الصفحات

الخُروجُ عَنْ نَصِّ الحِكَايَة!.. قراءة في المجموعة القصصيّة "كان ياما كان"..** محمد أبوالدهب

رؤية نقدية
في مجموعته القصصيّة الجديدة (كان ياما كان) الصادرة عن دار العين بالقاهرة يستأنس القاص محمد عبدالنبي بمقولةٍ للكاتب الدانماركي هانز كريستيان أندرسن صاحب (حكايات أندرسن) و(قصص وحكايات خرافيّة): "الحياة نفسها هي أروع حكاية خرافيّة"... يُزوّد بها القاريءَ، ربما علي سبيل التهيئة، بما يساعده علي قَطْع الشعرة الرفيعة –أو حتي تدعيم متانتها- بين الحياة (نفسها) بمثولها الثقيل المُتغامض وكوابيسها المبتَذلة السعيدة! وبين الحكاية (الخرافيّة) بنزَقها اللّذيذ وفبركتها اللطيفة واستعلائها علي الأقدار، ليصدّق القاريء أنهما (الحياة/الخرافة) حبيستان، طليقتان بالأرجح، في كائنٍ واحدٍ مفصوم (تماماً مثلما وجدنا في حكايات عبدالنبي، مثَلاً، مرايا يعبرها الحاضرُ فتتحوّل
هيئته وحياته إلي هيئة وحياة شخصٍ آخر، وصادفْنا جسداً واحداً يجمع ذكراً وأنثي متجاورَيْن فيه!) يسعي هذا الكائن المفصوم حاملاً متاعه/ حكاياته بين الأزمنة والأمكنة. وبين صارعٍ ومصروع نري الحياة مرّةً خرافة إذا جازفْنا بقطْع الشّعْرة، ومرّةً تبلّلنا الخرافة بللاً خفيفاً كسرسوب ماءٍ شحيحٍ متسرّبٍ من صُلب الحياة إذا عاكستْنا متانتُها!.. عطفاً علي الدلالة التاريخيّة الخالدة للعنوان السهل الأليف الماكر (كان ياما كان)، المُفتتَح المفضّل علي مرّ العصور للحكْي، شفاهيّاً كان أم كتابيّاً، مُخترَعاً أم منقولاً، للأطفالِ أَم لمَنْ كانوا أطفالاً!. وفي كلّ الأحوال، يبقي الحكْي هو المَنبع والمصبّ، سواء كان حكي الحياة أم حكي الخرافة، مادام محمد عبدالنبي دفعَنا بتصديره الدانماركيّ إلي مراعاة ثنائيّتهما: (لم يبقْ لنا إلا حكايات نستعين بها علي الطريق، يزعمون أنها أباطيل، ونوقن بأنها الموعد والملاذ).
تضم المجموعة خمس عشرة قصة، بالأنسب حكاية أو حدّوتة تماشياً مع الطّقس الذي هيّأه الكاتب بدايةً من غلاف كتابه، قبلها (مَدخَل) وبعدها (مَخرَج).. في المدخل، لم يكن راوينا شارداً أو ثمِلاً حين تشكّكَ هل دخل بنايةً بابُها الأماميّ علي هيئة غلافِ كتاب وغُرَفُها فُصُولُه، أم تناول كتاباً غلافُه الأماميّ علي هيئة بابٍ كبير لبنايةٍ وفصوله غرفها!.. هو لعب لعبته المُنوِّمة وزوّق فخّه الجذّاب، بين التحقّق والتخيّل، بين المعجزة والشّطَط، لِنرسوَ آمنين مُبتهجين علي (جزيرة حكاياته الخرافيّة) ونحلّ راضين مَرضيّين ب(فندق حكاياته الغريبة) كما أسماهما، شاهدين علي رغبته في استعادة اسمه القديم، وشوقه النوستالجيّ المُبهَم إلي الأرض الأُولي، وهيامه الشريد بأرضٍ آخِرة، وبحثه عن أشياء ثمينةٍ كالذهب لا يعرف اسمها أو وصفها، وتفتيشه عن سحَرةٍ من بعيدٍ يعيدون إليه موتاه الأعزّاء ويُدخلونه في أحلام، وتطلّعه للفوز بخلودٍ حتي لو كان خلوداً فانياً!، ونبشه عن أسرار الوجود والرحلة والجمال والحب والجنس والموت، مباهج الجسد ومباهج الروح اللّتيْن لا يراهما منفصلتيْن، ثم وصوله -أخيراً، حالَ خروجه- ليتساءل بوجْدٍ لا بوَجَل إن كان نجا أم غرق!
شخصيّاتٌ شهيرة في كتبِ حواديت قديمة (سندريللا، العميان الثلاثة، جاليفر، ذات الرداء الأحمر، الأقزام السبعة، البستاني والأميرة، الجنديّ الصفيح، رجل القمامة.. وغيرها) ابتعثها محمد عبدالنبي من سباتٍ طويل، من تصنّمٍ مائت لم يعدْ يجد من يعبُده، في زمانٍ صار لكلٍّ صنمه الخاص. كشف سِرّها الذي باتتْ طويلاً طاويةً إيّاه: الضجر.... الضجر من الأسلاك الشائكة التي تحدّ حكاياهم وتمنع الاقتراب من تطلّعاتٍ جديدة تغيّر مساراتها وتمنحها الفرصة لاشتباكٍ مختلف ومشاركةٍ ألِقة. ويبدو أن ضجر مشاهير الحواديت صادف ضجراً عند عبدالنبي، ربما من حلقةٍ خائبة في سلسلة الرهانات البشريّة، لذا كان لقاؤه بهم متكافئاً، خاصّةً بعد أن طمأنهم وروّض استغرابهم (تحدّقون إليّ كأنكم تنظرون إلي مسخٍ عجيب، اطمئنوا، فأنا لم أزل كما أنا، أخوكم الفنان الذي طالما أنار لياليكم، فيما مضي، بالحكايا والأغنيات) وفتحَ لهم ثغرةً في الأسلاك للخروج، ولأن إخراجَهم كان مبتدأ خروجه عليهم أدخلهم السيرك خاصّته، سِيرك ضجره وعبَثه، خداعه وانخداعه، وعْيه وصنْعته، لغته ومجازاته، فلسفته ورؤاه.. مشترطاً عليهم أن يبقي (شعارنا وهدفنا خلود بلا ضجر).
فعلَ عبدالنبي بالحكايات الأصليّة مثلما فعل المترجِم الشابّ المُكلَّف بترجمة قصص الأطفال لشركة النشر في قصة (مفقود في الترجمة)، إحدي أقرَب قصص المجموعة إلي هواجسي: "خرج عن النصّ زاجراً قِطّ الضجَر!".. أوّلاً يتسلّل كلصٍ غير متمرّس، كمشاغبٍ خوّاف يعملُ عَمْلته ويجري: (بدأتُ أتدخّل في سياق الحكايات التي أترجمها، أدسّ بعض اللمحات المتوارية والتفاصيل الهيّنة، بين الحين والآخر) كما لو أنه يجسّ النبض، ويختبر ردود الأفعال. ولمّا لم ينتفض المنافحون عن أصنامهم التي أسمَوْها هم وآباؤهم، ولما تأكّد له أنه في وادٍ غير وادي الآخرين تجرّأ، وتحوّل زَجْرُ الضجرِ إلي تمرّدٍ مكتمل الأركان و(شيئاً فشيئاً اشتدّ عود الإشارات اللطيفة) فتحقّق خلاصه من الفخّ الذي كادت خطيبته وآخرون أن تُسقطه فيه، واختار حياةً أخري تكون "الكتابة" ملاكها الحارس.
محمد عبدالنبي كان أشجع من مترجمِه الملول الثائر، هو مَنْ صَنَعه علي أي حال. لم يجسّ النبض طويلاً ولم يختبرْ، حتي وإن بدا متلَطِّفاً أحياناً: (نستطيع أن نتخيّل أن الحكاية القديمة هي الجَدّة، وحكايتنا الجديدة هذه هي حفيدتها التي تشبهها كثيراً، وتختلف عنها قليلاً) لذا توسّل بأحاييل مُعتبَرة لنقبلَ ب (مدام أميرة) الزوجة العاديّة للزوج العادي والأمّ العادية للأطفال العاديين!.. لنقبل بتحوّلها إلي (الأميرة)، أميرة الأحلام والكتب، سيّدة القصر والمكتبة، بإدخالها في مناماتٍ وإنْ بأقراصٍ منوّمة أو مخدّرة أو مُميتة، نجاةً من الغرق في كلّ هذه العاديّة!.. وحَوّلَ رجل القمامة العاديّ، المَنسيّ تقريباً -المبتسم أخيراً- إلي قدّيسٍ شهير لأنه رأي ما كان لا يجب أن يراه، ولأن أهل قريته الطيّبين بمَن فيهم مَلِكتهم لن يدركوا سِرّ لوعته وأساه الذي أفاض عليه قداسةً لم يطلبْها.. رغم ذلك، بدا عبدالنبي أشجع من مترجمه، ومن صانع الدّمَي في قصته (حديث الجندي الصفيح) الذي تمنّي لو لم تستدعِه زوجته لتناول العشاء، ليمكث وقتاً أطول في ورشته ليتبادل النظر مع مخلوقاته الصفيحيّة الصغيرة، بعد حوارٍ جذّاب بينه وبين جنديّ صفيح -فصيح!- حول العلّة من الزجّ به إلي الوجود بساقٍ واحدة!.... لم يَقنَع بإشاراتٍ لطيفة يشتدّ عُودها، ولا بتبادل النظر مع شخصيّات الحكايات، لكنه أمضَي ضجره في الجميع، فراح يتنكّر ويزيّن ويعدّل ويبدّل ويغوي، وقد استملحَ لعبته، فيلقي بالأمير في المرآة ليستحيل حطّاباً، ويوسوس ل (جاليفر) فيُغرِق بسائل شهوته الكثيف جميلات بلاد ليليبوت التي استضافتْه وأكرمتْه، ويرسم معالم مستقبل سندريللا عام 2981 في شطحةِ خيالٍ علميّ إذا سُمِح لي بالقوْل!.. وغيرها كثيرٌ في (كان ياما كان).. وهو يتخابث فينكر مسئوليّته عن هذا التحريف، الذي يري نفْعه أكبر من ضرره إذ تتأكّد به الحكاية، ويرمي بالتبِعَة علي كثرة النّقْل والناقلين: (كل شيء يتكرّر، مع كل نسخة رسميّة من الحكاية......... مع كل تكرار تتأكّد الحكاية. مع كل تكرار تتخذ الحكاية طبعة جديدة وطابعاً جديداً) لكنْ لأنه أحبَّ فَعْلَته، وأحببناها معه، يعود ليعترف بسلاسة، ربما بزهْو: (ويمكنني أن ألفّق لكم في كل ليلة حكاية جديدة، تبدو كأنها حكايتي القديمة المنسيّة) ولا يتردّد في إشراكنا معه، وقد أدركْناه قبل أن يقوله: (لكن الحكايات ليست لي، بل لكم، وسوف يتعرّف كل واحد منكم علي حكايته فور أن يسمعها، وسيعرف أنني سرقتها من أحلامه العارية في الليل) ولا نستطيع تكذيبه أو مجادلته لأن: (الرحلة واحدة، والحلم واحد، ولسنا جميعا سوي صور ورموز فيها).
تصلح كل قصص المجموعة لتبدأ ب(كان ياما كان) لكنها لا تضطرّنا لنتحفّز مُقاطِعين سائلين: (وماذا بعد؟.. "هه.. وبعدين؟) وليس ذلك لافتقادها روح التشويق وإنما لأن جرعاتها التي تمدّ بها القاريء متنوّعة ومركّزة، بين الحكي والوصف والتأمّل، قُدّمتْ بلغةٍ هادئة واثقة مُعبّأة بتراكيب مجازيّة فريدة. ربما لهذا ضبطتُني أتباطأ في قراءتها وأستلمُها بالقطعة!.. لو راجعنا، علي سبيل المثال، تأمّلات عبد النبي أو ما يمكن أن نسمّيه فلسفاته، التي يبثّها بين صفحةٍ وأخري من كتابه، والتي تفرزها بالطبع تراكماتٌ من التجارب الكتابيّة والقرائيّة والحياتيّة، وهي عنده بقدر حِدّتها تنطوي علي عزاءٍ مشكور. ولن أُرحّبَ بقول قائلٍ: إنها اجتزاءاتٌ لابد أن تُرَدّ إلي سياقها ولا تأخذ عموميّة المبدأ والقناعة. فلنقرأْ ما كتبه عن الحبّ في قصة (جنة الأقزام السبعة): (وما الحب إلا قطعة خراء جافة، لكن لمعانها من بعيد يبهر أعيننا، أشد بريقا من انعكاس شعاع الشمس علي شذرات الذهب بين الحجارة والرماد في المحاجر. عندما نقترب منها فقط نلمس الحقيقة، نراها ونشمّها) ولنتابعْ -وفي نفس القصة- كلامه عن اللقاء الجسديّ الذي من المفترَض أنه يُطفيء لهيب هذا الحبّ!: (احتكاك متوتر واختلاط سوائل ونشوة رخيصة تختفي بمجرد ظهورها، فلا يبقي غير نفور الحواس وخيبة الرجاء بعد انقضاء النشوة. ثم لا يتبقي من مهرجان الأوهام سوي الذكري المدثرة في كلمات، أي الحكاية والأغنية، نفس الأكاذيب القديمة).
قصص (كان ياما كان) تريح أعصابنا بقدر ما تثيرها، تأخذنا بعيداً إلي عوالم أكثر فخامةً وأُنساً من عوالمنا المُضجِرة، كما لو أنها تمنحنا أجازةً منها، لكنها تردّنا سريعاً دون حتي إشعار تنبيه بانتهاء هذه الأجازة. تدعونا -بروحٍ مرِحة كما لو أنها دعوةٌ للّعب!- إلي تكسير الأوثان، أو علي الأقل الخروج عن النصوص التي علاها التراب، بغرض تلميعها إذا لم تطاوعْنا قلوبُنا لاستبدالها. نظلّ معها مأخوذين مردودين حتي ال(مَخرج) ليتأكد لنا أننا لم نكن نتسلّي بقراءتها مثلما لم يكن محمد عبدالنبي يتسلّي بكتابتها. وإذا كان قبطان السفينة قد صاحَ بوصيّته في اللحظة الأخيرة: (مَن ينجُ منكم، فليحكِ الحكاية) فلابد أنه كان الناجي الوحيد، أو أوّلَ النّاجين. واستبقَ نجاتَنا كذلك بتحريضه الذي أنهي به كتابه: (تكلموا أنتم ولو قليلاً، احكوا لي حكاية).

*محمد أبوالدهب
محمد أبوالدهب
محمد أبوالدهب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.