الصفحات

حفار قبور ـ قصة قصيرة ...** مصطفى الحاج حسين

في مقالٍ نقديّ للأستاذ النّاقد " حسني أبو خليل " نشره في مجلةِ " لسان الأدباء " ، العدد / ... / . تحت عنوان " خريف البيادر وتزييف المشاعر " . وتجدر الإشارة إلى أنّ " خريف البيادر " هو عنوان مجموعة شعرية صدرت لي منذ أيام قليلة ، عن دار " الصمت " للطباعة والنشر ، وهي المجموعة التّاسعة لي على ما أعتقد ، لأنّني بصراحةٍ لا أملكُ نسخة واحدة من مجموعاتي السّابقة ، فقد نفدت كلّها من المكتبات .لعلكم اطلعتم على مقالة الأستاذ " حسني "الذي راح من مطلعها ، يؤكد تزييف مشاعري في جميع قصائد المجموعة الأخيرة ، ومجموعتي كما تعلمون ، تتألّف من خمسة وأربعين قصيدة غزلية عذرية ، وهي مهداة " إلى صاحبة أجمل خصر في هذا العصر ".
وهو في اتهامه لي بتزييف مشاعري ، يكون قد حكم بالإعدام على قصائد مجموعتي ، التي أعتبرُها من أجمل مجموعاتي ، وأنتم تعرفون الصداقة المتينة التي تربطني بالأستاذ " أبو خليل " ، ولا بدّ أنّكم اطّلعتم
على دراساته القيّمة عن مجموعاتي الثّمانية السّابقة ، وعلى كتابه النقديّ الرائع والشهير الذي ألّفه عنّي ، تحت عنوان " أنور عبد العليم ، شاعر الجزالة العظيم " ، ولكي لا يقع في التناقض ، حاول أن يبرّر امتداحاته وتعظيماته لي ، عن مجموعاتي السّابقة بقوله : - " أنا مازلت مصرّاً على أنّ المجموعات السّابقة ، للشاعر / أنور عبد العليم / عظيمة في صياغتها ونظمها ومشاعرها ، ولكنّي مندهش تماماً لهذا التراجع الكبير ، للشاعر في مجموعته / خريف البيادر / ! ، فجميع قصائد المجموعة ، لا ترتقي إلى مستوى الشعر ، وكم أنا آسف لأنّ صديقي الشاعر / أنور / قد أعلن إفلاسه الشعريّ ، في وقت نحن بحاجةٍ ماسّة إلى شعر عظيم / . " .
ذلك مقتطف من مقالته المنشورة ، والتي تنضح بالعداء من مطلعها حتى آخر مفردة فيها ، وأنا لا أستغرب أن يكتب الأستاذ "حسني"مثل هذه المقالة ، وبمثل هذا العداء ، لأنّي أعرف دوافعه الدنيئة ، وغير الإنسانية لكتابته اللئيمة عنّي .
ولكن ما يحزّ في نفسي ، هو أنّكم أيّها القراء الأعزاء ، لا تعرفون الأسباب الكامنة وراء مهاجمة هذا الناقد ، الذي كنت أعدّه صديقاً عزيزاً ذات يوم . لذلك قررت أن أكتب هذه المقالة لا للردّ عليه ، فهو لم يعد
يعنيني على الإطلاق ، بل لأبرهن لكم بأنٌ هذا الناقد قد تجنّى على مجموعتي إلى درجة وحشيّة .
في الأيام القليلة لقراءتي مقالته ، اعتقدت أن يحمل أحد النقاد النزيهين قلمه ليصفعه بمقالة عظيمة تدافع عن مجموعتي الأخيرة ، لذلك لم أكتب مباشرة ، وعندما يئستُ من الانتظار وأنا أهرع كلّ يوم إلى الجرائد والمجلات الصّادرة ، أتصفّحها بشغفٍ علّي أعثر على ما يشفي غليلي ، أدركت مدى جبن النقاد ، فهم لا يجرؤون على مهاجمة الناقد " حسني أبو خليل " لخوفهم من قلمه اللأخلاقي ، والذي لا يرحم ، حينها قررت أن أكتب بنفسي ، وأكشف لكم عن الأسباب التي دعته لكتابة مقالته السّخيفة تلك .
جميع قصائد المجموعة مهداة إلى حبيبتي " بيانكا " التي أحببتها منذ التقينا أوّل مرّة ، ومنذ أن عرّفته إليها ، أي الأستاذ " حسني " ، وجدته قد فتن بها وبمفاتنها السّاحرة الجمال ، كانت عيناه لا تفارقانها ، من وراء نظارته ، طوال الجلسة .
كانت عيناه تلتهمان عينيها الخضراوين، ذاتَ الرّموش الملائكية ، وشعرها المسترسل، والذي كان بتطاير مع أخفّ نسمة ، وفمها المتدفق الابتسامة .
أقول :
- كاد يفترسها من رأسها الذي يشتهي المرء أن يضمّه إلى صدره حتّى قدميها العاجيتين .. كنتُ أراقبه وأنا نادم لأنّي عرّفتهما إلى بعض .. وأدركت أنّه سيحاول أخذها منّي ، كما فعل منذ سنتين ، عندما طلب منّي أن أتخلّى له عن " نجاة " ، مقابل تأليفه للكتاب
النّقدي " أنور عبد العليم ، شاعر الجزالة العظيم " ، حينها وافقت لأنني لم أكن أحبّها ، بقدر حبّي " بيانكا " ، وأيضاً كنت بحاجة إلى مثل هذا الكتاب الهام عنّي ، إذ لم تكن شهرتي كما الآن .
عندما بدأ يحاول إحراجي أمام " بيانكا "
أيقنت أنّه قرر أن يستأثر بها ، سألني بخبثه المعهود :
- أستاذ أنور .. أنت في جميع قصائدك ، تتغنّى بالسمراوات .. فكيف لك أن تحبّ فتاة شقراء وتتغزّل بها مثل " بيانكا " ؟!.
اضطربت ابتسامتي على شفتيّ ، وأنا
أقول في داخلي :
- هل تريد إحراجي يا وغد ؟!. قلت :
- الحبّ يصنع المعجزات ، وحبّي" لبيانكا" فاق جميع الألوان .
تألّقت الابتسامة السّاحرة على شفة " بيانكا" القرمزيّة ، ولكنٌ " حسني" كان مصمماً على المتابعة :
- أنتَ كلّما أحببتَ واحدةً تقول مثل هذا الكلام ، وعندما تتركها تأخذُ بشتمها . رمقتني " بيانكا " بنظرة استنكار واستغراب.
وقالت :
- هل صحيح ما يقوله الأستاذ "حسني "!؟.
- بيانكا .. لقد مررت بتجارب فاشلة .. هذا كلّ ما في الأمر .. ولكنّي أحبّكِ من كلّ قلبي.
دوت ضحكتهُ التي صارت مقيتةً لي منذ ذلك اليوم :
- " أنور " اطلع من تمثيل دور البراءة هذا !
أنتَ صديقي وأنا أعرفك جيداً .. زير نساء .
لم أعد أتمالك ، وانفلتت أعصابي ، رغم
أنّي أعرف مسبقاً ، مدى حجم الخسارة ، إن
عاديته ، فهو الناقد الوحيد الذي يكتب عنّي:
- " حسني " لماذا تحاول أن تفتن بيني وبين حبيبتي " بيانكا " ؟!.
- لأنّي أريدك ألاّ تخدعها ... من الجريمة أن تدمر هذا الملاك الرائع ، مقابل متعتكَ الفارغة .
- ولكنّني أحبها " يا حسني " .. فلماذا تحكم عليّ بالكذب ؟! .
- لأنّي أعرفك حقّ المعرفة .
صرخت بأعلى صوتي ، بينما كانت " بيانكا " مندهشة من هذا الحوار :
- " حسني" .. لا تكن أنانياً ..أنا أعرف مرماك.
- إذاً عليك أن تفهم .
وفجأة .. نهضت " بيانكا "، واعتذرت عن متابعة حوارنا ، حملت حقيبتها ومضت ، بعد أن رمقتني بنظرة غضب وعتب .
وحين أصبحنا وحدنا ، قلت :
- ما كنت أحسبك أنانياً ولئيماً إلى هذا الحدّ ؟!.
ضحك ضحكته المجلجلة :
- أنا معجب " ببيانكا " يا" أنور " .
- ولكنّي أحبها يا " حسني " .. هل جننت ؟!.
- من يتخلّى عن " نجاة " يتخلّى عنها أيضاً.
صرخت بحدّة ، بعد أن ضربت بقبضتي
الطاولة :
- أنت " يا حسني " إنسان حقير .. وأنا أعتذر
عن صداقتك .
نهض " حسني " عن كرسيه ، عدّل نظارته فوق أرنبة أنفه الضخم ، وقال :
- على كلّ حال سوف تدفع الثمن .. أنا الذي خلقتُ منكَ شاعراً ، وأنا الذي سيحطّمك .
هتفت :
- اذهب إلى جهنّم ، أنا شاعر رغماً عن أنفك ،
وأنف كلّ النقاد .
ذهب " حسني أبو خليل " وانقطعت بيننا كلّ الصلات ، وعندما أصدرت ذات المجموعة " خريف البيادر " ، جاء دوره لينتقم . فهاجمني بمقالته اللئيمة . وسمعت من أحد الأصدقاء أنّه الآن يقوم بتأليف كتاب نقديّ ضخم ، عن سرقاتي الأدبية ..
بهذه الطريقة المنحطّة حاول أن يقنع " بيانكا " أنّ مشاعري نحوها مزيّفة ..فابتعدت عنّي ، وذهبت إليه .

مصطفى الحاج حسين .
حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.