الصفحات

لم يكن أحدٌ يدخل حجرته ــ قصة قصيرة || محمد أبوالدهب ـ مصر

( 1)
عندما انتصف الليل، كتب:(بخشوعٍ أدّيتُ صلوات بلا حصرٍ فى خيالى!)
كان يحبّ خياله، لأنه يغادره فى الصباح.
قرر مغالبة كسله، لينهض فيتوضأ ويصلى ركعتين. ركعتان واقعيّتان!.. هكذا ردّد، على أمل أن يُفتح له، وهو ساجد، قبرٌ أو اثنان مِن قبور مَنْ أطاعوا خيالهم. بقى متحجّراً أمام الشاشة المضيئة للكمبيوتر العتيق، الذى صار محل سخرية من يدخل حجرته، لأنه لم يعد يُشاهَد إلا فى سينما التسعينيات.

لم يكن أحدٌ يدخل حجرته، لكنه اعتاد افتراض المستحيل.
أرجع تحجّره إلى أنها ستكون صلاة مشوّشة الدافع، مشروطة، مع معرفته بأن صلاةً كتلك تصعد إلى السماء أيضا. كان فقيهاً على نحو ما. وكان مرتاباً هل يريد لها أن تصعد أم يتوسّل بها لتنبش فى التراب. وربما لأنه كان يحلم، قبل انتصاف الليل، وبلا حُجّة بالغة، لو يُوضع فى ثلاجةٍ حتى الموت. يرقد الجسد، وحيداً، دون الخوض فى ميتافيزيقا ما بعد التعفّن. كثيرون ماتوا بهذه الطريقة. لن يكون أبأس الموتى على أية حال.
لاحظ أنه كان يكتب فى الفولدر الخطأ. سخن دماغه واغتمّ ولعن موجوداتٍ ليس لها علاقة بكونه وحده مَن أخطأ.
كان ممنوعاً من تحريك المكتوب.
ثلاثة عشر عاما، فولدران، ما يخصّه على جهازه الصامد، الأول (أنا) والآخر (هو)، كل ليلة يكتب لأحدهما، على التوالى وبالتساوى، نفس عدد الكلمات، دون غلطة أو سأم، يؤمن بأن مايفعله قد يكشف السرّ، يفتح باباً للانعتاق، يؤسس كَوناً للمؤانسة، فيضمن فراراً أبديّاً. مولعٌ هو بالفرار. ماحدث الآن نذير شؤم، الخلط بينه وبينه، ارتدادٌ حثيثٌ إلى نقطة البداية الغامضة. انكفأ يائسا فى زاوية لا يكاد الماوس يرصدها على سطح مكتب الشاشة التى لم تزل مضيئة. فكرة وحيدة تحوّم حوالَيه: (كتبتُ له ما كان ينبغى أن يكون لى)

رفع رأسه، مرغَماً بحسب ظنّه، فتبدّى له، خلال الحائط، مخلوق هائل، كأنه فرعون قامت قيامته، أو وحش تحرّر من فيلم (ملك الخواتم). أحسّ بزهو المغامرة، وبأنه لم يزل أشدّ مُندفع فى العالم، برغم هوسه بالفرار. اعتبرها تعويضاً سريعا عن خطئه الفادح. لم يكن واثقا إن كان الخطأ هو كسله عن الركعتين أم الكتابة المعكوسة. المخلوق يحدّق بثبات، ذراعاه مضمومتان على صدره، كأنما يستأذن أو يتحيّن. و لما طال التحديق، تأكد أن عينيه مظلمتان، تهتز فى سوادهما حبّتان من نار، وتأكّد أنه ملك الموت. لم يختلج، ولم يستمهله، بل غلب على هواه أنه هو مَن استدعاه. كان يرى، من البداية، أنه سيموت فجأة (كتب مرة: وصلنى الخبر، مع الشكر) وكان متأهّبا، لولا هرطقة الليلة.
فضّ الملك ذراعيه، ومسّ بأحدهما الشاشة فانطفأت. كانت الشاشة مصدر الضوء الوحيد فى الغرفة، فأطلق صرخته المعتادة: مَن يغمسنى فى العتمة؟

( 2 )

أيقظته زوجته فى السابعة. توضأ وصلّى الصبح قضاءً. مسح طبق الفول بآخر لقمة من رغيفه. أوصاها أن تقلى باذنجان وبطاطس غداً على الإفطار من باب التغيير. تلذّذ بأول سيجارة وأول كوب شاى، بينما ينصت باهتمام لشكواها من جارتها التى لم تعد تلقى عليها السلام. ناولها مصروف البيت وقال (كبّرى دماغك)
رفضتْ سيارته (فيات 127 موديل 1983) أن تدور. جاء زوج المشكو فى حقها وابنه طالب الثانوى، ودفعاها له إلى أن صخب المحرّك. ركبا معه ليوصّلهما فى طريقه. تكلّموا عن مباراة الزمالك والإنتاج الحربى. وقّع فى دفتر الحضور، وتوجه إلى مكتب مدير شئون العاملين ليعتذر له عن عدم تواجده فى زفاف ابنته، لأنه كان مع حماته عند الدكتور. قَبِل الرجل اعتذاره، وأهداه قطعتىْ شيكولاته، واحدة له والأخرى للمدام. استقر على مكتبه بعد أن طلب نسكافيه من العامل. أشعل سيجارة، وأخرج قلماً من الدرج، وفتح سجلات الحفظ، وانهمك. مرّ على الميكانيكى، وأخبره أن السيارة دارت (زقّ). قال له (أمّال انت عاوزها تدور ايه !). ضحكا وتصافحا. اشترى عنباً وبلحاً من العجوز الجالسة بجوار الورشة، واشترى كيبورد جديدة من المكتبة. أمام بابه، تفاءل برائحة العدس. خيّرتْه زوجته (أحطّ الغدا والا تصلّى الضهر؟). قال (صلّيت فى الشغل). لم يكن صلّى، لكنه كان جائعا وكسلانا. تغدّى وشرب الشاى بسيجارتين ودخل يقيّل. قام مع أذان المغرب. صلّى العصر والمغرب. تذكّر أنه لم يصلّ الظهر. وقف متردداً. تفاوض مع نفسه ثم قعد يتابع كأس السوبر الإيطالى. لما وصلت المباراة لضربات الجزاء الترجيحية نادى زوجته. قال (تعالى شوفى). تحب هى مشاهدة ضربات الجزاء. شاهدتْ ثم غسلتْ له طبق عنب. قرّبه إليه، وقال (مغسلتيش بلح؟). ابتسمتْ ولم ترد. خطر له أنه لم يفكر فى صلاة العشاء. انتقل إلى فيلم أمريكى على (إم بى سى تو). كانت اللقطة على شاطىء فى كاليفورنيا، الشمس ساطعة، وخمس فتيات رشيقات جميلات، يرقصن بالبكّينى، على إيقاع سريع لأغنية تفنّد روعة الحياة. من ورائهن سفينة كبيرة تسافر ببطء.
شدّه المشهد، وغاب فيه. تدخّلت زوجته بضغطةٍ على الريموت. لم يجادلها، لأنه لم يعد يتفرّج. كان قد غمرته لوعةٌ فادحة ضليلة على مآل هذا اللحم الحىّ البضّ المتراقص -وأىّ لحم وُجد يوماً أو سيوجد- المتروك فى مهب الأزمنة والعوالم والموت. وكان قد اكتفى، فاشتهى أن يُغمس فى العتمة.

محمد أبوالدهب
 مصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف بالكاتب :
محمد ابراهيم فرج أبوالدهب ( محمد أبوالدهب )
مصر – القليوبية – بنها – ورورة
صدر له :
أوراق صفراء ، قصص ، جمعية المواهب 1997
آخر الموتى ، قصص ، هيئة قصور الثقافة 1999
نصف لحية كثيفة ، قصص ، طبعة خاصة 2001
نزهة فى المقبرة ، قصص ، دار الناشر 2008
البر الآخر ، قصص ، هيئة قصور الثقافة 2009
نصوص الأشباح ، قصص ، دار الناشر 2011
يليق بسكران ، متتالية قصصية ، دار الناشر 2012

ايميل : mohameddahab1174@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.