الصفحات

جدي ...**محمد عيسى شيخ

أتسلل بين الكلمات في وصفك، كما تتخلّل أصابع جدي في مسبحته السوداء ذات المئة حبّة، وفي كل زوج من الخرز يسنِد رأسه على وسادة الذكريات، فيبتسم كما لو أنه تذكر قبلة دافئة في شتاء بارد، أو لسعة برد في أحد الخنادق في حرب تشرين.
تنفست مع جدي مجموعة من الذكريات؛ من الغمر إلى زواجه المبكر، إلى الجيش الذي أخذ من عمره خمس سنوات، إلى كل شيء يمكن ذكره.. توقف جدّي قليلًا عند الحبّة الخامسة والأربعين، وتأمل المنزل والتلفاز والأخبار العاجلة وقال بتنهيدة كبرى (الله يستر)، وعد الحبّة السادسة
والأربعين قال وهو متزوج من اثنتين: "لعلنا لم تواتِنا الحركة في حرث الأرض، ومداعبة القمر في الصيف". وعد الحبّة السابعة والأربعين وأكمل الثامنة والأربعين بسرعة مخيفة دون أن ينبس بكلمة، وساد صمت رهيب، وأنا أتابع أصابعه التي لم تنم منذ أول حبّة، أقرأ في صدره الوجع الطارئ من أثر التبغ.
أخذ شهقة من الحرب التي طالت في بلادي، وسافر عبرها من أول الوطن إلى حقول درعا، والفاصولياء التي أكلوها نيئة في ذات يوم، وأمعن النظر في الزوج الأخير من المسبحة.. ذكر أولاده وأحفاده ولم يعد بعد، أتقن بضع بسمات وإيماءات توحي بفرط المسباح، قبل اكتمال التسبيح.
وحدث أن خرت التاسعة والتسعين ساجدةً لصلاة أصابع جدي، ولم تنم أصابعي وأنا أحاول أن أعثر على ما أبقته أصابعه في الحبة الاخيرة.

*محمد عيسى شيخ
سوريه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.