عند الساعة الرابعة عصراً ، الزمهرير يكشرُ عن أنيابه ، يجلسُ هاشم بائع الأحذية على الرصيف إلى جانب صديقه سعدي ، تُلوّن أشعة الشمس الناعسة المدى بخيوط فاترة ، ترسمُ خلف الغيوم ألواناً متثائبة ، و بائع الأحذية المُستعملة يستلقي داخل ذاكرته ، أمامه أكوام من الأحذية المتعانقة ، مرصوفة بشكلٍ هرمي ، كأنها قبور مُتلاحمة ، قبور تلبسها الأقدام الميتة
التي شققها التيه ، كانا يرصدان ذكرياتهما النائية ، الموغلة في الغياب ، قادمة من حرب إيران إلى حيث يجلسان في سوق مريدي ، السوق الفائضُ بالضياع ، في فوضاه العارمة ، الأشياء متكدسة بلامبالاة ، باعة الكتب ، الحلويات ، الساعات ، الهواتف ، الجميع يُكدس حاجاته بلا شكل ، تنغرس اللحظات الزائرة في أعينهما ، مثمرة دموعاً رقراقة ، تحتضر خلف أسوار صمتهما ، بقيت دموعهما صامتة في ضجيج مريدي ، يغيبان في مكانٍ ما يخصهما ، يستمعان إلى أصوات مدافع حرب إيران بدل أصوات المُشترين !
يواري هاشم قدمه السالمة بينما قدمه الأخرى المعطوبة ممددة أمامه ، تأسرُ إنتباه المارة ، نصف قدم ، يربتُ بيده عليها ، باتت هذه القدم المقطوعة ، هذا النصف الغائب هو حضوره ، و وجوده ، عقده الصارم مع أرضه . كان يحلم بعالمٍ لا شرّ فيه ، و لا خيانة ، و لا سادة و لا عبيد ، يحلم بعالمٍ لن يدركه ، و يعيش رغم تجذره بهذه الأرض البائسة ، هنالك ، داخل وهم لذيذ . الفضاء يتضوع برائحة عطنة ، السوق مكتظ بحاجاته التالفة / الفاسدة ، يزدحم بالناس الذين يغمرهم الجذل بما تركه الآخرين ليُباع لهم كأشياءٍ مُستعملة ! ، حياتهم ذاتها كانت مستعملة ، كل شيء لديهم مستعمل ؛ أحلامهم ، أعمارهم ، نواياهم ، حتى التراب الذي خلقوا منه كان مستعملاً . كان هاشم يضرمُ همومه داخل هيكله المتهرئ ، ولعله هو أيضاً حاجة تالفة من حاجات مريدي المرمية ! ، يعجّ الفضاء بدخان السجائر و النفايات المُحترقة ، يدخنُ هاشم سيجارته بنهمه المُعتاد ، الدخان يتصاعد ، كان يشبه الدخان المُرتقي ، يتلاشى في الأعالي ، يتوارى في تلافيف الزمن ، دون أن يُعكّر صفاء الحياة المُنتحل . كان يحلم دائما بأن يتركه قلقه المزمن ، طالما تذكّر كلمات سعدي حينما أعاره رواية الجريمة و العقاب في تسعينات القرن الماضي ، حينذاك حدثه عن " راسكولينكوف " الذي يشبهه ، القلق ذاته ، ما أن ينبري أحد لإتهامه بشيء مهما كان ضئيلاً ، سيخرُّ صريعا من وطأة القلق ، كان يتخيل الاشياء السيئة فقط ، ويرسم مشهد حدوثها، و يتعذب منها ، و ينهي صداقاته ، وعلاقات الحب ، بسبب شكوكه ، وقلقه الذي لا ينضب ، القلق الذي صار حياته ، لا يستطيع الآن التخلّي عنه ، إنه اللون الوحيد الذي يراه ، أو يرى من خلاله ، هو رائحة الدخان الذي ينفثه ، و تلاشيه رويداً ، و بقائه في الذاكرة ، يُقاوم كجناحٍ مكسور ، القلق / الدخان ؛ هو الطير داخل صدره ، تتكسر جناحاه مثل صاعقة كلما فكّر بالمسافة القادمة ، كان لا يقدر على مقاومة الحلم بالطريق التالي في هذه المسيرة العشواء ، و لا ينفكّ أن يتوقع الأسوأ ، يبصر الكلاب التي تثبُ من كل جهة ، و الذئاب التي تُحيك رعب الليل بعوائها ، و يبقى القلق سراج طريق البشرية ، لكنّ هاشم وحده كان طريقه القلق بذاته .
لطالما أعاد لسعدي وصفه ؛ إن حجم الصاروخ الذي سرق نصف قدمه ، كان بحجم الجزء المبتور ، و هي منشطرة الان لحضور معتم ، و غياب دثرته ساحة الحرب في تراب مجهول ، ثم يكرر عبارته المعهودة ، لعل الصاروخ أراد ان يُكمل نفسه ليُصبح قدماً ، و لهذا أخذ نصف قدمه ، و لعل ما تبقى في جسده أصبح نصف صاروخ ؟
في جعجعة هذه الايام ، تشرأب لهما ايامهما من دهليز موجع ، يجلسان في قطار لم ينتهي من رمي ركابه ، من سيتذكر شخصاً قُطعت قدمه ؟ يُقابله بائع صور ، تبرز أمامه صورة قائد إيران الذي حاربه في زمن غابر ! ، الخميني الان اصبحت صوره تباع ، اما قبل سنوات كان نصيبه من هذا الشعب السُباب . هاشم المبتور ، كان شاعراً ، لكن قصائده ذهبت في مهب الريح ، تحت أضراس الضباب ، و المطر الذي ياكل كل الاشياء المُظلمة ، يجلسُ هاشم إزاء عمره أو اكوام الاحذية المُستعملة ، يجني منها ما يسد رمقه ، من الاحذية أو عمره المستعمل .
كان ساهياً ، يسمع أزيز الرصاص القادم من ثمانينات القرن الماضي ، الهواء رمادي ، يخترق الصدر ، وصله صوت شاب يسأله عن سعر الحذاء الاسود ، وبعد ان باعه ، بقي يتطلع اليه و هو يتأبط الحذاء ، يلفّه في كيس أسود ، داهمته اسئلته القديمة و بصوتها المشروخ ، ما اذا كانت الاحذية تعطي لاقدامنا صك الوصول ؟ لم يستطع ان يخطو هاشم خطوة ثانية مع السؤال حين تبخّر مع تسائله بإنفجار اقتلع الجميع من مكانهم . بقيت الاحذية المستعملة هي الوحيدة التي لم تمت ، فوق الجثث المتفحمة ، يتصاعد منها الدخان ، ممتزجا مع دخان النفايات !
التي شققها التيه ، كانا يرصدان ذكرياتهما النائية ، الموغلة في الغياب ، قادمة من حرب إيران إلى حيث يجلسان في سوق مريدي ، السوق الفائضُ بالضياع ، في فوضاه العارمة ، الأشياء متكدسة بلامبالاة ، باعة الكتب ، الحلويات ، الساعات ، الهواتف ، الجميع يُكدس حاجاته بلا شكل ، تنغرس اللحظات الزائرة في أعينهما ، مثمرة دموعاً رقراقة ، تحتضر خلف أسوار صمتهما ، بقيت دموعهما صامتة في ضجيج مريدي ، يغيبان في مكانٍ ما يخصهما ، يستمعان إلى أصوات مدافع حرب إيران بدل أصوات المُشترين !
يواري هاشم قدمه السالمة بينما قدمه الأخرى المعطوبة ممددة أمامه ، تأسرُ إنتباه المارة ، نصف قدم ، يربتُ بيده عليها ، باتت هذه القدم المقطوعة ، هذا النصف الغائب هو حضوره ، و وجوده ، عقده الصارم مع أرضه . كان يحلم بعالمٍ لا شرّ فيه ، و لا خيانة ، و لا سادة و لا عبيد ، يحلم بعالمٍ لن يدركه ، و يعيش رغم تجذره بهذه الأرض البائسة ، هنالك ، داخل وهم لذيذ . الفضاء يتضوع برائحة عطنة ، السوق مكتظ بحاجاته التالفة / الفاسدة ، يزدحم بالناس الذين يغمرهم الجذل بما تركه الآخرين ليُباع لهم كأشياءٍ مُستعملة ! ، حياتهم ذاتها كانت مستعملة ، كل شيء لديهم مستعمل ؛ أحلامهم ، أعمارهم ، نواياهم ، حتى التراب الذي خلقوا منه كان مستعملاً . كان هاشم يضرمُ همومه داخل هيكله المتهرئ ، ولعله هو أيضاً حاجة تالفة من حاجات مريدي المرمية ! ، يعجّ الفضاء بدخان السجائر و النفايات المُحترقة ، يدخنُ هاشم سيجارته بنهمه المُعتاد ، الدخان يتصاعد ، كان يشبه الدخان المُرتقي ، يتلاشى في الأعالي ، يتوارى في تلافيف الزمن ، دون أن يُعكّر صفاء الحياة المُنتحل . كان يحلم دائما بأن يتركه قلقه المزمن ، طالما تذكّر كلمات سعدي حينما أعاره رواية الجريمة و العقاب في تسعينات القرن الماضي ، حينذاك حدثه عن " راسكولينكوف " الذي يشبهه ، القلق ذاته ، ما أن ينبري أحد لإتهامه بشيء مهما كان ضئيلاً ، سيخرُّ صريعا من وطأة القلق ، كان يتخيل الاشياء السيئة فقط ، ويرسم مشهد حدوثها، و يتعذب منها ، و ينهي صداقاته ، وعلاقات الحب ، بسبب شكوكه ، وقلقه الذي لا ينضب ، القلق الذي صار حياته ، لا يستطيع الآن التخلّي عنه ، إنه اللون الوحيد الذي يراه ، أو يرى من خلاله ، هو رائحة الدخان الذي ينفثه ، و تلاشيه رويداً ، و بقائه في الذاكرة ، يُقاوم كجناحٍ مكسور ، القلق / الدخان ؛ هو الطير داخل صدره ، تتكسر جناحاه مثل صاعقة كلما فكّر بالمسافة القادمة ، كان لا يقدر على مقاومة الحلم بالطريق التالي في هذه المسيرة العشواء ، و لا ينفكّ أن يتوقع الأسوأ ، يبصر الكلاب التي تثبُ من كل جهة ، و الذئاب التي تُحيك رعب الليل بعوائها ، و يبقى القلق سراج طريق البشرية ، لكنّ هاشم وحده كان طريقه القلق بذاته .
لطالما أعاد لسعدي وصفه ؛ إن حجم الصاروخ الذي سرق نصف قدمه ، كان بحجم الجزء المبتور ، و هي منشطرة الان لحضور معتم ، و غياب دثرته ساحة الحرب في تراب مجهول ، ثم يكرر عبارته المعهودة ، لعل الصاروخ أراد ان يُكمل نفسه ليُصبح قدماً ، و لهذا أخذ نصف قدمه ، و لعل ما تبقى في جسده أصبح نصف صاروخ ؟
في جعجعة هذه الايام ، تشرأب لهما ايامهما من دهليز موجع ، يجلسان في قطار لم ينتهي من رمي ركابه ، من سيتذكر شخصاً قُطعت قدمه ؟ يُقابله بائع صور ، تبرز أمامه صورة قائد إيران الذي حاربه في زمن غابر ! ، الخميني الان اصبحت صوره تباع ، اما قبل سنوات كان نصيبه من هذا الشعب السُباب . هاشم المبتور ، كان شاعراً ، لكن قصائده ذهبت في مهب الريح ، تحت أضراس الضباب ، و المطر الذي ياكل كل الاشياء المُظلمة ، يجلسُ هاشم إزاء عمره أو اكوام الاحذية المُستعملة ، يجني منها ما يسد رمقه ، من الاحذية أو عمره المستعمل .
كان ساهياً ، يسمع أزيز الرصاص القادم من ثمانينات القرن الماضي ، الهواء رمادي ، يخترق الصدر ، وصله صوت شاب يسأله عن سعر الحذاء الاسود ، وبعد ان باعه ، بقي يتطلع اليه و هو يتأبط الحذاء ، يلفّه في كيس أسود ، داهمته اسئلته القديمة و بصوتها المشروخ ، ما اذا كانت الاحذية تعطي لاقدامنا صك الوصول ؟ لم يستطع ان يخطو هاشم خطوة ثانية مع السؤال حين تبخّر مع تسائله بإنفجار اقتلع الجميع من مكانهم . بقيت الاحذية المستعملة هي الوحيدة التي لم تمت ، فوق الجثث المتفحمة ، يتصاعد منها الدخان ، ممتزجا مع دخان النفايات !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.