الصفحات

الفصل الثالث من رواية " ليلة السابع من مارس " للروائية أسماء الصياد

الفصل الثالث
" السارق الخفي "
لملمَ أغراضه متعجلًا. و قد تسللت إلى نفسه بعضُ ريبة..
,وكادت أفكاره المتشابكة ككرة خيطِ معقدة, لايعرف لها أول من آخِر, أن تطيح برأسه..
تُرى من الذي دلف إلى داخل شقته الجديدة, و مع أول ساعاته بها, و بعثرَ أشياءه على هذا النحو المُريب ؟!
طاف بأرجاء الشقة الباردة تارةً أخرى, لعله يجد أحد هؤلاء الصغار الأشقياء, يختبئ بإحدى زواياها !
عصفتْ المفاجأة برأسه, عندما عثر على كُرة مطاطية لامعة, بشُرفة الشقة الواقعة بالطابق السادس..

كانت الكرة تترنح, و تتدحرج من أثر الهواء البارد بالخارج..
إذن, كان هُنا طفلٌ منهم, فالكرة جديدة.. و نظيفة .. و كأنها جُلبتْ للتو من متجرٍ لبيع لعب الأطفال..
أضاء كافة المصابيح التي وجد مكابسها, فإذ بأثر أقدامٍ صغيرة, بادية لناظريه, لأن أرضية الشقة, مغطاة بطبقةٍ من الغبار الناعم..
الأقدام الصغيرة في كل مكان.. ولكن لا أثر لطفلٍ بالشقة كلها..

تذكَّرَ الشاب موعد العمل, "الساعة التاسعة", هو أقصى موعد عليه أن يتحرى الحضور به بالمطبعة, و إلا سيفقد عمله, و يضطر إلى خوض دوامة البحث مجددًا عن عمل يكفيه ذل السؤال..
و على كُلٍ؛ فليس لديه من يسأله مالًا, أو معونةً..
فماعاد له أب, أو أُمٍ..

ثلاثُ ليالٍ قضاها ساهرًا بالمشفى العام المجاور, علَّ أمه تفيق من غيبوبتها بغرفة العناية الفائقة..
حتى أسلمت الروح لبارئها, غداةَ الليلة الرابعة.. بالمشفى ..

لقد عاشت "نجاة" عقودها الخمسة إلا بضع سنوات, في سلام مع كل من يعرفها, أو تعرفه..
كلامها قليل.. ابتسامتها لاتفارق محياها رغم كل مالاقت من الدنيا, و بعض أهلها..
و سرعان ما رحلت دون شكوى, أو ضجر ..
دائمة الحمد.. راضية مَرضِيَّة.. السراء و الضراء كانتا لديها سِيان ..

ــ رحمكِ الله يا قاربَ نجاتي.. إني دونكِ غريقٌ بِحق !
قالها هامسًا ــ ليلة رحيلها ــ بالمشفى, و دموعه الحارة تنساب في هدوءٍ, على صفحة وجهه المليح..

أما "فهيمة", فاستقبلت خبر رحيل "نجاة" بلامبالاة..
و لكن الفرح قد غمر نفسها, دون أن تجهر به, خشية الملامة, و هى التي لاتنقصها كراهية الجيران..
قالت في فحيحٍ خبيث:
ــ لقد خلا لكِ وجه الشاب الآن !

ظاهريًا, كانت تزج بابنتيها بطريقِهِ زجًّا, للإيقاع به, في حين أنها هى التي شُغفتْ به حُبًا..

لما أنهى مراسم جنازة أمه, جاءته "فهيمة" الشمطاء, و عليها من كل زينة.. وجهها ملطخ بالمساحيق, و تتدلى من عنقها سلاسل الذهب "الجنزير", و ذراعاها مُحملة بالأساور الذهبية السميكة كذلك, و عطرها يسبقها, و يلحق بها..
جاءت تراوده, و تُحاول إرغامه على الزواج منها في غضون ثلاثة أيام, و إلا رمَت به إلى خارج البيت ..
هاج, و ماج.. و سألها مستغربًا:
ــ أتريدين طردي من بيتي ؟!

عندها أشهرتْ له الورقة الصفراء السالفة, إنها حُجة البيت, التي باتت بحوزتها منذ اقتراض "درويش" والده, منها مبلغًا من المال, لتعطشه لاحتساء الخمر, فقد باتت جيوبه خاوية, منذ الليلة الماضية, و إدمان الشراب كاد أن يصيبه بلوثةِ جنون ..

لدى "فهيمة" وكالة "ماني فاتورة" لبيع الأقمشة, و المال الذي ورثته من أزواجها الثلاثة السابقين, يملأ زكائب.. و اقتناص مثل تلك الفرصة, و استغلال حاجة ذوي الحاجات, قد ملَّكها عقاراتٍ لاحصر لها !

لقد أنقدتْ "درويشًا" بضع جنيهات, لاتكافئ جزءًا من عشرة من ثمن البيت الفعلي.. و قايضته بالبيت الكبير الذي يملكه, و كان عليه سداد المبلغ خلال يومين على الأكثر.. و إذا عجزَ عن السداد؛ فإن ملكية البيت تؤول إليها مباشرةً..

حاول "درويش" الاحتيال عليها بأن عرضَ عليها الزواج.. فإذ بها تضحك في سخرية, قائلة:
ــ وماحاجتي إليكَ يا مخبول ؟! اذهب أيها المُفلس المُعدم, قبل أن تغلق الحانة أبوابها !

مضى "درويش" يسيل لعابه على قطرةٍ من مُدام.. تُنسيه حاله, و دنياه, التي أظلمَها بيديه.. وباتت هى تُمنِّي نفسها بالشاب العشريني آنذاك !

قبل تمام التاسعة بدقيقة تقريبًا, وصلَ إلى المطبعة, بأنفاسٍ لاهثة, و هو يحمل كيسًا بلاستيكيًا يحوي ساندوتشات الفول, و البطاطس, و المخلل, تلكَ التي ابتاعها من أحد المطاعم بالطريق.. بينما يرمقه "مدبولي" صاحب العمل بنظرةٍ تحذيريةٍ متوعدة..
فابتسم له "مصطفى", اتقاءً لِشرّه.. و مضى صوب ماكينة الطباعة, حيث يعمل كل يوم ..
ما إن اطمأنَ "مدبولي" على سير العمل على قدمٍ, و ساق, إلا وذهب إلى المقهى المجاور, يطلب أرجيلته اليومية, و ينتشي نافخًا كِرشَه الكبير, في نشوة ريس العمل, الذي لاتُرد كلمته..

افترشَ "مصطفى" الطعام, و دعا إليه "جابرًا" الذي التقفه بين ذراعيه, في لهفة المشتاق الذي لم يلتق حبيبَهُ منذ زمنٍ بعيد..
بدا الشاب, يلوك الطعام, و هو زائغ العينين.. شارد الذهن..
و عندما سأله "جابر". "ماذا بكَ يابُني؟! ", إذ بالشاب يتمتم في اضطرابٍ:
ــ صورة أمي.. لماذا تركَ السارق كل شيء, و أخذها دون غيرها من حقيبتي ؟!

هلعَ "جابر", و ألقى بالطعام من يده, و أخذ يتحسس جبين الشاب, خشيةَ أن يكون مريضًا, أو أصابته حُمى, من أثر مغادرته البيت أمس, في ساعةٍ قارسة البرد !

لامست يدا "جابر" حبيبات عرقٍ ناضحة فوق جبين الشاب, رغم برودة الطقس.. فقال له:
ــ يبدو عليكَ الأرق يا حبيبي.. اذهب, و استرح.. و سأجيئكَ بعد انتهاء مناوبة العمل..

انتبه الشاب, يقول:
ــ و الريس "مدبولي" ؟!

فقال "جابر" مُطَمئنَا:
ــ عُد إلى مسكنكَ.. و سأوافيكَ بعد ساعاتٍ.. و سأتولي أمرَ الريس "مدبولي", كُن مُطمئنًا !

عاد "مصطفى" إلى شقته بالطابق السادس, و إذ بالأطفال أمام شقته, و بينهم الطفلة الصغيرة التي أعطته المفتاح, تلهو, و تركض هُنا, و هناك.. و ما إن رأوه, إلا و تفرقوا مابين هابطٍ, و صاعد كعادتهم..

دلفَ إلى داخل الشقة.. و يمم وجهه صوب الفِراش, و ألقى بجسده المرتعش فوقه, و هو يهمس في نفسه:
ــ سأجلب "بطانيةً" غدًا, لقد نسيتُ أن أوفرها..
ثم راكم ملابسه الثقيلة على جسده, و راح يغطُّ في نومٍ عميق !

استفاقَ.. وقد أشارتْ ساعته إلى الرابعة, و خمس دقائق تقريبًا, فتساءل:
ــ يااااه .. هل نمتُ حتى عصر اليوم ؟!

ثم كانتْ المفاجأة التي أفزعته؛ عندما أطلَّ من شرفته؛ ليجد الشارع غارقًا في الظلام..
لقد كانت الساعة تشير قبل قليل إلى الرابعة و خمس دقائق "فجرًا", و ليسَ "عصرًا" كما ظنَّ..

لقد تجاوز الوقت منتصف الليل.. و لم يستفق طوال تلك الساعات.. و لم يأتِ "جابر", الذي ما أخلفهُ موعدًا يومًا.. تُرى لماذا لم يأتِ الرجل الطيب بعد ؟!

هكذا تساءلَ في نفسه, و لكن السؤال المروع الذي سأله لنفسه:
ــ أين ذهبتْ الكُرة التي رأيتها هنا صباحًا ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.