهلاكه وضدّ مراد الخالق… كما تؤمن الكنيسة بواجبها في استغلال وسائل الاتصال للتبشير بالخلاص وتعليم البشر الاستعمال الصائب لهذه الوسائل”. وقد تدعّم ذلك بالعديد من الرسائل البابوية لعل من أهمها رسالة البابا الراحل بولس السادس بشأن الإعلام المسماة بـ”إيفنجلي نونتياندي” رقم: 45، مبينا من خلالها أن الكنيسة “تشعر أنها مذنبة أمام ربها إن لم توظف هذه الأدوات لفائدة الأنْجَلة”.
وفي ضوء ذلك الحرص على الحضور في المجال الإعلامي، يمكن تقسيم وسائل الإعلام الكاثوليكية إلى ثلاثة أصناف رئيسية:
أ- الإعلام المكتوب: الذي تحوز فيه الكنيسة الكاثوليكية مجموعة من الصحف والمجلات، ذات الانتشار الواسع، والتي لا يقتصر قراءها على رجال الدين والمتدينين، بل تتوجه إلى عامة الناس وتغطّي حاجات شرائح متنوعة داخل إيطاليا وخارجها. لعل أبرز تلك العناوين في الصحافة المكتوبة:
صحيفة “لوسّرْفاتوري رومانو” –المراقب الروماني- وهي صحيفة يومية، تعد اللسان الرسمي لحاضرة الفاتيكان، بُعثت في يوليو 1861 وقد احتفلت في المدة الأخيرة بمرور قرن ونصف على تأسيسها. ويتميز محتوى هذه الصحيفة بالتحاليل المعمَّقة للأحداث والوقائع بناء على وجهة النظر الكاثوليكية، كما تضمّ إلى طاقمها مجموعة من الصحفيين والكتّاب من خارج الأوساط الدينية، ممن يسمون بالعلمانيين ولكن من الموالين إلى خط الكنيسة. تليها في المتابعة والاهتمام صحيفة “أَفِنيري” –المستقبل- التي بُعثت إبّان انعقاد أشغال مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1968، وهي صحيفة يومية ناطقة باسم المؤتمر الأسقفي الإيطالي، الذراع النافذة لحاضرة الفاتيكان داخل الأوساط الإيطالية، بما أن المؤتمر تتركّز مهامه بالأساس على رصد المسارات الدينية والاجتماعية والسياسية داخل إيطاليا، وتداوُلها ومُراجعتها مع كبار الكرادلة والأساقفة في دولة الفاتيكان.
ومن جانب آخر تبقى المجلة الأسبوعية “فاميليا كريستيانا” –الأسرة المسيحية- أكثر المجلات الأسبوعية توزيعا وقراءة في إيطاليا، وهي مجلة عقائدية تربوية، فضلا عن اهتماماتها الاجتماعية والسياسية من زاوية نظر كاثوليكية، وهي المجلة الأكثر تأثيرا في الطبقات الشعبية وفي الشرائح العمرية المتقدمة. تعضدها كوكبة من المجلات الدينية مثل: المجلة الشهرية “30 جورني” –ثلاثون يوما- التي أسسها السياسي الراحل جوليو أندريوتي، وهي مجلة توزّع بخمس لغات؛ كذلك مجلة “يسوع” ومجلة “فيفيري” –حياة- الشهرية، ومجلة “غازيتا دالبا” الأسبوعية. وتستقي هذه العناوين مضامينها وأخبارها بالأساس من “وكالة الفاتيكان للخدمات الإعلامية” –Vatican Information Service-، فضلا عن “وكالة الأنباء فيدس” –Agenzia Fides- التابعتين للفاتيكان. تعضد تلك العناوين شبكة نشيطة من دور النشر والتوزيع الكاثوليكية، لعل أشهرها دور نشر “مكتبة النشر الفاتيكانية”، و”سان باولو”، و”جاكا بوك”، و”دار التبشير الإيطالية”.
ب- الإعلام التلفزي والإذاعي: يتمحور هذا النشاط بالأساس حول “مركز تلفزيون الفاتيكان” –Centro Televisivo Vaticano– الذي انطلق في عمله سنة 1983، وهو إلى حد الآن لا يحوي في جنباته قناة بث بل هو عبارة عن مركز إنتاج وتوزيع؛ لكن يبقى، على المستوى المحلي، تواجد عديد المحطات التلفزية الكاثوليكية، جلها ذات تغطية محدودة. ولسدّ ذلك النقص بعث المؤتمر الأسقفي –أعلى هيئة كنسية في الداخل الإيطالي- تليفزيون –TV2000- الذي انطلق بثّه في مرحلة أولى عبر القمر الصناعي ثم توسع في مرحلة لاحقة عبر بثّ أرضي، رغم ذلك تبقى الكنيسة تنقصها قناة كبيرة تضاهي الشبكات العالمية.
ذلك في المجال التلفزي، أما في مجال البثّ الإذاعي، فيبقى “راديو الفاتيكان”، الذي تأسس في الثاني عشر من فبراير من العام 1931، الأبرز في الساحة المحلية والدولية، وهي محطة تتناول القضايا السياسية والاجتماعية من منظور حاضرة الفاتيكان. المحطة ناطقة بعدة لغات منها العربية، وقد اُحتفل بمرور ثمانين سنة على إنشائها. ونظرا لطبيعة التقسيم الإداري الكنسي للتراب الإيطالي إلى أبرشيات، بما يضاهي توزع مقاطعات الدولة الإيطالية، فليست هناك أبرشية تخلو من محطة بث إذاعي خاصة بها. وضمن هذه الشبكة الواسعة من البث الإذاعي يمثل “راديو ماريا” –راديو مريم- ظاهرة إعلامية مسيحية على حدة. حيث انطلقت هذه المحطة في البداية كراديو خاص بخورنية محددة في منطقة ألتا برييانزا في شمال إيطاليا لتتطور وتصبح محطة بث عالمي، تولدت عنها العديد من المحطات المحلية، بلغ عددها حتى الراهن خمسين محطة، منتشرة في شتى أنحاء العالم لتُشكّل ما يعرف بـ”الأسرة العالمية لراديو مريم”، وآخرها إنشاءً كان راديو ماريا في البوسنة، وراديو ماريا في غينيا الجديدة، وراديو ماريا في سويسرا. وهي إذاعات في العموم ذات منحى أصولي، أثارت العديد من القلاقل في بعض البلدان نظرا لخطابها المنغلق والمتشدّد.
ج- الإعلام الإلكتروني
تبقى سنوات الثمانينيات فترة التحول العميق في الاستراتيجيا الإعلامية للكنيسة وقد عُدّ البابا يوحنا بولس الثاني رمز هذا التحول، من خلال الإصرار على إحضاره وسط الضجة الإعلامية بشكل دائم ومتتابع. ولا شك أن مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية في روما، في مساعيها لتجديد دورها وتطويره في الساحة الإعلامية، تستند إلى خبرة عريقة في العمل الإعلامي، ما عادت تقنع فيها بالوسائل التقليدية. ومن هذا الباب برز اهتمام حاضرة الفاتيكان بالإعلام البديل بعد تعيين كلاوديو ماريا شالي رئيس المجلس البابوي للإعلام الاجتماعي. ويعد الموقع الرسمي للكرسي الرسولي (www.vatican.va) الذي انطلق في العام 1997 أبرز المواقع الكاثوليكية على مستوى عالمي. فالموقع يقدّم خدماته بثماني لغات: اللاتينية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والبرتغالية والصينية، ويرتاد صفحاته خمسون مليون زائر شهريا. وربما الميزة البارزة لهذا الموقع وهو الطابع التوثيقي لكل ما يتعلق بالشأن الفاتيكاني، لذلك بات مرجعا للعديد من الكتّاب والصحافيين والباحثين المهتمين بالشأن الديني الكاثوليكي.
لكن أمام تزايد الحاجة إلى الإعلام المواكب للأحداث المتتالية والأخبار المتسارعة، تقرر منذ فترة وجيزة بعث موقع “نيوز.فا” بخمس لغات، وهو موقع إخباري بالأساس، تعبّر من خلاله حاضرة الفاتيكان عن سياستها الخاصة تجاه القضايا المحلية والدولية. ما زال الموقع يشقّ طريقه من حيث التطور والمهنية، رغم ذلك يبلغ عدد زواره بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف زائر يوميا. وقد ناهز زواره يوم عيد الميلاد الفارط 16 ألف زائر، وقاربت مدة المكوث بالموقع زهاء الدقيقتين، ما يعني أن الدخول ليس عفويا، لكن لغرض البحث أو الاطلاع أو استقاء المعلومة.
ولكن أمام تعدد المواقع، التي تعرّف نفسها أنها كاثوليكية، تخشى كنيسة روما فقدان احتكار المعلومة الدينية بالأساس، وهو ما مارسته طيلة عهود. فهناك مزاحمة في هرمنوطيقيا النصوص ومزاحمة في ترويج المعلومة، ما يهدد بانفراط احتكار المعنى الديني. كما تخشى الكنيسة من الإعلام المناهض بشكل مباشر، وهو ما تجلى بالخصوص في استغلال قضايا مثل قضية راتسبونا والعالم الإسلامي، وقضية وليامسون اللوفبرياني ونفيه للمحرقة اليهودية، أو استغلال مسائل الفضائح الجنسية بين رجال الدين.
بالفعل لقد هزت الكنيسة الكاثوليكية ثورة إعلامية حقيقية، حيث جرت العادة في السابق بالسماح للأعلى رتبة في الأبرشية أو الخورنية بحقّ مراقبة مراسلات التابعين له، ولكن مع الثورة الإعلامية تقلص ذلك الامتياز، فكيف تُراقَب الإرساليات القصيرة والسكايب والبريد الإلكتروني والدردشة وغيرها؟ أمام ذلك التحدي تسعى الكنيسة جاهدة لإقرار ما يشبه الوفاق الخلقي بين العاملين في الحقل الديني علّها تحد من المنافسة القوية والمناهضة، في بعض الأحيان، وعلّها تعوّض عن تلك الرقابة المفتقدة.
المقالة 11
“الفاتيكانيستا”.. سعيا لمتابعة أنشطة أقوى مؤسسة دينية في العالم
لا مراء أن القرون الخمسة التي تلت تدشين العمل بمطبعة غوتنبرغ، وإلى حين انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني (1962)، لا تضاهي من حيث الكمّ والكيف، ما حصل من إنجازات إعلامية في حاضرة الفاتيكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، وهو ما بلغ أوجه مع ما نشهده من تطورات رَقمية باهرة. وفي الحقيقة، كان مردّ ذلك التحول إلى إنشاء المكتب الإعلامي للكرسي الرسولي المعروف باسم –Sala stampa-، خلال العام 1966، والذي من مهامه مدّ الصحفيين المعتمَدين بالمادة الإعلامية المتصلة بحاضرة الفاتيكان. وعلى إثر تكليف الصحفي الإسباني يُواكوين نافارو فاليس، سنة 1984، بمهمة تسيير الجهاز الإعلامي، تحوّل المكتب الرمادي إلى آلة نشيطة في خدمة الصورة الإعلامية للكرسي الرسولي. فقد تابع نافارو فاليس ذلك العمل على مدى ثلاثة عقود، كان خلالها على اتصال بالعالم على مدار الساعة، يتلقى نهارا مكالمات من أوروبا وإفريقيا، ومساء وليلا من أمريكا، وقبيل الفجر من اليابان وآسيا، تبعا لما رواه عن سير عمله. ما حوّله إلى شخصية محورية، تتولى إلى جانب شغلها توفير المشورة والوساطة الدبلوماسية والعمل السفاري للبابا.
خبراء في الشأن الفاتيكاني
وعلى هامش هذا التطور الإعلامي داخل كنيسة روما، تولّدت مهمّة إعلامية على حدة، ألا وهي تخصص “الفاتيكانيستا”. تورد “موسوعة تريكاني الإيطالية” في تعريف كلمة “Vaticanista” –بما يضاهي مفردة “فاتيكاني” في العربية- أنه الصحفي الخبير بالنشاط الديني والسياسي للكرسي الرسولي. ونظرا لتكاثر أعداد المهتمين بالشأن الفاتيكاني باتت تلك الفئة من الصحفيين محل دراسة وبحث. تذكر رسالة جامعية بعنوان: “من هم الفاتيكانيون وماذا يفعلون؟” نوقشت في جامعة “الصليب المقدس” في روما، أن عدد الصحفيين المتابعين للشأن الفاتيكاني، والمسجَّلين بشكل دائم لدى المكتب الصحفي قد بلغ خلال العام 1970 مئتين، واليوم يقارب سبعمائة صحفي. لكن أعداد الإعلاميين الذين يحصلون على تراخيص مؤقتة وإلى آجال محددة، بغرض تغطية أحداث معينة، فهي تفوق ذلك العدد. فمثلا خلال احتفالات اليوبيل، وبمناسبة حلول الألفية الثانية، بلغت الأعداد على مدار السنة تسعة آلاف عامل في مجال الإعلام؛ حازت فيها أوروبا نصيب الأسد بنسبة 70 بالمئة، تلتها أمريكا بنسبة 19 بالمئة، وآسيا 7 بالمئة، وإفريقيا 2،5 بالمئة، والأوقيانوس 1،5 بالمئة. في ظل هذا الاهتمام لم يكن لأي من الصحف أو المؤسسات الإعلامية العربية مراسل صحفي معتمد لدى الفاتيكان.
ومن جملة هؤلاء الصحفيين المعتمَدين بشكل دائم لدى الفاتيكان، يتابع ما يزيد عن الثلث منهم أنشطة الكنيسة الكاثوليكية؛ في حين يهتم الآخرون في جزء كبير من أوقاتهم بالفاتيكان، كما يغطون أخبار إيطاليا والمتوسّط. وعادة فئة الإعلاميين المشتغلين على الفاتيكان كامل الوقت هم إيطاليون. ذلك أن أغلب الصحف الكبرى، ووكالات الأنباء، والقنوات التلفزية، والإذاعات في إيطاليا لها متابعون للشأن الفاتيكاني، وفي بعض الحالات أكثر من متابع. كما أن بعض الصحف العالمية لها خبراء في الشأن الفاتيكاني، على غرار كارولين بيغوزي التي تعمل في مجلة “باري ماتش”، وفيليب بوليلا الذي يغطي لفائدة وكالة “رويترز″، وفيكتور سمبسون المتعاون مع وكالة “أسوشيتدبرس”.
الفاتيكانيستا والحياد
ثمة صناعة إعلامية صادرة من حاضرة الفاتيكان، من جملة مقاصدها ترويج الصورة الإيجابية عن البابا. فالبابا المستقيل، جوزيف راتسينغر، غلبت عليه صورة الفيلسوف الرصين، واللاهوتي البارع، والمتحدّث الكيّس، والاستراتيجي الثاقب وغيرها من النعوت أثناء فترة بابويته؛ ومع البابا الحالي فرانسيس، تروج صورة البسيط في معاشه، والوديع في تصرفه، والمناصر للمسيحي المهمَّش باعتباره “ثأر كنائس الجنوب”. صور الميديا هذه وغيرها من الصور، عادة ما تُصنَّع وتُروَّج مع البابا المتربع على سدّة بطرس وتُستبدَل برحيله. وفي خضم هذه اللعبة الإعلامية، تطلعت الكنيسة إلى احتواء الفاتيكانيين وتحويلهم إلى أبواق دعاية لها، على غرار عملية تجميع عدد منهم، سنة 2003، وإرسالهم في شتى أنحاء العالم بقصد الترويج لصورة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. لكن تلك المحاولات للاحتواء قابلتها رغبة من قِبل شق واسع من الفاتيكانيين للمحافظة على الحياد، بقصد ضمان مصداقية واستقلالية لهذا العمل، بعيدا عن أي توظيف فجّ. ولعله من ذلك الباب توجهت جملة من الانتقادات إلى الفاتيكانيين باعتبارهم نقلة أخبار، ومشتغلين على الريتوش، وأن قلة منهم من بحوزتهم رؤية عميقة وشاملة للشأن الديني، وقادرون على تأويل الأحداث وتفسيرها بطريقة صائبة. ولكن هذا الحكم يبدو غير منصف، فالفاتيكاني هو أيضا كاشف الحقائق وصانع الأحداث، على غرار قضية “فاتيليكس″، المتعلقة بالوثائق المسرّبة من مكتب البابا، أو بشأن فضائح الاعتداءات الجنسية من قبل رجال الدين على القاصرين، أو فضح ما يسري من فساد مالي داخل “مؤسسة إيور”، قطب الرحى الاقتصادي والمالي لحاضرة الفاتيكان.
الصحافة الكاثوليكية
بشكل عام تنقسم الصحافة الإيطالية إلى صنفين بارزين: صحافة كاثوليكية وصحافة علمانية. ومن أبرز العناوين الكاثوليكية نجد “أفينيري”، و”جورنالي ديل بوبولو”، و”ليكو دي برغامو”، و”أوسرفاتوري رومانو”، و”فاميليا كريستيانا”، و”لاشيفيلتا كاتوليكا”، و”بولتّينو ساليزيانو”. وعادة ما يميز الصحافة الكاثوليكية الطابع المحافظ والحس الديني المغالي. ولئن يندرج الفاتيكانيستا ضمن الإعلام الديني بشكل عام، فهو يمثل أيضا رابطا بين النوعين، الكاثوليكي والعلماني. وبصفة تخصص الفاتيكانيستا حديث المنشأ في الإعلام الإيطالي، فلا يزال النقاش دائرا بشأن هويته؛ ولكن لا يمكن الحديث عن فاتيكانيستا يفتقر إلى الإلمام بالشأن الديني ولاسيما منه المسيحي. وإن يكن جل المشتغلين في هذا المجال، في الوقت الحالي، يتحدرون من ثقافة كاثوليكية وإرث ديني مسيحي فإن قلة منهم تشتغل في الصحافة الكاثوليكية، إذ يعمل جلّهم في الصحافة العلمانية، على غرار لويجي أكاتولي في صحيفة “كورييري ديلا سيرا”، وماركو أنسالدو في صحيفة “لاريبوبليكا”، وجاكومو غاليازي في صحيفة “لاستامبا”، وفرانكا جانسولداتي في صحيفة “المساجيرو”، وباولو روداري في صحيفة “إيلفوليو”. كما أن الفاتيكانيستا ليس صحفيا فحسب، بل هو أحيانا أكاديمي متابع للشأن الديني، ولسير أشغال الكنيسة ولأنشطة الحبر المقدس. كما أن الفاتيكانيستا ليس مراسلا أجنبيا، بل هو إعلامي متخصص، وإن كان يمكن أن يكون مراسلا في الآن نفسه.
وبصفة الفاتيكانيين جلهم أوروبيون، فإن نظرتهم للمسيحية هي بشكل عام انعكاس للمركزية الغربية. فليست هناك رؤى صادرة من الجنوب في أوساطهم. لذلك تجدهم يشتركون في الرؤية الدينية الطافحة عن كنيسة روما بشأن الخلاف الصيني-الفاتيكاني؛ أو كذلك يتبنون الرؤية الدونية والمجافية للعالم الإسلامي بصفته يمثل فضاءً لانتهاك حقوق المسيحيين، أو الموقف الفاتر من القضية الفلسطينية والتغاضي عمّا تقترفه إسرائيل ضدّ المقدسات العربية، المسيحية منها والإسلامية. ولكن هذا لا يمنع تواجد ثلة من الفاتيكانيين تُصنّف في عداد النقّاد، يأتي على رأسهم كورّادو أوجياس، الصحفي المتميز في صحيفة “لاريبوبليكا”.
الفاتيكان وفلسطين
كان لتقصير الإعلام العربي، في متابعة الشأن الديني في الغرب، أثر على تعميق هوة سوء التفاهم بين الجانبين العربي والغربي بشأن جملة من القضايا. رغم أن المؤسسة الدينية في الغرب، وعلى رأسها كنيسة روما، باتت تتحكم بمصائر كنائس عدة في البلاد العربية ولا سيما بالتراث المسيحي المادي في فلسطين. فالمفاوضات الجارية منذ سنوات بين الفاتيكان وإسرائيل بشأن مستقبل التراث المسيحي العربي في فلسطين، والتي توشك على الانتهاء مع زيارة البابا فرانسيس في مايو القادم إلى إسرائيل، غائبة عن التداول في الإعلام العربي، وهو ما سيكون له بالغ الأثر على الحق العربي. حيث لدينا اهتمام موسمي بالفاتيكان يفتقر إلى المتابعة الدائمة والرصينة.
تمهيد
حاولت في هذا الكتاب رصد بعض الإشكاليات التي تواجه المسيحية العربية ونظيرتها غير العربية. كما أشرتُ في العديد من المواضع إلى ضرورة تصويب الرؤية بشأن مسيحية الداخل ومسيحية الخارج. فلديّ حرصٌ على التفريق بينهما، لما لمسته في المسيحية الغربية من نزوع للهيمنة. فتلك المسيحية تتعامل مع “الهامش” المسيحي غير الغربي، والمسيحية العربية مصنَّفة في عداده، بمثابة المسيحية القاصرة وغير الراشدة. لذلك برغم ما يجمع المسيحية في الغرب والمسيحية في بلاد العرب من صلات قربى فإن بينهما فروقا شتى.
من جانب آخر، لا يمكن أن ندّعي المحافظة على كيان المسيحية العربية، وننشد أداءها رسالتها، وأساليب وعينا بمخزوننا الحضاري بالية. فالمسيحية إرثٌ جمعيٌّ، وقضاياها ليست حكرا على شريحة بعينها، بل تتخطى من يدينون بها. كما أن هناك خطابا كارثيا رائجا، مشبعٌ بالنحيب
عن مصائر هذه المسيحية، لا يذهب بعيدا في تلمّس الحلول وتخطّي المصاعب. لا أودّ المكوث تحت حائط مبكاه، إيمانا بضرورة تطوير أدواتنا الفكرية في التعاطي مع واقعنا الديني، كسبيل للحيلولة دون حصول الأسوأ. فهذا الظرف الصعب نقدّر أنه عائد في جانب واسع منه إلى افتقاد رؤية حديثة للمسيحية في الثقافة العربية. ذلك أن هذه الديانة، أكان أتباعها في الاجتماع العربي أم خارجه، لا يزال التعامل معهم بمنظور عقدي، يستوجب تطعيمه برؤى حديثة، بقصد الخروج من ضيقه وأسره.
المؤلّف
نبذة عن المؤلف
عزالدين عناية، أستاذ تونسي متخصص في علم الأديان يدرّس في جامعة روما (إيطاليا). نشر مجموعة من الأعمال تتناول دراسات الأديان: “الاستهواد العربي”، منشورات الجمل، ألمانيا؛ “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، توبقال، المغرب؛ “الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن”، توبقال، المغرب؛ “الدين في الغرب”، الدار العربية للعلوم، لبنان. ومن ترجماته: “علم الأديان” للفرنسي ميشال مسلان، المركز الثقافي العربي، لبنان؛ “علم الاجتماع الديني” للإيطالي إنزو باتشي، كلمة، الإمارات العربية.
المقالة 1
مجمع الفاتيكان الثاني وحصيلة نصف قرن من العلاقات مع المسلمين
مرّت الذكرى الخمسون لانعقاد مجمع الفاتيكان الثّاني (1962-1965)، الذي تقدّر الكنيسة الكاثوليكية أنها تصالحت بمقتضاه مع العصر. تعلّقت فقرات من مداولات المجمع بالمسلمين، وقد سال حبر كثير بشأنها. وكانت الإشارة الأولى “… بيد أن تدبير الخلاص يشمل أولئك الذين يؤمنون بالخالق أيضا، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرّحمن الرّحيم، الذي يحكم بين النّاس في اليوم الآخر” قد وردت ضمن المتن المجمعي “لومن جنتيوم”، أي “نور الأمم”، وأُقرّت في نوفمبر من العام 1964 بموافقة 2151 من رجال الدين واعتراض خمسة أعضاء؛ ووردت الإشارة الثانية في فصل “نوسترا آيتات” أي “علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية”، وقد أقِرّت في أكتوبر من العام 1965 بموافقة 1763 واعتراض 242 من رجال الدين، بعد أن انتهت إلى صيغة: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين أيضا، الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحمن القدير بارئ السّماء والأرض، ومكلّم النّاس. ويسعون بقصارى ما أوتوا لمراعاة أحكام الله، وإن خفيت مقاصده، كما سلّم له إبراهيم الذي يفخر الدّين الإسلامي بالانتساب إليه. وإن كانوا لا يقرّون بيسوع إلهاً فإنهم يجلّونه نبيّاً، ويكرمون أمّه العذراء مريم، مبتهلين إليها أحيانا بإيمان. فضلا عن ترقّبهم يوم الدّين، الذي يجازي فيه الله جميع النّاس حين يبعثون. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بأداء الصّلاة والصّدقة والصّوم. ولئن نشبت عبر الزّمن كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجْمَع يحرّضهم سويا على التغاضي عن ذلك، والعمل بإخلاص وصدق لغرض التّفاهم، وأن يحموا ويعزّزوا معا العدالة الاجتماعية، والقيم الرّوحية، والسّلام والحرّية، من أجل جميع النّاس”.
عدَّ كثيرون تعاليم المجمع ثورة بالداخل وتحولا فارقا في التعامل مع الخارج. وفي ما يتعلق بالمسلمين سننظر في المسألة وفق ثلاثة مستويات متباينة: على مستوى تواجد الأرضية المشتركة من انتفائها، وعلى مستوى العلاقة المباشرة بين الدينين في بلاد الإسلام، وبما يقابل ذلك في الفضاء الاجتماعي التابع للكنيسة. ولكن قبل الخوض في مظاهر الحراك والثبات، يجدر بنا وضع الأمور في نصابها والتنبه إلى الإطار التاريخي الذي احتضن أعمال المجمع. فعشرية الستينيات من القرن الماضي هي عشرية مضطربة، لم تبق الكنيسة في منأى من تأثيراتها. حيث مثّلت الشيوعية الخصم الاستراتيجي الأكبر لها، بما اقتضى سلوك مسلك مستجَدّ، يُخرِج الكنيسة من الصراع الثنائي معها إلى تجنيد رفقاء في تلك المعركة. ومن هذا الباب، ما عبّرَ التحول في العلاقة بالإسلام عن نضج في فلسفة الحوار، أو يقين بوحدة تراث مشترك، أو إقرار بأرضية إيمانية موحَّدة، وإنما جاء بدافع كسب حليف استراتيجي جنب الكنيسة في معركة تخشى عواقبها.
– أولا على مستوى تواجد الأرضية المشتركة من انتفائها، وبناء على روح تعاليم المجمع المشار إليه، يُفترض أن تسود رابطة جامعة بين المسيحية والإسلام قوامها الملة الإبراهيمية، تشمل الذين هادوا أيضا، بيد أن مفهوم الملة الإبراهيمية الغربي، الذي أتى في صيغة “التراث اليهودي المسيحي المشترك” قصرا، شمل اليهودية والمسيحية لا غير. فاليهود هم “الإخوة الكبار”، على حد العبارة الكنسية، بعد أن أُسقِط عنهم نعت “قتلة الإله”، في حين المسلمون هم الآخرون من “الديانات غير المسيحية”، وبما أنهم من خارج “التراث اليهودي المسيحي المشترك”، فهم من “التعبيرات الثقافية والدينية” النائية.
وإن كانت تعاليم المجمع في غاية من الجرأة والشجاعة فقد أتت الترجمة اللاحقة مخيبة للآمال، بالإيغال في استبعاد المسلمين واستيعاب اليهود. وهو ما دفع لانتقاد مفهوم “التراث اليهودي المسيحي”، بصفته إقصائيا للمسلمين، ولا يترجم بحق واقع العلاقة. يقول الأمريكي ريتشارد بوليي أستاذ التاريخ الإسلامي في مؤلفه: “الحضارة الإسلامية المسيحية”، الصادر في روما 2005: “من له دراية، ولو متواضعة، بتاريخ العلاقات اليهودية المسيحية طوال الألفيتين الأخيرتين، يدرك بيسر الطابع الهزلي لمفهوم يجمع بين تقليدين دينيين، نشبت بينهما خلافات شائكة طيلة مراحل عدة”. ويتطور الانتقاد مع الكاتب اليهودي يعقوب نوزنر في مؤلفه: “اليهود والمسيحيون.. أسطورة التراث المشترك”، الصادر في ميلانو سنة 2009، إلى ما يسفه ذلك الترابط بين اليهودية والمسيحية، قائلا: “ينبغي إدراك الديانتين كمنظومتين مستقلتين كليا، وبالتالي لا يجوز الحديث عن تولّد المسيحية من رحم اليهودية، لأن كلتا المنظومتين، في مستوى المرحلة التكوينية (القرن الثاني-القرن الرابع)، كانتا مأهولتين بلفيف من البشر مختلفين وتتحدثان عن معتقدات متباينة، ويتوجّه كل منهما إلى رهط مغاير. فالطروحات التراثية التي تعتبر اليهود والمسيحيين “أقارب” من جانب ديني هي بمثابة أسطورة، لأن كليهما يقرأ العهد القديم، لكن لكل قراءته وتأويله وخلفيته.
– ثانيا وعلى مستوى العلاقة المباشرة في بلاد الإسلام، فكما هو معروف حرصت الكنيسة الكاثوليكية في أعقاب المجمع، على التقرّب من المسلمين، دون تنقية ماضيها مما شابه من شوائب. وكانت أبرز محطات التقارب زيارات الحبر الراحل كارول ووجتيلا إلى تركيا 1979، وإلى المغرب 1985، وإلى سوريا 2001، وما تخلل تلك الزيارات من لقاءات وأنشطة مشتركة، عوّلت الكنيسة فيها على الحوار مع الإسلام الرسمي ومع الإسلام المروَّض. فاقتربت من الأزهر، ومن الزيتونة، ومن وزارات الشؤون الدينية، وتبنت المواقف السلطوية نفسها من الإسلام السياسي. ولذلك بعد أن قامت الثورات العربية، وجدت حوارها مع الآفلين وكأنه قد ذهب أدراج الرياح، فطفقت ترمم ما اعتراه من خور.
كانت الكنيسة في تلك المساعي هي من تصنع فلسفة الحوار وتحدّد مساراتها، بعد تفريغها من مضامين الحوار العقدي ومناداتها بالحوار الاجتماعي. حتى ضمنت صَمْت المسلمين عن انتقادهم المعهود “للتثليث” و”التجسد” و”التأليه”، وغيرها من القضايا الشائكة؛ رغم أنها تابعت الحديث عن “راديكالية” الإسلام، وعن انغلاقه العقدي، وحؤوله دون تحول أتباعه إلى الأديان الأخرى. والحقيقة أن المسلمين في الغرب، وهم بالملايين، لم يشهدوا موجة نكوص عن دينهم، بل راعهم تحول جموع نحو دينهم ضمّ الألوف، خصوصا في حاضنة الكاثوليكية. كان عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أليافي أبرز من رصد تلك الظاهرة في كتابه: “المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام” (روما 1999).
وأما الحوار الاجتماعي الذي تحمّست له الكنيسة ودعت إليه، فقد كان مدفوعا بإيجاد موضع قدم للكنيسة الغربية في ديار الإسلام، بعد أن خرجت آثمة ومذنبة مع الآلة الاستعمارية. وفي ظل الضجيج الحواري الذي ساد طيلة الحقبة الماضية، غُيّب جوهر الحوار الحقيقي المتلخص في ألا سبيل لحصول حوار اجتماعي بدون اعتراف تاريخي، يعقبه اعتذار رسمي عما أتاه كرادلة الاستعمار، أمثال شارل لافيجري (1825-1892م) وصحبه من “آباء بيض” و”أخوات بيضاوات”، طيلة الحقبة الاستعمارية؛ ومجزرة جامع كتشاوة في الجزائر (1932)، التي حصدت أرواح ألوف ممن اعتصموا بالجامع، احتجاجا على تحويله إلى كنيسة، في ظل ترحيب من البابا غريغور السادس عشر، ما زالت صارخة.
– ثالثا وأخيرا، على مستوى العلاقة المباشرة في الفضاء الاجتماعي التابع للكنيسة، فقد تحمست الكنيسة عقب مجمع الفاتيكان الثاني، إلى محاوَرة الإسلام في دياره لكنها أضمرت رفضه على أرضها. ذلك أن الفضاء الديني في أوروبا، وفق تقديرات ما يعرف بسوسيولوجي السوق الدينية الأمريكان، ليس فضاء حرّا. فهو خاضع للاحتكار والوصاية والتوجيه من قبل متعهّد قويّ يوجه أنشطته وفق مشيئته، يتساوى فيه البروتستانت في شمال القارة مع الكاثوليك في جنوبها. ذلك ما رصدته أبحاث دارن شركات، ورودناي ستارك، ولورانس إياناكوني، وكريستوفر إليسون، وآخرين. فلو أخذنا الفضاء الإيطالي الذي يخضع لاحتكار مستثمِر وحيد، ألا وهو الكنيسة الكاثوليكية، نرى المسلمين، رغم أنهم الدين الثاني (زهاء المليونين) ما زالوا ملغيين من خارطة الاعتراف. فحين عُرِض برنامج المصادقة على القانون العام بشأن الحرية الدينية، اعترضت الكنيسة الكاثوليكية بقوة أمام مجلس النواب الإيطالي في مناسبتين: 9 جانفي و 19 جويلية من العام 2007، على لسان المونسنيور جوسيبي بيتوري، رئيس المؤتمر الأسقفي الإيطالي حينها. ما ترتب عنه حرمان المسلمين من عائدات “ثمانية بالألف” ومن كثير من الحقوق، لعل أبرزها احتكار الكنيسة “ساعة الدين” في المدرسة، وعدم القبول بتحويلها إلى “ساعة أديان”. بما يبرز أن علاقة الكنيسة بالإسلام ما فتئت علاقة عُصابية رغم دعوات النسيان التي حضّ عليها المجمع.
وتبعا لتلك الأوضاع ليس الإسلام المهاجر في حماية الكنيسة بل هو في حماية العلمانية. لذلك نجد الملاحدة والعلمانيين والغنوصيين أقربهم مودّة إلى المسلمين من رجال الدين. فلا يستعين الإسلام المهاجر بالكنيسة، التي يفترض أنها رفيقة في الإيمان، بل يستجير بالعلمانية طلبا لعبادة الواحد الأحد.
ربما تعود حالة الفتور في الحوار الإسلامي الكاثوليكي، في أحد جوانبها، إلى غياب المراجعة والنقد لما ساد في سالف الحوارات، فضلا عن هيمنة الخطاب التصالحي على حساب المعرفي والعلمي.
المقالة 2
كلّيات الشريعة والمسيحية
يتميز الإنتاج المعرفي في الكليات الدينية في البلاد العربية بسمات جامعة، تتلخص بالأساس في تخطّيه شبه التام أوضاعه الاجتماعية والاستعاضة عنها بخطاب هائم مفارق، لا غاص في الأرض ولا تشبّث بالسماء. حتى خلّف ذلك المنهج اغترابا لافتا بين المشتغلين في الحقل الديني، تجلّى أحد أوجهه في تردّي الدراسات بشأن المسيحية.
ولا نزعم أن دراسة المسيحية مفتقدة أصلا في كلية الشريعة، بل إن الظاهر أن المنهج المتّبع عقيم لا يستجيب لمستلزمات الراهن. فلم يدرك العقل الإسلامي، في ثوبه المشيخي المتدثّر بفكر الردود وبالمنظور المستند إلى مقولات أهل الذمة، أنه ما عاد قادرا على استيعاب المسيحية الراهنة، لما طرأ عليها من تحولات.
فلا أدل على وَهَن القدرة الإسلامية في مناقشة المسيحية، وتردي الإدراك في تبين مساراتها، من اختراق الوافد الديني للحصون الداخلية للإسلام المغاربي، وتهديد موعظة المبشّر فتاوى الشيخ. ولولا تجريم ما يُسمى بالتبشير المسيحي، ومحاولة سدّ منافذ تسرّباته، وإن كان بأشكال تعيسة غوغائية، لبلغ السيل الزبى.
والجلي أن الوقائع ما كانت لتؤول إلى ما آلت إليه، لولا ضعف الفكر الإسلامي في اهتماماته بالآخر، حتى بات المفكّر يخشى المبشِّر. ففي بلاد المغرب الكبير، هناك غفلة تامة عن التعامل مع التراث المسيحي السابق، رغم أن المنطقة شهدت في سابق عهدها تطورات عميقة. كان أبرز تجلياتها الفلسفية واللاهوتية في أعمال القديس أوغسطين ابن ثاغست، سوق هراس الجزائرية اليوم. فلو بحثنا عن تراث المنطقة المغاربية المسيحي لما أسعفنا في فهمه والإلمام بحيثياته إلا إنتاج العقول الغربية، وبالخصوص العقول الكنسية. يعضد تلك الغفلة غياب عن متابعة حاضر المسيحية، سواء في وجهها الأوروبي المجاور أو الغربي بشكل أعم. فهناك نفيٌ من الذات المغاربية لتاريخها، وهناك تغييب غير مبرر لاهتمامها بالآخر الديني، تتحمل فيه الوزر أن يأتيها التحدّي من حيث لا تحتسب.
لقد استغل الفكر الكنسي الغربي ذلك الإهمال في الفكر المغاربي، حتى جلب إلى حضيرته جمع من الجزائريين والمغاربة والتونسيين، الذين باتوا يتبنون الطروحات الغربية في أن المنطقة رومانية كنسية، في سابق عهدها، وغربية الطباع والهوى في حاضرها. تطوّر الأمر في السنين الأخيرة حتى بات من يروّج للمسيحية الأوروبية بحماس مفرط، معتبرا الإسلام دخيلا وغازيا، والواقع أن تلك المقاربة يعوزها ربط الحلقة الإسلامية بسابقتها المسيحية بوعي تاريخي رصين. فعادة ما متح الناكصون من غبن نفسي وما ركنوا إلى وعي فكري في انتمائهم الجديد. وقد تجلت فطنة الكنسية الغربية أساسا في تعاملها مع اللغة الأمازيغية، إذ كانت أسبق في الإلحاح على مبشّريها لتعلّم اللهجات الأمازيغية من الزيتونة والقرويين. ليس الأمر نابعا من تثمين وتقدير لتراث المنطقة لدى الكنيسة ولكنها أدركت يُسر تحوّل الهامشي إلى حجر رأس الزاوية بعد أن نبذه البناؤون.
لقد شهد العالم تغيرات هائلة في الحقبة المعاصرة، وصار من العبث، في بلدان تدعي الحداثة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، الحديث عن صدّ “التبشير” و”التنصير” و”التمسيح”، بلغ حدّ إصدار قوانين تجرّم من يروّج لغير ما هو سائد بدعوى ثلم الوئام الديني. في الحقيقة ليست تلك الأساليب منطقية، وليست عقلية، وليست إسلامية أيضا. فهناك في البلاد المغاربية قابلية للتنصّر يغذّيها بؤس الفكر الديني الإسلامي واغترابه، وضعف التكوين الأكاديمي بشأن الآخر في الجامعات الدينية بالأساس، فضلا عن عدم التنبه للتحولات العالمية وما تتطلبه من أدوات مستحدثة. من هذا الضعف يتسرب الآخر الديني ليحاصر ويهدد ويتحدى العقل الخامل.
خلال الصائفة المنقضية التقيت، أثناء إقامتي في كل من تونس والجزائر، بباحثين في الحقل الديني. حسبتُ قبل اللقاء أن الدراسات المغتربة، التي استعاذ من مثلها سيد الخلق: “أعوذ بالله من علم لا ينفع″ قد كسدت بضاعتها مع دخول الألفية الثالثة، فضلا عن الإحجام عن البحث فيها، بموجب الزلازل السياسية التي هزّت بلاد العرب وأمة الإسلام، التي يُفترض أنها نبّهت الغافل. ولكن حديثي وسؤالي بيّنا لي خلاف ذلك، فما فتئت سوق البحث في الغيبيات رائجة وبالباحثين فيها عامرة. فـ”هاجر” تعدّ “ماستر” حول إبليس، و”رقيّة” تبحث في الطمأنينة، و”عبدالباسط” يزعم فكّ ما أشكل على السابقين في مسألة “القضاء والقدر”… بالمقابل أستذكر طلابي الإيطاليين في الدراسات الشرقية، فأجدهم، باختيارهم لا بإيحاء مني أو من زملائي، يركزون في إعداد رسائلهم على ما هو معيش. “لاوْرا” تبحث في أثر العوامل الدينية في عدم ضمّ تركيا إلى المجموعة الأوروبية، و”فرانشيسكو” يتتبع برنامج “الشريعة والحياة” في قناة “الجزيرة” بالتحليل والرصد، و”كارلا” تتناول بالمقارنة سينما الثورة الجزائرية مع سينما الجزائر الفرنسية، أي سينما ما قبل الثورة. لعله لتلك الأسباب غنم الغرب دنياه وفرّطنا نحن في دنيانا وأخرانا.
المقالة 3
الكنيسة الكاثوليكية ولاهوت التحرّر
في أعقاب تواري البابا جوزيف راتسينغر، أكان ذلك جراء إقالته القسرية أو بموجب استقالته الطوعية، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية منحى مغايرا في التعاطي مع العديد من القضايا. لم تعد الصورة الإعلامية المروَّجة للبابا الجديد صورة ذلك الفيلسوف المتجهِّم الذي يقارع فطاحلة الفلسفة (حوار راتسينغر مع هابرماس)، ولا صورة ذلك المتهجِّم على الأديان الجامحة (قدح راتسينغر في الإسلام في راتيسبونا)، ولا أيضا ذلك المشهِر سيف الحرمان في وجه كل من تسوّل له نفسه بشقّ عصى الطاعة عن روما (حِرْم لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية). غدا البابا في نسخته الجديدة بشوشاً وديعاً عطوفاً، متقفّيا أثر البساطة الإنجيلية؛ لكنها بساطة تبدو رهينة الميديا ومن صنعها، ما قد يضفي على ذلك المسلك طابع الرياء، الذي طالما حذّر منه المسيح (ع) في تقريعه للمرائيين.
ولكن بعيدا عن التصنيع الحثيث للصورة الإعلامية للبابا، يدرك المتحكمون بمصير الكنيسة أن مجال البابا السابق المحبَّذ كان الصراع الدغمائي العقدي، وهو ما وزّعه بالتساوي على المسلمين والعلمانيين. ومع البابا الحالي هناك رغبة في التخلي عن ذلك التهوّر، وسعي لقلب ذلك المسار وتحويله إلى تناصت وتثاقف. ربما من يتابع غزل الحوار الجاري في إيطاليا هذه الأيام، بين أحد كبار العلمانيين اللاّأدريين، الصحفي أوجينيو سكالفاري، والبابا فرانسيس، يعي هذا التحوّل السلس في استراتيجية الكنيسة، طمعا في إصلاح ما أفسده راتسينغر.
لكن لِنسلّط الضوء على مسألة المصالحة في مجال محدد، مع لاهوت التحرر، لماذا يأتي هذا الخيار في الظرف الراهن؟ في الحقيقة ثمة تهديدٌ واضحٌ للكاثوليكية في جنوب القارة الأمريكية متأتّ من التيارات البروتستانتية الناشطة، ومن الجماعات الإنجيلية تحديدا. ما عادت الكنيسة التقليدية في نسختها الرومانية قادرة على صدّ الزحف، بعد الاكتساح الهائل لجنوب القارة من قِبل الكنائس العملاقة –megachurch- الوافدة من الشمال، من أمريكا، بكافة عتادها وتحفزها. فبعد أكثر من أربعة عقود من مناهضة روما للاهوت التحرر، واتهامه بالنزعة اليسارية والماركسية، تبين لها أنها أخلت الساحة إلى غيرها. فلاهوت التحرر لم يتنكر يوما إلى عمقه الكاثوليكي، لكنه رفض إلحاق المسيحية بالآلة الرأسمالية. كما أن لاهوت التحرر ليس بناء نظريا صيغ على الطاولة، بل هو لاهوت سِياقي وليد أوضاع أمريكا الجنوبية، وهو كذلك تقريع أخلاقي ونقدي للرأسمالية بصفتها نظام حيف وجور، وبصفتها شكلا من الخطيئة البنيوية. إغناسيو إلاّكوريا أحد منظري لاهوت التحرر يتحدث عن “شعوب بأسرها مصلوبة”. صحيح أن لاهوت التحرر لم يناصب الماركسية العداء، وإن مثلت أحرج المسائل المطروحة في القرن العشرين أمام المسيحية، ولكن الليبرالية الجديدة، بالنسبة إليه، أكبر فضائح القرن الواحد والعشرين، لأن “كل التقدم الحاصل في العالم لا يساوي آهة من آهات امرئ جائع” على حد قول ديستوفسكي.
فمن “مجلس مراقبة العقيدة” الذي تولى مهامه جوزيف راتسينغر، حين كان كردينالا وقبل اعتلائه سدة البابوية، تسلّط الحرمان على كثير من رموز لاهوت التحرر، لعل أبرزهم البرازيلي ليوناردو بوف؛ من ذلك المجلس أيضا تأتي المصالحة، بسعي من جرهارد لودفيغ مولر رئيسه الحالي. فبعد أن كان اللاهوت الثوري مُدانا بدا على لسان مولر “من أهم اللواهيت الكاثوليكية في القرن العشرين”.
خلال شهر سبتمبر المنقضي أفردت “الملاحظ الروماني”، صحيفة حاضرة الفاتيكان، صفحات عدة للحديث عن هذه المصالحة، بعد خمس وأربعين سنة من الخصومة مع روما، أي منذ انعقاد مؤتمر 1968. فمع البابا فرانسيس، ثمة نية بين صنّاع القرار في الفاتيكان لإقرار خطاب تعدّدي متنوع داخل الكنيسة، بعد التصلّب الذي ران. تم الاحتفاء بهذه المصالحة عبر مؤلف مشترك بعنوان: “في صفّ الفقراء. لاهوت التحرير، لاهوت الكنيسة” (2013) لرئيس “مجلس مراقبة العقيدة” جرهارد لودفيغ مولر واللاهوتي البيروفي غوستافو غوتيراز، أحد الآباء المؤسسين للاهوت التحرر، ليختتم الاحتفاء باستقبال غوتيراز من قبل البابا فرانسيس في الحادي عشر من سبتمبر.
ولكن لفهم الخيار الحالي للبابا، لا بد من وعي الصلة التي ربطت الرجل بلاهوت التحرر. بدءا، فهذا اللاهوت هو حركة واسعة، وهو بالفعل لواهيت شتى تتوزع على بلدان عدة، مثل الأرجنتين والبيرو والبرازيل والسلفادور والشيلي وكوستاريكا والمكسيك والأوراغواي. وما “لاهوت بويبلو”، الذي انتمى إليه برغوليو (فرانسيس) بزعامة مؤسسه لوشيو جيرا، سوى فصيل من هذه الحركة الواسعة. فقد أصرّ لاهوت بويبلو على خيار موالاة الفقراء، وإن كان على حذر من تحويل الكنيسة إلى مجرّد وكالة للخدمة الاجتماعية. وضمن ذلك التنوع الذي ميز لاهوت التحرير يندرج انضمام الكردينال برغوليو، الذي بات اليوم البابا فرانسيس؛ لكنه ينحو منحى التحليل التاريخي الثقافي، بدل التحليل النقدي البنيوي ذي النزعة الماركسية. وطبيعي أن ينزع البابا الحالي هذا المنزع، وهو المتحدر من بلد تتجاوز فيه أعداد الفقراء، أو بالأحرى المفقَّرين، 30 بالمئة.
لاهوت التحرير دعا روما، منذ أمد، إلى المصالحة مع ذاكرة جنوب أمريكا (مراجعة تاريخي الاستعباد والاستعمار وتورّط الكنيسة في الإثمين)، وإلى الخروج من معايير المسيحية الغربية المرسملة. لأنه ليس بمقدور المرء أن يكون مع الفقراء ما لم يكن مناهضا للفقر، على حد قول بول ريكور. إذ مناهضة الفقر ليست فورة حماس ديني خاطف، بل هي معرفة ببناه الاقتصادية والثقافية وبالأدوات المولدة له.
في الكتاب الذي سبق ذكره يشنّ شيخ لاهوت التحرر غوستافو غوتيراز حملة شعواء على العولمة، التي تبدو بريئة، وهي تستبعد السواد الأعظم من البشر من المنافع الحاصلة، بعد أن حوّلت الملايين إلى كائنات “جيتابل”، “استعملْ وارْمِ”. فحالة التفقير اليوم –وفق غوتيراز- بمثابة الوثنية الجديدة التي تستدعي تأملا لاهوتيا صادقا، بصفة اللاهوت هرمنوطيقيا أمل.
المقالة 4
استراتيجية الكنيسة الغربية في بلاد المغرب
تجربة الحوار الكاثوليكي مع البلدان المغاربية تجربة متفرّدة، من ناحية تعويل الكنيسة على نتائجها ومقاصدها، ما جعل تلك التجربة واعدة من طرف واحد. فالطرف المغاربي، المفتقد لاستراتيجية علمية أو دينية، قد جُرّ جرّا إلى ما يسمّى بالحوار، على مدى أربعة عقود. ولم تنبع المثاقفة من مطلب أكاديمي أو استعداد مؤسّساتي له، بل كانت استجابة للمواكبة والمجاراة. كان أوج تلك المثاقفة بتأسيس مجلة “إسلاموكريستيانا” المسماة بـ”إسلاميات مسيحيات” سنة 1975، بإشراف وتسيير لاهوتيين من الآباء البيض. حُشِدت لها طائفة من الجامعيين من تونس بالخصوص، بغرض صنع وعي ديني ليّن وطيّع. غير أن الآباء البيض، الذين ارتبط منشأهم ودورهم بالكنيسة الاستعمارية، لم يوفّقوا في تجاوز الحوار العُصابي مع الإسلام، عبر ذلك التجمّع، الذي سعوا في تشكيله.
كان الطرف المغاربي ولا يزال، يحسب الدخول في حوار مع الكنيسة “جلسة شاي”، يعرب فيها عن اعتداله وسماحته وتقبّله للآخر، يَجري فيها حديثٌ عن الأخوة الإنسانية ووحدة العائلة الإبراهيمية. ولم يُدرَك حتى الراهن أن الكنيسة الكاثوليكية، لا تزال تنظر بعين الغيرية للإسلام والمسلمين، وأن الجامع الذي يجمعها أساسا هو بأتباع التوراة، بناء على مفهوم “الإخوة الكبار”، الذي اصطنعته وأزاحت منه الطرف الإسلامي، متجاوزة في ذلك الواقع الإناسي والأصول اللاهوتية في الدينين، فضلا عن التأسيس التوراتي “لأباركنَّك –إبراهيم (ع)- وأكثرنّ ذرّيتك فتكون كنجوم السماء وكرمل شاطئ البحر، وترث ذريتك مدن أعدائها” التكوين (22: 18).
لمتسائل أن يسأل عن مغزى التقارب الكاثوليكي من الإسلام المغاربي، أو بعبارة أدق مفاوضاته، التي لا يخفى ما ترنو له من استعادة للمواقع القديمة بعد رحيل الكنيسة الاستعمارية؛ وأرض المغرب تخلو من أهالي أصليين مسيحيين، وحتى إن تواجد أنفار من الناكصين مع تحوّلات العقود الأخيرة، فإن الكنيسة لا تجرؤ على عرضهم وخوض الحوار باسمهم ولأجلهم؟ فقد سعت الكنيسة لتقريب المسيحية من الأهالي، لاستبدال وكلائها في بلاد المغرب برجال دين مسيحيين عرب، المطران مارون لحام أسقفا في تونس، خلف الأسقف فؤاد طوال، وغالب بدر أسقفا في الجزائر، بدل الفرنسي هنري تيسيي. كل ذلك لإخفاء الطابع الغربي عنها، وتيسير تمرير الحوار التفاوضي عبرهم، الذي يدور حول نقطة محورية تدعو لانفتاح الواقع المغاربي، في تشريعاته وواقعه بحسب ما ترنو له الكنيسة، لا الحوار المعرفي.
فالجانب المغارببي يرى أن حرية التديّن مصونة ومتضمَّنة في التشريعات، غير أن ذلك الاستيعاب والاحتضان، بحسب الرؤية الكنسية، غير كاف. وعادة ما يتلخص المطلب الكنسي في الدعوة إلى المناداة بحرية دينية أوسع وأبعد غورا، تبلغ أقصاها في مطلب حرية الانقلاب الديني. بعبارة جليّة، ترك الخيرة للمغاربي أن يبدّل دينه ويدخل في المسيحية بكل أريحية، هذه النواة اللاهوتية الأساسية للحوار مع الإسلام المغاربي. وفي مقابل ذلك تُنتَقَد التشريعات السائدة، والتوجهات الدينية، بأنها تتهدّد وتتربّص بمن يجرأ على تجاوز الأمر السائد. كما جرى ذلك أثناء شن حملة على الجزائر خلال العام الماضي، على إثر محاكمة شبّان جزائريين اتهموا بأنهم بدّلوا دينهم، أو لدى إصدار محكمة وهران حكما يقضي بسجن المبشر الكاثوليكي الفرنسي بيار والز، لممارسته أعمال منافية للقانون. كما تحاول الكنيسة أن تبرّر حضورها في البلدان المغاربية، من خلال التعلّل بالخدمة الاجتماعية، بين المسلمين، وهو مبرّر صادق أحيانا، في بلدان ما زالت تعاني الفقر والخصاصة، على المستويات الاجتماعية والصحية والمعرفية؛ وتتعلّل كذلك بحجّة تقديم خدمات تربوية ودينية للمسيحيين المقيمين أو العابرين، الذين لا يجدون احتضانا في أداء شعائرهم. والواقع أن المسألة أعقد مما يُتصوَّر، فحاجة المسيحيين الأجانب إلى دور عبادة، في البلدان المغاربية، هو مطلب غير واقعي، فلو أخذنا تونس مثلا، التي زارها خلال العام 2008 أكثر من سبعة ملاييين سائح، جلّهم من المسيحيين، ويقطن بها زهاء الخمسة وعشرين ألف كاثوليكي، من أصول أوروبية، فإن أماكن عبادتها الكاثوليكية، البالغ عددها 12 كنيسة، هي مزارات سياح وليست دور عبادة، ويمكن التثبت من ذلك مثلا من خلال رصد أعداد المشاركين في القدّاس في الكاتدرائية الكبرى في العاصمة. فنسبة المسيحيين الممارسين للشعائر في تونس هي نسبة متدنّية جدا، تقلّ عن اثنين بالمئة، من العدد الجملي للكاثوليك المقيمين بالبلد، ناهيك عن نسبة المحافظين على الشعائر الدينية من السياح العابرين، الذين يأتون للمتعة والاستجمام، ولا يبالون بالحفاظ على الشعائر.
ولكن المغزى الرئيسي للكنيسة يبدو متجاوزا لهذا وذاك، عمل الإحسان الموجَّه للمسلمين أو الخدمة الطقسية الموجَّهة للمسيحيين، إلى هدف استراتيجي، وهو بناء جسور تغلغل في تلك المجتمعات، تطمح إلى الإلمام بسير شؤون الحياة، ومنها الاندساس في التأثير على بعض قطاعاتها الهشة، كالادعاء تارة بخدمة القطاع النسوي، المهضوم الحقوق، أو العناية بالأقليات والشرائح المتدنّية الحظوظ، المهملة من طرف السلطة المركزية أخرى. فتحاول الكنيسة الاقتراب من الكتّاب والصحفيين المغاربة الذين يحملون رؤى مغتربة عن الإسلام، ونعني بذلك الذين لهم ميولات فرنكفونية في قراءة التاريخ والوجود الإسلاميين، أو الذين يقترحون حلولا اجتماعية وسياسية غربية للخروج من مآزق الاجتماع المغاربي، يفتقدون فيها لرؤى معايشة ونقد للغرب أو للكنيسة. فتدنو منهم الكنيسة بالقدر الذي ينتقدون به الأوضاع الدينية في المغرب العربي أو العالم الإسلامي. خصوصا إذا ما كانت تلك الانتقادات تخدم المصالح الغربية، أو تعاضد المصلحة الاستراتيجية للكنيسة. فيجدون الترحيب من المؤسسات الكنسية، ويُدعَون للمشاركة في الملتقيات في الغرب لشرح رؤاهم على منابر الجامعات والترويج لها، ويُعرَضون بوصفهم يمثلون الإسلام المعتدل والمتنوّر والديمقراطي والعلماني.
عادة ما تحوز الجزائر المثل السيء، لدى رجال الدين الكاثوليك، عند حديثهم عن أوضاع المسيحيين في بلاد المغرب، وغالبا ما يتناول الحديث أمرين: عدم توفّر أماكن عبادة بالقدر الكافي في هذه البلدان، وعدم تواجد مناخ لحرية النكوص عن الإسلام. مفّسرين الأمر بأن السلطات في تلك البلدان تخشى تعاليم الإنجيل، ولذلك لا تسمح بحضور مبشّرين بين ظهرانيها، والواقع أن الناس لا يبالون بذلك الوعظ، بل ينجذبون لسراب حياة الدعة الخادعة في الغرب. ولذلك لم نسمع عن ناكص بدّل دينه، بلغ درجة معرفية عالية في التعمّق في المسيحية، بل ما بلغ مسامعنا هو تهافت بسطاء من العامة، ممن جثّته في الشرق وروحه في الغرب.
تاريخ الكنيسة الغربية في البلاد المغاربية تاريخ إشكالي، لعل أصدق خطوات تنقيته، البدء بتلمّس الصفح عما اُرتكِب من انتهاكات في سابق عهده. لعل أبرز تلك الأحداث واقعة جامع كتشاوة بالجزائر سنة 1932م، التي ذهب ضحيتها زهاء أربعة آلاف من المعتصمين بالجامع، احتجاجا على قرار تحويله إلى كنيسة. والتي خلّدها شاعر الثورة مفدي زكريا بقوله:
وجامع كتشاوة المستعا د، ما انفك رمزا لإجلالنـا
وهل لافيجيري وطول الســنين استطاع المروق بأطفالنا؟
ومهما يقيمون فيه احتفالا فقد عاد يهفو لأكبادنا.
المقالة 5
الكنيسة و”حركة النهضة”: عفا الله عمّا سلف
تبدو الكنيسة في تونس، التي ينطبق عليها بحقّ نعت الكنيسة العابرة جراء التبدّل الدائم لرأسها ولقاعدتها، قد تخطّت مرحلة التوجّس، بعد أن مرّ زهاء العام على تسنّم “حركة النهضة” ظهر السلطة في تونس. فبعد أن أدمنت الكنيسة ريبة من بلوغ حزب إسلامي مقاليد الحكم، وعملت على إشاعة تلك الريبة في الغرب، ها هي تتخلّص من مخاوفها، وتشهد تغيرا في الخطاب يتجه نحو الرصانة، بعد تبنّيها طويلا رؤية التقتْ فيها مع مقول نظام بن علي. مع أن الكنيسة في تونس لم تشهد أي مظهر من مظاهر التلاسن أو التصادم، مع الحركة الإسلامية في تونس، أو مع رموزها، بشأن قضية مّا، منذ مطلع السبعينيات، تاريخ طفْو تلك الحركة على الساحة.
ويمكن القول إن الكنيسة في تونس، التي تأتمر بأوامر المؤسسة الأم حاضرة الفاتيكان، قد اتخذت موقفا نافرا مبكرا من الحركة الإسلامية في تونس، تجلى بالخصوص في النأي عن رموز حركة النهضة، طيلة العهد الدكتاتوري. فمثلا لم تدع أي من رجالات تلك الحركة إلى مؤسسات الكنيسة العلمية أو منابرها الأكاديمية في روما، مثل “المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية” التابع لتنظيم الآباء البيض، للحديث عن المسألة الدينية في تونس، رغم حرص الآباء البيض على تمتين صلاتهم بالأكاديميين التونسيين، أكانوا من مجموعة “إسلاموكريستيانا” البائدة أو مع مجموعة أساتذة الزيتونة النوفمبريين.
وحتى تتضح الصورة أكثر، ما هي أهم مفاصل النشاط الكنسي في تونس؟ تنتظم علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالجمهورية التونسية وفق اتفاقية “modus vivendi” التي تنظّم علاقة حاضرة الفاتيكان بتونس، في بلد يبلغ عدد الكاثوليك المقيمين فيه في الوقت الراهن 22 ألف نفر، جلّهم من الأجانب يتوزعون بين ستين جنسية. كما توجد على التراب التونسي أبرشية واحدة على رأسها أسقف وحيد، يسنده 40 قسّا، وتعضدهم أكثر من 100 راهبة. ليس هناك قساوسة من أصول تونسية ولكن هناك ثلّة من العرب، وأما باقي القسّيسين فهم أوروبيون. ويبلغ عدد الراعويات 11 راعوية، أربع منها متواجدة في العاصمة. وبشكل إجمالي تتوزع الخدمات التي تقدمها الكنيسة بين مشفى في العاصمة وعشر مدارس كاثوليكية خاصة، يؤمها ستة آلاف تلميذ مسلم من أبناء العائلات الميسورة لا من ذوي الفاقة.
في مطلع صائفة 2012، يومي 18 و 19 جوان، انعقد المؤتمر السنوي لمركز الواحة الكاثوليكي في تونس تحت شعار: “الدين والمجتمع في مرحلة انتقال، تونس تسائل الغرب”، وقد هدف المؤتمر الذي جرى في أجواء مغلَقة إلى متابعة مسارات التحول العميق في تونس. شارك فيه رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، وعن حركة النهضة كل من العجمي الوريمي ورياض الشعيبي، إلى جانب مدعويين تونسيين آخرين. أعرب المؤتمرون الكاثوليك عن انشغالهم بمجريات الأحداث في تونس وحرصهم على متابعة تطوراتها عن كثب. ولأن المؤتمر وقع في ظل حكومة يغلب عليها الطابع النهضوي، يمكن القول إن المبادرة كانت للنهضويين في احتضان الكنسيين بعد سنوات من الجفاء والقطيعة، رغم أن المؤتمر كان متواضع النتائج بما هدَفَ إليه بالأساس لتبادل الآراء، حيث تحدث فيه كل من منظوره عن مستقبل تونس.
وقد جاء مؤتمر الواحة في أعقاب انعقاد اللقاء السنوي لمجلس أساقفة شمال إفريقيا في تونس، للتباحث بشأن الأوضاع الاجتماعية والسياسية للبلدان المطلة على أوروبا. بمشاركة أساقفة من تونس والجزائر والرباط ونواكشوط والقاصدين الرسوليين بطرابلس وبنغازي، فضلا عن أسقف مازارا دِل فالّو في صقلية. ففي بلاد المغرب الكبير يعيش زهاء الخمسين ألف مسيحي، السواد الأعظم منهم من الرعايا الأجانب.
لقد ميزت سمتان بارزتان تاريخ الكنيسة في تونس في الزمن المعاصر: الصمت أمام الطغاة –كما كان الشأن مع زين العابدين بن علي- تحت مبرر التزامها بـ”دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فتغاضت بشكل مفزع عن انتهاكات النظام البائد؛ وفي الآن نفسه المساهمة الفعّالة في نشر الرعب في الغرب من الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه النهضة، إلى أن جاء الفرز من الغرب العلماني، الذي جرّ الكنيسة للتحول. ربما كانت تنقص الكنيسة شجاعة الوجود لتجاوز إرث الدهور. وحتى نيافة الأسقف الأردني مارون لحام، الذي تفاءل كثيرون بتقليده مهام الكنيسة في تونس في العام 2005، غرّته تلك الأجواء وأخطأ التقدير في قراءة مستقبل تونس. ففي مقال منشور له في مجلة “ميسيوني أوجّي” الإيطالية (التبشير اليوم) عدد فبراير 2008 ورد ضمن قوله: “لو ارتقى حزب إسلامي سدة الحكم [في تونس] فسنعود خمسين سنة إلى الخلف، لذلك نعيش بذلك الخوف حيث لا ندري ماذا سيحدث بعد”. لكن مما يلاحظ أن تصريحات غبطة المطران قد باتت أكثر اتزانا عقب الثورة، وأعلى جرأة في التصريح بمواقفه وواقع كنيسته، مثل ما ذكره عن عدد المتحولين التونسيين إلى المسيحية بين ثلاثة وأربعة أنفار من البالغين سنويا، يُعمّدون وفق الطقس الكاثوليكي.
يبدو الطريق طويلا أمام الكنيسة في تونس لتتصالح مع هوية هذا البلد، ففي القرن الحادي عشر حين هاجم النصارى النورمان تونس، قادمين من صقلية، كان الصد لهم مسيحيا ومسلما من المهدية (ما فتئ الجنوب التونسي حينها مأهولا بالمسيحيين). فهل تستطيع الكنيسة في تونس أن تبتعد قيد أنملة عن استراتيجية الكنائس الغربية وتكون كنيسة عربية؟ ربما يكون ذلك متيسرا “لو كانت الثقة في الله أكبر”، على حد قول القديس أوغسطين.
المقالة 6
سانت إيجيديو.. الذراع العلمانية للكنيسة
يوم أطلّت جماعة سانت إيجيديو الكاثوليكية في الساحة الإيطالية في السابع من فبراير 1968، كانت عبارة عن فصل جديد من فصول الأصولية المسيحية التي تمور بها الساحة الدينية في أوروبا والأمريكتين. في تلك الحقبة كان قد ألمّ بالمحرك الديني الرئيس في روما، شيء من العطل وباتت تعوزه المبادرة التاريخية، جراء غلبة الطابع التقليدي والمحافظ عليه. تلخّص ذلك العطل في عدم قدرة الكنيسة على التلاؤم مع تحولات الناس، على غرار تواصل تحريمها للطلاق، وموقفها المناهض لمساواة المرأة مع الرجل في الترقي الكهنوتي، وهو ما لا يزال جاثما على صدر الكنيسة حتى اليوم. لم تجد كنيسة روما سبيلا للخروج من مأزق التأقلم مع الحداثة سوى التعجيل بعقد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) في محاولة لمواءمة رسالة الدين مع روح العصر والبحث عن مصالحة مع الزمن، بقصد الإمساك بمجريات الواقع الديني الذي بدأ ينفرط عقده وما عاد للبابا سلطان عليه.
لم تضع تلك العملية الاستباقية حدا للأزمة الدينية المستفحلة. وجاءت أبرز الانشقاقات حينها من جنوب العالم، مع انعقاد التجمّع الأسقفي بمادلين في كولمبيا سنة 1968م، وبروز تيار لاهوت التحرر، الذي جنح نحو الانتقاد الجذري للكنيسة وإلقاء اللائمة عليها لانخراطها في لعبة الرأسمالية الجشعة، لكن روما لم تجد سبيلا سوى رفع سوط الحرمان وعقد المحاكمات لمواجهة عصاة لاهوت التحرر، أمثال غوستافو غوتيراز وليوناردو بوف. تبدو هذه المقدمة ضرورية حتى نضع جماعة سانت إيجيديو داخل إطارها التاريخي. فالجماعة اختارت منذ البدأ موالاة الكنيسة، رغم سعيها الحثيث لتأسيس حيز نشاط اجتماعي-سياسي-ديني خاص بها. فحين أقدم أندريا ريكاردي، المتحدر من عائلة بورجوازية وابن مدير البنك، سنة 1968، على بعث جماعة سانت إيجيديو رفقة ثلّة من دعاة الانبعاث الكاثوليكي، كان يحدوه أمل لتغيير المجتمع بواسطة الإنجيل. وكان قد راكم خبرة طيلة مشواره النضالي الديني تحت تنظيم “جوفنتو ستودينتيسكا” (الشبيبة الطلابية) الذي أسسه الأصولي الإيطالي لويجي جوساني. وبفطنة قيادية تنبه ريكاردي مبكرا إلى أفول عصر “الديمقراطية المسيحية”، حزب الكنيسة العتيد الذي تربع على المسرح السياسي الإيطالي على مدى عقود.
فقد بدأ يخيم تململ في أوساط النخبة الكاثوليكية على مصائر السياسة المتديّنة. وكانت الحاجة ماسة إلى تواجد هيأة مسيحية المنشأ وعلمانية المنشط، تتولى الشأن العلماني بمرجعية كنسية، وتكون واسطة مع الداخل والخارج، لكن ذلك الأمر لن يتأتى بلوغه سوى باستقطاب رموز سياسية وفكرية ودينية وحشرهم في بوتقة موحَّدة. هذا الدرس التقطه مؤسس سانت إيجيديو وحوله إلى واقع فعلي داخل أخويته، فشرع باستقطاب المتنفذين والفاعلين إلى صفّه، لعل من أبرز الوجوه وقتها -1975- الكردينال مارتيني عميد الجامعة الغريغورية الحبرية.
في الحقيقة لم يبدأ الظهور الفعلي لسانت إيجيديو في الساحة الإيطالية سوى مع حلول العام 1973، بعد أن غنمت الجماعة مقرا لها في دير تابع للرهبنة الكرملية في المدينة العتيقة في روما، وشرعت في إسداء خدماتها الاجتماعية للمهمَّشين، مع الانحياز يسارا في السياسة الإيطالية، وهو ما جعل صحيفة “الجورنالي” تتهم الجماعة بالسعي لتشكيل لوبي أحمر موظِّفة ما تسديه من خدمة للمعوزين.
لكن هذا الانفتاح الاجتماعي على الخارج لم يحُلْ دون الانغلاق الدغمائي لسانت إيجيديو، فالجماعة تنطبق عليها مواصفات النِّحْلة الباحثة عن نقاوة طوباوية، والقُدّاس الذي يُعقَد عشية السبت في كنيسة الجماعة يبقى مغلقا في وجوه الغرباء ولا يرتاده سوى الأتباع. ما دفع الكنيسة إلى التدخل ومنع ريكاردي من تقديم العظة بدل الراهب المكرَّس. وتحذيره من مغبة إلحاق تحويرات بالليتورجيا، بعد أن بدأت الجماعة تضيف من وحيها طقوسا شرقية.
لكن إلى جانب انشغال سانت إيجيديو بالمهمَّشين في الداخل، أوْلت اهتماما بالغا للوساطة “الدبلوماسية الصامتة” لحل النزاعات في بلدان العالم الثالث أيضا، بحثاً عن دور في الساحة الدولية، لا سيما وأن العصر تجاوز التبشير بالإنجيل وغدا التبشير بأدوات مستجدة فاعلة في السياسة الدولية.
صحيح أن الجماعة كانت تتدخل بين الصغار وتخشى الكبار، لكن ذلك راكم لديها خبرة عالية تطورت مع السنين. وكان لا بد في هذا المسار من مباركة علنية من الفاتيكان نالتها مع العام 1986. واستطاعت أن تحافظ على ذلك الوجه العلماني في الخارج والكاثوليكي في الداخل. باتت الجماعة تربطها علاقات وثيقة بالمتنفذين تحت قبة بطرس، وتراجعت الخشية من تشكّل كنيسة داخل الكنيسة. وأمام براعة الوساطة الدبلوماسية التي صارت بحوزة سانت إيجيديو، ولا سيما في العالم الثالث، لم تر كنيسة روما مانعا في تكليفها بتنظيم ملتقى أسيزي الشهير الذي حشدت له جملة من قادة أديان العالم، نالت على إثره الجماعة لقب “أمم المتحدة الفاتيكان”. وقد كان اللقاء فرصةً ناجحة لترويج رسالة الكنيسة وأسلوباً مستحدَثاً للتبشير بالإنجيل، في وقت كان فيه البابا الراحل كارول ووجتيلا مهووسا بالظهور الإعلامي.
توالت عمليات الوساطة للجماعة في البلقان وبوروندي وغواتيمالا وساحل العاج وليبيريا، وكان الإنجاز الكبير لسانت إيجيديو في حل مسألة الصراع الدائر في الموزمبيق وتوقيع معاهدة السلام في روما بين الأطراف المتنازعة (1992). وأبرز ما تم من الجانب العربي، ترتيب لقاءات للقيادي الإسلامي حسن الترابي مع الزعيم جون غارنغ، بقصد تسوية المسائل العالقة بشأن جنوب السودان. وتوقيع وليد جمبلاط والبطريرك الملكاني مكسيموس الخامس اتفاقا (سنة 1982) بشأن مسيحي قضاء الشوف في لبنان.
غير أن فشل مبادرة رعاية الحوار المتعلق بالجزائر، إبان العشرية السوداء، يوم قالت الجزائر كلمتها لا للتفاوض في ظل الصليب، كان ضربة موجعة لسانت إيجيديو. في وقت كانت فيه الجماعة حريصة على خلق شخصية اعتبارية تغدو بموجبها نافذة في الساحة الدولية. والحال أن القضية الجزائرية حينها ما كانت سوى درجة في السلّم تودّ سانت إيجيديو تخطّيها أو الصعود عليها إلى أعلى.
لا يزال دأب الجماعة اصطياد المتنفذين، أكانوا عاملين في المؤسسات الإعلامية، أو ناشطين في الأحزاب السياسية، أو أشخاصا مؤثرين في السياسة الدولية، وتحرص على جلبهم إلى روما وإدخالهم دير تراتستيفيري. لكن من يهوِي منهم يقلّ مجيئه، وتلك حال الشيخ حسن الترابي من الجانب العربي، ناله حظٌّ عظيم وزار قداسة الحبر الأعظم يوحنا بولس الثاني، غير أنه منذ أن صار من رواد السجون قلّ عبوره من روما، فالجماعة لا تحبّ الآفلين.
المقالة 7
الساحات عامرة والكنائس خاوية
بموجب سكناي في روما في حي شعبي متاخم لحاضرة الفاتيكان، اعتدت أن أتوجّه صبيحة أيام الآحاد وأيام الأعياد إلى ساحة القدّيس بطرس في روما في جولة روتينية، رفقة أفراد عائلتي أو بمفردي، فأصغي إلى ما تيسّر من عظة البابا، وأتمعّن في الحشود الآتية من كل فجّ عميق، ثم أعرّج باتجاه المسرح الروماني، لأزور موضع المعتقَل الذي هلك فيه النوميدي يوغرطة. غير أن ما يسترعى انتباهي مع كل جولة، قلّة الزوار في ساحة القدّيس بطرس، كبرى ساحات الكاثوليكية في العالم. فعادة ما يتوافد الزوار بالألوف عند أداء قداس يوم الأحد، لكن كثيرا ما صادف أن لاحظت الساحة مقفرة على غير عادتها، خالية من الوفود الحاشدة، إلا بضعة مئات من الحضور، فقد تمثّل لي البابا يعظ التماثيل والأوثان التي تزدحم بها الساحة لا المؤمنين برسالته.
والواقع أن تقلّص أعداد الوفود التي تفد على ساحة القديس بطرس، انطلق منذ اعتلاء البابا جوزيف راتسينغر كرسي الحبرية في 19 أبريل 2005. فقد قُدِّر التراجع على مدى السنة الماضية بما يربو عن نصف مليون، وهو نزيف هائل في أعداد القادمين إلى كنيسة القديس بطرس، كنيسة البابا، ذلك ما تجلّى بحسب المعلومات الرسمية الأخيرة الصادرة عن القصر الرسولي بالفاتيكان. فخلال العام 2008 توافد على اللقاءات العامة مع البابا، سواء في كنيسة القديس بطرس أو في كاستل غاندولف، مقرّ الإقامة الصيفية للبابا في ريف روما، مليونان ومئتا ألف من الزوار والأتباع والحجيج. ولتتضح الأمور بشكل أفضل، يستدعي الأمر العودة إلى أرقام السنوات الماضية. فخلال الاثني عشر شهرا الأولى من حبرية راتسينغر توافد للاستماع لعظة البابا أكثر من أربعة ملايين شخص. تراجعت أعداد الوافدين على الساحة للعام الثاني على التوالي، من مليونين وثمانمئة ألف سنة 2007 إلى مليونين ومئتي ألف خلال العام 2008، وقد كان العدد خلال العام 2006 زهاء ثلاثة ملايين ومئتي ألف.
الملاحظ أن حشود الوافدين الكاثوليك على ساحة القدّيس بطرس، تأتي أساسا بغرض زيارة ضريح البابا السابق كارول ووجتيلا، وليس انجذابا إلى عظة البابا راتسينغر. وهو ما يدعمه إقبال الزوار والسياح على اقتناء البطاقات البريدية، والروزنامات، والألبومات، التي تضمّ صور البابا السابق أكثر من اقتناء مثيلاتها التي يرد فيها البابا الحالي.
تفوق أعداد الكاثوليك المليار ومئة ألف نسمة، لكن هذا العدد الهائل ما عاد يحفزه الانجذاب الكافي إلى رأس الكنيسة في روما. لا بد من النظر إلى هذا التراجع ضمن بعدين: الأول ماكرو مسيحي، ونعني به التراجع العام للمسيحية في الغرب وتطوّرها خارج الغرب، خصوصا في إفريقيا، حيث تضاعف العدد ثلاث مرّات خلال ربع قرن، وهو الازدياد الأكثر ديناميكية في العالم الكاثوليكي. كان العدد خلال 1978 55 مليونا تقريبا، وبلغ مع حلول 2004 149 مليونا؛ والثاني ميكرو مسيحي، وهو فقدان رجل الدين الكاثوليكي لدوره الروحي في المجتمع، وتحوله إلى حرس لنظام اجتماعي ليبرالي، فما عاد المؤمن يعنيه احتكار الكنيسة للقداسة في زمن ما بعد الحداثة.
ففي قارة عتيقة، صارت حتى الكنيسة عتيقة، أو بالأحرى في قارة هرمة غدت حتى الكنيسة هرمة. فالأب المقدّس، أو الحبر المقدّس، أو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، أو خليفة المسيح، بحسب نعوت المؤمنين له هو ظلّ الربّ على أرضه، غير أن هذا التجلي ما عاد يجلب المؤمن، فأين الخلل؟ ثمة من يفسر ذلك الأمر بمحدودية كاريزما راتسينغر، وقلة شمائل جذبه، التي تمتد من لسانه الإيطالي الركيك، رغم مضي ما يناهز ثلاثة عقود على عيشه في إيطاليا، إلى ما يميزه من خجل مفرط.
قد تكون تلك من جملة العوامل التي تنفر الناس من راتسينغر، ولكن ما العوامل التي تجعل المجتمع ينأى عن الكنيسة، وبالمثل تبتعد الكنيسة عن المجتمع؛ أو بحسب القول الشائع الذي يلخص النزيف المتواصل: “الساحات عامرة والكنائس خاوية”؟ يحصل ذلك حين تتحول الأديان إلى هياكل تفتقر للروح، حين يصير المعبد أقدس من البشر، حين يتحول السدنة أنفذ سلطانا من الربوبية، وحين يصير بهرج الطقس أعلى شأنا من الشعيرة، عندها يدخل الدين حالة الموات.
لقد صارت الكنيسة مرفوضة حتى في فضاءاتها التقليدية، فأعتى الدول الكاثوليكية إيطاليا وإسبانيا، تشهدان مواسم “مقامع الصلبان”، فبعد حكم القاضي في إيطاليا بقانونية إنزال الصلبان من قاعات التدريس، في حال مطالبة أحد أولياء التلاميذ بذلك، ها هي إسبانيا في الثالث والعشرين من نوفمبر من العام الماضي، يقضي فيها القاضي أليخاندرو فالنتين بقانونية إنزال الصليب من جدران مدرسة عمومية، بعد أن كان من المقدسات، منذ أن عدّ فرانكو الكاثوليكية دين الدولة.
المقالة 8
ما بعد المسيحية
لا تزال المقولة الرائجة في أوساط علماء الإناسة، إن الإنسان مهيأ أنثروبولوجيا للاعتقاد الديني، تنطبق على الإنسان الغربي، رغم التبدل الهائل الذي ألمّ بالدين والمتديّن على حدّ سواء. وفي ظل تلك التحولات العميقة، جدير التساؤل إلى أين يسير “الكائن المتدين” في الغرب؟ ربما كانت الأحكام متسرعة وقتما شاع ان العلمانية، أو بالأحرى اللاتدين، هو قدر الإنسان؛ ولم يشهد هذا القرار الحاسم فتورا سوى مع ظهور ردات كبرى، أبرزت حضور الدين كقوة فاعلة ومصيرية في التحولات الاجتماعية (إيران -1979- وبولندا -1980- على سبيل الذكر).
ما يعنينا أساسا في حديثنا هنا وهو المصائر التي تتربص بالتدين التقليدي في الغرب، المتمثل في المسيحية، والذي يبدو سائرا نحو حقبة ما بعد المسيحية، أو إن شئنا وبشكل أدق نحو ما بعد الكاثوليكية، ونحو ما بعد الأنغليكانية، وما شابهها من الانشقاقات الأخرى. المتابعون للتحولات الدينية، من اللاهوتيين والعلمانيين، باتوا يتقاسمون الرأي حول هذا الوضع المستجد، الذي تفقد فيه مؤسسة الكنيسة ألقها ودورها وسطوتها. لم تعُد الكنيسة مظلة المجتمع، بعد أن فقدت احتكار المقدس الذي بقي طويلا رهن أمرها.
في فترة سابقة كان يُنظر إلى أشكال الجزر الديني، الحادثة مع الثورة الفرنسية، ثم لاحقا مع الثورة البلشفية، أنها أوضاع ناشئة بموجب عوامل العسف والقهر والاجتثاث التي رعتها السلطات القائمة، ولم تأت جراء تحولات عميقة مسّت وعي الإنسان بذاته وبالعالم. لكن رصد علماء الاجتماع تواصل تراجع المسيحية، وبشكل بارز في ظل الأوضاع الديمقراطية، وفي أجواء انفتاح السوق الدينية على التنافس الحر، دفع إلى البحث عن تفسيرات مقنعة لهذا “الانسلاخ المسيحي” -decristianizzazione-.
ففي أعقاب التحولات التي تلت انتفاضة 1968، كتب المؤرخ الفرنسي جون دوليمو مؤلفا بعنوان: “هل المسيحية بصدد لفظ أنفاسها الأخيرة؟” فحواه ما يشبه النُّذُر للأوساط اللاهوتية. حوصل الرجل مبررات التراجع، منطلقا من فترة “مناهضة الإكليروس” -anticlericalismo- حتى بلوغ مرحلة “الانسلاخ المسيحي”. وللذكر المؤرخ دوليمو هو امرؤ مؤمن لم يهجر الإيمان الكاثوليكي. أقرّ في حديثه عن التحولات الجارية بحقيقة تحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات لاأدرية دون لفّ أو دوران. كان الإقرار بذلك الواقع، من قبل مثقف مؤمن، شجاعةً دينيةً حينها.
ومن جانب آخر، وكسبيل للخروج من حالة “الانسلاخ المسيحي” اقترح اللاهوتي الفرنسي بول فالانديي في مؤلفه “مسيحية المستقبل” (1999) تحالفا جديدا بين العقل والإيمان، بين منطق العقل وإرشاد النقل. ففي زمن الشك والعدمية لا ينبغي التهوين من قدرات العقل، موردا في مؤلفه المذكور: “نتخبط في عالم يائس تغمره ثقافة الموت، وفي غياب للمعنى بما يماثل الوقوف على عتبات البربرية. ينبغي أن يكون ذلك حافزا لتفادي بثّ اليأس في قدرات العقل: لسنا الآن في زمن التفاؤل غير المشروط، ولكن بالعكس في زمن انقشاع الأوهام والعدمية”.
وأمّا عالم الاجتماع الألماني هانس جواس، المتابع النبيه للتحولات الدينية، فهو يقرّ في مؤلفه “الإيمان كخيار: فرصة المستقبل للمسيحية” (2012) بحقيقة تراجع أعداد المؤمنين –أي المسيحيين- في أوروبا، وبالمثل يقرّ أيضا بأن العلمانية تتراجع. سقنا هذه الإشارات بشكل مقتضب حتى نبيّن أن “الانسلاخ المسيحي” بات أمرا واقعا، وأن هناك حقبة جديدة نعيشها في الغرب تتجاوز الضوابط التقليدية للدين. ولكن إن كان الناس للكنائس يهجرون ومن العلمانية يفرون فإلى أين يذهبون؟ على ما يبدو أن الغربيَّ قد صار متدينا “مترحلا” ينشد الاعتقاد وينفر من الانتماء، يتطلع إلى المتعالي ويهجر المؤسسة الواحدة الجامدة، يصغي إلى الدالاي لاما ويتتبع خطى البابا، على حد سواء، ويهتم بالـ”نيو آيج” ويرتاد نوادي التأمل البوذي، دون أن يحس بالتناقض أو التضارب في هذا الخليط الاعتقادي.
خلف محل سكناي الواقع في حي شعبي في مدينة روما تنتصب كنيسة الحي على مرمى حجر من بيتي، لم يترك الكهنة الساهرون على شأن القداس وسيلة إلا توسلوا بها لردّ الخراف الضالة. ربما نجح الخوري في استدراج الناس للهو والحفلات والتجمعات المنعقدة في الحديقة الخلفية، لكن المصلين انفضوا إلى شأن آخر، فالمذبح خاو على عروشه.
لكن هذه المؤشرات المابعد مسيحية لو أضفنا إليها بعض الأرقام لبات الأمر أكثر جلاء، فوفق إحصاء أجرته صحيفة “لوسّرْفاتوري رومانو”، لسان حاضرة الفاتيكان، سنة 1997، بلغ عدد رجال الدين الكاثوليك الذين هجروا الكنيسة 46 ألفا من العام 1970 إلى العام 1995. وخلال شهر أبريل من العام الحالي، وصف روان وليامز رئيس أساقفة كانتربري الأسبق المملكةَ المتحدةَ، بأنها دخلت مرحلة ما بعد المسيحية، وأن نعت أنجلترا بالبلد المسيحي هو بمعنى اختزانها قيماً مسيحية وليس بمعنى أن البلد مأهول بالمؤمنين، وذلك في تعليق له على نتائج سبر للآراء أجرته صحيفة “الصانداي تليغراف” أبرزت أن 14 بالمائة فقط من الأنجليز يعرّفون أنفسهم بأنهم على شعائرهم يحافظون، وأن 38 بالمائة لا يؤدونها، وأن 41 بالمائة ممن شملهم السبر صرحوا بأنهم لا يتبعون أي دين.
ورد في إنجيل متى (21: 44): “لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره”.
المقالة 9
البابا فرانسيس والعقبات العشر
في بحث منشور في مجلة “لِيمس” الإيطالية المعنية بالتحولات السياسية، ضمن عدد أبريل من العام الماضي، أوردَ المؤرخ ألبرتو ميلّوني عشر مسائل عويصة تنتظر البابا فرانسيس: “إصلاح الكوريا رومانا (أي مراجعة الجهاز السلطوي داخل الفاتيكان)، إلغاء الإيور (والمراد به حلّ الجهاز المالي الكنسي بعد تبيّن عدم قابليته للترميم)، الإعفاء عن السلفيين (أي مصالحة المنشقين على غرار اللوفابريين)، التسيير الجماعي للكنيسة (بما يعني تجنب احتكار السلطة وتبني نهج ديمقراطي)، وحدة الكنائس (السعي للمّ شمل أتباع المسيح)، الالتزام بالإنجيل (بما مفاده العودة إلى تعاليم المسيحية السمحة بعد هجرانها)، مراجعة المهام الكنسية (لا سيما ما تعلق منها بالتكوين والأدوار)، علاقة كنيسة روما بالشرق (أي مراجعة السياسات الدينية الفاشلة على غرار الموقف من كنيسة الصين)، الهدنة مع الإسلام (بما يعني إرساء صلح فعلي، يتخطى الحوارات الموسمية)، وأخيرا عقد مجْمَع (تُطرح فيه القضايا المصيرية للكنيسة).
هذه التركة الثقيلة التي ورثها البابا فرانسيس هي علاوة على كونها مزمِنة هي منهِكة أيضا. أنطونيو سبادارو مدير مجلة “لاشيفيلتا كاتّوليكا” (الحضارة الكاثوليكية)، في معرض حديثه عن استراتيجية البابا الحالي أورد: يسألني كثيرون عن مشروع البابا، أقول يبدو الأمر بما يشبه التناقض، وأكاد أجزم أنه لا يعرفه حتى هو.
فمنذ تولي البابا فرانسيس مهامه تعددت النعوت بشأنه، بحثا عن الإلمام بشخصه. وفي الواقع ليس فرانسيس بابا ثوريا حتى يقلب الكنيسة رأسا على عقب، ولا بابا شيوعيا حتى ينادي بالعدالة، ولا أيضا “بابا رجعيا” كما عنْونت “دير شبيغل” الألمانية، بل هو في تقديرنا بابا رومانسي ينشد العودة الحالمة إلى التقليد الإنجيلي. يحاول أن يسلك على نقيض سلفه، وأن يبني هويته البابوية على خلافه. أي البابا الجريء في مقابل البابا الخجول. والبابا المنفتح في مقابل البابا المنطوي. والبابا الوديع في مقابل البابا الخصيم. والبابا العفوي في مقابل البابا المتوجس، تلك هي الدائرة السيكولوجية التي يتحرك فيها خورخي ماريو برغوليو.
فهناك سمة غالبة على الرجل وهي الاندفاع المفرط في قوله وفي فعله، ليس أقلها تصريحه بولعه برقصة التانغو لكن تلك العفوية لم تعفِ برغوليو من تهمة اللهاث وراء الشعبوية، والشعبوية والمرائية توأمان يتناقضان مع روح الدين. وفي غمرة هذا الاندفاع للرجل تبقى مجمل التحديات العويصة مؤجلة، وإن كانت من ضمنها قضايا مستعجلة وأخرى قابلة للتأجيل. وربما ما استأثر بالحديث طيلة المدة التي شغلها حتى الراهن، والتي تناهز الثلاثة عشر شهرا، أمران: الحرص على إجراء تحوير في المواقع الحساسة، بقصد إعادة توزيع السلطة داخل كنيسة روما ولا سيما في “الكوريا رومانا”، العصب الرئيس في الفاتيكان، وقد بات إصلاحها من المهام العصية، والتي تكاد تكون ميئوسة وفق تقدير الخبير بالشأن الفاتيكاني ماركو أنسالدو؛ وإيلاء الشأن المالي الكنسي، وما يستدعيه من تخل عن مظاهر البذخ، والدفع نحو خط الكنيسة الفقيرة. إدراكا من برغوليو أن الكنيسة قد أصبحت مؤسسة متخمة يلهيها المال وغافلة عن تعاليم الإنجيل. وآخر تداعيات ذلك الخط الذي انتهجه برغوليو، أن رئيس أساقفة ولاية أطلنطا في الولايات المتحدة المونسنيور ويلتون غريغوري، الذي أنفق أكثر من مليوني دولار على مقر إقامته الفخم، استحى وثاب إلى رشده، وعرَضَ القصر للبيع في مناقصة عمومية، بعد أن عاب عليه صحبه إسرافه الذي لا يليق برجل دين يردّد قول المسيح (ع): “للثعالب أوجار، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له دار”. (متى8: 20)
وما يبقى جليا مع فرانسيس (برغوليو) في فترة بابويته القصيرة، وهو هاجس الغرق المتدرج لكنيسة روما في المال الفاسد، والتآكل المتسارع لرصيدها المعنوي والخُلقي جراء التصرفات المشينة لشريحة واسعة من رجال السوء من رجال الدين. منذ إدراجها من قبل الهيئات المالية الدولية في عداد الدول التي تقترف تبييض الأموال، ومنذ اتهام لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة حاضرة الفاتيكان بالتستر على الذين يأتون الفاحشة.
وفي تشخيص لتلك الأدواء التي تفتك بالكنيسة، هناك رأي شائع أن رجال الدين الإيطاليين يتحملون الوزر الأكبر في ما آلت إليه الأمور، جراء التسيير الخاطئ واستشراء البيروقراطية واستفحالها؛ وبالمثل جراء قِصر نظر الكنيسة الأوروبية، التي تعوزها الرؤية المسكونية، في وقت يتواجد فيه 43 بالمئة من كاثوليك العالم في أمريكا الجنوبية. لذلك بدا تصعيد فرانسيس لسدة البابوية حاجة ماسة وبحثا عن خلاص عميق، ومن ناحية أخرى بمثابة مسرح عبث. إذ كيف للذين صنعوا التلوّث أن يكلّفوا شخصا جادا لتنقية ذلك التلوث؟ والحال أن المؤسسة الدينية تدافع عن مصالحها التي ترتئي أنها مرتبطة بجوهرها الإلهي، بحسب تشخيص المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
يعلق اللاهوتي هانس كونغ على المساعي الحازمة لفرانسيس للخروج من ورطة الكنيسة بقوله: البابا يريد الذهاب قدما، غير أن محافظ الكرسي الرسولي جورج غانسوين يثنيه. البابا تشغله الإنسانية الحية، في حين تشدّ غانسوين الرؤية الجامدة. البابا يريد أن يوجد سينودس الأساقفة حلاًّ فعليا للمشاكل التي تعصف بالأسرة، المزمع عقده في أكتوبر القادم، لكن غانسوين يستند على رؤى عقدية تقليدية لإبقاء الوضع على ما هو عليه.
وفي غمرة هذه التحديات التي تؤرق الكنيسة الكاثوليكية، يعوّل البابا فرانسيس في عملية الإصلاح المستعجلة على الكرادلة الثمانية، على مجلس الحكماء الذي شكله، للقيام بتشخيص الأمراض التي تفتك بالقطيع. وبالمقابل في غمرة المصاعب التي تواجه الكنيسة العربية، يعوّل شق هام من أتباع المسيح على الكنيسة الغربية المنهَكة في تجاوز المحن التي تعصف بكنائس المشرق. وبالمحصلة أن البابا فرانسيس كغيره من البابوات يلوّح بناظريه نحو الشرق، إلى كنيسة القيامة وبيت لحم والناصرة، لكن ذلك لا يعني الكثير لديه أمام ما يشغله من مشاكل بيته في روما.
المقالة 10
حاضرة الفاتيكان والإعلام الديني
اتخذت الكنيسة الكاثوليكية استراتيجيات إعلامية اختلفت باختلاف المواسم، وفي الراهن الحالي الذي يقضّ مضجع اللاهوتيين، ما عاد الإعلام الكنسي أساسه القول القائل إن قوة الحقيقة كفيل بعرضها، بل بات الأمر يتطلب مهنية وخبرة ودربة. غدت الكنيسة في عصرنا شريكا إعلاميا بارزا في الأوساط الغربية بشكل عام وفي الساحة الإيطالية بشكل خاص، حيث تعددت الوسائط الإعلامية ذات المنحى الكاثوليكي بغرض ترويج مراد الكنيسة الديني والثقافي، وكذلك موقفها السياسي أيضا من العديد من القضايا الساخنة. وقد تولدت الحاجة الماسة إلى هذا الحضور في أعقاب تقلص الحضور الفعلي للكنيسة في الواقع، حيث باتت “الكنائس خالية والساحات عامرة”، على حدّ التعبير الشائع، الأمر الذي دعاها إلى تكثيف حضورها في عدة مجالات إعلامية، وحتى الافتراضية منها، في محاولة لاستغلال القدرات التي يتيحها الإعلام البديل، كل ذلك لفائدة ترويج رسالة الكنيسة التي باتت تعتمد “التبشير بالإنجيل في عالم متغير”.
ومن الوثائق التأسيسية التي صدرت عن مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، والتي أولت الشأن الإعلامي اهتماما، جاء قرار (Inter mirifica) المتعلق بوسائل الاتصال الاجتماعي والمصادق عليه في الرابع من ديسمبر 1963، فكان من أبرز القرارات التي حثّت الكنيسة على ألا تبقى خارج الانشغال والتوظيف والاستغلال للشأن الإعلامي. ورد في نص القرار: “تقرّ الكنيسة أن الاستغلال المحكم لهذه الوسائل يمنح العائلة البشرية مغانم جمة، لأنها تسهم بشكل فعال في تسامي الروح وإغنائها، فضلا عن دعم مملكة الرب. لكنها تدرك أيضا أن الإنسان يمكن أن يوظِّف تلك الوسائل لهلاكه وضدّ مراد الخالق… كما تؤمن الكنيسة بواجبها في استغلال وسائل الاتصال للتبشير بالخلاص وتعليم البشر الاستعمال الصائب لهذه الوسائل”. وقد تدعّم ذلك بالعديد من الرسائل البابوية لعل من أهمها رسالة البابا الراحل بولس السادس بشأن الإعلام المسماة بـ”إيفنجلي نونتياندي” رقم: 45، مبينا من خلالها أن الكنيسة “تشعر أنها مذنبة أمام ربها إن لم توظف هذه الأدوات لفائدة الأنْجَلة”.
وفي ضوء ذلك الحرص على الحضور في المجال الإعلامي، يمكن تقسيم وسائل الإعلام الكاثوليكية إلى ثلاثة أصناف رئيسية:
أ- الإعلام المكتوب: الذي تحوز فيه الكنيسة الكاثوليكية مجموعة من الصحف والمجلات، ذات الانتشار الواسع، والتي لا يقتصر قراءها على رجال الدين والمتدينين، بل تتوجه إلى عامة الناس وتغطّي حاجات شرائح متنوعة داخل إيطاليا وخارجها. لعل أبرز تلك العناوين في الصحافة المكتوبة:
صحيفة “لوسّرْفاتوري رومانو” –المراقب الروماني- وهي صحيفة يومية، تعد اللسان الرسمي لحاضرة الفاتيكان، بُعثت في يوليو 1861 وقد احتفلت في المدة الأخيرة بمرور قرن ونصف على تأسيسها. ويتميز محتوى هذه الصحيفة بالتحاليل المعمَّقة للأحداث والوقائع بناء على وجهة النظر الكاثوليكية، كما تضمّ إلى طاقمها مجموعة من الصحفيين والكتّاب من خارج الأوساط الدينية، ممن يسمون بالعلمانيين ولكن من الموالين إلى خط الكنيسة. تليها في المتابعة والاهتمام صحيفة “أَفِنيري” –المستقبل- التي بُعثت إبّان انعقاد أشغال مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1968، وهي صحيفة يومية ناطقة باسم المؤتمر الأسقفي الإيطالي، الذراع النافذة لحاضرة الفاتيكان داخل الأوساط الإيطالية، بما أن المؤتمر تتركّز مهامه بالأساس على رصد المسارات الدينية والاجتماعية والسياسية داخل إيطاليا، وتداوُلها ومُراجعتها مع كبار الكرادلة والأساقفة في دولة الفاتيكان.
ومن جانب آخر تبقى المجلة الأسبوعية “فاميليا كريستيانا” –الأسرة المسيحية- أكثر المجلات الأسبوعية توزيعا وقراءة في إيطاليا، وهي مجلة عقائدية تربوية، فضلا عن اهتماماتها الاجتماعية والسياسية من زاوية نظر كاثوليكية، وهي المجلة الأكثر تأثيرا في الطبقات الشعبية وفي الشرائح العمرية المتقدمة. تعضدها كوكبة من المجلات الدينية مثل: المجلة الشهرية “30 جورني” –ثلاثون يوما- التي أسسها السياسي الراحل جوليو أندريوتي، وهي مجلة توزّع بخمس لغات؛ كذلك مجلة “يسوع” ومجلة “فيفيري” –حياة- الشهرية، ومجلة “غازيتا دالبا” الأسبوعية. وتستقي هذه العناوين مضامينها وأخبارها بالأساس من “وكالة الفاتيكان للخدمات الإعلامية” –Vatican Information Service-، فضلا عن “وكالة الأنباء فيدس” –Agenzia Fides- التابعتين للفاتيكان. تعضد تلك العناوين شبكة نشيطة من دور النشر والتوزيع الكاثوليكية، لعل أشهرها دور نشر “مكتبة النشر الفاتيكانية”، و”سان باولو”، و”جاكا بوك”، و”دار التبشير الإيطالية”.
ب- الإعلام التلفزي والإذاعي: يتمحور هذا النشاط بالأساس حول “مركز تلفزيون الفاتيكان” –Centro Televisivo Vaticano– الذي انطلق في عمله سنة 1983، وهو إلى حد الآن لا يحوي في جنباته قناة بث بل هو عبارة عن مركز إنتاج وتوزيع؛ لكن يبقى، على المستوى المحلي، تواجد عديد المحطات التلفزية الكاثوليكية، جلها ذات تغطية محدودة. ولسدّ ذلك النقص بعث المؤتمر الأسقفي –أعلى هيئة كنسية في الداخل الإيطالي- تليفزيون –TV2000- الذي انطلق بثّه في مرحلة أولى عبر القمر الصناعي ثم توسع في مرحلة لاحقة عبر بثّ أرضي، رغم ذلك تبقى الكنيسة تنقصها قناة كبيرة تضاهي الشبكات العالمية.
ذلك في المجال التلفزي، أما في مجال البثّ الإذاعي، فيبقى “راديو الفاتيكان”، الذي تأسس في الثاني عشر من فبراير من العام 1931، الأبرز في الساحة المحلية والدولية، وهي محطة تتناول القضايا السياسية والاجتماعية من منظور حاضرة الفاتيكان. المحطة ناطقة بعدة لغات منها العربية، وقد اُحتفل بمرور ثمانين سنة على إنشائها. ونظرا لطبيعة التقسيم الإداري الكنسي للتراب الإيطالي إلى أبرشيات، بما يضاهي توزع مقاطعات الدولة الإيطالية، فليست هناك أبرشية تخلو من محطة بث إذاعي خاصة بها. وضمن هذه الشبكة الواسعة من البث الإذاعي يمثل “راديو ماريا” –راديو مريم- ظاهرة إعلامية مسيحية على حدة. حيث انطلقت هذه المحطة في البداية كراديو خاص بخورنية محددة في منطقة ألتا برييانزا في شمال إيطاليا لتتطور وتصبح محطة بث عالمي، تولدت عنها العديد من المحطات المحلية، بلغ عددها حتى الراهن خمسين محطة، منتشرة في شتى أنحاء العالم لتُشكّل ما يعرف بـ”الأسرة العالمية لراديو مريم”، وآخرها إنشاءً كان راديو ماريا في البوسنة، وراديو ماريا في غينيا الجديدة، وراديو ماريا في سويسرا. وهي إذاعات في العموم ذات منحى أصولي، أثارت العديد من القلاقل في بعض البلدان نظرا لخطابها المنغلق والمتشدّد.
ج- الإعلام الإلكتروني
تبقى سنوات الثمانينيات فترة التحول العميق في الاستراتيجيا الإعلامية للكنيسة وقد عُدّ البابا يوحنا بولس الثاني رمز هذا التحول، من خلال الإصرار على إحضاره وسط الضجة الإعلامية بشكل دائم ومتتابع. ولا شك أن مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية في روما، في مساعيها لتجديد دورها وتطويره في الساحة الإعلامية، تستند إلى خبرة عريقة في العمل الإعلامي، ما عادت تقنع فيها بالوسائل التقليدية. ومن هذا الباب برز اهتمام حاضرة الفاتيكان بالإعلام البديل بعد تعيين كلاوديو ماريا شالي رئيس المجلس البابوي للإعلام الاجتماعي. ويعد الموقع الرسمي للكرسي الرسولي (www.vatican.va) الذي انطلق في العام 1997 أبرز المواقع الكاثوليكية على مستوى عالمي. فالموقع يقدّم خدماته بثماني لغات: اللاتينية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والبرتغالية والصينية، ويرتاد صفحاته خمسون مليون زائر شهريا. وربما الميزة البارزة لهذا الموقع وهو الطابع التوثيقي لكل ما يتعلق بالشأن الفاتيكاني، لذلك بات مرجعا للعديد من الكتّاب والصحافيين والباحثين المهتمين بالشأن الديني الكاثوليكي.
لكن أمام تزايد الحاجة إلى الإعلام المواكب للأحداث المتتالية والأخبار المتسارعة، تقرر منذ فترة وجيزة بعث موقع “نيوز.فا” بخمس لغات، وهو موقع إخباري بالأساس، تعبّر من خلاله حاضرة الفاتيكان عن سياستها الخاصة تجاه القضايا المحلية والدولية. ما زال الموقع يشقّ طريقه من حيث التطور والمهنية، رغم ذلك يبلغ عدد زواره بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف زائر يوميا. وقد ناهز زواره يوم عيد الميلاد الفارط 16 ألف زائر، وقاربت مدة المكوث بالموقع زهاء الدقيقتين، ما يعني أن الدخول ليس عفويا، لكن لغرض البحث أو الاطلاع أو استقاء المعلومة.
ولكن أمام تعدد المواقع، التي تعرّف نفسها أنها كاثوليكية، تخشى كنيسة روما فقدان احتكار المعلومة الدينية بالأساس، وهو ما مارسته طيلة عهود. فهناك مزاحمة في هرمنوطيقيا النصوص ومزاحمة في ترويج المعلومة، ما يهدد بانفراط احتكار المعنى الديني. كما تخشى الكنيسة من الإعلام المناهض بشكل مباشر، وهو ما تجلى بالخصوص في استغلال قضايا مثل قضية راتسبونا والعالم الإسلامي، وقضية وليامسون اللوفبرياني ونفيه للمحرقة اليهودية، أو استغلال مسائل الفضائح الجنسية بين رجال الدين.
بالفعل لقد هزت الكنيسة الكاثوليكية ثورة إعلامية حقيقية، حيث جرت العادة في السابق بالسماح للأعلى رتبة في الأبرشية أو الخورنية بحقّ مراقبة مراسلات التابعين له، ولكن مع الثورة الإعلامية تقلص ذلك الامتياز، فكيف تُراقَب الإرساليات القصيرة والسكايب والبريد الإلكتروني والدردشة وغيرها؟ أمام ذلك التحدي تسعى الكنيسة جاهدة لإقرار ما يشبه الوفاق الخلقي بين العاملين في الحقل الديني علّها تحد من المنافسة القوية والمناهضة، في بعض الأحيان، وعلّها تعوّض عن تلك الرقابة المفتقدة.
المقالة 11
“الفاتيكانيستا”.. سعيا لمتابعة أنشطة أقوى مؤسسة دينية في العالم
لا مراء أن القرون الخمسة التي تلت تدشين العمل بمطبعة غوتنبرغ، وإلى حين انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني (1962)، لا تضاهي من حيث الكمّ والكيف، ما حصل من إنجازات إعلامية في حاضرة الفاتيكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، وهو ما بلغ أوجه مع ما نشهده من تطورات رَقمية باهرة. وفي الحقيقة، كان مردّ ذلك التحول إلى إنشاء المكتب الإعلامي للكرسي الرسولي المعروف باسم –Sala stampa-، خلال العام 1966، والذي من مهامه مدّ الصحفيين المعتمَدين بالمادة الإعلامية المتصلة بحاضرة الفاتيكان. وعلى إثر تكليف الصحفي الإسباني يُواكوين نافارو فاليس، سنة 1984، بمهمة تسيير الجهاز الإعلامي، تحوّل المكتب الرمادي إلى آلة نشيطة في خدمة الصورة الإعلامية للكرسي الرسولي. فقد تابع نافارو فاليس ذلك العمل على مدى ثلاثة عقود، كان خلالها على اتصال بالعالم على مدار الساعة، يتلقى نهارا مكالمات من أوروبا وإفريقيا، ومساء وليلا من أمريكا، وقبيل الفجر من اليابان وآسيا، تبعا لما رواه عن سير عمله. ما حوّله إلى شخصية محورية، تتولى إلى جانب شغلها توفير المشورة والوساطة الدبلوماسية والعمل السفاري للبابا.
خبراء في الشأن الفاتيكاني
وعلى هامش هذا التطور الإعلامي داخل كنيسة روما، تولّدت مهمّة إعلامية على حدة، ألا وهي تخصص “الفاتيكانيستا”. تورد “موسوعة تريكاني الإيطالية” في تعريف كلمة “Vaticanista” –بما يضاهي مفردة “فاتيكاني” في العربية- أنه الصحفي الخبير بالنشاط الديني والسياسي للكرسي الرسولي. ونظرا لتكاثر أعداد المهتمين بالشأن الفاتيكاني باتت تلك الفئة من الصحفيين محل دراسة وبحث. تذكر رسالة جامعية بعنوان: “من هم الفاتيكانيون وماذا يفعلون؟” نوقشت في جامعة “الصليب المقدس” في روما، أن عدد الصحفيين المتابعين للشأن الفاتيكاني، والمسجَّلين بشكل دائم لدى المكتب الصحفي قد بلغ خلال العام 1970 مئتين، واليوم يقارب سبعمائة صحفي. لكن أعداد الإعلاميين الذين يحصلون على تراخيص مؤقتة وإلى آجال محددة، بغرض تغطية أحداث معينة، فهي تفوق ذلك العدد. فمثلا خلال احتفالات اليوبيل، وبمناسبة حلول الألفية الثانية، بلغت الأعداد على مدار السنة تسعة آلاف عامل في مجال الإعلام؛ حازت فيها أوروبا نصيب الأسد بنسبة 70 بالمئة، تلتها أمريكا بنسبة 19 بالمئة، وآسيا 7 بالمئة، وإفريقيا 2،5 بالمئة، والأوقيانوس 1،5 بالمئة. في ظل هذا الاهتمام لم يكن لأي من الصحف أو المؤسسات الإعلامية العربية مراسل صحفي معتمد لدى الفاتيكان.
ومن جملة هؤلاء الصحفيين المعتمَدين بشكل دائم لدى الفاتيكان، يتابع ما يزيد عن الثلث منهم أنشطة الكنيسة الكاثوليكية؛ في حين يهتم الآخرون في جزء كبير من أوقاتهم بالفاتيكان، كما يغطون أخبار إيطاليا والمتوسّط. وعادة فئة الإعلاميين المشتغلين على الفاتيكان كامل الوقت هم إيطاليون. ذلك أن أغلب الصحف الكبرى، ووكالات الأنباء، والقنوات التلفزية، والإذاعات في إيطاليا لها متابعون للشأن الفاتيكاني، وفي بعض الحالات أكثر من متابع. كما أن بعض الصحف العالمية لها خبراء في الشأن الفاتيكاني، على غرار كارولين بيغوزي التي تعمل في مجلة “باري ماتش”، وفيليب بوليلا الذي يغطي لفائدة وكالة “رويترز″، وفيكتور سمبسون المتعاون مع وكالة “أسوشيتدبرس”.
الفاتيكانيستا والحياد
ثمة صناعة إعلامية صادرة من حاضرة الفاتيكان، من جملة مقاصدها ترويج الصورة الإيجابية عن البابا. فالبابا المستقيل، جوزيف راتسينغر، غلبت عليه صورة الفيلسوف الرصين، واللاهوتي البارع، والمتحدّث الكيّس، والاستراتيجي الثاقب وغيرها من النعوت أثناء فترة بابويته؛ ومع البابا الحالي فرانسيس، تروج صورة البسيط في معاشه، والوديع في تصرفه، والمناصر للمسيحي المهمَّش باعتباره “ثأر كنائس الجنوب”. صور الميديا هذه وغيرها من الصور، عادة ما تُصنَّع وتُروَّج مع البابا المتربع على سدّة بطرس وتُستبدَل برحيله. وفي خضم هذه اللعبة الإعلامية، تطلعت الكنيسة إلى احتواء الفاتيكانيين وتحويلهم إلى أبواق دعاية لها، على غرار عملية تجميع عدد منهم، سنة 2003، وإرسالهم في شتى أنحاء العالم بقصد الترويج لصورة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. لكن تلك المحاولات للاحتواء قابلتها رغبة من قِبل شق واسع من الفاتيكانيين للمحافظة على الحياد، بقصد ضمان مصداقية واستقلالية لهذا العمل، بعيدا عن أي توظيف فجّ. ولعله من ذلك الباب توجهت جملة من الانتقادات إلى الفاتيكانيين باعتبارهم نقلة أخبار، ومشتغلين على الريتوش، وأن قلة منهم من بحوزتهم رؤية عميقة وشاملة للشأن الديني، وقادرون على تأويل الأحداث وتفسيرها بطريقة صائبة. ولكن هذا الحكم يبدو غير منصف، فالفاتيكاني هو أيضا كاشف الحقائق وصانع الأحداث، على غرار قضية “فاتيليكس″، المتعلقة بالوثائق المسرّبة من مكتب البابا، أو بشأن فضائح الاعتداءات الجنسية من قبل رجال الدين على القاصرين، أو فضح ما يسري من فساد مالي داخل “مؤسسة إيور”، قطب الرحى الاقتصادي والمالي لحاضرة الفاتيكان.
الصحافة الكاثوليكية
بشكل عام تنقسم الصحافة الإيطالية إلى صنفين بارزين: صحافة كاثوليكية وصحافة علمانية. ومن أبرز العناوين الكاثوليكية نجد “أفينيري”، و”جورنالي ديل بوبولو”، و”ليكو دي برغامو”، و”أوسرفاتوري رومانو”، و”فاميليا كريستيانا”، و”لاشيفيلتا كاتوليكا”، و”بولتّينو ساليزيانو”. وعادة ما يميز الصحافة الكاثوليكية الطابع المحافظ والحس الديني المغالي. ولئن يندرج الفاتيكانيستا ضمن الإعلام الديني بشكل عام، فهو يمثل أيضا رابطا بين النوعين، الكاثوليكي والعلماني. وبصفة تخصص الفاتيكانيستا حديث المنشأ في الإعلام الإيطالي، فلا يزال النقاش دائرا بشأن هويته؛ ولكن لا يمكن الحديث عن فاتيكانيستا يفتقر إلى الإلمام بالشأن الديني ولاسيما منه المسيحي. وإن يكن جل المشتغلين في هذا المجال، في الوقت الحالي، يتحدرون من ثقافة كاثوليكية وإرث ديني مسيحي فإن قلة منهم تشتغل في الصحافة الكاثوليكية، إذ يعمل جلّهم في الصحافة العلمانية، على غرار لويجي أكاتولي في صحيفة “كورييري ديلا سيرا”، وماركو أنسالدو في صحيفة “لاريبوبليكا”، وجاكومو غاليازي في صحيفة “لاستامبا”، وفرانكا جانسولداتي في صحيفة “المساجيرو”، وباولو روداري في صحيفة “إيلفوليو”. كما أن الفاتيكانيستا ليس صحفيا فحسب، بل هو أحيانا أكاديمي متابع للشأن الديني، ولسير أشغال الكنيسة ولأنشطة الحبر المقدس. كما أن الفاتيكانيستا ليس مراسلا أجنبيا، بل هو إعلامي متخصص، وإن كان يمكن أن يكون مراسلا في الآن نفسه.
وبصفة الفاتيكانيين جلهم أوروبيون، فإن نظرتهم للمسيحية هي بشكل عام انعكاس للمركزية الغربية. فليست هناك رؤى صادرة من الجنوب في أوساطهم. لذلك تجدهم يشتركون في الرؤية الدينية الطافحة عن كنيسة روما بشأن الخلاف الصيني-الفاتيكاني؛ أو كذلك يتبنون الرؤية الدونية والمجافية للعالم الإسلامي بصفته يمثل فضاءً لانتهاك حقوق المسيحيين، أو الموقف الفاتر من القضية الفلسطينية والتغاضي عمّا تقترفه إسرائيل ضدّ المقدسات العربية، المسيحية منها والإسلامية. ولكن هذا لا يمنع تواجد ثلة من الفاتيكانيين تُصنّف في عداد النقّاد، يأتي على رأسهم كورّادو أوجياس، الصحفي المتميز في صحيفة “لاريبوبليكا”.
الفاتيكان وفلسطين
كان لتقصير الإعلام العربي، في متابعة الشأن الديني في الغرب، أثر على تعميق هوة سوء التفاهم بين الجانبين العربي والغربي بشأن جملة من القضايا. رغم أن المؤسسة الدينية في الغرب، وعلى رأسها كنيسة روما، باتت تتحكم بمصائر كنائس عدة في البلاد العربية ولا سيما بالتراث المسيحي المادي في فلسطين. فالمفاوضات الجارية منذ سنوات بين الفاتيكان وإسرائيل بشأن مستقبل التراث المسيحي العربي في فلسطين، والتي توشك على الانتهاء مع زيارة البابا فرانسيس في مايو القادم إلى إسرائيل، غائبة عن التداول في الإعلام العربي، وهو ما سيكون له بالغ الأثر على الحق العربي. حيث لدينا اهتمام موسمي بالفاتيكان يفتقر إلى المتابعة الدائمة والرصينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.