الصفحات

سوزان برنار رائدة الحداثة الغربية...* بقلم : د. لامية د.مراكشي

لقد عاش العالم الغربي فترة ظلام , عرفت بالقرون الوسطى ، فعم الجهل نتيجة سيطرة رجال الكنيسة حيث رفضت كل أنواع الوعي ، وعدت المعرفة نوعا من التطاول ينبغي القضاء عليها ، وكنتيجة منطقية لتغييب العقل عاش هؤلاء حياتهم معتمدين على ما تمليه عليه أوهامهم ، وقد اعتقدوا أن في وسع المخيلة البشرية إفراز هذيان كثير عندما تحرر من سلطة العقل والمنطق .
كان لظهور الأفكار التنويرية les idées des Lumières الأثر البالغ في تخليص أوروبا من ظلامها وأول خطوة خطاها هؤلاء هي القضاء على السيطرة الإقطاعية ، والعمل على إثبات مبدأ العدل والمساواة كما أصبح العلم الراية الوحيدة التي استطاع الغرب من خلالها تجاوز الخرافات التي فرضتها الكنيسة .
لقد تأثر تحديد مصطلح الحداثة بتصورات مفكري التنوير الذين يؤكدون على العقلانية العلمانية والتقدم المادي والديمقراطية ، كما قد أسهم في تأسيس أصوله مفكرون تميزوا بتمردهم على الأسس التقليدية ، مثل التصورات الدينية والاجتماعية ، ولعل أبرز هؤلاء : فردريك نيتشه (1844 – 1900 م ) f . Nietzche ، وكارل ماركس ( 1818 – 1883 م ) وسيجموند فرويد sigmund freud ( 1856 – 1939 م ) .

يعود تاريخ الحداثة الغربية إلى عصر النهضة Renaissance في إيطاليا مع الإصلاح الديني أو من بداية تطور الظواهر العلمية في القرن السابع عشر ( 17 م ) إلى الثورات السياسية في أواخر القرن الثامن عشر ( 18 م ) ، وقد تبنت الكثير من المعتقدات والمذاهب الفلسفية والفكرية والفنية والسياسية والاجتماعية والنفسية.

لقد صدرت الطبعة الأولى لكتاب الباحثة الفرنسية سوزان برنار " قصيدة النثر منذ بودلير حتى الوقت الراهن " عام 1958 م بباريس ؛ هذا الكتاب تناولت فيه بصورة أساسية تطور النثر الشعري أو الشعر المنثور أو ما يسمى بالفرنسية vers libresوبالإنجليزيةverse free أي الشعر الحر في الأدب الفرنسي إلى قصيدة النثر .

عالجت فيه العوامل التمهيدية لنشوء وقوانين هذا النوع الأدبي ، وتحدثت عن أبرز أعلامه من مؤسسي المدرستين الرمزية والسريالية كبودلير ورامبو ومالارميه وغيرهم ، حيث صادف صدور الكتاب بدء العام التالي مباشرة لتأسيس مجلة شعر 1957 م ؛ وهي مصادفة نادرة في التواريخ الأدبية ، فكأنه صدر من أجلها .

لقد حاولت المدرسة الرمزية في فرنسا أن تستثمر الإرث الذي خلفته قصيدة النثر في أعقاب الرومانسية المنهارة ؛ تقول برنار في هذا السياق : " لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين 1880 و 1885 م في المرارة والهزيمة وصخب الثورة وانهارت من حوله القيم كلها ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة ، ولا بالفعل التافه الخالي من المثل ، ولا بالأساتذة الذين يجلهم الجيل السابع ، ولكنهم ما عادوا يلبون حاجاته " .

معروف أن جيل الشعراء العرب اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين الذين تبنوا مشروع قصيدة النثر كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيين في عهود سابقة . فقد عاش هؤلاء مرارة الخيبة وفكروا بالثورة على كل شيء بعد هزيمة عام 1948 م ، ويرجع ذلك إلى تأثر عميق بالشعراء الغربيين ولا سيما الفرنسيين من أصحاب قصيدة النثر .

تبدو فاعلية هذا الكتاب في الشعرية العربية الحداثية فاعلية تأسيسية للنظري عبر جماعة شعر أولا ، ومن خلال أدونيس ثانيا ، وإذا ما تجاوزنا الاتهامات التي وجهت لأدونيس في عدم اعترافه بالاقتباس من كتاب برنار ، فإن الإشارة الأولى لهذا الكتاب تدحض تلك الاتهامات التي وردت في مقاله الذي حمل عنوان " في قصيدة النثر " وقد ذيله بقوله : " اعتمدت في كتابة هذه الدراسة بشكل خاص على هذا الكتاب وأشار إليه" .

أشار أدونيس إلى أن عمله هذا في تأسيس قصيدة النثر لم يكن لينجح لولا ما تتمتع به اللغة العربية من إمكانات تسمح لها باستقبال هذا التجريب الجديد ، إذ ذهب إلى القول بأن مجلة شعر قد تبنت " قصيدة النثر " انطلاقا من ثلاثة مبادئ مستقلة عن مفهوماتها الفرنسية وهي :

أولا شعرية اللغة العربية ، فهذه اللغة تزخر بإمكانات تعبيرية وتراكيب لا نهائية . وثانيها ابتكار أشكال أخرى للتعبير الشعري بما يغني اللغة الشعرية العربية وينوعها. وثالثها الرغبة في جعل اللغة العربية مفتوحة على جميع التجارب الشعرية في العالم .

إن ما ذهب إليه أدونيس في تأكيد خصوصية تجربته التنظيرية لقصيدة النثر واصطباغها باللون العربي ، لا يخرج عن نطاق نجاح تنظيري في نقل تجربة جديدة إلى الشعرية العربية .

وقد أشار أنسي الحاج إلى أن مقدمة ديوانه " لن " لا تتسع لتوضيح أبعاد قصيدة النثر كافة ، وأنه يستعين بتلخيص كل ما كتبه في مقدمته من أحدث كتاب في هذا الموضوع بعنوان " قصيدة النثر من بودلير وحتى أيامنا " ويصف الحاج كتابه هذا بقوله : " كتابي الأول " لن" هو أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة في اللغة العربية .

إن ثمة فرقا واضحا في نقل أدونيس والحاج من هذا الكتاب ، " فالحاج يترجم من الكتاب فقرات كاملة توشك أن تكون حرفية وبذلك يترك القارئ العربي بانطباع خاطئ مفاده أن الأفكار التي تحتويها "المقدمة" هي من صنعه هو ، في حين يحاول أدونيس أن يخلع على مقتبساته من برنار طابعا شخصيا ، حيث يعمد إلى التفسير والتأويل .

أيا كان الحال فإن كتاب سوزان برنار ، سيعد مرجعا هاما عند أعضاء مجلة شعر في تأسيس هذه الكتابة الجديدة الأمر الذي دفع الكثيرين إلى القول بأن مجلة شعر قد انتحلت قصيدة النثر من الأدب الفرنسي ولم تقدم شيئا سوى أنها نقلت إلى العربية تجربة فرنسية.

إلا أن أدونيس والحاج رفضا اعتبار أن عملهما هذا سرقة ، وذهبا إلى أن عملية إدخال ما لا وجود لمثله في التراث العربي ، تحتاج إلى الاقتباس من الآداب الأخرى ، وأن هذا الاقتباس لا يلغي المحاولات الحثيثة من قبل المجلة لأن تصطبغ هذه التجربة الجديدة بالخصوصية العربية .

لقد وجد الشعراء المجددون في قصيدة النثر مجالا رحبا لتحقيق طموحاتهم ، بعد أن كانت القصيدة التقليدية تمثل سجنا لهم في النماذج المسبقة التي كانت تقيد حريته ، لذا كانت القصيدة النثرية تحمل دائما طموحات الفنان في التجديد والتعبير ، وتساعده على كشف المجهول ، وتجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع التجربة واللغة

هناك من النقاد من يرى أن " قصيدة النثر " رواية مركزة في بضع صفحات ، وهناك من يرى أنها " الشكل الطبيعي للإلهام " ، ويعطيها ثالث عناصر مكونة منها مثل " اللغة الشعرية والوصف والإيقاع " على حين ينكر عليها رابع أية موسيقى ، وأي تأثير للأسلوب الشعري ... .

إن أدونيس وأنسي الحاج اللذين نظرا لهذا النمط الشعري لم يتركا الأمور دون ضوابط فهذا أنسي الحاج يحدد لها ثلاثة شروط في مقدمته " لن " الإيجاز ، ثم التوهج ، والمجانية ، وأضاف لها أدونيس : " التكثيف والحرية والوحدة العضوية ... " وقد اعترف كلا الشاعرين أنهما تأثرا بآراء سوزان برنار في كتابها الشهير " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا " في تعريفهما لقصيدة النثر .

وإذا كانت التجربة الشعرية الجديدة استجابة لتطور حتمي في الواقع العربي المعاصر ، وكانت في بداية ظهورها غنية بمضامينها وأساليبها المعاصرة وصار لها بعد سنوات قليلة من ظهورها صوت مميز.

فقد حدث في الوطن العربي من الوعي الفني أحداثا لم تكن في الحسبان ، وشهد هذا الوطن نوعا من الردة يعجز القاموس النثري والشعري عن إيجاد وصف لها . وكانت النتيجة الحتمية أن تراجع المجتمع العربي في ارتياد الآفاق الجديدة في مختلف مناحي الحياة وفي عالم القصيدة وظهر لقصيدة النثر مؤيدين ومعارضين .

من المؤيدين نجد نزار قباني ( 1923 - 1998 م ) يقدم شهادة هامة حول مشروعية قصيدة النثر إذ أنه لا يسمح لنفسه أن ينفي بمرسومها ، لأنها حسب رأيه شكل طارئ لم يعرفه تاريخنا الأدبي من قبل .

ويقول حسين مروة ( 1910 - 1987 م ) : " في رأيي أن القصيدة الجديدة ولدت ولادة طبيعية جدا وليس فيها شيء من الإصطناع أو الافتعال ، ولا الجمع بين المزدوجين ، إنها طبيعة التغير بحكم ظروف فنية وفكرية ومعرفية واجتماعية وسياسية معا ، دون انفصال شيء من هذا عن شيء آخر" .

ويؤكد عبد الإله الصائغ ( 1941 م - ....) ضرورة التطور ، فيرى أنه لا توجد غرابة في ضم الشعر " قصيدة النثر " في حاضنته ، لأن تراثنا فعل هذا من قبلنا دون حرج ، ويرى أن الشعر الحر قائم على : شعر التفعيلة المكررة والشعر المنثور (قصيدة النثر) .

وإذا كانت قصيدة النثر قد وجدت من يدافع عنها من النقاد والشعراء ، فإنها لم تسلم ممن ينظر إليها على أنها نوع من الأدب يقترب من الشعر ولكنه ليس نوعا شعريا ، ومن هؤلاء النقاد عبد الجبار داود البصري ( 1930 م - .... ) الذي رأى أن الحديث عن شرعية قصيدة النثر حديث سابق لأوانه . وإذا كان الشعر المنثور قد وجد قبل أكثر من ستين عاما فمازال يسير من سيء إلى أسوأ .

يسأل البصري عن تطور الأنواع الأدبية في تاريخ الأدب العربي بقوله : " ألا يجوز أن تكون المراحل التي سبق تجلي الشعر في ذراه الجاهلية قد عرفت قصيدة النثر من بين ما عرفته من أشكال ومحاولات أهملتها لاحقا نظرا لبلوغ التطور الشكل الأكثر كمالا في الشعر ، وإن سجع الكهان بالذات هو أثر متقدم من آثارها ؟ وهكذا يكون الشعر لا قصيدة النثر ممثل المراحل المتقدمة من التطور ، وأن العودة إلى قصيدة النثر دلالة تخلف " .

وذهب خليل حاوي ( 1919 - 1982 م ) إلى عد ظاهرة قصيدة النثر ظاهرة مرضية نابعة من عجز الشاعر الذي يطرق أبوابها عن عرض الصورة الشعرية المفككة ، الأمر الذي يفقد القصيدة وحدتها العضوية يقول : « إن شعر كهذا " قصيدة النثر " يفتقر إلى أهم خصائص الشعر وهي الوحدة العضوية ، ونجد في شعر هؤلاء طلبا للصورة المدهشة والصورة المفاجئة على حساب وحدة القصيدة وسياقها العام » .

ويرى أحمد هيكل أن القصيدة النثرية لغو من القول بعيد عن طبيعة الشعر ، لأن الشعر في رأيه عنصر منه أساس هو الموسيقى فإذا ألغيت ولجأنا إلى النثر ، فلنسم هذا الكلام نثرا ، ويستحضر قول بول فاليري في هذا الشأن حين أراد التفرقة بين الشعر والنثر فقال " النثر كلام يمشي والشعر كلام يرقص ، وهو هنا يؤكد على معنى وحقيقة الموسيقى في الشعر " .

وعليه فإن قصيدة النثر قد استفادت من الشعر المنثور ، ومن التراث الصوفي العربي ، ومن قصيدة النثر الفرنسية بل إنها استفادت من النثر نفسه ، لأن في النثر أبعادا شعرية يمكن توظيفها شعرا ، فظلت قصيدة النثر رهينة تجربة قصيدة النثر الفرنسية عند سوزان برنار.

إن النقاد الذين ناقشوا موضوع قصيدة النثر ظلوا في الأغلب الأعم بعيدين عن قضيتين جوهريتين : الأولى : التفسير الموضوعي السليم لهذه الظاهرة التي شاعت في الأدب العربي المعاصر ، والثانية : اكتفاؤهم بتحديد إطار عام تنظيري يناقشون به تلك القضية من غير أن يعنوا بنصوص قصيدة النثر أو ينطلقوا منها في تلك المناقشات .

ينطبق هذا الحكم على النقاد في الفئتين المتباينتين : فئة النقاد الذين يدافعون عن قصيدة النثر ، وفئة النقاد الذين يزدرون بها وقد نتج عن ذلك كله ، أن تلك النصوص النقدية المشار إليها ظلت تلتزم بتقرير أحكام قاطعة مع قصيدة النثر أو عليها ، من غير أن تسعى إلى توثيق أسباب تلك الأحكام وبيان حيثياتها . في الأخير يمكن القول إن سوزان برنار كانت رائدة من رواد التجديد الشعري والحداثة الغربية دون منازع .

 د. لامية د.مراكشي
ـــــــــــــــــــــ
قائمة المراجع :

الحداثة في الشعرية العربية المعاصرة بين الشعراء والنقاد عبد الوهاب البياتي ومحي الدين صبحي أنموذجا ، مذكرة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي ، تخصص الشعرية العربية ، إعداد : نادية بوذراع ، إشراف علي خذري جامعة الحاج لخضر - باتنة ، السنة الجامعية ، 2007 – 2008 م.

كريم الوائلي : مرايا وينابيع تأملات نقدية ورقة قدمت إلى اتحاد الأدباء العراقيين ، د ط ، د ت.

محمد العربي فلاح : أدونيس تحت المجهر محاولة لتسليط الضوء على زوايا فكر أدونيس المظلمة ، دار الخلدونية - الجزائر ، ط 1 ، 1429 هـ - 2008 م.

ساندي سالم أبو سيف : قضايا النقد والحداثة دراسة في التجربة النقدية لمجلة شعر اللبنانية.

ضياء خضير : شعر الواقع وشعر الكلمات دراسات في الشعر العراقي الحديث - دراسة - ، من منشورات اتحاد الكتّاب العرب ، دمشق ، د ط ، 2000 م .

ساندي سالم أبو سيف : قضايا النقد والحداثة دراسة في التجربة النقدية لمجلة شعر اللبنانية.

عبد الحميد جيدة : الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ، مؤسسة نوفل ، بيروت - لبنان ، ط 1 ، 1980 م .

سوزان برنار : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، تر ، زهير محيد مغامس ، دار المأمون - بغداد ، ط 1 ، 1993 م.

عبد العزيز المقالح : أزمة القصيدة العربية مشروع تساؤل.

مرشد الزبَيدي : اتجاهات نقَد الشعر العربي في العراق دراسة الجهود النقدية المنشورة في الصحافة العراقية بين ( 1958 - 1990 م ).

رشيد ياسين : دعوة إلى وعي الذات - فصول في نظرية الدراما والنقد المسرحي - من منشورات اتحاد الكتاب العرب ، 2000 م.

جهاد فاضل : أسئلة النقد حوارات مع النقاد العرب ، الدار العربية للكتاب ، د ط ، د ت.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.