الصفحات

معوقات العملية الإبداعية 1 " دور الأسرة " الدكتور زهير شاكر

معوقات العملية الإبداعية:
أولاً: دور الأسرة:
الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع الذي يمارس فيه الصغير أولى علاقاته الإنسانية. لذلك كان لأنماط السلوك الاجتماعي الذي يتعلمه الطفل في محيط الأسرة قيمة كبرى في حياته المستقبلية، وهذا المحيط إما يكون ايجابياً في النمو النفسي والعقلي والإبداعي، أو يكون سالباً فيعوق الطفل عن الإبداع.
في البداية نرى أن النمو العاطفي للطفل يمر بمراحل مختلفة. وكل مرحلة تتطلب نوعية من التربية،
والعناية الخاصة، فإذا عامل الآباء الطفل كشخص بالغ فلا شك أنهم يتجاوزون المراحل العاطفية والوجدانية التي يمر بها الطفل. مما يؤثر سلباً على مداركه ومواهبه الإبداعية ذلك أن محاولة كبته وإخضاعه للنمط السلوكي للكبار يؤدي إلى عدم نمو مراحله الوجدانية نمواً سليماً.
كما أن للآباء دوراً أساسياً في تعويد أطفالهم على تربية معينة. فهم إما يعودونهم على تلقى الحلول الجاهزة لكل ما يعترضهم من مشكلات أو يعودونهم على مواجهة هذه المشكلات. وإيجاد الحلول الموفقة لها.
والصراع الكبير يقع عندما تنمو عبقرية الصغير وتصطدم بمعارضة الأسرة لها، عن طريق القواعد الصارمة التي تضعها والتي تقولب الأطفال بواسطتها، ولأن الإبداع هو خروج عن القواعد المألوفة لذلك نجد معارضة قوية من طرف تلك القواعد، وتكون النتيجة في قتل الموهبة الإبداعية، ومحاولة إخضاعها للقواعد المألوفة والقيم المعروفة، كما أن علاقة الطفل العربي بأسرته، إما أنها علاقة انفعالية يسودها الحب الزائد من طرف الأم، أو أنها علاقة قهرية يسودها التسلط المطلق من طرف الأب وفي كلتا الحالتين فإن الجو الأسري السائد لا يساعد على تنمية روح المبادرة والإبداعية لدى الأطفال.
والآباء المستبدون يقتلون روح المبادرة والمغامرة في أبنائهم فقد أثبتت نتائج كثير من البحوث أن الأطفال الذين كانوا خاضعين لآبائهم كانوا أيضاً متقبلين للأيدولوجيات التسلطية، كما أن هذا الخضوع إذا بلغ أقصاه فإن الفرد سيجد صعوبة في المغامرة، ويظل يتعامل فقط مع ما ثبتت صلاحيته ويتجنب كل ما هو جديد.
فالتسلط يقتل روح الابتكار والمغامرة لدى الموهبين من الأطفال، ذلك أن الأب يغرس الخوف والطاعة في نفس الطفل، ويحرم عليه الموقف النقدي مما يجري في الأسرة من الوالدين، وما يمثلانه من سلطة – تحت شعار قدسية الأبوة وحرمة الأمومة – ويتعرض الطفل باستمرار لسيل من الأوامر والنواهي باسم التربية الخلقية، وباسم معرفة مصلحته، وتحت شعار قصوره عن إدراك هذه المصلحة يفرض عليه أن يتلقى المنع والقمع ويغرس في ذهنه نظاماً من القسوة والتسلط يصبح فيما بعد القانون الذي يتحكم في عقله، وهذا النظام يشل تفكيره ويحبط مبادراته، ويصبح من أهم العوائق التي تقف في وجه الابتكار والإبداع.
وإذا انتقلنا إلى دور الأم فإننا نجد أنها تفرض هيمنتها العاطفية على أطفالها كوسيلة تعويضية عما لحقها من غبن باسم الأمومة المتفانية، حيث تغرس في نفوسهم التبعية من خلال الحب فتشل عندهم كل رغبات الاستقلال – يجب أن يظلوا ملكيتها الخاصة – وتحيطهم بعالم من الخرافات والغيبيات والمخاوف، ينشأ الطفل بالتالي انفعالياً خرافياً عاجزاً عن التصدي للواقع من خلال الحس النقدي والتفكير العقلاني، فدور الأم ودور الأب يكملان بعضهما، ويؤديان في الأخير إلى قمع الموهبة، وكبت الروح الإبداعية في نفسية الطفل لدى الشعوب المتخلفة لأن ما ينتجه المتخلفون لا شك انه إنتاج متخلف أيضاً. ويتوقف ذلك على أساليب المعاملة الوالدية والإفراط والتفريط في التدريب الأخلاقي للطفل خلال عملية التنشئة الاجتماعية.
ثانياً: النظام التربوي:
إذا كانت بعض الأسر العربية تعمل على إحباط روح الابتكار لدى الأطفال، فإن النظام التربوي لا يقل عنها خطراً في الدور الذي يؤديه، في علاقة القهر والشلل الذهني، وذلك من خلال سلسلة طويلة من الأنظمة والعلاقات التسلطية، يفرضها نظام تربوي متخلف، ومعلمون عاجزون عن الوصول إلى قلوب التلاميذ وعقولهم، إلا من خلال القمع وتتحول الدراسة إلى عملية تدجين تفرض على الطفل كي يكون مجرد أداة راضخة، يتم ذلك بالطبع تحت شعار غرس القيم الخلقية – قيم الاحترام والطاعة والنظام وحسن السيرة والسلوك – ولا يسمح للتلميذ أن يعمل فكره. أن ينتقد ويحلل ويتخذ موقفا شخصياً.
وهذه النماذج المتكاملة التي يتلقاها الطفل في المدرسة يحولها إلى نمط سلوكي دونما تفهم ونقد، وفيما هو يفعل ذلك يعتاد رؤية الأشياء وتمثيلها دون تقييم، وتضعف طاقة الإبداع والتجديد، وبذلك فإن طاقات الإبداع والتجديد يجري توجيهها نحو أشكال مسبقة في التفكير والتصرف. مما يساعد بدوره على تعزيز نزعة الامتثال.
وإذا انتقلنا إلى مستوى البرامج. فإننا نجدها مفروضة على التلميذ وغالباً ما تكون بعيدة عن واقعه وبيئته وأسلوب حياته، ولا انطباق بينهما وبين واقعه الاجتماعي لأن معظمها يعالج قضايا الطبقة المسيطرة، وقضايا شعوب لا يعرف عنها شيئاً، وحتى على مستوى الجامعة فإن الطالب عادة ما يتلقى نظريات ومناهج غربية تسلط على ظواهر المجتمع العربي المسلم بالقوة والقهر. فيكشف الطالب تلك الهوة بين ما يدرسه وما يعيشه في واقعه اليومي، فيجد نفسه مستلبا على جميع مستويات الدراسة مما يفقده روح الإبداع، ويقتل فيه المغامرة، والابتكار.
أما بالنسبة لمستوى الامتحانات فإننا نجدها تهتم بما يسترجعه الطالب من محفوظاته التي في الذاكرة، وقلما نعثر على تلك الامتحانات التي تختبر قدرة الطالب على الاستنتاج والاستدلال والاستنباط، أو درجة العلاقة بين الأشياء، والارتباط الذي يحدث بين الظواهر، فأغلب تلك الاختبارات لا تفسح المجال أمام الطالب للتعبير الحر أو تنمي روح الابتكار لديه. مما يجعله يعتمد كلية على ما يلقنه إياه المدرس، ولا يستخدم عقله في الدروس أو يحاول الربط بين أجزائها.
أما في المدرسة فان الجو السائد فيها عادة لا يشبع الحاجات النفسية والاجتماعية لتلاميذها، خاصة إذا كان يتسم بالقسوة والإرهاب، والخوف، والجزاء الصارم، مما لا يساعد على التكيف والانسجام، لدى أولئك التلاميذ المبدعين، والذين يتميزون بحساسيتهم المفرطة وذكائهم الوقاد.
لقد نشر (والتر جروين) تقريراً عن ندوة عقدت حول استغلال طاقة الإبداع في المجتمع الأمريكي، أشار فيه إلى أن المناخ السائد في المدارس لا يشجع على الاتجاه الإبداعي لدى النشء.
هذا في الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة المتقدمة حضارياً في جميع الميادين، ماذا نقول نحن عن المناخ السائد في مدارسنا العربية؟ وهل يشجع هذا المناخ على الإبداعية؟ لقد رأينا أن الجو المدرسي يتسم عندنا بالخوف، والجزاء الصارم. وهذا من شأنه عرقلة تلك الاستعدادات الفطرية والميولات التي تنمو، وتتطور في الجو السليم الذي يساعد على ذلك.
وفي هذا الجو يشعر التلميذ العبقري بالخوف، ويكف عن ألوان النشاط التلقائي. والأخذ والعطاء، ويحجم عن الإقبال عن التجارب المختلفة التي تنمى مداركه. ويؤدي به الحال إلى الشلل، والتخلف الذهني، وعدم التكيف مع الجو المدرسي الصارم خاصة إذا كان هذا الطفل يعيش في أسرة تتميز المعاملات فيها بنوع من الحرية، وإبداء الرأي والديمقراطية فجو المدرسة يقتل فيه تلك الروح الابتكارية عن طريق تجميد خبراته، وعدم تكيفه مع محيطه.
أما عن علاقة التلميذ بمعلمه فعادة ما تسوء تلك العلاقة لأن المعلم يجهل الخصائص النفسية والجسمية والوجدانية للتلاميذ، ويجهل حتى الفروق الفردية بينهم حيث يعامل المبدع مثلما يعامل غيره، ويسوق الجميع بعصا واحدة بدعوى العدالة وعدم التمييز بل أن التلميذ الذي يظهر نوعاً من النبوغ والعبقرية يجد معارضة قوية من طرف معلمه الذي عادة ما يجهل الخصائص الوجدانية والعقلية لدى فئة الموهوبين من تلامذته.
وربما الإرهاق والتعب الذي يسببه العمل المدرسي المتواصل للمعلم وكثرة عدد تلاميذ الصف الواحد من الأسباب التي تجعل المدرس عاجزاً عن التقييم الموضوعي النزيه. وإذا ساءت العلاقة بين المعلم وتلميذه فإن هذا الأخير يلجأ إلى الكذب، والحيلة بل والهروب من المدرسة، ويصبح عالة على أسرته، ورقماً في سجل مدرسته الذي يمتلئ بالأرقام الجامدة.
أما الطرق التربوية التي يستعملها المعلم مع تلامذته فهى طرق عقيمة وغير فعالة، فهو إما أن يستخدم طريقة التحفيظ والتسميع، و أساسها آلي بما يلغي الفهم والإحساس لدى الطفل، أو أنه يطالب التلاميذ بمستوى من الفهم أو التعبير أعلى من مداركهم، فتكون النتيجة الفشل طبعاً أو أن يعرض عليهم صوراً خارجية وتتم محاكاتها من طرف التلاميذ فتجمد فيهم روح الإحساس والابتكار.
إن التربية التي تقضي على النقد الذاتي، والاعتماد على النفس. وتوسيع المدارك بالمطالعة والقراءة الحرة. إنما تقضي على النمو السليم للتلاميذ، وتجعلهم اتكاليين سلبيين قليلي الإبداع والابتكار، ومثل ذلك النظام التعليمي السائد والذي يرسب الفكر السلفي الذي يدعو إلى عدم الخروج عما رسمه السلف الصالح من قيم وثقافة وسلوك، وضرورة مطابقة فكر الصغار للكبار بدلا من تشجيع الفكر المخالف الخلاق وفسح المجال أمامه، ليبدع، ويجد الحلول للكثير من المشاكل المستعصية عن الحل.
ونظراً لجمود المنظومة التربوية ووقوفها في بعض الأحيان حاجزاً دون الإبداع والابتكار، وعدم إتاحتها الفرصة للتلاميذ كي يعبروا عن مواهبهم، وروحهم الخلاقة فقد دعا البعض إلى إلغاء المدارس من الأساس بدلاً من إصلاحها، وربط التلاميذ بالحياة الاجتماعية مباشرة دون وساطة المدرسة، لأن التعليم خارج المدرسة أخذ يقدم اليوم إمكانات واسعة، ويمكن للدول أن تستفيد منه إلى أبعد الحدود.
إلا أننا لا نوافق وجهة النظر هذه ولا ندعو إلى إلغاء المدارس بل نطالب بإعادة النظر في التعليم المدرسي بصورة جذرية بحيث يحقق للمتعلمين ثقافة واسعة وتربية منهجية دقيقة، وفرصاً كثيرة للإبداع والابتكار وتحقيق الذات. وأن تبتعد المدارس عن كل التيارات الدينية والسياسية والجهوية، وتكون مستقلة عن كل الإيديولوجيات، وتتفرغ لأداء دورها التعليمي والعلمي في نفس الوقت لعلها تنتج أجيالاً جديدة تتميز بالابتكار والإبداع. فالمدارس الحالية تخرج كل سنة أفواجاً من الطلاب، وقد مات فيهم الإحساس بالعملية الإبتكاريه، وسدت أنفسهم عن تذوق كل ما هو جمال أو فن، ولا يفرقون بين فن وآخر بل إن مئات الطلاب المتخرجين من الجامعات سنويا من أطباء ومهندسين وغيرهم، يتسمون بالذوق المتخلف فهم لا يدركون الفن السامي النبيل، ويعيشون كالآلات التي لا تستطيع التمتع بالقيم العظيمة للحياة لأنها لم تدركها أثناء مرحلة الدراسة. ولم تتدرب عليها. بل لا غرابة إذا ذهبنا إلى القول بأن أذواق بعض هؤلاء المتخرجين تتميز بالبلادة وقلة الإحساس وتبتعد عن الذوق الإنساني الرفيع.
ثالثاً: البيئة الاجتماعية:
إن البيئة الاجتماعية بما توفره من ثقافة وقيم وعادات إما أنها تعمل على نمو الإبداعية فيها وازدهارها أو تعمل على انتكاستها وتقلصها، كما أن البيئة هي التي تجلب الفن أو تذهب به مثلها كمثل البرودة حين تجلب الندى أو تذهب به حسب درجة شدتها أو ضعفها. فهل البيئة الاجتماعية العربية توفر ظروف وشروط الإبداعية؟ وتفرش الأرضية الخصبة للمبتكرين؟ أم أنها تعمل على طمسهم وإعاقتهم كما رأينا ذلك في الأسرة والمدرسة.
فالعامل الأساسي والحاسم في تطور الذكاء والوصول به إلى درجة الإبداعية يتمثل في التربية والتنشئة الاجتماعية، فالطفل الذي يولد بمستوى عال من الذكاء والفطنة في بيت فقير لا يتوافر فيه أدنى حد من مستوى المعيشة، ولا على الجو الملائم لنمو ذكائه. مثل هذا الطفل لو قمنا بقياس مستوى ذكائه الذي كان مرتفعاً عند ولادته لما وجدناه بعد عدة سنوات يتمتع بأي نوع من الذكاء لأن البيئة الاجتماعية أصابت ذكاءه بالتلف.
وهناك العديد من الدراسات التي أجراها الباحثون حول علاقة الإبداعية والذكاء بالبيئة الاجتماعية. وان الحياة الاجتماعية للوليد ذات أثر هام على قدرته العقلية فيما بعد. فلكي ينمو ذكاء الوليد إلى أقصاه لابد له من الكثير من الاتصالات بالناس والبيئة المادية وباللعب.
كما توصل باحثون آخرون إلى نتائج مشابهة، فقد اكتشفوا أن درجات الأطفال الأيتام في اختبارات الذكاء ترتفع إذا ما انتقلوا من الملاجئ إلى البيوت البديلة الحسنة، وأن ذكاء الأطفال الذين شبوا في بيئات قروية فقيرة كثيراً ما يتحسن عندما ينتقلون إلى المدن.
أما إذا انتقلنا إلى البيئة الاجتماعية العربية وجدناها تزخر بهؤلاء الموهوبين، والمبدعين في جميع مجالات الحياة ولا نبالغ إذا قلنا أنها من أثرى البيئات العالمية وأغناها بالمبتكرين، والعباقرة، ولو قدر لأحد أن يقوم بإحصاء المبدعين لدى الأمة العربية مقارناً إياها بعدد المبدعين في الأمم الأخرى لتوصل إلى نتيجة هامة تتمثل في تميز الأمة العربية من حيث عدد مبدعيها عن سائر الأمم الأخرى، ولكن هؤلاء الموهوبين لاشك أنهم يزرعون في محيط معين، وبيئة اجتماعية محددة. ولا شك أن لهذه البيئة الكلمة الفصل في بقاء الموهبة أو قتلها، فهناك عوامل متشعبة ومتداخلة، ومترابطة كلها تلعب دوراً في عملية الإبداع ونظراً لأن المثبطات أكثر من المشجعات والحواجز أكثر من أن تعد أو تحصى، لذلك تموت هذه المواهب وهى في الطريق قبل الوصول.
إن الصفات المميزة لسلوك الفرد في المجتمع العربي يمكن حصرها بثلاث صفات أساسية هي الشعور بالعجز، القهر، الاعتماد على الغير، وبتعبير آخر أن الشخصية التي يهدف إليها المجتمع وينتجها بواسطة العائلة هي شخصية تتميز برضوخها للسيطرة وبتهربها من المسؤولية وبأتكاليتها. إن هذه الشخصية ترتبط في ولائها بالعائلة والعشيرة، وهى في سلوكها العام تسلم للقوى الفاعلة في المجتمع، وتثبت العلاقات القائمة فيه.
فالكثير من الطلاب المتفوقين والذين ينالون أعلى الجوائز والمراتب لامتيازهم وإبداعهم، ومع ذلك نجدهم بعد فترة من الزمن قد توقفوا عن إبداعهم، وامتيازهم، وإذا ما حاولنا معرفة أسباب ذلك وجدناها متنوعة ومتشعبة ولكن أغلبها يعود إلى التأثير الاجتماعي، والبيئة التي يعيش فيها المبدع. حيث أن هذه البيئة عادة ما تشن حربا ضد المبدعين والمبتكرين فلا تفسح لهم المجال ولا تتيح لهم فرصة التعبير عن مبتكراتهم حتى يقلعوا عنها، ويفضلوا الاستسلام لحياة اليأس، والقنوط، حاجبين علمهم وإبداعهم عن البيئة التي تحاربهم، وتناصبهم العداء.
فكم من نابغة عبقري ظهر في وطننا العربي، واختفى دون أن ينتبه إليه أحد أو يشجعه بموقف إيجابي، فعلى سبيل المثال ظهر في بغداد عام 1960 طفل اسمه (عادل شعلان) يستطيع حل معادلات الضرب لـ 20 عدداً وأكثر ولكنه لم يجد آنذاك من يرعاه، وبدلا من أن يدرس الهندسة، ليواصل عطاء نبوغه. درس الزراعة وخسره المجتمع، وقد تضاءل معدل نبوغه بمرور الزمن. وهناك الكثير من النماذج التي تظهر وتختفي عندما لا تجد الجو الملائم. وقد ظهر مؤخراً في مصر نموذج مماثل لطفل بغداد، تحدثت عنه وسائل الإعلام المختلفة خلال العام الجاري 2008.
وإذا كان البعض يوعز ذلك إلى الثقافة العربية ويعيب عليها أنها ثقافة تقليدية محافظة ومتزمتة وتعمل على طمس الإبداع، ولا تشجع المواهب إلا انه إلى جانب ذلك هي ثقافة إبداع وتفتح وأصالة، فكما أن هناك من يقيسون الحاضر والمستقبل على الماضي، هناك من يأخذون بمفهوم الحداثة الذي يقوم على إدانة التقليد أو المحاكاة، ورفض النهج على منوال الأقدمين والتوكيد على التفرد والسبق والابتكار.إذن يمكن اعتبار أن الثقافة العربية يتنازعها تياران إتباعي – وإبداعي، وكما أن التيار التقليدي الاتباعي جزء من هذه الثقافة فكذلك الحال بالنسبة للتيار الإبداعي الذي كان على مر التاريخ ثورة على الأوضاع السائدة في المجتمع العربي، والإتباع قد يكون في تقليد السلف وعدم الخروج عما رسمه من قواعد أو حدده من أهداف، وقد يكون الإتباع هو تقليد الحضارة المعاصرة، والذوبان في معالمها، والأخذ بوسائلها، لذلك فكلا التقليدين مخطئ ومضلل، ويؤدي إلى نتائج سلبية، فالشاب الذي يتقمص ما تنتجه الحضارة الغربية من ملابس ورقصات وموسيقى، هو شاب مقلد وليس مبدعا. كما أن الشاب الذي يرتدي ملابس أسلافه منذ قرون خلت، ويحاول أن يفكر كما كانوا يفكرون، وينفصل عن عصره وثقافته محاولاً الرجوع إلى الوراء حيث حضارة أسلافه وتراثهم.
كما أن الباحث الإسلامي الذي لا يجد حلولا لمشاكلنا الراهنة إلا بالرجوع إلى كتب الأسلاف، ولا يجد لنا تقدما أو نهضة إلا بالرجوع إلى أفكار وحلول الأولين، فهذا الباحث لا أمل منه في الإبداع أو التقدم.
والباحث في علوم النفس والتربية والاجتماع الذي ينقل الحلول التربوية الفرنسية أو الانجليزية أو الأمريكية، ويقدمها للمدارس العربية على أساس أنها حلول صالحة لتقدم المنظومة التربوية. هذا الباحث تقليدي أيضاً ولا يرجى منه تقدم أو نجاح، لأن البيئة العربية تختلف عن البيئة الأوربية التي ولدت فيها تلك الحلول، لهذا نجده قد ابتعد عن الحلول الصائبة.
وأخيراً نرى أن الثقافة العربية تشهد نموا متزايدا في الإتباع والتقليد، وتبتعد عن الإبداع والفكر الخلاق فهذه الثقافة تستجد بها أحياناً تيارات متعارضة تعمل على عرقلة جهود بعضها فهي ليست متكاملة بل متصارعة، ومتناقضة وتعرقل كل مسيرة نحو التقدم والإبداع، فكيف يتسنى للفرد العربي أن يبدع في جو هذه التيارات المتضاربة خاصة إذا علمنا أن الثقافة العربية تضم شقين ماديا ومعنويا، وأن التغير الحاصل في الشق المادي أسرع بكثير من التحول الواقع في الشق المعنوي، لذلك فإن هذه الثقافة تعاني من تخلف كبير وهوة خطيرة، كان لها الأثر البارز على الشاب المبدع الذي وقع بين المطرقة والسندان كما يقال – فتطور الحياة المادية سريع جداً. ومظاهر الحياة الثقافية المعنوية تتسم بالبطء مما أفقد الكثير من المبدعين القدرة على تفهم الواقع، واستيعابه، وهضمه، وبالتالي الانطلاق إلى تصور واقع جديد يقوم على ثقافة خلاقة مبدعة، ولا نبالغ إذا ذهبنا إلى أن الواقع الاجتماعي العربي بكل ما يحمله من تناقضات، وصراعات قد ساهم في انحراف الكثير من المبدعين الذين لم يتأقلموا مع الواقع الجديد. ولم يتكيفوا معه لغياب المؤسسات الأسرية والمدرسية التي تساعدهم على التكيف والانسجام المتوازن.
لقد خسرت الأمة العربية الكثير من المبدعين الذين قضت عليهم مرحلة الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع عصري يتميز بالحضارة والتقدم.
وهكذا يتضح الدور الفعال للثقافة والبيئة الاجتماعية التي إما أن تكون حافزاً على نمو الإبداعية، أو عائقاً في وجه ذلك النمو، والنتيجة التي انتهت إليها الأبحاث هي انه لابد أن تكون الإمكانية العقلية نقطة للبداية، ولكن نمو هذه الإمكانية حتى تصبح قادرة فعلية يتوقف على البيئة، وبخاصة أثناء الطفولة.
إن تنشيط الطاقة الإبداعية مهمة كبيرة، ومسؤوليتها تتوزع بين الشخص، والمنزل والمدرسة والمجتمع والثقافة السائدة، وتنشيط الطاقة لا يعني تنمية القدرات الإبداعية لدى الأطفال أو عند طلاب الفنون فحسب، بل انه يعني في المقام الأول العناية بالفرد طفلا كان أو راشداً مبدعاً بالفعل أو لديه استعداد إبداعي.
فتوفير المناخ المناسب لنمو المواهب الإبداعية والرعاية الصادقة بالمبدعين من طرف التنظيمات المختلفة، وخلق المنافسة الحرة بينهم، وإتاحة الفرصة لهم للاحتكاك والتفاعل، وتنحية كل صور الإعاقة، والحواجز، كل هذا كفيل بإطلاق هذه الطاقات الإبداعية من مكمنها وقيامها بتأدية ادوار حضارية راقية لأمتها، ورسم معالم طريق النهضة الحقيقية للأمة العربية، وليس ذلك على هذه الأمة بعزيز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤسسة ثقافة الطفل العربي المبدع الدكتور زهير شاكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.