**فتحية دبش
تصدير:
يقول عبد الرحمن منيف في كتابه الكاتب و المنفى ص43:” الرواية كما أفهمها و كما أكتبها أداة جميلة للمعرفة و المتعة.”
I- مقدمة:
“ما زلت أعشقها”، رواية للكاتبة العراقية تهاني محمد و هي أولى رواياتها و ثاني كتبها بعد مجموعة قصصية صدرت سنة 2017.
طبعت الرواية ببغداد عن دار الحكمة سنة 2018 و قد صمم الغلاف الأستاذ علي حجازي. تقع في 223 صفحة قسمتها الكاتبة بين : مدخل، إهداء، و فصول…
هي رواية تقع على تخوم المعرفية و الرومنسية و الواقعية رغم أنني لا أميل الى مثل هذه التصنيفات و أرى أنها غاية النقد الأدبي لا الثقافي الذي فيه تندرج فيه قراءتي. و لكنها تفرض نفسها و بقوة حين قراءتها.
تتعرض الرواية إلى تفاصيل قصة حب أحادية الطرف، بين جمانة و نبراس، علاقة مستحيلة و قد لا يكون لها تفسير منطقي رغم كون تفسيرها الوحيد هو تلك الصدف التي يغزلها القلب فيتشرنق فيها و بها و يشنق أيضا. في خضم هذه العلاقة تظهر أحداث و تختفي أخرى و ترتسم أمكنة و تغيب أخرى و تنمو شخوص و تموت أخرى في حركة سردية لا تخلو من الجمال و العنف أحيانا و
من التقريرية و الضعف أحيانا أخرى.
يشاء الحب أن تلتقي جمانة بنبراس و أن يفترقا و بين اللقاء و الفراق ” حياة و حياة أخرى”، رحلة رق و عَوْد انعتاق…
II- العتبات:
لابد من الوقوف على عتباتها الأولى بوصفها نصوصا موازية للمتن .
1- العنوان: ” ما زلت أعشقها”
جملة طرفاها ذكر و هو المتحدث و أنثى و هي موضوع الحديث، و مضمونها ديمومة العشق. حالة وجدانية و روحية تتخذ جذورها في الماضي و تمتد عروقها في الحاضر و المستقبل… أما المتحدث إليه فهو المتلقي القريب/المباشر (هي) و البعيد القارئ…
تبدو الجملة و كأنها تسليم بقدرية ما، لا مجال للتصدي لها و لا لتكذيبها و لا لمناقشتها حتى و هنا لب الحكاية: لا اختيار في العشق… العلة الأزلية او الانتحار كما تراه اليف شافاق و لا يقدر عليه ” البعد و لا الزمن” كما يقول فوفغانغ قوته. و هو المرض الادماني عند البعض من أطباء علم النفس.
-2 الغلاف بشقيه:
الشق الأول من الغلاف يحمل جملة من الدلالات لعل أهمها لعبة الضوء و الظل/الابيض و الأسود/الاشراق و الإخفاق/الرق و الانعتاق…
في الظل امرأة سافرة تبدو في متوسط الكهولة، وحيدة، و الحركات خمس:
الحركة الأولى: الجلوس/الراحة الجسدية
الحركة الثانية: الجذع المستقيم/حالة من الهدوء و التركيز
الحركة الثالثة: الشفاه على الفنجان/ لحظة ارتواء أو تعويض
الحركة الرابعة: العيون شاخصة على الشاشة/ شغف و انتظار و ترقب،
الحركة الخامسة: اليد اليسرى تتأهب للكتابة أو تنتهي منها…
على المكتب هناك جهاز هاتف جوال، قلم، حاسوب و نبتة خجولة و لكنها ليست زهرة التوليب،
على الغلاف تبدو مساحة الضوء أكبر من مساحة الظل و لكنه آت من الخارج!
و ليست الصورة إلا نصا موازيا هو الآخر يؤكد حالة الترقب و الإدمان التي عليها العاشق دائما.
أما الشق الثاني من الغلاف فهو يحمل حديثا عن الرواية و تأصيلها في الواقع و استعراضا لوظيفة الأدب و الكتب بعامة في طرح القضايا و مساءلة الوجود، ثم تعريف بالكاتبة الدكتورة تهاني محمد.
-3 المدخل: بقلم الكاتبة نفسها مفاده أن الإنسان يصادف الشخص الاستثناء الذي ” لا تسري عليه قوانين الطبيعة”.
إنه الشخص الخارق الذي لا ننظر إلى أعماله و لا نقيمه بها مهما كانت قيمتها و مسافتها من الرذيلة أو الفضيلة و إنما ننظر إلى ما يحدثه فينا و إلى كونه” يبقى دائما سرا يعذبنا و لا نجرؤ على البوح به”
و في المدخل هذا تأكيد على تعالق الذاتي بالموضوعي في العمل الروائي المتناول بالدرس دون ان نقع في تصنيفه بالسيرذاتي.
-4 الإهداء:
هناك مراوحة بين الخاص و العام في هذا الإهداء،
تقول الكاتبة أنها تهدي روايتها إلى الضحايا… ضحايا الحب، و الخيانة، و الحرب، إلى العراق، إلى (أنت)…
الجملة الأخيرة من الإهداء ” إليك أنت، يا من كان بيني و بينه مد و جزر، لقاء و فراق حياة، و حياة أخرى تشبه الموت”، هي الأطول و الأكثر حميمية . هذا ال (أنت) المبهم بالنسبة للقارئ و المعلوم بالنسبة للكاتبة. و بعيدا عن النقد الموضوعي أجد لهذه الجملة الأخيرة شعرية و شاعرية خاصة نجحت بها الكاتبة في شد المتلقي إلى رحلة البحث عمن يجسد هذه الشخصية في المتن على أنه يجسد شخصية ما في حياة كل شخص. وهو ما يجعل الامتداد بين الذات و الآخر وترا من أوتار التلقي الذي ساهم في نجاح الرواية بناء على الصدق الفني الملموس و بشدة.
-5المتن:
توزعت الرواية إلى عدد 31 فصلا، بعضها معنون، و بعضها يحمل فقط العدد و ذلك لصلته بالفصل السابق له. و هنا سأتوقف قليلا عند الفصل الرابع بلا عنوان، ص29، و هو أقصر الفصول و أهمها من حيث الوشاية بالعلاقات بين الشخوص في الرواية. فهو يقدم لنا الشخوص تقديما نفسيا خاصة لنبراس و جمانة باعتبارهما (انطوائي و انطوائية)،
بينما يقدم سمراء و سامي مجرد تقديم باعتبارها الشخوص التي تجسّر للعلاقة بين نبراس و جمانة.
و يقدم الحدث أو يشي به فقط من خلال الضحكات الخبيثة لسمراء في حديثها الى جمانا.
كذلك الفصل(رسالة)في آخر الرواية و قبل الخاتمة و هو امتداد للفصل الأخير عدد 31.
III– العالم السردي للرواية:
-1 الزمان:
جملة من المحطات الزمنية التي لا تنتمي إلى الرواية بوصفها زمن الرواية و حسب و إنما هو زمن موضوعي ينتمي إلى حقبة من التاريخ المعاصر. تحدده الكاتبة بالسنوات و الأشهر و اليوم، و بالأحداث ايضا مثل حرب الخليج الأولى و الثانية، الثورات العربية، الحصار على العراق…
2- المكان:
محطتان مهمتان في الرواية و هما مدينة بغداد/العراق و مدينة غريان/ليبيا. الهيمنة تبقى من نصيب بغداد بوصفها مسرح الأحداث حيث البدء و الانتهاء و أما غريان فقد كانت لها دلالة عميقة، و قد لمحت الكاتبة بكثير من الذكاء إلى وظيفتها في إعادة التكوين النفسي للشخصية المحورية.
فإذا كانت بغداد تتعلق في الرواية بالحب و العشق الأبدي فإن غريان تتعلق بدفن الحب و التشرذم من خلال وقوف الكاتبة على دلالة اسم المدينة و جذوره(غار ريان) و تتعلق ايضا بإعادة بناء الذات من جديد.
أما الأمكنة الصغرى فهي المنازل-الجامعة-المستشفى-الشقة الخ…
-3 الشخوص:
النامية:
• جمانة، تفرد لها الكاتبة فصلا كاملا بعنوان جمانة إلى جانب وصفها على مدى الرواية بطريقة مخاتلة.
هي أصغر إخوتها، من عائلة فقيرة، جميلة، تصبح طبيبة، تقع في حب نبراس، تهاجر الى ليبيا، تعود للعمل في المستشفيات العراقية ببغداد، لم تتزوج الا مرة واحدة و سرا، لم تنجب. يطغى الجانب الروحي على الجانب المادي في بلورة الروائية للشخصية جمانة.
• نبراس، أخو سامي زوج سمراء، من عائلة ميسورة الحال، عازف قيثار، يهيم عشقا بنغم، لكنه يتزوج من أخرى بعد أن هجرته نغم و تركته، يكون أسرة، تحبه جمانا، و يتزوجها سرا بعد لقاء تلا عشرين سنة من الفراق، يطلقها راضخا لمساومة زوجته على لسان ابنتهما.
غير النامية:
• نغم، فتاة ميسورة، تلهو بنبراس و تتزوج قريبها الغني،
• سمراء، قريبة جمانة، يتيمة تربت في بيت والدي جمانة، جميلة، تتوق للخروج من الفقر عبر الجمال و الجسد كوسيلة اقصر و أضمن، تتزوج سامي أخا نبراس،
• سامي، زوج سمراء و أخو نبراس،
• أم جمانة، تقليدية و غير متعلمة، لا وظيفة لها سوى خدمة البيت .
• براء أخو جمانة
• و غيرها من الشخوص التي يأتي وجودها في الرواية لغرض الحدث ثم تتلاشى بمجرد انتهاء دورها كزميل جمانا و زميلتيها في غريان…
4- الموضوع: شرنقة الرق و الانعتاق
في الحقيقة هذا العنصر هو الأهم في قراءتي للرواية و لكنني كنت ملزمة بالوقوف على العتبات و المتن من حيث الأطر الزمكانية و الشخوص لتقريب الرواية إلى قارئي..
تنفتح الرواية على شخصية سمراء و يخال القارئ أنها الشخصية الرئيسية كما أشارت إلى ذلك الاستاذة لطيفة زوالي في قراءتها النقدية للرواية و المنشورة على صفحتها الفايسبوكية.
سمراء تبدو للوهلة الأولى الشخصية المقابلة لشخصية جمانا ، فهي فتاة واقعية فهمت مبكرا أن الأنثى في مجتمع شرقي لا يجب أن تعول على غير الجمال و الجسد لتحقق بعض ما تصبو إليه. و ما كانت سمراء تصبو لغير الخروج من حالة الفقر و العوز الذي عاشته يتيمة في بيت أقاربها.
لم يكن رهان سمراء متعلقا بالدراسة و لا بالوظيفة و لكنه كان متعلقا بقدرة هذا الجسد الذي يأوي روحها المعذبة من الفقر و الحاجة و كانت ترى فيه الخلاص.
و قد حصل ذلك بزواجها من سامي، رجل ميسور الحال، يملك المنزل و السيارة …
غير أن حياة سمراء لم تكن تخلو من المشاكل الحياتية، فهي تعيش حالات توتر مع عائلة زوجها نظرا للفروق الاجتماعية و لكن سمراء لا تظهر أبدا متبرمة من ذلك…
كل ما يهمها هو حياة الترف و الباقي لا يعدو أن يكون مجرد تفاصيل بالنسبة لها…
سمراء هي الوجه الآخر ليس لجمانة و إنما لنغم حسب رأيي، فنغم و رغم انحدارها من عائلة ميسورة جدا و رغم مزاولتها تعليمها بالجامعة إلا أنها تطمح أيضا لمزيد من الغنى.. و الجسد بالنسبة لها لا يعدو أن يكون واحدا من إمكانيات الترفيه و التسلية بممارسة لعبة الحب. إذا كان نبراس يحبها بعنف فهي المدللة ” كانت تقضي وقتا جميلا لا غير” ص75.
و الجسد بالنسبة لها ليس إلا حلا من حلول أخرى نحو مزيد من الثراء غرسته فيها ثقافة فيها” يربون البنت الصغيرة منذ طفولتها على أنها جسد فقط، فتنشغل به طوال حياتها و لا تعرف أن لها عقلا يجب أن تنميه” على حد تعبير الدكتورة نوال السعداوي.
من خلال سمراء و نغم تصر الكاتبة على رسم مفارقة شرقية بامتياز: العفة لا تتعلق بالروح أبدا و لكنها قيمة خاضعة للبيع و الشراء شأنها في ذلك شأن كل البضائع.
مفارقة مجتمع يظهر للعالم بصورة تقوم على الروحانيات و العقائد و العبادات التي ترتقي بالإنسان على مصاف المادة، مجتمع يروج لثقافة تكريم المرأة بالإسلام في الكتب و لكنه في الواقع يبتذلها ابتذالا لا حد له. إن الصورة الحقيقية لهذه المجتمعات ليست إلا العكس تماما لما تتداوله الكتب. فهو مجتمع يتعلق بالمادة و حين الزواج يبقى المدار جسد الانثى للاستهلاك و المقدرة المادية التي هي السبيل الأوحد لتحقيق زواج (ناجح)، هكذا تقدمه الرواية فتفتق كل الروحانيات و لا ترتق الاخاديد الكثيرة التي باتت ظاهرة للعيان…
هذه الانثى التي ما تزال موضوع رغبة و رهبة و موضوع حياة و موت في المجتمع الشرقي خاصة .
هذه الانثى التي تبدو أحيانا زئبقية الصورة، فهي سمراء و هي نغم و هي أيضا أم جمانة، امرأة تقليدية غير متعلمة، ” لم يكن لها أي دور كأم توجه و تعلم و تمنع تطاول أولادها أحدهم على الآخر”، و لا يتعدى دورها حدود الطبخ و الغسيل و التفريغ و التفريخ تماما كما الحيوان الذي يقوم بدور أسندته له الطبيعة، تقوم بدورها بدون تفكير و لا تساؤل و لا ثورة بل في حالة رق تام ، رق يعيه المجتمع و لا يعيه في آن.
يعيه و ينخرط فيه انخراطا ثقافيا و عقائديا ذلك أن الانثى تبقى أداة قياس للفحولة و امتلاكها يعني امتلاك الفحولة جسديا و ذهنيا مما يجعل الشرف بين فخذيها و لا يعيه لأن التعليم لم تصحبه صحوة و ادراك لكينونة المرأة خارج منظومة الجسد و يؤكده نبراس في الرواية حين غضب و طلب من نغم الا تلبس التنورة التي تكشف عن ركبتيها مصرا على أن جسدها له.
المرأة في الثقافة الشرقية و من خلال الرواية و اعمال أخرى ( نوال السعداوي نموذجا)، موضوع رغبة و رهبة و عنف أيضا…
عنف جسدي بالدرجة الأولى و منذ الطفولة إذ كان جد جمانة يعاقب أمها طفلة إذا أخطأت : ” كان إذا اقترفت تلك المسكينة ابنته خطأ ما، يقوم بدفنها في التراب، فيظل الجسم كله مدفونا ما عدا الرأس و
تظل هكذا نصف يوم تقريبا إلى أن يخرجها بعد أن يتأكد من أنها استوعبت الدرس” ص39
و لعل هذا العنف يحيلنا إلى مسألة الوأد قبل الإسلام و الرجم بعده مما يجعل جسد الأنثى دائما و أبدا موضوع فعل الذكر مشاعا و مباحا لممارسة كل اشكال العنف و الغواية.
هذا العنف الذي يتجاوز العقاب إلى الاستباحة و منذ الولادة.
إذ تنقد الرواية أيضا تلك الفتاوى التي تجيز مفاخدة الرضيعة ص49 و المشرعة زواج القاصرات و الغاضة البصر عن التحرش الجنسي بالأنثى. و قد كانت البطلة جمانة موضوع تحرش الأخ و زوج الأخت جنسيا و موضوع ضرب و نهش من قبل الإخوة و موضوع صمت الأم المتواطئ.
و هنا تتساءل الكاتبة في أسلوب مباشر يفضح صوتها الشخصي المختفي وراء صوت السارد، فتقول:” من قال أن مجتمعنا العربي الإسلامي لا تحدث فيه مثل تلك الإنحرافات” ص47
ثم تدين : ” لا فرق بين المنحرفين و المتحرشين جنسيا و بين ذلك الذي يتزوج بقاصر” ص 49
و تخلص الكاتبة إلى تعليل ذلك بقولها: ” يحدث هذا فقط في مجتمعاتنا العربية بسبب ضعف ثقافة الجسد و الخجل من الحديث عنها”ص53.
و الأنثى ايضا هي جمانة، بإصرارها على التعليم الذي قتل الانطوائية فيها و خلق امرأة أخرى بعزيمة فولاذية سمحت لها بالفرار متخفية من العراق إلى ليبيا مرورا بالبراري و الأصقاع كمصر و هي رحلة لا تطنب في تفاصيلها الروائية كثيرا.
و كما تحرش أخوها و زوج أختها بها صغيرة فإن نبراس تحرش بروحها بعد أن منحته جسدها راضية بزواج سري بل و مقترحة لهذه السرية.
و كأنه قدر الشرقية أن تمارس طقوسها سرا و تموت في العلن.
و هنا مفارقة جديدة من مفارقات التكوين النفسي للشرقية التي مهما بلغت درجاتها العلمية و وعيها الثقافي إلا أنها تبقى تنظر لنفسها تلك النظرة القاصرة بوصفها متاعا للرجل كيف و متى شاء.
و هنا يعود بنا المتن الروائي إلى النصين الموازيين و هما المدخل و الاهداء و نلمح ذلك ال أنت المهدى إليه العمل و ذلك الشخص الخارق لقوانين الطبيعة فنجد أن شخصية نبراس قد جسدته أيما تجسيد و كذلك شخصية نغم.
نبراس يعترف(ما زلت أعشقها) متحدثا عن نغم و ضمنا تعترف جمانة (ما زلت أعشقه) متحدثة عن نبراس الذي امتهنها و كما تزوجها سرا ببساطة طلقها جهرا ببساطة.
إن رحلة الانعتاق الأنثوية ليست بالسهلة، هذا ما تقوله جمانة من خلال قصتها المستحيلة.
و إذا كانت المرأة عند الرجل وعاء لتفريغ طاقات الجسد كما يمارسه نبراس مع زوجته، فإن الرجل عند جمانة هو ذلك المستعصي على التملك. و هنا تلتقي الرواية مع الخطاب النفسي و الفلسفي الذي تقوده الحركات النسوية و مفاده أن الأنثى تظل رغم كل توقها للانعتاق رهينة صورتها التي يتمثلها الآخر عنها. و هكذا فان رحلة الانعتاق لا يمكن ان تكون إلا من الذات و بالعود إليها. تماما كما فعلت جمانة في نهاية الرواية.
تتجاوز الرواية فعل الحكي عن قصة حب مستحيلة الى عرض علل المجتمع العراقي خصوصا و لكنها علل تنسحب على كامل الوطن العربي و الإسلامي، حيث الرق لا يطال الأنثى و حسب و إنما يطال المواطن أيا كان.
تتعرض الرواية إلى أحداث حرب الخليج الأولى و الثانية و إلى الثورات العربية المنطلقة من تونس، و لا تتوقف كثيرا لرصد الأحداث و إنما تتوقف لرصد النتائج :” نحن جيل الحروب و الجثث التي ترقد في صناديق الخشب مغطاة بعلم العراق”ص87
جيل نالته التشوهات النفسية التي تترجمها أفعاله و تفصح عن كم الاهتزاز و الهشاشة التي تنخر وعيه. و هنا تستعرض التشوهات النفسية و الفكرية خاصة حيث تعدده قائلة على لسان السارد: ” هذا ما نعانيه في وطننا، ظلم و جور، و تقييد للحريات، و ازدراء للعلم و اذلال للعقول” و تمضي في نقد لسياسة الدولة العراقية تحت حكم صدام حسين و بعده.
و كما كانت الأم هامشية الحضور في الأسرة فان العراق كفكرة و وطن هامشي الحضور، عاجز على حماية أولاده من بطش ابيهم(الحاكم) و من بطشهم فيما بينهم( الطوائف و الانتماءات الضيقة)، يسلمهم إلى قدر ملعون من حرب إلى أخرى و من جوع إلى موت آخر و من رق إلى رق آخر ” لم يجع الحكام، و لم يتعر ابناؤهم في الحصار المفروض على البلد بل جاع الناس” ص 107.
غير أن هذا الوطن المقهور يتجاوز العراق كرقعة و يتعداه إلى كل الوطن العربي، هو عينه ذلك الحب المقهور الذي تحمله جمانة لنبراس، تهرب منه متخفية و تعود إليه متخفية وراء اسم(زهرة التوليب)، لا تنال منه إلا القسوة و الدموع، و زواج في السر.
الحب مسألة معقدة جدا تعلق ذلك بالأشخاص أو بالوطن، لا يحتمل البوح و يتعارض مع المصالح، لذلك ربما قضت جمانة حياتها في الهروب و في مداواة جراحها التي خلفها هذا الحب. و قضى العراقي و العربي بصفة عامة حياته في الهروب من العراق حتى و هو بداخله و يبقى الضحية الوحيدة الممكنة لهول الصراعات النفسية و العقائدية و السياسية و هو ما يفسر تكرا كلمة(ضحايا)في الاهداء…
فهل يكون الهرب هو الانعتاق الوحيد الممكن؟
-VI خاتمة
رغم بعض التقريرية و الاطناب غير المبرر له احيانا و غلبه صوت الكاتب على صوت السارد مرات كثيرة و بعض الأخطاء الاملائية الا انه تتحقق للقارئ متعة القراءة و رحلة البحث في متاهات النص حيث يتقاطع الذاتي بالموضوعي و حيث تتجلى الذات الانسانية بكل جموحها و تهويماها في رواية الوجدان المنتهك من قبل الذات اولا و الاخر ثانيا…
______
تصدير:
يقول عبد الرحمن منيف في كتابه الكاتب و المنفى ص43:” الرواية كما أفهمها و كما أكتبها أداة جميلة للمعرفة و المتعة.”
I- مقدمة:
“ما زلت أعشقها”، رواية للكاتبة العراقية تهاني محمد و هي أولى رواياتها و ثاني كتبها بعد مجموعة قصصية صدرت سنة 2017.
طبعت الرواية ببغداد عن دار الحكمة سنة 2018 و قد صمم الغلاف الأستاذ علي حجازي. تقع في 223 صفحة قسمتها الكاتبة بين : مدخل، إهداء، و فصول…
هي رواية تقع على تخوم المعرفية و الرومنسية و الواقعية رغم أنني لا أميل الى مثل هذه التصنيفات و أرى أنها غاية النقد الأدبي لا الثقافي الذي فيه تندرج فيه قراءتي. و لكنها تفرض نفسها و بقوة حين قراءتها.
تتعرض الرواية إلى تفاصيل قصة حب أحادية الطرف، بين جمانة و نبراس، علاقة مستحيلة و قد لا يكون لها تفسير منطقي رغم كون تفسيرها الوحيد هو تلك الصدف التي يغزلها القلب فيتشرنق فيها و بها و يشنق أيضا. في خضم هذه العلاقة تظهر أحداث و تختفي أخرى و ترتسم أمكنة و تغيب أخرى و تنمو شخوص و تموت أخرى في حركة سردية لا تخلو من الجمال و العنف أحيانا و
الأديبة فتحية الدبش |
يشاء الحب أن تلتقي جمانة بنبراس و أن يفترقا و بين اللقاء و الفراق ” حياة و حياة أخرى”، رحلة رق و عَوْد انعتاق…
II- العتبات:
لابد من الوقوف على عتباتها الأولى بوصفها نصوصا موازية للمتن .
1- العنوان: ” ما زلت أعشقها”
جملة طرفاها ذكر و هو المتحدث و أنثى و هي موضوع الحديث، و مضمونها ديمومة العشق. حالة وجدانية و روحية تتخذ جذورها في الماضي و تمتد عروقها في الحاضر و المستقبل… أما المتحدث إليه فهو المتلقي القريب/المباشر (هي) و البعيد القارئ…
تبدو الجملة و كأنها تسليم بقدرية ما، لا مجال للتصدي لها و لا لتكذيبها و لا لمناقشتها حتى و هنا لب الحكاية: لا اختيار في العشق… العلة الأزلية او الانتحار كما تراه اليف شافاق و لا يقدر عليه ” البعد و لا الزمن” كما يقول فوفغانغ قوته. و هو المرض الادماني عند البعض من أطباء علم النفس.
-2 الغلاف بشقيه:
الشق الأول من الغلاف يحمل جملة من الدلالات لعل أهمها لعبة الضوء و الظل/الابيض و الأسود/الاشراق و الإخفاق/الرق و الانعتاق…
في الظل امرأة سافرة تبدو في متوسط الكهولة، وحيدة، و الحركات خمس:
الحركة الأولى: الجلوس/الراحة الجسدية
الحركة الثانية: الجذع المستقيم/حالة من الهدوء و التركيز
الحركة الثالثة: الشفاه على الفنجان/ لحظة ارتواء أو تعويض
الحركة الرابعة: العيون شاخصة على الشاشة/ شغف و انتظار و ترقب،
الحركة الخامسة: اليد اليسرى تتأهب للكتابة أو تنتهي منها…
على المكتب هناك جهاز هاتف جوال، قلم، حاسوب و نبتة خجولة و لكنها ليست زهرة التوليب،
على الغلاف تبدو مساحة الضوء أكبر من مساحة الظل و لكنه آت من الخارج!
و ليست الصورة إلا نصا موازيا هو الآخر يؤكد حالة الترقب و الإدمان التي عليها العاشق دائما.
أما الشق الثاني من الغلاف فهو يحمل حديثا عن الرواية و تأصيلها في الواقع و استعراضا لوظيفة الأدب و الكتب بعامة في طرح القضايا و مساءلة الوجود، ثم تعريف بالكاتبة الدكتورة تهاني محمد.
-3 المدخل: بقلم الكاتبة نفسها مفاده أن الإنسان يصادف الشخص الاستثناء الذي ” لا تسري عليه قوانين الطبيعة”.
إنه الشخص الخارق الذي لا ننظر إلى أعماله و لا نقيمه بها مهما كانت قيمتها و مسافتها من الرذيلة أو الفضيلة و إنما ننظر إلى ما يحدثه فينا و إلى كونه” يبقى دائما سرا يعذبنا و لا نجرؤ على البوح به”
و في المدخل هذا تأكيد على تعالق الذاتي بالموضوعي في العمل الروائي المتناول بالدرس دون ان نقع في تصنيفه بالسيرذاتي.
-4 الإهداء:
هناك مراوحة بين الخاص و العام في هذا الإهداء،
تقول الكاتبة أنها تهدي روايتها إلى الضحايا… ضحايا الحب، و الخيانة، و الحرب، إلى العراق، إلى (أنت)…
الجملة الأخيرة من الإهداء ” إليك أنت، يا من كان بيني و بينه مد و جزر، لقاء و فراق حياة، و حياة أخرى تشبه الموت”، هي الأطول و الأكثر حميمية . هذا ال (أنت) المبهم بالنسبة للقارئ و المعلوم بالنسبة للكاتبة. و بعيدا عن النقد الموضوعي أجد لهذه الجملة الأخيرة شعرية و شاعرية خاصة نجحت بها الكاتبة في شد المتلقي إلى رحلة البحث عمن يجسد هذه الشخصية في المتن على أنه يجسد شخصية ما في حياة كل شخص. وهو ما يجعل الامتداد بين الذات و الآخر وترا من أوتار التلقي الذي ساهم في نجاح الرواية بناء على الصدق الفني الملموس و بشدة.
-5المتن:
توزعت الرواية إلى عدد 31 فصلا، بعضها معنون، و بعضها يحمل فقط العدد و ذلك لصلته بالفصل السابق له. و هنا سأتوقف قليلا عند الفصل الرابع بلا عنوان، ص29، و هو أقصر الفصول و أهمها من حيث الوشاية بالعلاقات بين الشخوص في الرواية. فهو يقدم لنا الشخوص تقديما نفسيا خاصة لنبراس و جمانة باعتبارهما (انطوائي و انطوائية)،
بينما يقدم سمراء و سامي مجرد تقديم باعتبارها الشخوص التي تجسّر للعلاقة بين نبراس و جمانة.
و يقدم الحدث أو يشي به فقط من خلال الضحكات الخبيثة لسمراء في حديثها الى جمانا.
كذلك الفصل(رسالة)في آخر الرواية و قبل الخاتمة و هو امتداد للفصل الأخير عدد 31.
III– العالم السردي للرواية:
-1 الزمان:
جملة من المحطات الزمنية التي لا تنتمي إلى الرواية بوصفها زمن الرواية و حسب و إنما هو زمن موضوعي ينتمي إلى حقبة من التاريخ المعاصر. تحدده الكاتبة بالسنوات و الأشهر و اليوم، و بالأحداث ايضا مثل حرب الخليج الأولى و الثانية، الثورات العربية، الحصار على العراق…
2- المكان:
محطتان مهمتان في الرواية و هما مدينة بغداد/العراق و مدينة غريان/ليبيا. الهيمنة تبقى من نصيب بغداد بوصفها مسرح الأحداث حيث البدء و الانتهاء و أما غريان فقد كانت لها دلالة عميقة، و قد لمحت الكاتبة بكثير من الذكاء إلى وظيفتها في إعادة التكوين النفسي للشخصية المحورية.
فإذا كانت بغداد تتعلق في الرواية بالحب و العشق الأبدي فإن غريان تتعلق بدفن الحب و التشرذم من خلال وقوف الكاتبة على دلالة اسم المدينة و جذوره(غار ريان) و تتعلق ايضا بإعادة بناء الذات من جديد.
أما الأمكنة الصغرى فهي المنازل-الجامعة-المستشفى-الشقة الخ…
-3 الشخوص:
النامية:
• جمانة، تفرد لها الكاتبة فصلا كاملا بعنوان جمانة إلى جانب وصفها على مدى الرواية بطريقة مخاتلة.
هي أصغر إخوتها، من عائلة فقيرة، جميلة، تصبح طبيبة، تقع في حب نبراس، تهاجر الى ليبيا، تعود للعمل في المستشفيات العراقية ببغداد، لم تتزوج الا مرة واحدة و سرا، لم تنجب. يطغى الجانب الروحي على الجانب المادي في بلورة الروائية للشخصية جمانة.
• نبراس، أخو سامي زوج سمراء، من عائلة ميسورة الحال، عازف قيثار، يهيم عشقا بنغم، لكنه يتزوج من أخرى بعد أن هجرته نغم و تركته، يكون أسرة، تحبه جمانا، و يتزوجها سرا بعد لقاء تلا عشرين سنة من الفراق، يطلقها راضخا لمساومة زوجته على لسان ابنتهما.
غير النامية:
• نغم، فتاة ميسورة، تلهو بنبراس و تتزوج قريبها الغني،
• سمراء، قريبة جمانة، يتيمة تربت في بيت والدي جمانة، جميلة، تتوق للخروج من الفقر عبر الجمال و الجسد كوسيلة اقصر و أضمن، تتزوج سامي أخا نبراس،
• سامي، زوج سمراء و أخو نبراس،
• أم جمانة، تقليدية و غير متعلمة، لا وظيفة لها سوى خدمة البيت .
• براء أخو جمانة
• و غيرها من الشخوص التي يأتي وجودها في الرواية لغرض الحدث ثم تتلاشى بمجرد انتهاء دورها كزميل جمانا و زميلتيها في غريان…
4- الموضوع: شرنقة الرق و الانعتاق
في الحقيقة هذا العنصر هو الأهم في قراءتي للرواية و لكنني كنت ملزمة بالوقوف على العتبات و المتن من حيث الأطر الزمكانية و الشخوص لتقريب الرواية إلى قارئي..
تنفتح الرواية على شخصية سمراء و يخال القارئ أنها الشخصية الرئيسية كما أشارت إلى ذلك الاستاذة لطيفة زوالي في قراءتها النقدية للرواية و المنشورة على صفحتها الفايسبوكية.
سمراء تبدو للوهلة الأولى الشخصية المقابلة لشخصية جمانا ، فهي فتاة واقعية فهمت مبكرا أن الأنثى في مجتمع شرقي لا يجب أن تعول على غير الجمال و الجسد لتحقق بعض ما تصبو إليه. و ما كانت سمراء تصبو لغير الخروج من حالة الفقر و العوز الذي عاشته يتيمة في بيت أقاربها.
لم يكن رهان سمراء متعلقا بالدراسة و لا بالوظيفة و لكنه كان متعلقا بقدرة هذا الجسد الذي يأوي روحها المعذبة من الفقر و الحاجة و كانت ترى فيه الخلاص.
و قد حصل ذلك بزواجها من سامي، رجل ميسور الحال، يملك المنزل و السيارة …
غير أن حياة سمراء لم تكن تخلو من المشاكل الحياتية، فهي تعيش حالات توتر مع عائلة زوجها نظرا للفروق الاجتماعية و لكن سمراء لا تظهر أبدا متبرمة من ذلك…
كل ما يهمها هو حياة الترف و الباقي لا يعدو أن يكون مجرد تفاصيل بالنسبة لها…
سمراء هي الوجه الآخر ليس لجمانة و إنما لنغم حسب رأيي، فنغم و رغم انحدارها من عائلة ميسورة جدا و رغم مزاولتها تعليمها بالجامعة إلا أنها تطمح أيضا لمزيد من الغنى.. و الجسد بالنسبة لها لا يعدو أن يكون واحدا من إمكانيات الترفيه و التسلية بممارسة لعبة الحب. إذا كان نبراس يحبها بعنف فهي المدللة ” كانت تقضي وقتا جميلا لا غير” ص75.
و الجسد بالنسبة لها ليس إلا حلا من حلول أخرى نحو مزيد من الثراء غرسته فيها ثقافة فيها” يربون البنت الصغيرة منذ طفولتها على أنها جسد فقط، فتنشغل به طوال حياتها و لا تعرف أن لها عقلا يجب أن تنميه” على حد تعبير الدكتورة نوال السعداوي.
من خلال سمراء و نغم تصر الكاتبة على رسم مفارقة شرقية بامتياز: العفة لا تتعلق بالروح أبدا و لكنها قيمة خاضعة للبيع و الشراء شأنها في ذلك شأن كل البضائع.
مفارقة مجتمع يظهر للعالم بصورة تقوم على الروحانيات و العقائد و العبادات التي ترتقي بالإنسان على مصاف المادة، مجتمع يروج لثقافة تكريم المرأة بالإسلام في الكتب و لكنه في الواقع يبتذلها ابتذالا لا حد له. إن الصورة الحقيقية لهذه المجتمعات ليست إلا العكس تماما لما تتداوله الكتب. فهو مجتمع يتعلق بالمادة و حين الزواج يبقى المدار جسد الانثى للاستهلاك و المقدرة المادية التي هي السبيل الأوحد لتحقيق زواج (ناجح)، هكذا تقدمه الرواية فتفتق كل الروحانيات و لا ترتق الاخاديد الكثيرة التي باتت ظاهرة للعيان…
هذه الانثى التي ما تزال موضوع رغبة و رهبة و موضوع حياة و موت في المجتمع الشرقي خاصة .
هذه الانثى التي تبدو أحيانا زئبقية الصورة، فهي سمراء و هي نغم و هي أيضا أم جمانة، امرأة تقليدية غير متعلمة، ” لم يكن لها أي دور كأم توجه و تعلم و تمنع تطاول أولادها أحدهم على الآخر”، و لا يتعدى دورها حدود الطبخ و الغسيل و التفريغ و التفريخ تماما كما الحيوان الذي يقوم بدور أسندته له الطبيعة، تقوم بدورها بدون تفكير و لا تساؤل و لا ثورة بل في حالة رق تام ، رق يعيه المجتمع و لا يعيه في آن.
يعيه و ينخرط فيه انخراطا ثقافيا و عقائديا ذلك أن الانثى تبقى أداة قياس للفحولة و امتلاكها يعني امتلاك الفحولة جسديا و ذهنيا مما يجعل الشرف بين فخذيها و لا يعيه لأن التعليم لم تصحبه صحوة و ادراك لكينونة المرأة خارج منظومة الجسد و يؤكده نبراس في الرواية حين غضب و طلب من نغم الا تلبس التنورة التي تكشف عن ركبتيها مصرا على أن جسدها له.
المرأة في الثقافة الشرقية و من خلال الرواية و اعمال أخرى ( نوال السعداوي نموذجا)، موضوع رغبة و رهبة و عنف أيضا…
عنف جسدي بالدرجة الأولى و منذ الطفولة إذ كان جد جمانة يعاقب أمها طفلة إذا أخطأت : ” كان إذا اقترفت تلك المسكينة ابنته خطأ ما، يقوم بدفنها في التراب، فيظل الجسم كله مدفونا ما عدا الرأس و
تظل هكذا نصف يوم تقريبا إلى أن يخرجها بعد أن يتأكد من أنها استوعبت الدرس” ص39
و لعل هذا العنف يحيلنا إلى مسألة الوأد قبل الإسلام و الرجم بعده مما يجعل جسد الأنثى دائما و أبدا موضوع فعل الذكر مشاعا و مباحا لممارسة كل اشكال العنف و الغواية.
هذا العنف الذي يتجاوز العقاب إلى الاستباحة و منذ الولادة.
إذ تنقد الرواية أيضا تلك الفتاوى التي تجيز مفاخدة الرضيعة ص49 و المشرعة زواج القاصرات و الغاضة البصر عن التحرش الجنسي بالأنثى. و قد كانت البطلة جمانة موضوع تحرش الأخ و زوج الأخت جنسيا و موضوع ضرب و نهش من قبل الإخوة و موضوع صمت الأم المتواطئ.
و هنا تتساءل الكاتبة في أسلوب مباشر يفضح صوتها الشخصي المختفي وراء صوت السارد، فتقول:” من قال أن مجتمعنا العربي الإسلامي لا تحدث فيه مثل تلك الإنحرافات” ص47
ثم تدين : ” لا فرق بين المنحرفين و المتحرشين جنسيا و بين ذلك الذي يتزوج بقاصر” ص 49
و تخلص الكاتبة إلى تعليل ذلك بقولها: ” يحدث هذا فقط في مجتمعاتنا العربية بسبب ضعف ثقافة الجسد و الخجل من الحديث عنها”ص53.
و الأنثى ايضا هي جمانة، بإصرارها على التعليم الذي قتل الانطوائية فيها و خلق امرأة أخرى بعزيمة فولاذية سمحت لها بالفرار متخفية من العراق إلى ليبيا مرورا بالبراري و الأصقاع كمصر و هي رحلة لا تطنب في تفاصيلها الروائية كثيرا.
و كما تحرش أخوها و زوج أختها بها صغيرة فإن نبراس تحرش بروحها بعد أن منحته جسدها راضية بزواج سري بل و مقترحة لهذه السرية.
و كأنه قدر الشرقية أن تمارس طقوسها سرا و تموت في العلن.
و هنا مفارقة جديدة من مفارقات التكوين النفسي للشرقية التي مهما بلغت درجاتها العلمية و وعيها الثقافي إلا أنها تبقى تنظر لنفسها تلك النظرة القاصرة بوصفها متاعا للرجل كيف و متى شاء.
و هنا يعود بنا المتن الروائي إلى النصين الموازيين و هما المدخل و الاهداء و نلمح ذلك ال أنت المهدى إليه العمل و ذلك الشخص الخارق لقوانين الطبيعة فنجد أن شخصية نبراس قد جسدته أيما تجسيد و كذلك شخصية نغم.
نبراس يعترف(ما زلت أعشقها) متحدثا عن نغم و ضمنا تعترف جمانة (ما زلت أعشقه) متحدثة عن نبراس الذي امتهنها و كما تزوجها سرا ببساطة طلقها جهرا ببساطة.
إن رحلة الانعتاق الأنثوية ليست بالسهلة، هذا ما تقوله جمانة من خلال قصتها المستحيلة.
و إذا كانت المرأة عند الرجل وعاء لتفريغ طاقات الجسد كما يمارسه نبراس مع زوجته، فإن الرجل عند جمانة هو ذلك المستعصي على التملك. و هنا تلتقي الرواية مع الخطاب النفسي و الفلسفي الذي تقوده الحركات النسوية و مفاده أن الأنثى تظل رغم كل توقها للانعتاق رهينة صورتها التي يتمثلها الآخر عنها. و هكذا فان رحلة الانعتاق لا يمكن ان تكون إلا من الذات و بالعود إليها. تماما كما فعلت جمانة في نهاية الرواية.
تتجاوز الرواية فعل الحكي عن قصة حب مستحيلة الى عرض علل المجتمع العراقي خصوصا و لكنها علل تنسحب على كامل الوطن العربي و الإسلامي، حيث الرق لا يطال الأنثى و حسب و إنما يطال المواطن أيا كان.
تتعرض الرواية إلى أحداث حرب الخليج الأولى و الثانية و إلى الثورات العربية المنطلقة من تونس، و لا تتوقف كثيرا لرصد الأحداث و إنما تتوقف لرصد النتائج :” نحن جيل الحروب و الجثث التي ترقد في صناديق الخشب مغطاة بعلم العراق”ص87
جيل نالته التشوهات النفسية التي تترجمها أفعاله و تفصح عن كم الاهتزاز و الهشاشة التي تنخر وعيه. و هنا تستعرض التشوهات النفسية و الفكرية خاصة حيث تعدده قائلة على لسان السارد: ” هذا ما نعانيه في وطننا، ظلم و جور، و تقييد للحريات، و ازدراء للعلم و اذلال للعقول” و تمضي في نقد لسياسة الدولة العراقية تحت حكم صدام حسين و بعده.
و كما كانت الأم هامشية الحضور في الأسرة فان العراق كفكرة و وطن هامشي الحضور، عاجز على حماية أولاده من بطش ابيهم(الحاكم) و من بطشهم فيما بينهم( الطوائف و الانتماءات الضيقة)، يسلمهم إلى قدر ملعون من حرب إلى أخرى و من جوع إلى موت آخر و من رق إلى رق آخر ” لم يجع الحكام، و لم يتعر ابناؤهم في الحصار المفروض على البلد بل جاع الناس” ص 107.
غير أن هذا الوطن المقهور يتجاوز العراق كرقعة و يتعداه إلى كل الوطن العربي، هو عينه ذلك الحب المقهور الذي تحمله جمانة لنبراس، تهرب منه متخفية و تعود إليه متخفية وراء اسم(زهرة التوليب)، لا تنال منه إلا القسوة و الدموع، و زواج في السر.
الحب مسألة معقدة جدا تعلق ذلك بالأشخاص أو بالوطن، لا يحتمل البوح و يتعارض مع المصالح، لذلك ربما قضت جمانة حياتها في الهروب و في مداواة جراحها التي خلفها هذا الحب. و قضى العراقي و العربي بصفة عامة حياته في الهروب من العراق حتى و هو بداخله و يبقى الضحية الوحيدة الممكنة لهول الصراعات النفسية و العقائدية و السياسية و هو ما يفسر تكرا كلمة(ضحايا)في الاهداء…
فهل يكون الهرب هو الانعتاق الوحيد الممكن؟
-VI خاتمة
رغم بعض التقريرية و الاطناب غير المبرر له احيانا و غلبه صوت الكاتب على صوت السارد مرات كثيرة و بعض الأخطاء الاملائية الا انه تتحقق للقارئ متعة القراءة و رحلة البحث في متاهات النص حيث يتقاطع الذاتي بالموضوعي و حيث تتجلى الذات الانسانية بكل جموحها و تهويماها في رواية الوجدان المنتهك من قبل الذات اولا و الاخر ثانيا…
______
*فتحية دبش ___________
*كاتبة وناقدة تونسية تقيم في فرنسا
*كاتبة وناقدة تونسية تقيم في فرنسا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.