الصفحات

الظّل الذي فقد صاحِبَه ـ ثلاث قصص قصيرة || عيسى ناصري

1
الظّل الذي فقد صاحِبَه

اقترح عليّ أن نتبادل الأدوار لعلّني أحميه من ظلال المدينة الموحشة. كان اقتراحا استثنائيا لن يقبله أي ظِلّ مهما تفتق قلبه رقةً وإنسانية. قبلتُ عرضه دون تردُّد. صار ظلّي، وأنا غدوتُ صاحبه وسيّده. لبستُه ولبسني. انتعلت حذاءه واعتمرت “كاسكيطته”، وانطلقت أمامه على غير هدى أسير الهوينى. كان يتقافز من حوالَيَّ في غمرة فرح طفوليّ، يُخرِج لي لسانه مُشاكسا. ينطّ، ويلعب الغمّيضة مع شمس الصّباح الفاترة. قصَدتُ المنتزَه حيث البُحيرة الخضراء التي غدَتْ ملاذَنا نحن الاثنين، نلهو في ضفافها كطفلين تثب الفرحة بينهما، نتنَزَّهُ ونصطاد بعض الدّراهم من عيون سخيّة مشفقة.بعدما أدرك صاحبي أنّ مربّيته تخلّت عنه مُكرهَةً في هذه المدينة الغول، وأيقن أنه أصبح شرّيدا، طفلا منذورا لِرحمةِ الشّارع، نظر إليّ (أنا ظلَّه)، رَنَا إليَّ مَليّا بينما كنتُ مُثبَتا على الجدار أرقبه وأحاكي وقفته الشامخة. لم يبكِ أو يلعَنَ السّماء والمارّة، لم أرَهُ يذرف دمعة واحدة، ليس لأنّه يخجل منّي، فأنا ظلّه الذي رافقه طيلة عشر سنوات عاشها منبوذا بين أولادِ مُربّيته الذين يزدرونه. كان ذا صلابة ومهابة رغم أنه لا يزال في عمر الزهور اليانعات. تقدّم إلى الجِدار، مَدّ إليّ ذراعيه طالبا حُضنِي، دنا أكثر حتّى التصق بي، وعانقني طويلا.

صاحبي (وقد صار ظلّي) منذ أن لبِسَنِي أصبَح أكثر حيوية. ينطّ من يميني إلى شمالي. على ضفة بُحيرة المُنتَزَه جرّب عَبَثا الاستلقاءَ على صفحة المياه كما تفعل الظلال، فغمره البلل حتّى قنّة الرّأس، ولو لم أمدّ له يدي لهلك غرقا. جفّف هيكله النحيل بعين الشّمس، وسار في جنبي يتحرّش بالمارّة. لا يتورّع الصّعلوك من تسلُّق نهود كاعبة لِعابِراتٍ حسناوات، ولثْمِ خدودهن النّاعمة المتمنّعة على نور الشّمس. اللئيم قرَصَ ساقَ إحداهُنَّ فأمسكت بِخِناقي أنا، ولم تفلتني إلّا بعد صفعة على خدّي الأيمن، فابتعد الخبيثُ اتقاءَ غضبي وهو يخرج لي لسانه في شماتة.

ونحن في أحد شوارع المدينة القديمة حاوَلَ تسلّق الجدران ومسْح واجهات المحلّات تماما كما كنت أفعل بيُسر ورشاقة. وهو يُطاوِل واجهة محلّ فاخر، جرّبَ عبثا خَرْق زجاج “فترينة” مبيعات، فكَسَرَه. دوّى صدى الكسر في أذني، لملمْتُ ظلّي الغارق في شظايا الزجاج، ولذتُ بِه هاربا من بطش صاحِب المتجر. وأنا أهرول، قطعت الطّريق. وهو خلفي، تَعَمّد المَجنون الوقوف أمام شاحنة مارقة. زاد غروره لمّا اقتربَت أكثر، استلقى أمام عجَلاتِها تَماما كما رآني أفعل في أوج حماقاتي، فدهسَته. انحنيتُ أجسّ نبضه. كان قد فارق الحياة. رفعت رأسه، تلَبّستُه، حَلَلْتُ بِهِ لعلّه يستَيقظ فِيَّ، دون جدوى، واستلقيت تحته في يأس.

حضرتِ الشّرطة، رسموني (أنا الظّلّ) بالطّبشور على الإسفلت. حملوا صاحبي في سيارة حمراء تزعق، وأنا بقيت سجين الإسفلت وقد صرت جزءا منها. انفضّتِ الجموعُ التي تحلّقت بِنا. بقيتُ وحيدا. جاء الليل. تحاملتُ على الوقوف، نفضتُ عنّي بقايا الطّبشور، وهِمت في الظلمة أبحث عن شبح آدمي لأكون له ظلّا.

2
الوليّ الطّالح

يقع مقام الوليّ تحت تلّة هائلة تفصل بين مدشرين مُنتسبَين إلى قبيلة واحدة. القبيلة الجبلية تشتعل فيها صراعات طاحنة بين مدشر آلِ عَبدو على يمين التّل، وآلِ عَمّو على يساره.
تحت قبّة الوليّ تداولت المرأتان أسباب الزيارة. العجوز من آل عمّو تستدر بركة الولي ليعود إليها ابنها المُختفي، بينما الشابة من آل عبدو تستجدي الوليّ خطيبا.
حكت الشابة بإعجاب عن كرامات الولي وقُدراته الخارقة على إشفاء المرضى، و إبعاد النحس واللعنة، وطرد الشر، والنصر على الأعادي…
حكت العجوز بإسهاب عن تاريخ هذا الولي المزعوم، وعادت بالشابة خمس عشرة سنة إلى الوراء:
ـــ هذا المكان، يا ابنتي، يشهد على وضع حجر أساس لمشروع طريق تصل القبيلة بالمدينة البعيدة. هذه الشاهدة العالية عند رأس الولي نَصْبُ تذكار بُنِي بالإسمنت المُسلح ليكون نقطة إطلاق مشروع الطريق المنتظَرة. هنا وقف وزير فارع الطّول ذات يوم ودق عليه بمطرقة، فدُقت الطبول فرحا بالمولود القادم، ودُقّت لأجله أعناقُ خمسة عشر كبشا أقرن. طال انتظار الطّريق، ولم تأتِ. وحدَه النّصبُ التذكاري ظلّ شاهدا، صار مجمع الرعاة عند الغروب، ومزار العشاق، قبل أن يتحول إلى وليّ صالح.
التمَعتِ الدهشة في عينيّ الشابة، قاطعتها:
ـــ ولماذا نُصِّب التذكار تحت التلّ الموحش بعيدا عن المدشرين؟
ـــ المدشران المتعاركان حتى الآن، تنازعا حول شرف ضيافة الوزير. لجؤوا إلى حكيم، فنصحهم بِحَمْلِ ديك إلى أعلى التل، ويخلوا سبيله، والمدشر الذي سيلوذ إليه الديك هو الذي سيحظى بشرف استضافة السّيد الوزير. طبّقوا ما أفتى به الشيخ بالحرف، وفي اللحظة التي بلغ فيها الديك أسفل التلة، هوى عليه صقر فأخذه إلى عنان السّماء. لم يحزنوا على ذلك بل بشرهم الحكيم بأن الديك كان قربانا اتقت به القبيلة شرّا مسطورا. فشيدوا النصب هنا حيث اختطِف الديك، ومعه نُصبت خيام الاستقبال.
النصب متألق في عين الشابّة، يبدو شاهدة قبر حقيقي. رُويَت حوله الأساطير، ثَبُت عند سكان القبيلة أنه قبرٌ لولي صالح جال المشرق والمغرب، رجل لازم الخلوة في زهد وتقشف. فتربى على حُبه الصغار والكبار. كثر زواره وباتوا يأتونه من بعيد للتبرك، حتى من المدن. يغمرونه بالذبائح وبقطع النقود. بُني حول القبر سور في الأول، ثم غُطي بساقفة خشبية، قبل أن تُبنى له قبّة عالية تُلمح من بعيد.
ـــ سيعود ابني (تمتمت العجوز ثم واصلت) سيعود، وسأزوجك به يا فتاة رغما عن أنف “آل عبدو”، بعد أن يزول عنك النحس، وتزول حدبة الوزير.. كل هذا متعلق بكَرامات هذا النّصب العجيب.
ـــ حدبة الوزير؟ أية حدبة؟
ـــ إن السيد الوزير مرض، بان مرضه في شكل حدبة على ظهره، جال مستشفيات العالم عن الدواء، قالوا إن مرضه يحتاج إلى معجزة، بحث عنها في بلدان المعجزات، عاد خائبا، ودلّوه على هذا الوليّ..
ما لم تحكِه العجوز أن السّيد الوزير سار بسيارة رباعية الدفع، في طريق عبدتها الأرجل قبل السواعد، لاعنا حفرها وحدباتها وحدبته. بلغ أسفل التلة. تداعت صور ضبابية في ذاكرته فروّعته. دخل إلى قبّة الولي، انحنى معقوفا على أعتاب القبر يقبل أركانه، ويتمتم أذكارا وأدعية، تمسّح طويلا بظهره على الشاهدة.. جمدت عينه مُصوَّبةً إلى الكتابات المنطمسة على الإسمنت، بدا فزعا ببشاعة أحدب نوتردام. النصب التذكاري ذكّره كيف نَصَبَ على ميزانية المشروع. ميزانية أكلها في بطنه، وأبت أن تُهضَم، فزاغت إلى ظهره في صورة حدبة شبيهة بشكل التلة التي بني في سفحها مقام الولي الصالح.

3
صَندل أعمى

“خَيْطَا جَزمَتِي الرّياضية ثُعبانانِ طَويلان، سأُدخِل رأسَيْهِما في الثقوب الاثني عشر وأشُدّ كلّ واحِــد منهُما مِن ذَيلِهِ وينتَهي الأمر، وأكـــون جاهِزة للفُسحـة الصّباحية” تَقول حفيدتي وهي تهم بانتعال جَزمتها الرياضية الجديدة.

ــــ “طَقْسُ الرّكض غدا وَجبتَها الصباحية الشّهية، تَأكل مِنها قبل الطّعام” تقول الأم مُعلِّقةً.

ــــ “لا تَبتَعدي بُنَيَّتي، اُركضي في الجِوار” يقول الأب مُحذّرا.

ــــ “أنا جزمة مجنـــونة، أريد أن أركض، أحبّ الرّكض” تنطق الصبية متكلمة بلسان جزمَتـها وهي تداعبها. هكذا سمعتهم في ذلك الصباح بينما أنا منهمك في صراع ضارٍ مع فطيرة ألوكـها بفمي الأدرد على مضض.نعم، هكذا تحدثوا بالضبط.

أنا الآن أجر عكازتــي، رفيقتي العظيمة، وأزحف بها في هذا العراء، مصحوبَيْن بحزننا البـــاذخ الذي لا يشيخ. أسير الهوينـى، أزحف لأمرن قدمي على المشي نكاية بالهرم. وأنا في مسيـري حدثنــي الخلاء.

حدثني ذاك العراء الممتد كأنه عمري، وعاد بي إلى ذكرى حفيدتي الذابلة الآن كورقة خريفيـــة.

قال لي الخلاء أيها الكرام إن الجزمة الرّياضيّة الوَرديّة مرت من هنا، وهي في بهاءِ ألَقِهــا، أغرتـهــا الطريقُ المُستَوية بالوَثب اللذيذ. بِخفة متصابية، وفي انخِطاف سامِقٍ، طَوَت مسافاتٍ طَويلة، حتّى نالَ مِنْها التّعَب. توَقّفت للاستِراحـــة، سكنت قليـلا على قــــارعة الطريق المقفــرة. وَهِي علـى تِلْكَ الحال، والشّمس تتسلّق بأشعتها كَبِد السّماء، مرّ بها صَندَلٌ هزيل يركل الأرضية الطينية بصَفيق مجنون. كان يبحـث عنِ الارتـواء وقد جف حلقه بالغبــار. توقف أمامَ طَيْفِها كالمسمار، وَقَدْ ظنّها مُجرّد سراب، لَم يُصــدّق أن يختلي بِجزمــة أُنْثويّة في هذا العَراء المُمتَــدّ. ظَلَّ يبادلهــــا النظــرات بعينيـن جانبيتيـــن عمياوين، وفـم مفغــورعن آخره، يطل منه لســان الأصبــع الأكبـر، وأسنان قذرة تمثلهــا الأصــــابع الأربعـة الأخرى الشاحبـــة، ويضبــطه من خلف حزامٌ جِلـدي رفيعٌ يلفّ أسفــــل الكعب. الجزمـة الرياضية تتفحصه، تَقرأ نوايا الصّندل بعيون ثقوبِها الاثْني عشر، في ريبة وتأهب.

لا شك أنكم أيها الكـــرام حدَستم أن الصندل اللعيــن انبهر بالجزمة الأنثويـة، وفتنـــه اللون الوَرديّ. نعم. هذا ما قالـــه الخلاء. لقـد داهمته رغبــة شبقة. وَدّ لو يفترش تلك الفروة الجلديــــة النـــاعمة، ليُطفئ فيهــــا وَجَعه الأبدي. حينها قامت الجزمة مُتوجّسةً، تسيـر بِخُطــى سريعــــة، وهي ترسم على الطريق الطينية القـــاحِلة شبكة من المربعات تبدو كقُضبـــان متقاطعة مجنونة، يتوسطها الرقمُ 37. يقتفيهــا الصندل الأعمـى، يرسم على آثارهـا المنسوخـة على الطين، ظلالَ إطاره العريضة. إطـــار النّعل أمْرَد سميــك بلا زخرفة ولا رقم مَقـــاس. تضرج السيّدُ الصندَل بِعرق الغبار، طــالت رحلتــه الحثيثــــة خلف الآنِســة الجزمة الرشيقـــة. رفعتِ الإيقاعَ وبدأت تطوي الريــــح عدوا، وكذلـك فعــل الصّندَل. يعلو فــي الهــــــواء، يغــوص في الطين، يَتَعفّر، برتـابة سريعة؛ طّبّْ طّــــاب سْطَاابّ طّااب.. أنفــاس مُتَلاحِقــة، لهاث مُقفَّى بِحشْرجة حيوانية، يسـابق الجزمة. وَهِيَ مـارقة في ذلِكَ الخَلاء. طالت حلقـــاتُ الركض. المسافة بين الحذاءين لا تتغير. الجزمة تتلاحق أنفاسُها، وترتج في جوفها الأصابع الناعمة..

في لَحظة خائنة، وليتها ما كانت أيها الكرام، انفكّ خيطُ الفردة اليسرى كما ثعبان خرج للتو من نظام الانطواء، وبدأ يطلق عقدته، ينسلّ بين كل ارتقاءة وانخفـــــاضة. صار يراوغ الفردة الأخرى، يُشاغبها بِطُولِهِ، إلى أن وطئته، هصرته، فتداعت الفردتان، تَقَلْقَلَتا في الهَواء، والتَقَتَا على وقْعِ فُقدان التوازن في كَبْوةٍ مُريعة. سَقَطَتِ الجزمة ولَفّها الغبار.

الصندل يخفض السّرعـــة، وعين الخـلاء والشمـس معـا تصورانه بالعرض البطيء. يلقي الأثرُ يغتصِب الأثر. بلهـــاث الانتصار، يَدوسُ على آخر آثـر مزَخرَف حامِلٍ رقم المقاس مَقلوبا… الصندل الأيسر يغطي الجزمـة اليُمْنــى وقد ارتقـــى فَوقَها فـاغِرا فـاه ضاحكا وعيناه المسمولتان تذرفان دمع لذةٍ أدركها أخيرا وقد حُرمَ مِنها حِرمانَ بَني نعل عليهم اللعنة.

أمـّا الجزمـة اليسرى أيهــا الكرام، فها أنا أعثر عليها الآن وَقَد انْطَمَرَ رأسُها في التراب، و أسْفَلُها ظلّ مَكْشوفا، عارٍ، وهو الذي لَمْ تَرَهُ عَيْنُ الشّمْس مِنْ قَبْل. أنفضُ عنها التراب. أنظر إلى رقم مقاسها ولا أجده. 
 
عيسى ناصري
المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.