يريدنا الروائي حسام المقدم في روايته الجديدة (سباعية العابر) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أن نبحث عن أشباهنا حتي لو لم نكن واثقين من أوجه الشبَه بيننا وبينهم، أن نجرّب لعبة التبديل دون أن يضمن لنا ألا تتحوّل التجربة إلي اعتناق واللعبة إلي عقيدة: أن يستعير أحدنا اسم وحياةَ آخَر مقابل أن يعيره اسمه وحياته. إنها حِيلةٌ تواؤميّة، مُغريةٌ بامتياز، خاصة وأن كلاً منا ستكون له مبرراته الجاهزة والقوية للتشبّث بها، وعلينا فقط ألا نخطيء في أسمائنا الجديدة وتفاصيل حياتنا المستحدَثة المستبدَلة، لننظر علي أيّ شاطيءٍ سترسو سفينة التجربة –هل نصنع تاريخاً غير التاريخ؟ هل نقدّم أسباباً مختلفة وأكثر إقناعاً للخلود؟- أم أنها لن ترسو أبداً!.. فعلَها، ببساطةٍ وعفويّة طفوليّتيْن، فهمي السيّد عبدالبرّ مع زميله محمد سعد. مجرّد رغبة أفصح بها فهمي
لصاحبه، الماهر في العَوْم، في أن يكون مثله، تحقّقتْ في الحال كما لو أن حارس مصباح علاء الدين كان حاضراً، إذ قرّر محمد سعد بتلقائيّة: أنت محمد وأنا فهمي، خلاص يا محمد؟.. ومضيا ملتزمَيْن، علي قدْر مقاومتهما الخضراء البريئة، برسم تاريخهما الحديث، لولا أنه لابد أن يوجد مَن لا يرضيه إلا السير في ركاب التواريخ المعدّة سلفاً، فقبض عليهما الأب وأعادهما مقموعَيْن إلي قواعدهما غير سالمّيْن، مردّداً عبارته الخالدة، وللخلود شأن في هذه الرواية: هذه ذقني!.. ليظلّ فهمي، وبعد مرور عشرين عاماً، مولعاً بتكرار الّلعبة، برغم أن -أو ربما بسبب- الدوافع صارت أكثر تعقيداً والرؤي أشدّ ضبابيّة والمعطيات متشابكة ومتنافرة معا، وحتي بعد أن خرج صاحبه القديم من الحسبة تماماً. اعتذر فهمي عن تضييعه لعبة التبديل باختراعه لعبة، أو بالأحري مغامرة، جديدة، تتيح لروحه ألا تحلّ في بديلٍ واحد، إنما في كثيرين يليقون بها وتليق بهم، وتوفّر لفهمي أن يشرب كل شيء من جذوره كما لو أنه لم يعرف شيئاً -علي أصله- من قبل، وأن يُشعل ضوء حياته المفضّل/حالة النّصْف، نصف السطوع ونصف العتمة. إنها مغامرة العزلة!
لماذا قرّر فهمي خوْض عزلة الأيام السبعة؟ مدرس التاريخ والجغرافيا المُخلص المُبتكر، الزوج المتصالح للزوجة الطيّبة التي تقول له أحياناً: (أنت تمشي دائما علي ارتفاع، وليس معنا علي الأرض) مُستشرفةً بحثه الخفيّ المتواصل عمّا لا تدركه هي، الأب الطبيعي لولديْن ماهرَيْن في تعلّم الأبجديّة المرتعب من أن أحدهما يشبهه، الذي يعشق أغاني محمد منير ويحبّ الشتاء ويعتبر الصيف بروفة لدخول جهنم ويهوي صيد السمك، والذي يخطّط كثيراً ويرسم وجوهاً تاريخيّة يقدّرها ويجمع الأشياء القديمة تلمّساً للحظةِ انفجارٍ عُظمي توصّل للخلود: (يفكر أن كل قديم خالد بشكل ما، وإلا لما بقي للآن. تسحبه شيئا فشيئاً فكرة الخلود. إنها حقا فكرة جبارة: ماذا يفعل الإنسان ليخلّد نفسه؟ لو كان للخلود طريق، فهل سيختار كل الناس المشي فيه؟) والذي يري خلاصة تجربته السابقة: (رجل محترم وروح عاصية) كأنما سطَر تاريخه الخاص علي مقاس مَنْ سيقرأونه حتي لو كان علي حساب هواجسِ الروح وأشواقِها، ربما لهذا لم تعد نفسه تتشرّب فرحاً حقيقيّاً، ولا تخامر حزناً عميقاً: (لم يعد هناك الفرح الحقيقي أو الحزن العميق في اللحظة الحاضرة، فكل فرحة هي رجع صدي لفرحة عاشها مقدما في خطوطه، توقعها وأذاب حلاوتها من التفكير فيها، غسلها ونشرها حتي جفت ونشفت، حتي إذا أتت لم تجد لها مكانا) ثم إنه لم يزل طامعاً في اللحاق بخططه التي وضعها مبكّراً لمراحل آتيةٍ من حياته، بعد أن انفرط بعضها: عام 2000 يتخرّج من الجامعة، 2005 يترك مهنة التدريس ليسلم الدفّة لروحه، 2013 تكون روحه مؤهّلةً تماماً للمغامرة، 2028 تهدأ روحه مع بلوغه الخمسين.
أعدّ فهمي العدّة ليعيش أيام خلوته الاختياريّة علي هواه، علي هوي خطّته المسبقة لترويض روحه واستصفاء أفكاره ومراجعة ماضيه علّه يتمكّن من مواصلة الرحلة التي يبدو أن معطياتها تواصل صدّه ومعاكسته، فهل تحقّق له ما أراد؟ حَسِب فهمي أنه تحصّل علي حريّةٍ ولو مؤقّتة، لينفرد بمقتنياته الثمينة القديمة، وأشيائه التي تخصّ روحه الضائعة مع ضياع خمسةٍ وثلاثين عاماً من عمره، وليستوفي وضْعه الأفقي الصليبي دون متجسّس أو رقيب. في يومه الأوّل تفرّغ للعثور علي شبيهه المزعوم مدفوعاً بفضولٍ صوفيّ لكشف فرادة تجربةِ أن يكون لك شبيه في مكان بعيد دون أن يكون ابنك أو أباك، غير أنه لم يُكمل بحثَه، وفي أيّامه الأخري راجع ذكريات قديمة في البيت والوطن وترافع عن الزعيم أحمد عرابي وحضر مظاهرة للخرْس وكتب ما أملاه عليه الجبالي وترك مهنته وأسرته قافزاً خمسة عشر عاماً ليلاقي حبّ عمره بعدما بلغ الخمسين، وقابل أخاه العائد من مستشفي العبّاسيّة للصحة النفسيّة في جنازة أبيه، لينالا ميراثهما منه، ومعهما أختهما: ثلاث لوحات سوداء مرتكنة إلي الجدار مكتوب عليها بالطباشير الأبيض محطّات حياتهم وتوصيف شخصيّاتهم وكأنما دوّنها مؤرخهم الخاص العارف، ليصل إلي يومه الختاميّ واقفاً أمام بوابة سوداء عملاقة وإحدي قدميه داخلها والأخري خارجها، أوصلنا حسام المقدم لنتوهّم أنها ربما بوّابة التاريخ الذي أعاد فهمي مراجعته بعد أن قرأه علي طريقته الخاصة وأراد أن يَدخله بروحه الجديدة إن كانت ثمة روح جديدة تلبّسته! نعرف أنها بوّابة مدرسته التي يعمل بها منذ ثلاثة عشر عاماً، ويدخل في النهاية بقدمه الأخري المتردّدة ليعود (رجلاً محترماً والروح عاصية) كدأبه القديم، لائذاً بواقعه الذي لم يتمكّن من تبديله مع آخَر، وربما لهذا استطرد في عرض أحواله ومساجلاته كمعلّمٍ جاد محبوب واستدعي بعض تلاميذه السابقين، ثم انتقل تأكيداً لعودته إلي واقعٍ لا يمكن تغييره ليحكي عن ولديه وأمهما، فيما بدا كاستسلامٍ نهائيّ، لكن لأن الروح عاصية -مازالت- ولأنه لا يرضي بحقيقةِ أن أيامه السبعة لم تؤدِّ غرضها، وقبل خمسة وعشرين دقيقة من انتهاء يومه الفاصل رأي في زجاج ساعة الحائط، وبعد أن اختفتْ عقاربها، وجوهاً محبّبة إليه تسانده وتستفسر منه عن ظروف رحلته السّباعيّة، لكن سرعان ما ظهرت وجوه أخري كأنها أجسام مضادة للأولي حيّرتْه وحاولت إعادته إلي نقطة الصفر، ولما انتبه إلي أن الوقت يسرقه كانت الساعة كلها قد اختفتْ وليس عقاربها فقط، وكأنه قد هوي بقوّةٍ في بئر الزمن/التاريخ، دون أن يدري عند أي حقبةٍ أو قِبَل أيّ وجهٍ سيجد راحة روحه، ولهذا لم يجد مفراً من الإيغال في الممرّ السريّ الذي ظهر له في موضع الساعة، الذي يحوي حجرات مرقّمة، علي أبوابها حروف وكلمات ورسوم، ولكي يفكّ رموزها ويتحمّل حقائقها ربما يحتاج إلي سبعة أيّامٍ إضافيّة من تقليب الروح، وهو علي الأرجح سيظلّ يعبر من سباعيّة إلي أخري حتي يعثر علي ما لا يمكن العثور عليه!
رغم أن شأْن فهمي وأيامه السبعة هو حدَث الرواية وعلّة السرد إلا أن حسام المقدم كان ماهراً في استنطاق تفاصيل جانبيّة كثيرة تخدم الحدث الأبرز أو تنبثق منه أو حتي تشغل القاريء عنه مؤقتاً، لكنها مع عبورها السريع وقِصر حضورها علي مستوي المسافة السرديّة لا نملك إلا أن نفتح لها وَعيَنا أو نتلقّفها بمشاعرنا ونتصالح مع أثَرها الذي يبقي حتي بعد انتقالنا عنها، لأن حسام المقدم لم يترك شيئاً للصدفة -التي قد يجُود بها نزق الفنّ أحياناً- وبدا مخطِّطا لعمله جيّدا ومتحكّماً بأبعاده شكلاً ومضموناً، مُلتصقاً حدّ الاحتفاء بالعالم الذي يقدّمه مَهما كان صغيراً أو محدوداً، مُفرزاً دلائل خبرته به ومعرفته بدروبه من صفحة إلي أخري، كَتبَه بحدّةٍ ورِقّة، بإيقاعٍ هاديءٍ وجاذب، بلُغَةٍ أليفةٍ ومتفرّدة. ومن كنز تفاصيله الزاخر أستحضرُ هذه الأمثلة، دون أن أستطرد في استنفار دلالتها: (من أجل خاطر كارتر، المتطوِّع ليدلّ فهمي علي طريق شبيهه، شارب مصطفي كامل، دفعة الثانوية العامة المزدوجة، برتقال الصيف الباريسيّ الذي أكل منه عبدالناصر، نظريّة امرأة الدنيا، قَدَما رجاء!).
رواية (سباعيّة العابر) للروائي حسام المقدم تُمتعكَ قراءتها لأنها توهمك بجدّيتها المفرطة، لكنك تكتشف أن هذه الجدّية مغلّفةٌ بغلالةٍ شفيفة من سخرية الفن وعبثيّته، ولأن هواجسها لن تكون غريبةً عليك مهما كان منبعك الثقافي أو الاجتماعي، فَهُمومها إنسانيّة في المقام الأوّل والأخير، لا تسقط بالتقادم، تدعوك إلي التوقّف قليلاً لأخذ نفس طويل ثم النظر إلي الوراء بإمعان قبل أن تؤدي خطوتك التالية للأمام، أن تعيد قراءة تاريخك الشخصيّ، أن تصير مؤرِّخ روحك، علي أمل أن تحوز أمصالاً مقاوِمةً لمصائر مُعذِّبةٍ مُريبة!
*محمد أبوالدهب
لصاحبه، الماهر في العَوْم، في أن يكون مثله، تحقّقتْ في الحال كما لو أن حارس مصباح علاء الدين كان حاضراً، إذ قرّر محمد سعد بتلقائيّة: أنت محمد وأنا فهمي، خلاص يا محمد؟.. ومضيا ملتزمَيْن، علي قدْر مقاومتهما الخضراء البريئة، برسم تاريخهما الحديث، لولا أنه لابد أن يوجد مَن لا يرضيه إلا السير في ركاب التواريخ المعدّة سلفاً، فقبض عليهما الأب وأعادهما مقموعَيْن إلي قواعدهما غير سالمّيْن، مردّداً عبارته الخالدة، وللخلود شأن في هذه الرواية: هذه ذقني!.. ليظلّ فهمي، وبعد مرور عشرين عاماً، مولعاً بتكرار الّلعبة، برغم أن -أو ربما بسبب- الدوافع صارت أكثر تعقيداً والرؤي أشدّ ضبابيّة والمعطيات متشابكة ومتنافرة معا، وحتي بعد أن خرج صاحبه القديم من الحسبة تماماً. اعتذر فهمي عن تضييعه لعبة التبديل باختراعه لعبة، أو بالأحري مغامرة، جديدة، تتيح لروحه ألا تحلّ في بديلٍ واحد، إنما في كثيرين يليقون بها وتليق بهم، وتوفّر لفهمي أن يشرب كل شيء من جذوره كما لو أنه لم يعرف شيئاً -علي أصله- من قبل، وأن يُشعل ضوء حياته المفضّل/حالة النّصْف، نصف السطوع ونصف العتمة. إنها مغامرة العزلة!
لماذا قرّر فهمي خوْض عزلة الأيام السبعة؟ مدرس التاريخ والجغرافيا المُخلص المُبتكر، الزوج المتصالح للزوجة الطيّبة التي تقول له أحياناً: (أنت تمشي دائما علي ارتفاع، وليس معنا علي الأرض) مُستشرفةً بحثه الخفيّ المتواصل عمّا لا تدركه هي، الأب الطبيعي لولديْن ماهرَيْن في تعلّم الأبجديّة المرتعب من أن أحدهما يشبهه، الذي يعشق أغاني محمد منير ويحبّ الشتاء ويعتبر الصيف بروفة لدخول جهنم ويهوي صيد السمك، والذي يخطّط كثيراً ويرسم وجوهاً تاريخيّة يقدّرها ويجمع الأشياء القديمة تلمّساً للحظةِ انفجارٍ عُظمي توصّل للخلود: (يفكر أن كل قديم خالد بشكل ما، وإلا لما بقي للآن. تسحبه شيئا فشيئاً فكرة الخلود. إنها حقا فكرة جبارة: ماذا يفعل الإنسان ليخلّد نفسه؟ لو كان للخلود طريق، فهل سيختار كل الناس المشي فيه؟) والذي يري خلاصة تجربته السابقة: (رجل محترم وروح عاصية) كأنما سطَر تاريخه الخاص علي مقاس مَنْ سيقرأونه حتي لو كان علي حساب هواجسِ الروح وأشواقِها، ربما لهذا لم تعد نفسه تتشرّب فرحاً حقيقيّاً، ولا تخامر حزناً عميقاً: (لم يعد هناك الفرح الحقيقي أو الحزن العميق في اللحظة الحاضرة، فكل فرحة هي رجع صدي لفرحة عاشها مقدما في خطوطه، توقعها وأذاب حلاوتها من التفكير فيها، غسلها ونشرها حتي جفت ونشفت، حتي إذا أتت لم تجد لها مكانا) ثم إنه لم يزل طامعاً في اللحاق بخططه التي وضعها مبكّراً لمراحل آتيةٍ من حياته، بعد أن انفرط بعضها: عام 2000 يتخرّج من الجامعة، 2005 يترك مهنة التدريس ليسلم الدفّة لروحه، 2013 تكون روحه مؤهّلةً تماماً للمغامرة، 2028 تهدأ روحه مع بلوغه الخمسين.
أعدّ فهمي العدّة ليعيش أيام خلوته الاختياريّة علي هواه، علي هوي خطّته المسبقة لترويض روحه واستصفاء أفكاره ومراجعة ماضيه علّه يتمكّن من مواصلة الرحلة التي يبدو أن معطياتها تواصل صدّه ومعاكسته، فهل تحقّق له ما أراد؟ حَسِب فهمي أنه تحصّل علي حريّةٍ ولو مؤقّتة، لينفرد بمقتنياته الثمينة القديمة، وأشيائه التي تخصّ روحه الضائعة مع ضياع خمسةٍ وثلاثين عاماً من عمره، وليستوفي وضْعه الأفقي الصليبي دون متجسّس أو رقيب. في يومه الأوّل تفرّغ للعثور علي شبيهه المزعوم مدفوعاً بفضولٍ صوفيّ لكشف فرادة تجربةِ أن يكون لك شبيه في مكان بعيد دون أن يكون ابنك أو أباك، غير أنه لم يُكمل بحثَه، وفي أيّامه الأخري راجع ذكريات قديمة في البيت والوطن وترافع عن الزعيم أحمد عرابي وحضر مظاهرة للخرْس وكتب ما أملاه عليه الجبالي وترك مهنته وأسرته قافزاً خمسة عشر عاماً ليلاقي حبّ عمره بعدما بلغ الخمسين، وقابل أخاه العائد من مستشفي العبّاسيّة للصحة النفسيّة في جنازة أبيه، لينالا ميراثهما منه، ومعهما أختهما: ثلاث لوحات سوداء مرتكنة إلي الجدار مكتوب عليها بالطباشير الأبيض محطّات حياتهم وتوصيف شخصيّاتهم وكأنما دوّنها مؤرخهم الخاص العارف، ليصل إلي يومه الختاميّ واقفاً أمام بوابة سوداء عملاقة وإحدي قدميه داخلها والأخري خارجها، أوصلنا حسام المقدم لنتوهّم أنها ربما بوّابة التاريخ الذي أعاد فهمي مراجعته بعد أن قرأه علي طريقته الخاصة وأراد أن يَدخله بروحه الجديدة إن كانت ثمة روح جديدة تلبّسته! نعرف أنها بوّابة مدرسته التي يعمل بها منذ ثلاثة عشر عاماً، ويدخل في النهاية بقدمه الأخري المتردّدة ليعود (رجلاً محترماً والروح عاصية) كدأبه القديم، لائذاً بواقعه الذي لم يتمكّن من تبديله مع آخَر، وربما لهذا استطرد في عرض أحواله ومساجلاته كمعلّمٍ جاد محبوب واستدعي بعض تلاميذه السابقين، ثم انتقل تأكيداً لعودته إلي واقعٍ لا يمكن تغييره ليحكي عن ولديه وأمهما، فيما بدا كاستسلامٍ نهائيّ، لكن لأن الروح عاصية -مازالت- ولأنه لا يرضي بحقيقةِ أن أيامه السبعة لم تؤدِّ غرضها، وقبل خمسة وعشرين دقيقة من انتهاء يومه الفاصل رأي في زجاج ساعة الحائط، وبعد أن اختفتْ عقاربها، وجوهاً محبّبة إليه تسانده وتستفسر منه عن ظروف رحلته السّباعيّة، لكن سرعان ما ظهرت وجوه أخري كأنها أجسام مضادة للأولي حيّرتْه وحاولت إعادته إلي نقطة الصفر، ولما انتبه إلي أن الوقت يسرقه كانت الساعة كلها قد اختفتْ وليس عقاربها فقط، وكأنه قد هوي بقوّةٍ في بئر الزمن/التاريخ، دون أن يدري عند أي حقبةٍ أو قِبَل أيّ وجهٍ سيجد راحة روحه، ولهذا لم يجد مفراً من الإيغال في الممرّ السريّ الذي ظهر له في موضع الساعة، الذي يحوي حجرات مرقّمة، علي أبوابها حروف وكلمات ورسوم، ولكي يفكّ رموزها ويتحمّل حقائقها ربما يحتاج إلي سبعة أيّامٍ إضافيّة من تقليب الروح، وهو علي الأرجح سيظلّ يعبر من سباعيّة إلي أخري حتي يعثر علي ما لا يمكن العثور عليه!
رغم أن شأْن فهمي وأيامه السبعة هو حدَث الرواية وعلّة السرد إلا أن حسام المقدم كان ماهراً في استنطاق تفاصيل جانبيّة كثيرة تخدم الحدث الأبرز أو تنبثق منه أو حتي تشغل القاريء عنه مؤقتاً، لكنها مع عبورها السريع وقِصر حضورها علي مستوي المسافة السرديّة لا نملك إلا أن نفتح لها وَعيَنا أو نتلقّفها بمشاعرنا ونتصالح مع أثَرها الذي يبقي حتي بعد انتقالنا عنها، لأن حسام المقدم لم يترك شيئاً للصدفة -التي قد يجُود بها نزق الفنّ أحياناً- وبدا مخطِّطا لعمله جيّدا ومتحكّماً بأبعاده شكلاً ومضموناً، مُلتصقاً حدّ الاحتفاء بالعالم الذي يقدّمه مَهما كان صغيراً أو محدوداً، مُفرزاً دلائل خبرته به ومعرفته بدروبه من صفحة إلي أخري، كَتبَه بحدّةٍ ورِقّة، بإيقاعٍ هاديءٍ وجاذب، بلُغَةٍ أليفةٍ ومتفرّدة. ومن كنز تفاصيله الزاخر أستحضرُ هذه الأمثلة، دون أن أستطرد في استنفار دلالتها: (من أجل خاطر كارتر، المتطوِّع ليدلّ فهمي علي طريق شبيهه، شارب مصطفي كامل، دفعة الثانوية العامة المزدوجة، برتقال الصيف الباريسيّ الذي أكل منه عبدالناصر، نظريّة امرأة الدنيا، قَدَما رجاء!).
رواية (سباعيّة العابر) للروائي حسام المقدم تُمتعكَ قراءتها لأنها توهمك بجدّيتها المفرطة، لكنك تكتشف أن هذه الجدّية مغلّفةٌ بغلالةٍ شفيفة من سخرية الفن وعبثيّته، ولأن هواجسها لن تكون غريبةً عليك مهما كان منبعك الثقافي أو الاجتماعي، فَهُمومها إنسانيّة في المقام الأوّل والأخير، لا تسقط بالتقادم، تدعوك إلي التوقّف قليلاً لأخذ نفس طويل ثم النظر إلي الوراء بإمعان قبل أن تؤدي خطوتك التالية للأمام، أن تعيد قراءة تاريخك الشخصيّ، أن تصير مؤرِّخ روحك، علي أمل أن تحوز أمصالاً مقاوِمةً لمصائر مُعذِّبةٍ مُريبة!
*محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.