"في منتصف تلك الغابة العجوز المتوارية عن الأنظار.. تتردد الحكايات والروايات.. أن كان هناك شجيرة غريبة عجيبة.. الشكل شكل شجر.. والجذعُ ملتفٌّ مموَّجٌ مجعَّد تختفي بين طياتهِ المجنحاتُ والهوام والأسرار.. والأغصانُ كأنها أيادٍ كبيرةٌ بها كفوف عريضة.. وأصابع نحيلة طويلة مقوَّسة وكأنها مخالبُ وأسنان. قيل ظلالٌ ؟ قيل خيالٌ..
بل قيل أنَّى للحقيقة أن يكون لها لغةٌ وبيانٌ ولسان ..
جِذعُها ضخمٌ مكتنزٌ على أقوال.. أو نحيلٌ تتجمع حوله الفروع وتلتف حوله الأوراقُ وكأنها جزءٌ من نسيجٍ على غيرِ أقوال.. لكنها في كل الأحوال.. تبدو للرائي من بعيدٍ ضخمةَ الكتلة متماسكةَ الأغصانِ ذات هيبةٍ ووقار.
الأمرُ الغريب حقا.. ما كان غير مقتصر على وصف شكل أو بيان.. فالشجرة هي الشجرة لكن بها من الشكل عشرة أوصاف لعشر عيون.. كل عينٍ تراها بشكلٍ ورسمٍ مختلف.. يقسمُ الرائي بحقِّ الوجودِ والموجودِ والسديمِ والنورِ والذراتِ والأنفسِ الهائمة بغيرِ كللٍ أو لهاث.. أن وصفه دقيقٌ وقوله لا ينازعه قول.
في غابة اللايقين شجيراتٌ وأشجار.. لكن لا زهرَ فيها ولا أوراقَ ولا ثمار.. مجرد خيالات صور وتهيؤات أفكار.. وسرابٌ يبدو للعيان كما الحقيقة.. لكنه سراب.
في غابة اللايقين طيوفٌ وخيالاتٌ وظلال. ورصيدٌ غير مُدرَكٍ لكنه فى النفسِ مختزن.
في حياتنا الأولى في منتصف النقطة المضيئة في الزمن السحيق حين كنا متلاصقين غير متماسكين فى السديم ، قيلَ لنا وقت تملكنا الفضول وحارت فى ذراتنا العقول.. "إلى منتصفِ تلك الغابة العجوز المتوارية عن الأنظار تحجُّ الخلائقُ كلُّها مرةً كلّ عام.. تجتمع القبائلُ ترفعُ البيارقَ والراياتِ.. ثم يُشدُّ الرحال.. في قلبِ موكب كل قبيلةٍ برهانٌ وقربان.. وسيفٌ مشحوذٌ مسنون.. على الجذعِ العجوز يُهرقُ الدمُ والدموعُ تسيل كالأنهار.. لكنَّ الثمرةَ تظلُّ دائما عصيةَ القطفِ بعيدةَ المنال".
من بين فوالقِ الذراتِ وفروق الألوان والطيوف وشروخ الزمن.. تتسللُ الأحرفُ والكلماتُ.. تحكي أن شجرتنا العجيبة لم تكن يوما منتظمةَ الإزهار.. ولا بالضرورةِ مقيدة بثمارٍ بعد أزهار.. ولأنها شجرةٌ لا تحكمها قوانينُ خلائقِ الأطياف وتحاورِ الذرات في السديم.. فإنها قد تزهر أحيانا كلَّ عامٍ أو ألف عام.. أو ربما ملايين الملايين من السنين.. وأحيانا أخرى عدة مرات في الحول.. لكنه حول غير الحول..
في غابة اللايقين.. تبقى الحقيقةُ مجرد حفرةٍ عميقةٍ لكن دونما أثر.
مهما اختلفت في سحيقِ أعماقنا التصورات.. وتعددت بداخلنا معاني الكلمات والتأويلات.. فالشجرة دائما هي الشجرة.. لها جذعٌ وفروعٌ وأوراق.. لها موعدُ إزهارٍ وإثمار.
قبل تشكُّل الوجود في الأذهان.. لم يكن للرمز قيمةٌ ولا سلطان.. لم يكن للزمن مقدارٌ أو قياس.. وأوراقُ شجرتنا تتشكلُ الأوراقُ فيها كلَّ مرة بشكلٍ مختلف.. وتينع الأزهارُ كلَّ مرةٍ بشكلٍ مختلفٍ ولونٍ مختلف.
حينما تدقُ الطبولُ على الأنغام الرعدية في الكون الممتد.. تبدأ العناقيدُ الجديدة في الظهور.. وخلف أوراقها الكثيفة تبدأ العناقيدُ دائما بعنقودٍ صغير ما يلبث أن يحيط به آخرون.. كلُّ عنقودٍ يبدأ بحبةٍ صغيرةٍ صغيرة سرعان ما تجتمع حولها الحباتُ والحبات.. ولأن تلك الشجرة تحديدا ليست كما كل الشجيرات.. فإنه لا يظل فيها سوى عنقود واحد بينما تتساقط من حوله كل العناقيد قبل أن تكتمل حباتها وتستدير.. يقول أهلُ الغابة الكبيرة التي لم يُعرف لها حدود.. أن ذلك كله يتم في ليلةٍ واحدةٍ يكون القمرُ فيها غائبا وقد فقد الكونُ ضياءَه وإطلالته.. وحين تكون العتمةُ قد أطبقت بأشباحِ ظلالِها على المكان.. يظهر العنقود.. يضيء الكون كله بشعاعات الغواية والضياء.
في وسط العتمة الدمساء.. يزعم البعض أن العنقودَ الأخير يلتهم كلَّ ما حوله من عناقيد.. فيستحيل إلى عنقود كما الجبل الكبير.. يعرف أفرادُ القبائل البعيدة موعدَ الإزهار بحالةِ الفوران.. فورانٌ غير معتادٍ يدبُّ في أرواحِ كل الأزهار.. ولسبب مجهولٍ تبدأ الأزهارُ برغم حالة الفورانِ في الذبول.. شيئا فشيئا تتساقط جميعها دفعة واحدة وقت اكتمال وتوحُّد العنقود.
وقت ظهور الخفافيش السُود تختفي زرقةُ السماء.. تنتفض الشجرةُ الكبيرة.. تتناثر من فروعها الأوراق.. تتطاير بجناحات اللهب والشرر مثل الطيور.. لكنها طيور ليست كما الطيور.. بأجنحتها الكبيرة تسُدُّ ألفَ شمسٍ وألف قمر.. يتحولُ الكونُ إلى سديمٍ غير مُكتمل.. يدورُ ويدورُ.. متجاورٌ لكنه لا يلتصق.
في جُنحِ الظلامِ أنَّى لأحدٍ أن يرقبَ الحدث.. وفي قلبِ الغابةِ البعيدة حيث الأشباح والعفاريت أنَّى لأحدٍ أن يصلَ إلى منابعه.. والعنقودُ تكبرُ حباتُه وتكتمل.. لكن من العناقيد ما لا تجمع حباتَها محبةٌ.. أو يضُمها عِشقٌ ورغبة.. فتكون حباتُها سامة وعصيرُها مميت.. لكن من ذا الذى يلتفت أو يلقي لها بالا.. فما أكثر الأموات في القبيلة وما أكثر الأسباب في السديم.
أما كيف يتم ذلك فقد كثرُت في تفسيرهِ الأقاويلُ وتعددت في بيانه الأراءُ والنصوصُ والأفكار.. من رحمِ الغموضِ تُولدُ الأجنّةُ وينمو في العقول ألفُ وليدٍ ووليد.. وتصبح التفسيراتُ مجردَ آلام مخاض.
يُشاعُ في الأكوانِ أن تلك الشجيرة تحديدا قد استوطنتها من قديم روحُ ساحرٍ شرير.. بكفِّ يمينهِ يمكنُه أن يخفي ضوءَ القمر.. وجدائلُ شعره الأسود الغطيس.. تطمس الشمسَ إن أراد لها اختباء.. الفعلُ عنده سحرٌ.. والألوانُ سودٌ كما تلك الخفافيش التي ليست بخفافيش.
في تلك البقعة تحديدا من قلب الغابة مترامية الأطراف.. تروي الأساطيرُ أن الساحرَ وُجِدَ ذات صباحٍ مفصولَ الرأس مسْوَدَّ الجلد وسط بحيرةٍ كبيرةٍ من دماء.. غزيرة وكأنها دماءُ ألفِ ألف رجل.. لا يدرى أحدٌ هل ارتد سحرُهُ عليه أم شاخَ فتمردت عليه شياطينه وتمكنت منه.. كلُّ قبيلةٍ تدعي أنها دفنته في تلك البقعةِ الخبيثة.. البعضُ يزيد.. وأغراضُه وطعامُه في المكان نفسه.
من بين طيَّات موجاتٍ أثيريةٍ لكنها ليست كما الأثير.. نطوفُ عالقينَ في السديمِ القديم.. نروحُ.. نجيء.. نتخطى الزمن.. نتقلَّبُ بين تماسكِ الأشياء وتلاصُقِ الأثير عبرَ صَدى السنين.. نظنُّ أنه منذ آلاف السنين لم يزر سديمنَا باللونِ الأبيضِ جناح.. تمردت الأرواحُ وتشردت النفوس.. قلةٌ من العيون ظلت ترقب السماء.
حتى كانت الليلةُ الموعودة والتي لم يخبرنا بموعدها شيطانٌ أو ماردٌ عِفريت.. لكنه الأثير حين يخاطب منا شيئا لم نره.. أوحى إلى ذراتنا العالقة في السديمِ أن بدأت الطيورُ البيضاء تحلق في الأفقِ من بعيد.. تضرب بأجنحتها الكبيرة كلَّ خفَّاشٍ وخُفاش.. فينكشفُ خلف مكانهِ قطعةُ شمسٍ عفيَّة الضياء.
في منتصف الغابة مركز الأكوان تاهت عيونُنا وأصابها الكللُ والتعب.. نبحث عن الشجيرةِ القديمة قِدمَ الأذهانِ في كلِّ غابةٍ وخلف كلّ جبل.. نتفحصُ الأغصانَ والأزهارَ والعناقيد.. فلا نجد سوى ما اعتدناه في سديمنا القديم.. من أصداءٍ متواريةِ المصادرِ متفرقةِ السبل.
من بعيدٍ وعلى ضوءِ كلِّ جناحٍ أبيضَ رفراف.. لاحت البقعةُ المضيئة في منتصف الأكوان.. براقة لامعة مثل كرة ضوء طافية.. بدأ السديمُ في التلاصق حتى تكوَّنت منه الأشياء.. أكسبنا طولُ البقاءِ خارجَ الجسد ميزةَ الترحالِ والسفر.. خلف الأجنحة البيض دلتنا تجاربُنا الدفينة ومنحتنا الرغبةَ في التحوصلِ والرحيل.
على أوتار الكون البراح سمعنا لحنا لا ندري مصدره.. في مركز الكون وسط السديم تحررت الأرواحُ وسافرت.. وعلى الأرضيةِ الطينيةِ المبللة التقت الأنفسُ والتحمت بقبضة الفخار.. وحولها تجمعت الذرات والذرات.. حين تماسكت وتشكلت وامتزجت الخلائقُ بالضياء.. دبَّت الحركةُ في الأرواح.. وتطلَّعت الأنفس إلى حيث مدَّ البرقُ طرفَه وغرسَ في المكانِ طاقته.. لكنَّ الشجرةَ المزعومة في أثير حيواتنا القديمة ما كان لها من أثر.. وفي مكانها المعلوم داخل النفوس حيث تشكلت.. لم نجد للعنقودِ الكبيرِ كما الجبل.. سوى صدى حكاياتٍ قديمةٍ.. لكن من دون أي راوية..
في منتصف الغابة التي هي مركز الأكوان.. ما وجدت جموعنا في المكان سوى ألواحٍ مكسورةٍ وجذعِ نخلةٍ عجوز وكتاب.. وحروفٍ محفورة من نور على نور.
لكن بالرغم من زخم التجربةِ وسطوع الدليل والبرهان.. ما زال لأساطير الشجيرة القديمة للشيطان.
آذان وآذان.
بل قيل أنَّى للحقيقة أن يكون لها لغةٌ وبيانٌ ولسان ..
جِذعُها ضخمٌ مكتنزٌ على أقوال.. أو نحيلٌ تتجمع حوله الفروع وتلتف حوله الأوراقُ وكأنها جزءٌ من نسيجٍ على غيرِ أقوال.. لكنها في كل الأحوال.. تبدو للرائي من بعيدٍ ضخمةَ الكتلة متماسكةَ الأغصانِ ذات هيبةٍ ووقار.
الأمرُ الغريب حقا.. ما كان غير مقتصر على وصف شكل أو بيان.. فالشجرة هي الشجرة لكن بها من الشكل عشرة أوصاف لعشر عيون.. كل عينٍ تراها بشكلٍ ورسمٍ مختلف.. يقسمُ الرائي بحقِّ الوجودِ والموجودِ والسديمِ والنورِ والذراتِ والأنفسِ الهائمة بغيرِ كللٍ أو لهاث.. أن وصفه دقيقٌ وقوله لا ينازعه قول.
في غابة اللايقين شجيراتٌ وأشجار.. لكن لا زهرَ فيها ولا أوراقَ ولا ثمار.. مجرد خيالات صور وتهيؤات أفكار.. وسرابٌ يبدو للعيان كما الحقيقة.. لكنه سراب.
في غابة اللايقين طيوفٌ وخيالاتٌ وظلال. ورصيدٌ غير مُدرَكٍ لكنه فى النفسِ مختزن.
في حياتنا الأولى في منتصف النقطة المضيئة في الزمن السحيق حين كنا متلاصقين غير متماسكين فى السديم ، قيلَ لنا وقت تملكنا الفضول وحارت فى ذراتنا العقول.. "إلى منتصفِ تلك الغابة العجوز المتوارية عن الأنظار تحجُّ الخلائقُ كلُّها مرةً كلّ عام.. تجتمع القبائلُ ترفعُ البيارقَ والراياتِ.. ثم يُشدُّ الرحال.. في قلبِ موكب كل قبيلةٍ برهانٌ وقربان.. وسيفٌ مشحوذٌ مسنون.. على الجذعِ العجوز يُهرقُ الدمُ والدموعُ تسيل كالأنهار.. لكنَّ الثمرةَ تظلُّ دائما عصيةَ القطفِ بعيدةَ المنال".
من بين فوالقِ الذراتِ وفروق الألوان والطيوف وشروخ الزمن.. تتسللُ الأحرفُ والكلماتُ.. تحكي أن شجرتنا العجيبة لم تكن يوما منتظمةَ الإزهار.. ولا بالضرورةِ مقيدة بثمارٍ بعد أزهار.. ولأنها شجرةٌ لا تحكمها قوانينُ خلائقِ الأطياف وتحاورِ الذرات في السديم.. فإنها قد تزهر أحيانا كلَّ عامٍ أو ألف عام.. أو ربما ملايين الملايين من السنين.. وأحيانا أخرى عدة مرات في الحول.. لكنه حول غير الحول..
في غابة اللايقين.. تبقى الحقيقةُ مجرد حفرةٍ عميقةٍ لكن دونما أثر.
مهما اختلفت في سحيقِ أعماقنا التصورات.. وتعددت بداخلنا معاني الكلمات والتأويلات.. فالشجرة دائما هي الشجرة.. لها جذعٌ وفروعٌ وأوراق.. لها موعدُ إزهارٍ وإثمار.
قبل تشكُّل الوجود في الأذهان.. لم يكن للرمز قيمةٌ ولا سلطان.. لم يكن للزمن مقدارٌ أو قياس.. وأوراقُ شجرتنا تتشكلُ الأوراقُ فيها كلَّ مرة بشكلٍ مختلف.. وتينع الأزهارُ كلَّ مرةٍ بشكلٍ مختلفٍ ولونٍ مختلف.
حينما تدقُ الطبولُ على الأنغام الرعدية في الكون الممتد.. تبدأ العناقيدُ الجديدة في الظهور.. وخلف أوراقها الكثيفة تبدأ العناقيدُ دائما بعنقودٍ صغير ما يلبث أن يحيط به آخرون.. كلُّ عنقودٍ يبدأ بحبةٍ صغيرةٍ صغيرة سرعان ما تجتمع حولها الحباتُ والحبات.. ولأن تلك الشجرة تحديدا ليست كما كل الشجيرات.. فإنه لا يظل فيها سوى عنقود واحد بينما تتساقط من حوله كل العناقيد قبل أن تكتمل حباتها وتستدير.. يقول أهلُ الغابة الكبيرة التي لم يُعرف لها حدود.. أن ذلك كله يتم في ليلةٍ واحدةٍ يكون القمرُ فيها غائبا وقد فقد الكونُ ضياءَه وإطلالته.. وحين تكون العتمةُ قد أطبقت بأشباحِ ظلالِها على المكان.. يظهر العنقود.. يضيء الكون كله بشعاعات الغواية والضياء.
في وسط العتمة الدمساء.. يزعم البعض أن العنقودَ الأخير يلتهم كلَّ ما حوله من عناقيد.. فيستحيل إلى عنقود كما الجبل الكبير.. يعرف أفرادُ القبائل البعيدة موعدَ الإزهار بحالةِ الفوران.. فورانٌ غير معتادٍ يدبُّ في أرواحِ كل الأزهار.. ولسبب مجهولٍ تبدأ الأزهارُ برغم حالة الفورانِ في الذبول.. شيئا فشيئا تتساقط جميعها دفعة واحدة وقت اكتمال وتوحُّد العنقود.
وقت ظهور الخفافيش السُود تختفي زرقةُ السماء.. تنتفض الشجرةُ الكبيرة.. تتناثر من فروعها الأوراق.. تتطاير بجناحات اللهب والشرر مثل الطيور.. لكنها طيور ليست كما الطيور.. بأجنحتها الكبيرة تسُدُّ ألفَ شمسٍ وألف قمر.. يتحولُ الكونُ إلى سديمٍ غير مُكتمل.. يدورُ ويدورُ.. متجاورٌ لكنه لا يلتصق.
في جُنحِ الظلامِ أنَّى لأحدٍ أن يرقبَ الحدث.. وفي قلبِ الغابةِ البعيدة حيث الأشباح والعفاريت أنَّى لأحدٍ أن يصلَ إلى منابعه.. والعنقودُ تكبرُ حباتُه وتكتمل.. لكن من العناقيد ما لا تجمع حباتَها محبةٌ.. أو يضُمها عِشقٌ ورغبة.. فتكون حباتُها سامة وعصيرُها مميت.. لكن من ذا الذى يلتفت أو يلقي لها بالا.. فما أكثر الأموات في القبيلة وما أكثر الأسباب في السديم.
أما كيف يتم ذلك فقد كثرُت في تفسيرهِ الأقاويلُ وتعددت في بيانه الأراءُ والنصوصُ والأفكار.. من رحمِ الغموضِ تُولدُ الأجنّةُ وينمو في العقول ألفُ وليدٍ ووليد.. وتصبح التفسيراتُ مجردَ آلام مخاض.
يُشاعُ في الأكوانِ أن تلك الشجيرة تحديدا قد استوطنتها من قديم روحُ ساحرٍ شرير.. بكفِّ يمينهِ يمكنُه أن يخفي ضوءَ القمر.. وجدائلُ شعره الأسود الغطيس.. تطمس الشمسَ إن أراد لها اختباء.. الفعلُ عنده سحرٌ.. والألوانُ سودٌ كما تلك الخفافيش التي ليست بخفافيش.
في تلك البقعة تحديدا من قلب الغابة مترامية الأطراف.. تروي الأساطيرُ أن الساحرَ وُجِدَ ذات صباحٍ مفصولَ الرأس مسْوَدَّ الجلد وسط بحيرةٍ كبيرةٍ من دماء.. غزيرة وكأنها دماءُ ألفِ ألف رجل.. لا يدرى أحدٌ هل ارتد سحرُهُ عليه أم شاخَ فتمردت عليه شياطينه وتمكنت منه.. كلُّ قبيلةٍ تدعي أنها دفنته في تلك البقعةِ الخبيثة.. البعضُ يزيد.. وأغراضُه وطعامُه في المكان نفسه.
من بين طيَّات موجاتٍ أثيريةٍ لكنها ليست كما الأثير.. نطوفُ عالقينَ في السديمِ القديم.. نروحُ.. نجيء.. نتخطى الزمن.. نتقلَّبُ بين تماسكِ الأشياء وتلاصُقِ الأثير عبرَ صَدى السنين.. نظنُّ أنه منذ آلاف السنين لم يزر سديمنَا باللونِ الأبيضِ جناح.. تمردت الأرواحُ وتشردت النفوس.. قلةٌ من العيون ظلت ترقب السماء.
حتى كانت الليلةُ الموعودة والتي لم يخبرنا بموعدها شيطانٌ أو ماردٌ عِفريت.. لكنه الأثير حين يخاطب منا شيئا لم نره.. أوحى إلى ذراتنا العالقة في السديمِ أن بدأت الطيورُ البيضاء تحلق في الأفقِ من بعيد.. تضرب بأجنحتها الكبيرة كلَّ خفَّاشٍ وخُفاش.. فينكشفُ خلف مكانهِ قطعةُ شمسٍ عفيَّة الضياء.
في منتصف الغابة مركز الأكوان تاهت عيونُنا وأصابها الكللُ والتعب.. نبحث عن الشجيرةِ القديمة قِدمَ الأذهانِ في كلِّ غابةٍ وخلف كلّ جبل.. نتفحصُ الأغصانَ والأزهارَ والعناقيد.. فلا نجد سوى ما اعتدناه في سديمنا القديم.. من أصداءٍ متواريةِ المصادرِ متفرقةِ السبل.
من بعيدٍ وعلى ضوءِ كلِّ جناحٍ أبيضَ رفراف.. لاحت البقعةُ المضيئة في منتصف الأكوان.. براقة لامعة مثل كرة ضوء طافية.. بدأ السديمُ في التلاصق حتى تكوَّنت منه الأشياء.. أكسبنا طولُ البقاءِ خارجَ الجسد ميزةَ الترحالِ والسفر.. خلف الأجنحة البيض دلتنا تجاربُنا الدفينة ومنحتنا الرغبةَ في التحوصلِ والرحيل.
على أوتار الكون البراح سمعنا لحنا لا ندري مصدره.. في مركز الكون وسط السديم تحررت الأرواحُ وسافرت.. وعلى الأرضيةِ الطينيةِ المبللة التقت الأنفسُ والتحمت بقبضة الفخار.. وحولها تجمعت الذرات والذرات.. حين تماسكت وتشكلت وامتزجت الخلائقُ بالضياء.. دبَّت الحركةُ في الأرواح.. وتطلَّعت الأنفس إلى حيث مدَّ البرقُ طرفَه وغرسَ في المكانِ طاقته.. لكنَّ الشجرةَ المزعومة في أثير حيواتنا القديمة ما كان لها من أثر.. وفي مكانها المعلوم داخل النفوس حيث تشكلت.. لم نجد للعنقودِ الكبيرِ كما الجبل.. سوى صدى حكاياتٍ قديمةٍ.. لكن من دون أي راوية..
في منتصف الغابة التي هي مركز الأكوان.. ما وجدت جموعنا في المكان سوى ألواحٍ مكسورةٍ وجذعِ نخلةٍ عجوز وكتاب.. وحروفٍ محفورة من نور على نور.
لكن بالرغم من زخم التجربةِ وسطوع الدليل والبرهان.. ما زال لأساطير الشجيرة القديمة للشيطان.
آذان وآذان.
*سعيد عثمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.