الصفحات

قصيدة النثر في الخطاب الأدبي العربي تأسيسا وتأصيلا ...*د.لامية مراكشي

إنّ مفهوم قصيدة النثر في إطارها التأريخيّ ، يضعنا أمام مشكلة قد تبدو ذات علاقة بالمفاهيم والمصطلحات، أكثر من كونها محض قراءة في السيرة التأريخيّة لقصيدة النثر عربيّاً، والتحوّلات المصاحبة لهذه البنية ابتداءً من الأنموذج الجبرانيّ، أو ما تمّ التواضع على تسميته النثر الشعريّ، مروراً بما استقر عليه مفهوم قصيدة النثر مع جماعة مجلة شعر في ستينيّات القرن العشرين، وصولاً إلى ما بات متداولاً في الأخير من مصطلحات النصّ والنصّ المفتوح والنصّ (عابر الأنواع) والكتابة، والكتابة خارج النوع والجنس الخ.
إذن، فقصيدة النثر مرّت بجملة من التحوّلات تمكّننا من أن نطلق على حقبها الثلاث التي ألمحنا لها، لحظات التشكّل ، وعلى وفق المتعاقبة التأريخية الآتية:

لحظة النشوء.
لحظة التأسيس.
لحظة التكريس.

ونحن هنا نقتفي التقسيم الذي يرى أن "الصيغة الخطابيّة لحقبها التعاقبيّة الثلاث، يتشكّل في (المرحلة النشوئيّة/ الشعر المهجريّ، المرحلة التحوليّة/ جماعة شعر، مرحلة التكريس/ الكتابات الشعريّة الراهنة" ().

وحتى يكون تحديد لحظة النشوء لهذا الشكل المعالج من خلال هذه المقاربة التأريخية، لا بد من وضع تصوّر معرفيّ يمهّد للولوج إلى تأريخيّة قصيدة النثر على اختلاف مسمياتها وعبر تحوّلاتها.

إنّ النظرة المتفحّصة للمعطيات المولِّدة لقصيدة النثر ــ تؤكّد ارتباط قصيدة النثر بسياق إجتماعي محكوم بايديولوجيا وايديولوجيا مضادّة، أو لنقل قصيدة النثر التي هي نتاج الصراع بين المركز والهامش ، بين السائد والمتمرّد عليه. بل "يمكن أن تحديد قصيدة النثر طبقاً لوظائفها الايديولوجيّة بوصفها قصيدة الهامش التي قامت بالضدّ من المركز الذي يضمن له حضوراً ميتافيزيقيّاً يعطيه في آن معاً قيمةً حضوريةً وكياناً مغلقاً على نفسه ويمنحه قيمةً يقينيةً ثابتةً لها القابليّة على إبعاد كلّ شكل مغاير ومخالف"()، ولعلّ هذا الأمر بحد ذاته كان وراء نشوء شكل مغاير سعى إلى تشكيل هويته الإنفصاليّة معتمدا على الخارجيّ والمهمّش، بالضدّ من المركزيّ والسائد، محققاً بذلك ذاتاً جديدةً نافيةً للآخر، عبر بحثها المستمرّ عن لغتها الخاصّة داخل الفضاء اللغويّ نفسه .

لقد حاولت قصيدة النثر ، وعبر مراحلها الثلاث، الإنحراف عن الأنظمة الشعريّة القياسيّة، رافعة شعار التحول ، بالضد من الثبات الذي أقرّته أصول الفهم الشعريّ العربيّ، وتجلّت محاولة الإنحراف هذه بالخروج على العروض والأوزان الخليليّة المتعاهدة، وإسقاط القافية، ومجافاة الزخارف اللغويّة البلاغيّة والبديعيّة، وتسهيل القاموس اللغويّ وتقريبه من اللغة المحكيّة، وبهذا " كانت قصيدة النثر تتجه صوب العقل المؤسّس الذي يحيل الشعر إلى لغة تجريديّة قائمة على مدلول ثابت يتوافق مع صورة شكليّة متكرّرة لتحولات شبه مستقرة تعبّر عن قوة البنية التي تحكمه" ()

إن تتبع العوامل التي مهّدت لقصيدة النثر في الأدب العربيّ بشكل عام، يمكن ، من الناحية الظاهريّة، تشخيص النزعة إلى التحرر من وحدة البيت والقافية ونظام التفعيلة الخليليّ، حيث أدى ذلك النزوع الذي شهده الشعر العربيّ ابتداءً من مطلع القرن العشرين، والمتمثّل بما احدثته التجارب الشعريّة من شعر مرسل أو مطلق أو شعر حرّ ، أدّى ذلك إلى جعل البيت الشعريّ العربيّ أكثر مرونة وقريباً من النثر، كما أسهم انعتاق اللغة العربيّة من قوالبها الجاهزة التي وضعتها فيها عصور الظلمة، التي شهدت انحطاط الشعر العربيّ التقليديّ، في بعث ردود فعل ضد تلك التقاليد البالية والقواعد الصارمة، داعياً إلى نموّ روح التمرّد المرتكزة على معطيات الحداثة والانفتاح على الآخر الفكريّ، وتفعيل التراث واستثمار نصوصه وفنونه، إضافة إلى التلاقح مع الغرب وترجمة نماذجه الشعريّة وتقبّلها بوصفها شعراً على الرغم من خلوّها من المحددات الشعريّة العربيّة، كل هذا مشفوعاً بما أحدثه ماعرف بالنثر الشعريّ، وهو من الناحية الشكليّة، الدرجة الأخيرة في السلّم الذي أوصل الشعراء إلى قصيدة النثر، وما دار من سجال أثير حوله في الأدب العالميّ، في فرنسا خاصة، كان بداية الفصل بين الشعر والنظم والتمييز بينهما. ()

إن هذه المعطيات تمثّل عناصر إيجابيّة شكّلت بمجملها أساساً لامتداد التجربة وساعدت في بنائها وتطويرها، بالمقابل من عناصر أخرى يمكن تسميتها سلبيّة تقوم التجربة كردة فعل عليها ()، فقصيدة النثر بحد ذاتها أسلوب في الرفض وتمرّد في نطاق الشكل الشعريّ يختاره الشاعر مثلما يختار سواه، فناناً، أديباً ومفكراً، رفضه وشكل رفضه. وبقدر ما تكون قصيدة النثر ردّة فعل ضدّ الاذواق والاتجاهات السائدة، فهي على النقيض من ذلك، وسيلة مميّزة لتقديم الرفض السرّي في حياة الشاعر، وحركاته الروحيّة الغامضة، ووجهه المختبئ في العتمة. ()

ومهما يكن الأمر بشأن معطيات قصيدة النثر ودواعيها في الأدب العربيّ، فإنّ القراءة التأريخيّة تستدعي تحديد لحظة البداية والنشأة لهذا الشكل الغنائيّ من الشعر، الذي بدأ هامشيّاً، ومر بأدوار تطوّر فيها متحوّلاً في شكله ومضمونه، بقدر ما تحوّل في موقعه على خريطة الشعر العربيّ، ليكون قسيماً سائداً على مجمل النتاج الشعريّ العربيّ ، محقّقا بذلك اعترافاً أكيداً في انتمائه إلى الشعريّة العربيّة على الرغم من قصر المدّة التي شهدت نشأته وتأسيسه ومن ثم تكريسه، والتي لم تكد تبلغ قرناً واحداً من الزمان، على أكثر الروايات تحمّساً، بالمقابل من الأشكال الشعريّة الغنائيّة العربيّة الأخرى التي ترقى في نشأتها إلى أكثر من خمسة عشر قرناً، كما هي الحال مع الشعر العربيّ الكلاسيكيّ ذي البناء التقليديّ بأبياته ذات الشطرين. ومصداق ذلك هذا الكم الهائل من الشعراء العرب ، والكتب التي يصدرونها، وما تحتفي به الدوريّات و الصحف من نتاجاتهم، مقارنة بالنماذج التقليديّة من الشعر العربيّ بما فيها شعر التفعيلة الذي شاطر القصيدة النثريّة تأريخ نشأتها.

إنّ بواكير القصيدة النثريّة، في الأدب العربيّ تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذه الكتابة النثريّة ذات النزوع الشعريّ، كانت تصدر عن باعثين مختلفين بحكم المعطيات التي قادت إلى وجود أنواع كتابيّة مستحدثة، فالأدب العربيّ عرف النثر عبر تأريخه الطويل، وقد بلغ النثر العربيّ في العصر العباسي، مستوى عال من البلاغة والفصاحة، حتى أنه استخدم التقنيّات البلاغيّة للشعر ، تتمثّل في استخدام الإستعارة والمجاز والمحسّنات البديعيّة، إلى حدّ أنْ وُجدت بعض الأعمال النثريّة التي لا ينقصها سوى الوزن لكي تعدّ شعراً لدى النقّاد الكلاسيكيين. ()

إلاّ أنّ الحقيقة التي لا حياد عنها بشأن النثر العربيّ ذاك، هي أنّ غايته لم تكن نقل المشاعر والاستجابة للإنفعالات الشعريّة، وتقديمها في نصوص ذاتية ـ غنائيّة بالمعنى الدقيق، بل كان الهدف إظهار البراعة اللغويّة والإرتهان إلى إجادة الصنعة، الأمر الذي لم ترتق معه تلك المحاولات إلى مستوى الخيال الشعريّ.()

لقد توافرت لهذا النثر الفنيّ عوامل دفعت به إلى التمركز وجعلت منه مهيمناً على واقع النتاج الإبداعيّ العربيّ، ومن هذه العوامل شدّة التصاقه باللغة العربيّة الفخمة والمحاكية للأسلوب القرآنيّ الموقّع، والمناخ الدينيّ والفكريّ والسياسيّ الذي كان للإسلام الكلمة الأعلى فيه، ناهيك عن ضغط الشعريّة العربيّة التي قادت الفنون إلى اتّباع خصائصها واستلهام صيغها وتراكيبها، الأمر الذي أدّى إلى جاهزيّة صريحة وتقليد نمطيّ سقيم.

وإذا كان هذا هو الباعث الأوّل الذي أنتج نوعاً من الشعر خارج الوزن فإنّ الباعث الثاني جاء على النقيض من ذلك فلم تكن المركزيّة والقوّة الدينيّة والسياسيّة بواعثه، حيث "اتّسم بالبساطة والدّقة إلى جانب الوضوح والمباشرة، والتعبير عن حالات التأمّل والتفكير، والإحساس المتدفّق، والعواطف الحالمة، ، وهو أسلوب خياليّ عاطفيّ يفيض غنائيّة ويتّصف بالإحكام والترابط". ()

هذا المسار المغاير جاء من هامش لغويّ، دينيّ، سياسيّ معاً، فقد برع في تنشيط هذه الكتابة الفنيّة عددٌ من الأدباء المسيحيين، بإيحاء من أسلوب الكتاب المقدس وترانيم الطقوس الكنسيّة والنثر الشعريّ عند الرومانتيكيّة الفرنسيّة، وما إن بدأ هذا المسار بتأكيد حضوره على الخريطة الأدبيّة العربيّة ، عبر نشر بعض منتجيه كتباً لاقت استحسان القارئ العربيّ، وأثّرت فيه، حتى انبرى مؤيدو المسار المركزيّ الأول ليبدوا معارضتهم لهذا الأنموذج الجديد، وقد تكون هذه المعارضة القائمة على أسس فكريّة ـ ايديولوجيّة ـ دينيّة، هي الباعث الأساسيّ لرفض الشكل الشعريّ الجديد ، الذي استقر في ما بعد ـ على الرغم من معارضته ـ تحت مسمّى قصيدة النثر.

إنّ الباعث الثاني في الكتابة الشعريّة خارج الوزن، هو الأب الشرعيّ ـ على وفق ما تراه هذه الدراسة لقصيدة النثر العربيّة غير معنيين بتنظيرات بعض الدراسين التي ترى في نثر بعض عرب الجاهليّة، وطائفة من سور القرآن، وما نسب لأبي الطيّب المتنبي من نثر، في مرحلة ادّعائه النبوّة، وكذلك في (الأيك والغصون) و (ملقى السبيل) من نثر المعريّ، وصولا إلى عدّ (البند) الذي نظمه ابن الخلفة في القرن الرابع عشر الميلادي، شعراً منثوراً وقصائد نثرية.()

ونختلف أيضاً مع رأي من قرأ النصوص انطلاقاً من (المتحقّق النصّي) وليس انطلاقاً من القصديّة، جاعلاً ـ على وفق هذه القراءة ـ من نصوص مجتزأة لسطيح الكاهن، وقسّ بن ساعدة الإيادي، وأبي يزيد البسطامي، وجلال الدين الروميّ، والنفّري، والكاهن الكنعاني إيلي ملكو، ومن نصوصٍ مجهولةٍ في كتاب الموتى الفرعونيّ المصريّ، وترجمة ملحمة كلكامش، وفقرات في نشيد الإنشاد، جاعلاً من كلّ ذلك أنموذجاً لقصيدة النثر، اعتماداً على الاقتراب الشكليّ والتشابه الحاصل بين النصوص أو ما يُعرف بـ (المتحقّق النصيّ) ().

إنّ هذه النظرة الفضفاضة لمفهوم قصيدة النثر، تنطوي على سطحيّة وعدم دراية بدقائق تشكّله التأريخيّة والإصطلاحيّة، على الرغم من اتفاقها مع فعل، لا تنقصه المبالغة أو المغالاة، حيث نشر الشاعر الأميركي شارلس هنري فورد في العام 1953 مختارات عالميّة من قصائد النثر، تتضمن سوراً أو بعض سور قرآنيّة، عادّا إيّاها نماذج أولى من قصيدة النثر. ().

وسواء أكان هذا الإتّفاق من قبيل المصادفة أم الاستنتاج المنطقيّ، وسواء أعدّ شاذاً أم طبيعيّاً، فإنّ الدّقة والمنهجيّة ـ تحتّمان التجرّد من الدوافع العاطفيّة، ومحاكمة الوثيقة التأريخيّة بالاقتراب من الفضاء الذي ولدت فيه، ومعاينة نمائمه الأولى، وفحص ذلك بصورة دقيقة، تمكّن لاحقاً من تفكيك المسلّمات المنقوصة التي طالما ابتُلي بها النقد الأدبيّ، عبر مراحله المختلفة.

وعليه سيكون المنطلق لقراءة تأريخ قصيدة النثر العربيّة تلك البواكير المؤسّسة للحظة نشوء قصيدة النثر، وبالخصوص لدى شعراء المهجر . حيث " بدأت تظهر في نهايات القرن التاسع عشر كتابات تحمل من خصائص الشعر المنثور ما جعل بعض الدارسين يعتبرونها بدايات لهذا النمط من الكتابة "، ولنا الاشارة إلى بعض الأدباء المسيحيين الذين توافرت في نصـوصـهم مـلامح فـنيّة مـتأثرة بـالأســلوب العربيّ المسـيحيّ، . . وأسلوب الرومانتيكيّة الفرنسيّة، بقدر ما هي متأثرة بالأسلوب الإسلاميّ العام، ومنهم الأديب والكاتب فرنسيس فتح الله مرّاش ونيقولا نقّاشوبولص حكيم الحلبي، وحنّا أسعد الصعب وأنطوان قندلفت. ولعلّ هذه المحاولات الأولى في الكتابة خارج الأطر الشعريّة التقليديّة بوازعٍ من المؤثرات الإنجيليّة ، لم تعدُ أن تكون تجارب فطريّة أملتها على مبدعيها ضغوط عقائديّة وإرهاصات نفسيّة ذات صبغة دينيّة واضحة، إنّما يمكن عدَّ العام 1890 نقطة انطلاق لتأريخ قصيدة النثر العربيّة، "

فهو العام الذي كتبت فيه أوّل قطعة قصيرة مستقلّة بأسلوب مسيحي واضح متأثر بالرومانتيكيّة الفرنسيّة، فكلّ سطر، أو كلّ فقرة كتبت مستقلّة عن الأخرى، وهذه القطعة بعنوان: " تقوى" مع عنوان ثانوي هو "شعر منثور" وقد كتبها نيقولا فيّاض ، وظهرت في ديوانه "رفيف الأقحوان" (بيروت، 1950)".

إنّ هذه القصيدة ، تتطابق مع ترجمة الإنجيل الصادرة في العام 1860، كما تقترب من لغة الترانيم الطقسيّة والشعائريّة، وتمتاز ببنيتها المتأسّسة على أساليب التكرار والتوازي والمقطعيّة ، التي تقرّبها من النثر الشعريّ الغنائيّ، وهو ما دعا أدباء وشعراء آخرين إلى اقتفاء أثر فيّاض ، وترسّم شكل تقواه بينهم إبراهيم الحورانيّ، الذي نشر سلسلة من المقطوعات عام 1920، في الوقت الذي بدأ فيه شاعر وأديب أكثر مهارةً هو جبران خليل جبران() بنشر مقطّعاته في جريدة المهاجر التي كان يصدرها في نيويورك الصحفي والأديب المسيحي أمين الغريّب، الذي شجّع جبران على مواصلة الكتابة بهذا الأسلوب الجديد، ما أثمر طائفة من النصوص غير المجنّسة، والمتراوحة بين المقالة ذات النثر الشعري، والشعر المنثور، والتي جمعت عقب ذلك في كتابه دمعة وابتسامة 1914().

وعلى الرغم من بواكير جبران تلك، إلاّ أنّ بعض الدراسين يرى أنّ " قصيدة (وعظتني نفسي) أول قصيدة نثريّة في اللغة العربيّة" ()، وهذا يعني تأجيل الشروع بتأريخ قصيدة النثر في الأدب العربيّ إلى مطلع العقد الثالث من القرن العشرين،. وهذا مخالف لما أثبته أغلب مؤرخي الأدب العربيّ الحديث، والمعنيين بهذه المرحلة، وما شهدته من تطوّر في الكتابة الشعريّة " ففي أكتوبر من عام 1905 نشر أمين الريحاني() في مجلة "الهلال" الشهريّة قصيدة نثريّة قصيرة، سمّاها رئيس التحرير، جرجي زيدان في تقديمه لها "الشعر المنثور" () وبهذا يكون الريحاني قد سبق شعراء جيله، ومنهم مطران خليل () الذي احتوى ديوانه على قصيدة واحدة، عنوانها "رثاء اليازجي" التي يحضّ في مطلعها نفسه على تحرير انفعالاته من قيود الوزن والقافية، على أنّ مصطلح الشعر المنثور الذي أثبته جرجي زيدان، لم يكن مقصد الريحانيّ الذي ذكر في عام 1910، أنّه كان يحاول، كتابة شعر حرّ، على طريقة الشاعر الأميركيّ والت ويتمان، مشيراً بالقول: " يدعى هذا النوع من الشعر الجديد Vers Libre بالفرنسيّة و بالانكليزيّة free Verse أي الشعر الحرّ أو الحرّ المطلق. وهو آخر ما توصّل إليه الإرتقاء الشعريّ عند الإفرنج وبالأخصّ عند الامريكيين والانكليز. فملتون وشكسبير أطلقا الشعر الانكليزي من قيود القافية، ووالت ويتمان الأمريكي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الإصطلاحيّة والأبحر العرفيّة. على أنّ لهذا الشعر المطلق وزناً جديداً مخصوصاً، وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوّعة".()

إنّ هذا النصّ يعطي تصوّراً ، يؤكد حراك الوعي التجديدي ومدى التأثير الذي أحدثه التلاقح مع الأدب الغربيّ، في تلك المرحلة من تأريخ الأدب العربيّ، وعلى الرغم من اختلاف الاقنية الثقافيّة التي تشي بها حادثة نشر قصيدة الريحانيّ وتعليق زيدان عليها، وهو ما يمكن أن نعزو إليه الإضطراب الإصطلاحي الذي وسم النقّاد العرب عبر تأريخ منطوقاتهم أو متونهم النقديّة، ولاسيما في معالجاتهم هذه المواطن الملتبسة في الفنون والأشكال الوافدة.

وربّما يكون من المجدي الإشارة إلى أن التأثير الغربيّ. إنّما تحقق بوسائل مختلفة، منها الوسيلة المباشرة، كما هو الحال مع أدباء المهجر الذين انصهروا في الفضاء الغربيّ وأفادوا من تجاربه وزاوجوا بين ملكاتهم الفنيّة وما اكتسبوه من الآخر ، ومنها غير المباشرة، والمتمثلة في الوسائل الثقافيّة الأخرى المتضمّنة انتشار الترجمة، وتأسيس المنتديات، وشيوع الصحافة والمطبوعات ومؤسّسات النشر، وكذلك التوافد أو التزاور بين الأدباء العرب على اختلاف أوطانهم ، " وكان لزيارات الريحاني ورحلاته إلى العالم العربيّ، وخطبه التي كان يلقي فيها كثيراً من شعره المنثور، ودراسته لهذا النوع الأدبيّ، وعلاقاته الحميمة بالشعراء والصحفيين العرب ـ كان لكلّ هذا أثر في إعطاء دفعة كبيرة للشعر المنثور في العالم العربيّ، وبالدرجة الأولى في مصر، ولبنان، والعراق ابتداءً من العشرينات، فحاكى كثير من الكتاب والشعراء شعره المنثور، كما حاكوا شعر جبران أيضاً". ()

إن نشأة قصيدة النثر، وبواكيرها، ما كان منها امتداداً للنثر العربيّ وسلطته الأيديولوجيّة، أو ما أفرزته عوامل التمرّد على السلطة لدى شعراء الهامش المسيحيين ممن استندوا إلى تراثهم الإنجيليّ، أو تأثروا بالمذاهب الأدبيّة الغربيّة()، إنّما امتدت منذ خواتيم القرن التاسع عشر، حتى أربعينيّات القرن العشرين، حيث بدأت إرهاصات التحوّل مع ظهور مجلة (الأديب) البيروتية في العام 1941 التي أصدرها البير أديب()، وقد احتضنت هذه المجلة عددا من الأدباء، والتجارب الشعريّة الجديدة، ومن هؤلاء: بشر فارس، ، وثريّا ملحس، وأدفيك جريديني شيبوب، ونيقولا قربان، وعبد الله قبرصي، وهنري حاماتي، وفؤاد حدّاد، وعبد المجيد لطفي، وسواهم.()

إنّ تجربة الأديب هذه تمثّل مفصلاً تأريخيّاً بين مرحلة النشأة ومرحلة التأسيس، فقد أسهمت في إعادة رسم الخريطة الأدبيّة، وتشكيلها، بما يمهّد لتحويل الهامش إلى مركز، يماهي بين الهامش والمركز في مفهوم الشعر العربيّ، وابتداءً من هذهِ اللحظة التأريخيّة، صار ممكناً تقديم الشعر خارج أطره التقليديّة، بوصفه أنموذجاً شعريّاً جديداً، وشكلاً معترفاً به ، فقد استبدل هذا الخطاب منظومة القيم القديمة، بأخرى جديدة، ما جعل القواعد التي يتضمّنها الشعر المنثور هي القواعد التي تضمن للشعر استمراريّته ().

ومما لاشك فيه، فإنّ غياب الموسيقى وضمور القافية وما تحدثه من إيقاع وضبط، والتحرّر الواضح من الاشتراطات القانونيّة التي تتوافر عليها القصيدة التقليديّة، كان سبباً في إنكار القصيدة النثريّة، بقدر ما كان ذلك مدعاةً لولوج متشاعرين وأنصاف مواهب شعريّة ومدّعين، عالم القصيدة النثريّة، ما أدى إلى إنتاج (قصائد نثريّة) رديئة، أعطت مناوئي هذا الشكل حجّةً ومسوّغا لمهاجمته .

لقد صدرت مجلة ( شعر) البيروتيّة، التي حملت لواء قصيدة النثر بالمعنى الشامل للمصطلح، الذي ظلّ متراوحاً بين الشعر النثريّ والنثر الشعريّ والشعر الرمزيّ المنثور، وما يقترب من ذلك في اللفظ والمعنى ، حتى صدور مجلّة شعر. وقبل صدورها، كانت ثمة أسماءٌ شعريّة، حققت لنفسها مكانة مميزة على الرغم من حجم المعارضة والمجابهة ، ومن بين هؤلاء الذين حققوا حضوراً لافتاً في فضاء الكتابة الشعريّة غير التقليديّة، والخارجة على نواميس الشعر العربيّ التقليديّ : توفيق صائغ وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد الماغوط وابراهيم شكر الله ورياض نجيب الريّس وكمال أبو ديب، الذين نزعوا إلى كتابة قصائد تعي ماهيّتها، واصطلحوا على ماكتبوه الشعر الحر، واضعين في حسبانهم المصطلح الإنكليزيّ (Free Verse) وهو الشعر المتحرّر من القوافي والتعقيدات العروضيّة، مع محافظته على نظام السّطر الشعريّ ().

ولعلّ صدور (ثلاثون قصيدة) لتوفيق صائغ عام 1954، كان إيذاناً بثورة داخل الثورة ، حيث استطاعت قصائد هذه المجموعة الثلاثون أنْ " تمتلك في الواقع كلّ تلك العناصر التي سيركّز عليها بعد سنوات قليلة أصحاب "تجمّع شعر" وهم بصدد الترويج لقصيدة النثر، والشروط التي يجب أن تتوافر فيها"()، ومثل ذلك الوقع الذي أحدثته هذهِ المجموعة، كان لتجربة جبرا إبراهيم جبرا في مجموعته (تمّوز في المدينة) ()، وتجربة محمّد الماغوط في مجموعته (حزن في ضوء القمر) ().

لقد كان لهذهِ التجارب بالغ الأثر في رفد مسيرة الشعر الحديث، على أن التفريق بين شكلين شعريين أحدهما الشعر الحر والآخر قصيدة النثر، كان مطروحاً، على الرغم من شيوع مصطلح الشعر الحرّ في ذلك الوقت، والمراد به شعر الحداثة الذي عرف في العراق من خلال شعرائه الرواد : بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وسواهم من شعراء العرب المحدثين في الشام ومصر ، الذين أسهموا في زحزحة البنية الكميّة لتفعيلات البيت الشعريّ العربيّ التقليديّ ، ونشطوا في تحرير القصيدة الكلاسيكيّة، ولكنّ ضمن حدود البنية العروضيّة نفسها.

ومهما يكن الأمر، فإن مجلّة شعر التي فتحت المجال واسعاً أمام شعراء الحداثة، سواء من عُني منهم بكتابة الشعر داخل البنية الإيقاعيّة والتزم العروض العربيّ والأوزان الصافية في بادئ الأمر، ثمّ طوّر ذلك باستثمار الأوزان الأخرى، أو من آثر الكتابة خارج الأطر الموسيقيّة والوزنيّة، واندرج في تلمّس الشعر في فضاء النثر فقط، أو من جمع من الشعراء بين هاتين الوسيلتين وقدّم تجربته أو تجاربه المستقلّة أو المتداخلة في هذين الشكلين الموزون وغير الموزون.

وكان لمجلّة شعر التي أسّسها ورأس تحريرها الشاعر يوسف الخال في العام 1957، ولندوتها الشعريّة والأدبيّة التي بدأت بإقامتها في يوم الخميس من كلّ أسبوع، الفضل الأكبر في إطلاق مصطلح قصيدة النثر، والإيذان بالبدء بمرحلة جديدة في تأريخ القصيدة النثريّة، وهي المرحلة التي تصالحنا على تسميتها مرحلة التأسيس كما أسلفنا.

إنّ الحديث عن دور مجلّة شعر الريادي، لا يقتصر على الانفتاح الذي اتّخذته وسيلةً لدفع عجلة الحداثة، عبر استقطابها لأسماء شعريّة معيّنة فقط، بل يتأتّى من خلال وعيها الجديد، الذي أفرزت فيه ما هو عصريّ عّما تبيّنته هي من معنى الحداثة. فقد كانت الرومانتيكيّة ووعيها، كما ألمحنا سابقاً، هي المعيار للمعاصرة على امتداد المرحلة النشوئيّة وبواكير تجربة التجديد في الشعر العربيّ، ابتداءً من مطلع القرن الماضي وعلى خلاف ذلك، كانت تجربة الحداثة كما قدّمتها مجلة شعر، حيث أخذت على عاتقها نقد الرومانتيكيّة، " . وبهذا المعنى يمكن فهم (الشعر ـ الرؤيا) الذي قالت بهِ الحركة الحديثة منذ الخمسينيّات، كردًّ على (الرومنتيكيّة) فالبيان الذي تلاه يوسف الخال والذي دشّن فيه (فاعليات شعر) ومثّل"الفعل الإفتتاحي" لها. لم تكن نقاطه القاعدة الفكريّة الأولى لحركة "شعر" في مرحلتها الأولى أو الوثيقة الأولى في الطور الأوّل من نشاط التجمّع، والمرجع الأوّلي لتصوّراته المجدّدة وحسب ، بل ، إنّ نقاط الإنطلاق هذه تكشف عن نيّة في وضع الأسس النظريّة للتيار الحديث في الشعر العربيّ". ()

لقد انتهت تجربة النشأة إلى ما يمكن الارتهان إلى تسميته (الشعر المنثور) وهو الشكل الأكثر إغراءً لنزوع التجديد في ذلك الوعي الرومانتيكيّ، الذي قام على انسيابيّة الخيال والمشاعر والوجدان وحالات الشعور في شكل شعريّ ينفر من الإتّساق والتنظيم أي من البناء.()

في حين استندت حركة شعر على المبدأ القائل بتولّد (قصيدة النثر) من سيرورة العلاقة المعقّدة بين (النثر الشعريّ) الذي هو نثر، من جهة، و(قصيدة النثر) التي هي قبل كلّ شيء شعرـ بحسب تعبير سوزان برنارـ من جهة ثانية. فقد ميّزت برنار بين الشكلين الشعريّين، بكون قصيدة النثر تفترض إرادة تنظيم واعية للقصيدة، تجعلها عضويّة ومستقلةً، وهو ما لايفترضه النثر الشعريّ ().

وإذا كان إطلاق التسمية الجديدة، وحراك الوعي الداعي إلى عدّ حركة شعر مفصلاً تأريخيّاً لتحوّلات شكل قصيدة النثر، وهو ما يمكن أن يكون مسلّمة في الدراسات التي تعنى بقصيدة النثر وتأريخها، فسيكون من الضروريّ وضع خريطة تأريخيّة لهذا التحوّل، مستنطقين، المتون والمقولات التي تورد تلك المؤشّرات، لتكون بمثابة سيرةٍ تأريخيّة موثّقة لمرحلة التحوّل نحو تأسيس قصيدة النثر في الأدب العربيّ.

ولعلّ أوّل زعم صريح، ذلك الذي قاله أدونيس عام 1960 ()حيث أكّد أنّه أوّل من كتب قصيدة النثر، في العام 1958، وذلك لدى ترجمته بعض قصائد سان جون بيرس، مشيراً إلى أنّ هذهِ الترجمة، كشفت له عن طاقات وأساليب تعبيريّة، لا يتأتى للوزن أن يحققها، وبتأثير هذهِ الترجمة كتب أوّل تجاربه في قصيدة النثر().

كما أنّ أدونيس هو أوّل من اهتم بقصيدة النثر على صعيد التنظير، وذلك في دراستهِ (في قصيدة النثر)، التي عدّها بعض الدارسين بياناً شعريّاً لجهود جماعة شعر().

وعلى الرغم من التعويل الواضح على كتاب سوزان برنار، (قصيدة النثر من بودلير إلى أيّامنا)، الذي صدر بالفرنسيّة عام 1959، إلاّ أنّ دراسة أدونيس الرائدة تلك، أسهمت بشكل كبير في بلورة المفاهيم النظريّة الأساسيّة لقصيدة النثر. وهي التي لخّصها أدونيس بـ (وحدة البناء العضويّة)، و(وحدة الجملة) ، و(البنية الإيقاعيّة) كما أنّهُ نقل محدّدات سوزان بيرنار الرئيسة: (التكثيف) و(الإشراق) و(المجانيّة)، وعن المحدّدين الأوّلين يقول: " على قصيدة النثر أن تتجنّب الاستطرادات والإيضاحات والشرح، وكلّ ما يقودها إلى الأنواع النثريّة الأخرى. فقوّتها الشعريّة كامنةٌ في تركيبها الإشراقيّ، لا في استطراداتها".() أمّا بشأن المحدّد الثالث فيرى : " أن قصيدة النثر لاتتقدم نحو غاية أو هدف، كالقصّة أو الرواية أو المسرحيّة أو المقالة، ولاتبسط مجموعة من الأفعال أو الأفكار، بل تعرض نفسها ككتلة لا زمنيّة." ()

وغير بعيد عن جهود أدونيس، كان أنسي الحاج قد انتهى إلى إصدار مجموعته الشعريّة الأولى (لن)() ، مضمّناً إيّاها مقدمةً، يمكن وصفها بالمهمّة، كما يمكن أن تكون بياناً عن فهم الشاعر لقصيدة النثر، ففي هذه المقدمة ـ البيان يفرّق أنسي الحاج بين الشعر النثريّ وقصيدة النثر قائلا : " النظم ليس هو الفرق الحقيقيّ بين النثر والشعر وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر. لكن هذا لا يعنى أن الشعر المنثور والنثر الشعريّ هما قصيدة نثر ـ إلاّ أنّهما ـ والنثر الشعريّ الموقّع على وجه الحصر ـ عنصر أوّلي في ما يسمّى قصيدة النثر الغنائيّة".()

إن مقدّمة أنسي الحاج هذهِ لم تختلف كثيراً عن دراسة أدونيس (في قصيدة النثر) وذلك في المرجعيّة النظريّة لكليهما، فقد كانت أطروحة سوزان بيرنار، والأفكار الواردة فيها عن قصيدة النثر، هي المادة الرئيسة والمولّدة، لأفكار أدونيس والحاج.

فبالاعتماد على أفكار برنار ـ وكما صنع أدونيس ـ يشترط الحاج توافر ثلاثة عناصر " لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنيّة أو محمّلة بالشعر"() ، وهذهِ العناصر هي " الإيجاز (أو الاختصار)، التوهج ، والمجانيّة ويجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفّر عنصر الإشراق، ونتيجة التأثر الكلّيّ المنبعث من وحدة عضويّة راسخة، وهذه الوحدة العضويّة تفقد من لازمنيّتها إن هي زحفت إلى نقطة معيّنة تبتغي بلوغها أو البرهنة عليها "() ،

وإذا كان الحاج قد اتّكأ على سوزان برنار في تحديد هذه العناصر، فهو يطوّر من رؤيته بشأنها، حيث يرى أن " عناصر الإيجاز والتوهج والمجانيّة ليست قوانين سلبيّة، بمعنى أنها ليست للإعجاز ولا قوالب جاهزة تفرغ فيها أيّ تفاهة فتعطي قصيدة النثر. لا، إنّها الإطار والخطوط العامّة للأعمق والأساس: موهبة الشاعر، تجربته الداخليّة، وموقفه من العالم والأنسان." ()

إنّ أهم ما ميّز مرحلة التأسيس التي بدأت منذ صدور مجلة شعر وصولاً إلى مرحلة الثمانينيّات من القرن الماضي، وهو التأريخ الذي نقترحه لصعود المرحلة الثالثة أو مرحلة التكريس فإنّ أهم مميّزات مرحلة التأسيس، هو هذا المتن التنظيريّ الذي أسهم فيه أصحابه عبر سجالاتهم ونقودهم، واضعين قصيدة النثر في قلب عمليّة التحديث الشعريّ ، وجاعلين منها : " أرحب ما توصّل إليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد". () وهي أيضاً "تمرّدٌ أعلى في نطاق الشكل الشعريّ". () كما أنّها "خليفة هذا الزمن، حليفته، ومصيره" .()

وبقدر ما جاءت هذه المقولات محمّلةً بالدعائيّة والمبالغة، فقد كانت هناك مقولات أخرى، تحمل في ثناياها روح التحدي والمواجهة والرفض للقيم الشعريّة المتوارثة، فشاعر قصيدة النثر" الذي يعبّر حقيقةً عن عصره هو شاعر الانقطاع عمّا هو سائد ومقبول ومعمّم هو شاعر المفاجأة والرفض ـ الرفض الذي لا يعني في تحليله الأخير غير القبول العميق الحرّ"() .

أما قصيدة النثر فهي "الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع والغل، انتفاضة فنيّة ووجدانيّة معاً، () و "في كلّ قصيدة تتلقى معاً دفعةً فوضويّة هدّامة، وقوّة تنظيم هندسي"، () ويرى أنسي الحاج أنّ مهمة قصيدة النثر هي الهدم، والتدمير، والتخريبُ ().

إنّ هذا الوعي المتمرّد ، لا يختزل تجربة قصيدة النثر في مرحلة تأسيسها، ولم يتهيّأ لهُ أن يكون قدراً على شذرات التجربة وشعرائها، فجماعة شعر التي بدأت بأسماء معدودة "يوسف الخال، أدونيس، خليل حاوي، نذير عظمة: هؤلاء هم الشعراء الذين شكّلوا نواة تجمّع شعر في البداية" () ولكن لم تكن هذهِ هي الأسماء الأكثر حضوراً وتأثيراً إذا استثنينا أدونيس وأنسي الحاج وبقدر ما يوسف الخال ، فلقد كان هناك من الشعراء من احتفت بهِ المجلّة مثل، توفيق صائغ ومحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا، كما أنّ هناك أسماء مؤثّرة أخرى بينها: شوقي أبي شقرا وجورج غانم وميشيل كمال وهنري حاماتي وعصام محفوظ وسواهم.

وإذا كان هذا الجانب الذي نركّز عليه هنا من تجمّع شعر هو جانب الكتابة الشعريّة خارج الوزن، فإنّ الجانب الآخر الذي احتفى به التجمّع هو ما عُرف بالشعر الحرّ عند الشعراء العراقيين، نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب، وسعدي يوسف ويوسف الصائغ ... ، كل هؤلاء من الشعراء الذين كانت لهم إسهامات في مجلّة شعر ابتداءً من عددها الأول .

إنّ تجمّع شعر الذي ولد رسميّاً في العام 1957 ، انفرط عقده في العام 1964، حيث صدر العدد المزدوج 31-32 حاملاً تسمية العدد الأخير. إلاّ أنّ المبادئ التي سنّها التجمّع أو استلهمها من التجربة الغربيّة، الفرنسية تحديداً، استمرت حاضرةً في نتاجات الشعراء الذين ركبوا موجة قصيدة النثر، هذا ما بقي سائداً عند شعراء مرحلة التأسيس المتصلة، حيث تلاحقت تجارب شعريّة في بلاد الشام والعراق ومصر بدرجة أقل، بل في جميع أنحاء البلاد العربيّة، وإنْ بدرجات متفاوتة. وصولاً إلى لحظة التكريس، والإنفجار الراهن لقصيدة النثر، على صعيد النصّ أو الكتابة النقديّة . وهو الأمر الذي لم يشهده المناخ الشعريّ العربيّ الحديث والمعاصر على امتداده منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن.

فبعد انهيار تجربة مجلة شعر وتجمّعها ، لم تنشط جماعة أو تكتّل ولم تصدر مجلة تعنى بما عنيت به جماعة شعر أو مجلّتها ، باستثناء التجربة العراقيّة الحييةّ، التي قدّمتها مجلّة الكلمة عام 1968، التي أصدرها الصحفيّ العراقيّ حميد المطبعي، فقد بادرت الكلمة إلى دعوة الشعراء لكتابة نصوصهم الجديدة وتقديمها على صفحاتها ، مشددة على أنّ "الدعوة لكتابة قصيدة النثر تنطلق من موقفٍ حضاريّ، قائم على نقيض شعريّ، يستند على النقل الميكانيكيّ للمنظورات والعقل . ذلك أنّ القوى المعطّلة داخل الإنسان لايمكن أنْ تجد طريقها في الشعر إلاّ من خلال الصراع الشعريّ .

وحتى هذا الصراع لا بدّ أن يخضع لقانون القصيدة إنّه اغتصابٌ لما هو أكثر من مفاجأة، وإلغاء للعلاقات التي تربط حركة القصيدة بهذا الوعي ينمو الإنسان التأريخ، والإنسان القيمة، داخل سلطة القصيدة "() ، وتأكيداً لهذهِ الدعوة المشوبة بنزعةٍ فلسفيّة، ذات ضغط أيديولوجيّ موارب، يأتي تصريحٌ آخر، يفصحُ عن كون قصيدة النثر هي المشروع المركزيّ لمجلة الكلمة .

وهكذا، فمن يتفحّص المتن التنظيريّ الذي قدّمته مجلة الكلمة عبر أعدادها، لا يكاد يقف على ما يطمئنّ إلى أهميته، بل إنّ كتّاب المجلة وشعراءها، لم يتمكّنوا من إضافة أيّ جديد لما انتهت إليه مجلّة شعر، بل لم يوفّقوا في تفعيل المتن التنظيريّ الذي قدّمته مجلة شعر من قبل ، مكتفين بمسّ تلك المقولات سطحيّاً،. إن قصيدة النثر مشروطة في ظهورها بقوّة الوعيّ وتنامية وانتشار الثقافة الأصيلة، وعمق التحوّلات في البنى الإجتماعيّة والاقتصاديّة، كما أنّها، تأريخيّاً، ليست غريبة عن فيض الصور الشعريّة وحركتها في التراث العربيّ، وليس لغتها إلاّ علاقات بنائيّة جديدة لم يألفها الذهن العربيّ بعد" () ،

إنّ شعراء مرحلة التأسيس التي امتدت لما يضاهي ربع قرن من الزمن لم ينحصروا في رقعة مكانيّة معيّنة، ففي العراق عُرفت أسماء بينها سركون بولص وفاضل العزاوي والأب يوسف سعيد وصلاح فائق ومؤيّد الراوي ونزار عباس وعبد الرحمن الربيعي وموسى كريدي وحميد المطبعي، على الرغم من محدودية عطاء أغلب هذه الأسماء وضآلة منجزها في رفد قصيدة النثر.

وإذا كان هذا واقع المشهد الشعريّ العربيّ في العراق ، فقد برزت أسماء أخرى في سوريّا ولبنان والأردن وفلسطين ، عملت غالبا على تقديم تجاربها الشعريّة الجديدة ، ولكن خارج مسمّيات التجمّعات وصيغها التي ظهرت في نهاية النصف الأوّل من القرن العشرين ومن بين أبرز الأسماء الشعريّة التي التي حاولت أن تكرّس تجربة قصيدة النثر العربيّة بعد مرحلة تأسيسها سليم بركات وسمير الصائغ وعزّ الدين المناصرة، وشربل داغر وعباس بيضون ورياض فاخوري وبسّام حجار وعبده وازن ومحمد العبد الله وأمجد ناصر وغسان زقطان وعقل العويط وسيف الرحبي وحسين البرغوثي ومحمد حسيب القاضي ونجوان درويش ووديع سعادة ونوري الجراح ووليد خازندار وحلمي سالم ... . إن جميع هؤلاء الشعراء كتبوا نصوصهم من قصائد النثر، بهدي من طروحات روّادها شعراء تجمع شعر. على الرغم من استمرار بعض المجلات المهمّة في تقديم التجارب الموازية لتجربة قصيدة النثر كما هو الحال مع مجلة (الآداب) البيروتيّة ، ومجلّة (المعرفة) السوريّة ومجلّتي (الأقلام) و (الثقافة الجديدة) العراقيّتين ، وسواها من المجلاّت الثقافيّة العربيّة بما فيها المجلاّت التابعة للإتحادات والروابط الثقافيّة القطريّة أو الإقليميّة ، وهي في الغالب الأعمّ مجلاّت محافظة ذات توجّهات مركزيّة تنأى عن المغامرة وتبتعد عن التجريب ، مكتفية بالمتحقق من آفاق التحديث المستقرّة ، وهو ما يمكن تلمّسه من خلال حضور التجارب الشعريّة المحافظة ، وتحديدا ما يعرف بالشعر الحرّ ، في هذه المنابر الثقافيّة . لا يعدو إلاّ أن يكون مؤشّرا على الإنفتاح الذي شهدته الساحة الشعريّة العربيّة .

إلاّ أنّ الثورة الفعليّة لقصيدة النثر، إنّما شهدتها مرحلة الثمانينيّات ، بعد أنْ أرهصت متغيّرات عُرفت بـ ( الحساسيّة الجديدة )، وهي البديل الشعريّ للحداثة التي كانت أحد المعطيات المؤسّسة لقصيدة النثر، ولاسيّما في مرحلة التأسيس؛ تجمع شعر وما بعده ، وصولاً إلى مرحلة الثمانينيّات، التي تمخّضت عمّا ساغ تداوله في نهاية التسعينيّات ضمن مفهوم الحساسيّة الجديدة ، التي هي " تكسير النمط السرديّ المتسلسل التقليديّ، تحطيم الترتيب العقليّ المنطقيّ للعمل الفنّي، الولوج إلى عالم الحلم، الإستفادة بالتداخل الزمني، الاعتماد على الحوار الداخلي، تفجير طاقات اللغة، الاستغناء عن السياق التقليديّ في التعبير ..." ()،

بالمقابل من الحداثة التي مثّلت السعي المستمر نحو المستحيل. التجاوز المستمر للأشكال، اختراق حصار النمط وكسر القالب المتعارف عليه. بقدر ما هي قيمة في العمل الفني، وباختصار الحداثة هي المرادف المضموني للأصالة.()، وابتداءً، كانت مؤثرات تجمع شعر مازالت حاضرةً، بيد أنّ نزوعاً إلى اكتشاف الذات، دفع الجيل الجديد إلى محاكمة ما كانوا يعيدون إنتاجه دائماً، فلم تعد شطحات تلك المرحلة، بما فيها من تعالٍ على الواقع واللغة، هي المحور الذي تدور عليه رحى الحساسية الجديدة، التي تؤمن بـ " إنّ الفنّ إدراك جماليّ للواقع، لا يعكسه عكساً آليّا، بل يخلق بطرائق التعبير المجازيّ موازاة رمزيّة لهذا الواقع، . فهو إذن موقف من العالم وتشكيل لهذا الموقف ، إن أيّ جهد لغوي لا يصبح ـ في هذا المفهوم ـ ترفاً أو تعالياً منفصلاً، فاللغة ـ تلك التي تجسد الحاجة والتطوّر الإجتماعيين ـ هي عماد الكتابة، أي "()، ويزداد هذا الموقف تطوّراً عندما يشعر الفنّان ـ الشاعر أنّه داخل الزمن لا خارجه؛ "إنّ ارتباط الوعي بزمنه التأريخيّ وتشكّله في عالم اللحظة الحاضرة والمكان الحالي، يجعلنا نركّز على زمنيّة فعلنا الشعريّ وآنيّته في الوقت نفسه فنحن داخل الزمن ولسنا خارجه."()

وهكذا، فقد انتهت رحلة قصيدة النثر عبر تأريخها ، متحوّلة من طور شكليّ إلى طورٍ إشكاليّ، فمن الرومانتيكيّة، إلى الحداثة وما بعدها، لتنتهي إلى شعر الحساسيّة الجديدة، الذي شهد تكريساً قائماً على حركيّة الإبداع وتحوّله، لاسكونيّته وثباته، ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.